أسباب الطلاق ومخاطره
مدة
قراءة المادة :
14 دقائق
.
إن بناء الأسرة الصالحة من أعظم ما اهتم به الإسلام وأولاه عناية فائقة، تتمثل في المحافظة عليها، والعمل على صلاحها؛ لأن الأسرة هي اللبنة الأولى في بناء المجتمعات الصالحة.ومن أعظم ما يهدد بناء الأسرة ويعرضه للتصدع والانهيار - التهاونُ بالطلاق، فالطلاق حلٌّ وفك للرابطة الزوجية، وتضييع للميثاق الغليظ، ولقد كثر الطلاق في هذه الأزمان، وانتشر انتشارًا كبيرًا، مما يهدد المجتمعات المسلمة، لأجل هذا فسوف يكون حديثنا اليوم حول (أسباب الطلاق ومخاطره)، وسوف ينتظم حديثنا حول العناصر التالية:♦ الزواج نعمة تستوجب الشكر.
♦ أسباب كثرة الطلاق.
♦ مخاطر الطلاق ومغبته.
واللهَ أسأل أن يوفقنا لِما يحب ويرضى، وأن يحفظ بيوتنا من كل مكروه وسوء.
الزواج نعمة تستوجب الشكر:نعم، فالزواج نعمة من الله تعالى وآية من آياته الدالة على رحمته وعنايته بعباده، وكذا فهي دالة على حكمته العظيمة وعلمه المحيط، فخَلَقَ للزوج زوجة من جنسه تناسبه ويناسبها، فهذا "من تمام رحمته ببني آدم أن جعل أزواجهم من جنسهم، وجعل بينهم وبينهن مودة؛ وهي المحبة، ورحمة؛ وهي الرأفة، فإن الرجل يمسك المرأة إما لمحبته لها، أو لرحمة بها، بأن يكون لها منه ولد، أو محتاجة إليه في الإنفاق، أو للألفة بينهما، وغير ذلك، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الرعد: 3]"[1].
فالزواج نعمة عظيمة، والنعمة تستوجب شكرًا لله عليها، فالشكر يزيد النعم ويحفظها؛ قال تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم: 7]، ومن عظمة الزواج أن الله جل جلاله سماه ميثاقًا غليظًا؛ فالزواج من أعظم الروابط التي تربط بين الإنسان وغيره من بني آدم؛ قال ربنا سبحانه وتعالى: {وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} [ النساء : 21]، رُوي عن ابن عباس ومجاهد، وسعيد بن جبير: أن المراد بذلك العقد؛ فكيف يتهاون بعض الأزواج بعد ذلك بهذا الميثاق الغليظ، ويكفرون بنعمة الله تعالى عليهم، ويتهاون بكلمة الطلاق، فيحلفون بها على كل ما هبَّ ودب؟ بل ومن قلة المروءة والرجولة أن يجعل الزوج كلمة الطلاق سيفًا مسلطًا على زوجته؛ فيهددها به في كل وقت وحين، إن فعلتِ كذا، فأنتِ طالق، وإن تركتِ كذا، فأنتِ طالق، فالطلاق جعله الله بيد الرجل لا ليهدد به المرأة، بل لقدرته على قوة التحكم في نفسه والانضباط حين الغضب ولقوة عقله، وللطلاق أسباب كثيرة غير هذا.
أسباب كثرة الطلاق:فانتشار الطلاق في هذه الأزمان والتهاون به له أسباب كثيرة؛ نذكر بعضها من باب:
عرفتُ الشر لا للشر ولكن لتوقِّيه من لم يعرف الشر من الخير يقع فيه
♦ الاستعجال وعدم الأناة:
فالرجل إذا غضب واشتد غضبه أول ما يفكر، يفكر في الطلاق ويسارع إليه، ولو لأتفه الأسباب، فعلى الزوج إذا غضب، وعلَتِ الأصوات، واشتدت الخلافات بينه وبين زوجته - أن يتحلى بالصبر، ويتحكم في ألفاظه، وأن يراعي الآداب النبوية عند الغضب، فالرجل كل الرجل هو من يملك نفسه عند الغضب؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب»[2]، وليغير الزوج من حالته ساعة غضبه؛ فعن أبي ذر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا غضب أحدكم وهو قائم، فليجلس، فإن ذهب عنه الغضب، وإلا فليضطجع»[3].
♦ سوء العشرة بين الزوجين:
فالطلاق يكثر، والعلاقات الزوجية تنهار، إذا أساء كلا الزوجين للآخر، وقصر أحدهما فيما يجب عليه من الواجبات، وطالب بما له من الحقوق، فبذلك تتهدم الأسر، وقد أوصانا ربنا سبحانه بوصية جامعة، بها تنصلح البيوتات، وتدوم الألفة بين الزوجين؛ فقال جل في علاه: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19]؛ أي: طيِّبوا أقوالكم لهن، وحسنوا أفعالكم وهيئاتكم بحسب قدرتكم، كما تحب ذلك منها، فافعل أنت بها مثله؛ كما قال تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 228]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي»[4].
وكان من أخلاقه صلى الله عليه وسلم أنه جميل العشرة، دائم البشر، يداعب أهله، ويتلطف بهم، ويوسعهم نفقته، ويضاحك نساءه، حتى إنه كان يسابق عائشة أم المؤمنين يتودد إليها بذلك؛ قالت: ((سابقني رسول الله صلى الله عليه وسلم فسبقته، وذلك قبل أن أحمل اللحم، ثم سابقته بعد ما حملت اللحم فسبقني، فقال: هذه بتلك))[5]، ويجتمع نساؤه كل ليلة في بيت التي يبيت عندها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيأكل معهن العشاء في بعض الأحيان، ثم تنصرف كل واحدة إلى منزلها، وكان ينام مع المرأة من نسائه في شعار واحد، يضع عن كتفيه الرداء وينام بالإزار، وكان إذا صلى العشاء يدخل منزله يسمر مع أهله قليلًا قبل أن ينام، يؤانسهم بذلك صلى الله عليه وسلم؛ وقد قال الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21][6].
♦ إفشاء الأسرار الزوجية:
فإفشاء الأسرار الزوجية - لا سيما الأسرار الخاصة - بين الزوجين طريق خراب للبيوت، وقد عدها بعض الأئمة من الكبائر، تذهب المرأة فتفشي أسرار بيتها لأمها أو لجارتها أو لصاحبتها، وكذا الرجل يفعل ذلك، فتخرب البيوتات وتتهدم الأسر، وهذه خَصلة قبيحة، وصاحبها من شرار الخلق عند الله؛ فعن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن من أشر الناس عند الله منزلة يوم القيامة ، الرجل يفضي إلى امرأته، وتفضي إليه، ثم ينشر سرها»[7]، ومعنى إفشاء سر الزوجة : "أن يتكلم للناس ما جرى بينه وبينها قولًا وفعلًا، أو يفشي عيبًا من عيوبها، أو يذكر من محاسنها ما يجب شرعًا أو عرفًا سترها، قال ابن الملك: أي: أفعال كل من الزوجين وأقوالهما أمانة مودعة عند الآخر، فمن أفشى منهما ما كرهه الآخر وأشاعه، فقد خانه، قال بعض الأدباء: أريد طلاق امرأتي، فقيل له: لمَ؟ فقال: كيف أذكر عيب زوجتي؟ فلما طلقها قيل له: لم طلقتها؟ قال: كيف أذكر عيب امرأة أجنبية؟"[8].
♦ إهمال تزين الزوجة لزوجها:
فالمرأة التي تترك التزين لزوجها بما أباحه الله لها من الزينة تعرض نفسها لإعراض زوجها عنها، وتطلعه إلى غيرها، وكذلك الرجل الذي لا يتزين لزوجته، يعرضها أن تنظر لغيره إن لم يحجزها عن ذلك تقواها لربها.
وانظر - أخي الكريم - لهذا الصحابي الفقيه عبدالله بن عباس؛ إذ يقول: "إني أحب أن أتزين للمرأة، كما أحب أن تتزين لي المرأة؛ لأن الله تعالى يقول: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 228]، وما أحب أن أستطف جميع حقي عليها؛ لأن الله تعالى يقول: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} [البقرة: 228]"[9].
ومتى كانت المرأة عاقلة، احترزت أن يرى الرجل منها مكروهًا، وقالت بدوية لابنتها حين أرادت زفافها: "لا يطلعن منك على قبيح، ولا يشمن إلا أطيب ريح".
♦ تدخُّل الآخرين بالإفساد بين الزوجين:
فبعض الناس يشعلون نار الفتنة بين الزوجين، فويل لمن كان سببًا في خراب بيوتات المسلمين؛ فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليس منا من خبب امرأة على زوجها»[10].
وإفساد المرأة على زوجها من أكبر الكبائر، فإنه إذا نهى الشارع أن يخطب على خطبة أخيه، فكيف بمن يفسد امرأته[11]، وسبب هذا - غالبًا - أن الزوجان يخرجان أسرارهما خارج البيت، ويقصان على الناس مشاكلهما، فعلى الزوجين إذا حصل نزاع بينهما ألَّا يستشيرا إلا ناصحًا أمينًا، وإلا حاولا أن يصلحا أمرهما بأنفسهما دون إدخال أحد بينهما.
فللطلاق مخاطر عظيمة وبلايا جسيمة، نتعرض لذكر بعضها، تحذيرًا من مغبته وسوء عاقبته.
مخاطر الطلاق ومغبته؛ فمنها:♦ طلب الطلاق من غير حاجة حرام:
لا شك ولا ريب أن الطلاق يشرع إذا استحالت الحياة بين الزوجين، ولم يجدا بدًّا منه، ولكنه يحرم على الزوجة أن تطلب الطلاق من غير حاجة؛ فعن ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أيما امرأة سألت زوجها طلاقًا في غير ما بأس، فحرام عليها رائحة الجنة »[12].
♦ ضياع الأولاد:
فالطلاق سبب لضياع الأولاد وتشردهم، فالأم إن طلقت ثم تزوجت وانتقل الأولاد إلى أبيهم ضاعوا، وإن كانوا في حضانة أمهم، فقد تعجز عن تربيتهم، فيتشردون في الطرقات، وتسوء أخلاقهم فقد يشربون المحرمات، وتتلقفهم صحبة السوء فتفسدهم، وهذا ما يريده إبليس؛ كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن إبليس يضع عرشه على الماء، ثم يبعث سراياه، فأدناهم منه منزلة أعظمهم فتنة، يجيء أحدهم فيقول: فعلت كذا وكذا، فيقول: ما صنعت شيئًا، قال: ثم يجيء أحدهم، فيقول: ما تركته حتى فرقت بينه وبين امرأته، قال: فيدنيه منه، ويقول: نعم أنت»، قال الأعمش: أراه قال: فيلتزمه))[13].
♦ قطيعة الرحم:
فبالطلاق تتقطع الأرحام، وتُملأ الصدور بالشحناء، ويحاول كل من الزوجين – إلا من رحم – أن يؤذي الآخر، وينتقم منه، وترى المحاكم مليئة بمشاكل الطلاق والخلع، وكأنه لم تكن بينهما مودة من قبل؛ وقد قال ربنا تبارك وتعالى: {وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} [البقرة: 237]، فلا ينبغي للإنسان أن يهمل نفسه من الإحسان والمعروف، وينسى الفضل الذي هو أعلى درجات المعاملة...
ولا ينبغي له كذلك أن ينسى هذه الدرجة، ولو في بعض الأوقات، وخصوصًا لمن بينك وبينه معاملة، أو مخالطة، فإن الله مجاز المحسنين بالفضل والكرم[14].
ومهما ذكرنا من مخاطر الطلاق ومفاسده على الأزواج والأولاد، فهي كثيرة جدًّا، وليعلم الجميع أن تهدم الأُسر هو في حقيقته هدم للمجتمع بأسره، فلنحافظ على بيوتات المسلمين من الشتات والضياع بكل ما استطعنا، وعلى كل منا واجب من ذلك، فللأزواج دور، وللوالدين دور، وكذا للعلماء دور عظيم في ذلك، وكذلك الإعلام عليه دور كبير في توجيه الأسر إلى ما ينفعها ويساعد على بنائها، والتحذير مما يساعد على هدم الأسر وشتاتها، وفي الحديث: «كلكم راعٍ، وكلكم مسؤول عن رعيته»[15].
نسأل الله أن يصلح ذات بيننا، وأن يؤلف بين قلوبنا، وأن يصلح بيوتاتنا، وصلى اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
[1] تفسير القرآن العظيم 6/ 309.
[2] البخاري (ح 6114)، ومسلم (ح 2609).
[3] صحيح ابن حبان (ح 5688).
[4] أخرجه الترمذي (ح 3895)، وقال: هذا حديث حسن صحيح.
[5] أخرجه النسائي في السنن الكبرى (ح8942)، وابن ماجه (ح1979).
[6] تفسير القرآن العظيم 2/ 242.
[7] مسلم (ح 1437).
[8] مرقاة المفاتيح 5/ 2093.
[9] مصنف ابن أبي شيبة برقم (19263).
[10] أبو داود (ح 2175).
[11] التيسير بشرح الجامع الصغير 2/ 330.
[12] صحيح، أخرجه أبو داود (ح 2226).
[13] مسلم (ح 2813)، ومعنى: (فيلتزمه)؛ أي: يضمه إلى نفسه ويعانقه.
[14] تفسير السعدي ص 237، بتصرف يسير.
[15] البخاري (ح 893)، ومسلم (ح 1829).
____________________________________________________
الكاتب: جمال علي يوسف فياض