شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الزكاة - باب زكاة الخارج من الأرض 1


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

عندنا اليوم: درس في الزكاة، متعلق بزكاة الحبوب والثمار، عندنا حوالي خمس أو ست مسائل، نحاول أن نمر عليها.

النقطة الأولى: اسم هذا الباب، من الفقهاء من يسميه: زكاة الحبوب والثمار، وهذا الاسم هو الذي سوف نعتمده عملياً اليوم؛ لضيق الوقت، فنقتصر من الباب على ما يتعلق بالمزروعات أو الحبوب والثمار، وإن كان غيره أفضل منه، فمن الفقهاء من يسمي الباب: زكاة الخارج من الأرض، وهذا كثير في كتب الحنابلة.. وغيرهم، وهو أجود؛ لأن الله سبحانه وتعالى سماه هكذا في القرآن الكريم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ [البقرة:267].

فإذاً: هي لغة القرآن الكريم، زد على ذلك أن كلمة: (الخارج من الأرض) أشمل، فإنه يدخل فيها المزروعات والحبوب والثمار.. وغيرها.

كما تدخل فيها المعادن وسواها مما يدخله الفقهاء، أو يقحمونه ضمن هذا الباب.

أيضاً: يدخل فيه الركاز والعسل عند من يقول بزكاته، فإنهم يلحقون ذلك كله بالخارج من الأرض، ومثله النحل من الزهور والورود.. وغيرها.

من الفقهاء من يسمي الباب بزكاة المعشرات أو العشور، وهذا أكثر ما يكون في كتب الأحناف، وقد يسمون ما يؤخذ عشراً أو عشوراً، والصواب أنه يسمى زكاة، كما سماه الله تعالى ورسوله.

الأدلة من القرآن الكريم

المسألة الثانية: وجوب الزكاة في هذا اللون من المال، والأصل في وجوب الزكاة هنا الكتاب والسنة والإجماع، والقياس أو النظر أو المعقول، فأما الكتاب فإن الله سبحانه وتعالى يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ [البقرة:267]، والخارج من الأرض: لفظ عام يشمل الزرع.. وغيره؛ ولذلك قال البغوي : إن الآية تأمر بإخراج العشور من الثمار والحبوب.. وغيرها، وذكر غير واحد من المفسرين أن الله سبحانه وتعالى سمى الزكاة في هذه الآية: نفقة، أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ [البقرة:267]، يعني: وأنفقوا مما أخرجنا لكم من الأرض، فسماها: نفقة، وفي مواضع كثيرة من القرآن تسمى الزكاة: نفقة؛ ولذلك في الآية نفسها قال: وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ [البقرة:267]، يعني: تزكون أو تتصدقون أو تخرجون.

وقال الجصاص وغيره: إن العلماء أجمعوا على أن النفقة المقصودة في هذه الآية هي الزكاة.

الموضع الثاني: قوله تعالى في سورة الأنعام: وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ [الأنعام:141]، ففي هذه الآية الكريمة عدة أمور منها:

أولاً: أن الله سبحانه وتعالى ذكر الجنات المعروشات وغير المعروشات، فما هو الفرق بينهما؟

أقوال، الأظهر والأقرب منها أن المقصود بالمعروشات: ما يقام لها العروش، كما يضع الفلاحون مثلاً للعنب عروشاً تكون عليها، وأما غير المعروشات فهو الشجر القائم بنفسه، وقيل: إن المعروشات هي التي يزرعها الناس، وغير المعروشات ما يخلقه الله سبحانه وتعالى .

ثم الله سبحانه وتعالى ذكر: (وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا)، وذكر: (وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ)، يعني: متشابهاً في الشكل، مختلفاً في الطعم.. أو غير ذلك من الأقوال.

قال سبحانه: (كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ)، فهذا أمر إباحة، (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ)، فهذا أمر إيجاب، (وَلا تُسْرِفُوا) هذا أيضاً نهي والنهي للتحريم، فإن الإسراف محرم، وقوله: (وَلا تُسْرِفُوا)، الأقرب أن مرجعه إلى الأكل، وأما بالنسبة لإيتاء الحق فإنه لا مدخل فيه للإسراف، فإن الإنسان لو أنفق كثيراً مما عنده لم يكن في ذلك إسراف، زد على ذلك أن قوله: (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ) إشارة إلى حق معلوم، و فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ [المعارج:24]، وهذا الحق لا يزيد ولا ينقص في الجملة، ولذلك فالأقرب أن قوله: (وَلا تُسْرِفُوا)، يرجع إلى قوله: (كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ).

(إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) .

قد روى الطبري في تفسيره عند هذه الآية، عن جماعة من الصحابة والتابعين: كـأنس بن مالك وابن عباس وجابر بن زيد والحسن البصري وسعيد بن المسيب وقتادة وطاوس ومحمد بن الحنفية والضحاك .. وغيرهم.. أن الحق المذكور في قوله تعالى: (وَآتُوا حَقَّهُ)، المقصود به: الزكاة أو الصدقة المفروضة، وهذا مذهب الجمهور.

ثم ذكر في المسألة قولاً آخر: وهو أن المقصود بالحق هنا حق أوجبه الله سبحانه وتعالى في أموال هؤلاء لليتامى، زائداً على الصدقة المفروضة، أو على الزكاة، ونقل هذا القول عن جماعة أيضاً، كـعطاء وحماد ومجاهد وسعيد بن جبير .. وغيرهم..

ثم ذكر قولاً ثالثاً: وهو أن هذه الآية كانت قبل إيجاب الزكاة، ثم أوجب الله سبحانه وتعالى الزكاة المفروضة فنسخت هذه الآية، ونقله عن بعضهم واختاره رحمه الله، فرجح الطبري أن قوله: (وَآتُوا حَقَّهُ) هاهنا منسوخ بإيجاب الزكاة، وما اختاره الطبري رحمه الله ضعيف، ولذلك رده عليه جماعة من المفسرين وغيرهم كـابن كثير وسواه؛ لأن القول بالنسخ يعني: إبطال حكم الآية، وهي نص من كلام الله تعالى محكم في القرآن، فالقول بإبطال حكمها لا ينبغي اللجوء إليه إلا إذا تعذر الجمع بين النصوص، والطبري رحمه الله ممن يردون النسخ في كثير من الحالات بمثل هذا، لكنه في هذا الموضع مال إلى النسخ.

والصواب أنه ليس في الآية نسخ، وأن الآية على وجهها، وأما إيجاب الزكاة فإنه قصاراه أن يكون بياناً لمجمل الآية أو تفصيلاً، ولذلك نقول: إن قوله وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ [الأنعام:141]، الحق يوم لم يكن ثمة زكاة مفروضة مؤقتة، كان الحق هو أن تمنح الفقير والمسكين ما تيسر لك، وتعطيه ما قدر الله لك، أما وقد فرضت الزكاة وحددت مقاديرها وأنصبتها، فإن الحق ينتقل إلى الزكاة المفروضة، وتبقى الآية على وجهها محكمة غير منسوخة.

وأما السلف رحمهم الله فإنهم كانوا يطلقون لفظ النسخ أحياناً، ولا يقصدون به النسخ عند المتأخرين، والذي يقصد به رفع معنى آية أو رفع معنى حكم شرعي بحكم آخر نزل بعده، وإنما يقصدون بالنسخ معنى أوسع، فقد يكون التخصيص عندهم نسخاً، وقد يكون الشرط عندهم نسخاً، وقد يكون الاستثناء يسمى في عرفهم نسخاً، ولا يعني ذلك النسخ الذي هو إبطال أو إلغاء حكم النص الشرعي.

إذاً: نقول: إن الآية محكمة غير منسوخة، وهي تدل على وجوب إخراج زكاة الخارج من الأرض مما ذكر في الآية ومما لم يذكر، ويلاحظ أن الآية يذكر فيها الجنات المعروشات وغير المعروشات، وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ [الأنعام:141]، فهذا سوف نحتاجه بعد قليل، هذا الدليل الأول من القرآن الكريم.

الأدلة من السنة والإجماع

أما من السنة فإن الأحاديث مستفيضة في هذا الباب، ومن ذلك ما رواه الشيخان ومالك وأبو داود والترمذي والنسائي والدارمي وأحمد .. وغيرهم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة، ولا فيما دون خمس أواق صدقة، ولا فيما دون خمس ذود صدقة )، فقوله صلى الله عليه وسلم: ( ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة ): هذا نص في زكاة الخارج من الأرض؛ لأن الأوساق والتوسيق هو في الخارج من الأرض، وهو قد حدد نصابها، وإذ قد حدد نصابها فقد علم من باب أولى بوجوب الزكاة فيها.

ومثل ذلك أيضاً: ما ورد عن ابن عمر وغيره وجابر وسوف يمر ذكرها في مناسبتها في هذا الباب إن شاء الله تعالى.

أما الإجماع فقد نقل جماعة من أهل العلم: الإجماع على وجوب الزكاة في الخارج من الأرض من حيث الجملة، وإن اختلفوا في تفصيل ذلك، وممن نقل الإجماع ابن المنذر وابن عبد البر وابن تيمية والنووي والكاساني .. وغيرهم..

أدلة المعقول والنظر

أما المعقول والنظر، فإن الله سبحانه وتعالى أوجب الزكاة مواساة للفقراء في مال الأغنياء، وجعلها سبحانه وتعالى في الأموال النامية والأموال الزائدة، ولا شك أن الخارج من الأرض مما امتن الله تعالى به على عباده، ففيه منة عليهم بالأرض في كونها قابلة للزرع والنماء، ولذلك الله سبحانه وتعالى امتن بهذا في غير موضع من كتابه، كما في قوله عز وجل: وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا * أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا [النازعات:30-31]، فهذه منة، وكذلك الهواء والحرارة والضوء.. وغيره مما يحتاجه النبات، فإنه كله مما امتن الله تعالى به على عباده، فالنبات يحتاج إلى ضوء للقيام بعملية التمثيل، ويحتاج إلى الهواء للاستنشاق، ومن النعم العظيمة أنه يستنشق ثاني أكسيد الكربون الذي يزفره الإنسان ويتخلص منه، فيكون في ذلك دورة مستمرة؛ لنقاء الهواء وبقائه ليستفيد منه الإنسان، والنبات يحتاج إلى ظلمة حتى يرتاح وينام، كما ينام الإنسان، وأذكر قصةً أن شركة في اليابان قامت بوضع كبوس كهربائية ضخمة في مناطق زراعية تشتغل طوال الليل، ففي نهاية السنة وجد أهل المزارع أن زروعهم ذبلت وكثيراً منها مات ولم تأت ولا بقليل من الغلة المعتادة، فرفعوا دعوى ضد هذه الشركة ودخلت الدعوى في المحاكم، ثم تطورت إلى المعامل والمختبرات، وكان من وراء هذه الدعوة اكتشاف أن النبات يحتاج إلى فترة مظلمة حتى يرتاح فيها كما يرتاح الإنسان.

فالمقصود أن الله سبحانه وتعالى امتن على الإنسان بهذا النبات، وإيجاد الجو والبيئة والظروف الملائمة لظهوره، كما في قوله عز وجل: أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ * أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ * لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ * إِنَّا لَمُغْرَمُونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ [الواقعة:63-67].

وكما في قوله تعالى في سورة (يس): وَآيَةٌ لَهُمُ الأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ * وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ * لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ [يس:33-35]، فكان من الشكر لنعمة الله سبحانه وتعالى أن يخرج الإنسان زكاة هذا المال كما يخرج زكاة أي مال آخر.

المسألة الثانية: وجوب الزكاة في هذا اللون من المال، والأصل في وجوب الزكاة هنا الكتاب والسنة والإجماع، والقياس أو النظر أو المعقول، فأما الكتاب فإن الله سبحانه وتعالى يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ [البقرة:267]، والخارج من الأرض: لفظ عام يشمل الزرع.. وغيره؛ ولذلك قال البغوي : إن الآية تأمر بإخراج العشور من الثمار والحبوب.. وغيرها، وذكر غير واحد من المفسرين أن الله سبحانه وتعالى سمى الزكاة في هذه الآية: نفقة، أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ [البقرة:267]، يعني: وأنفقوا مما أخرجنا لكم من الأرض، فسماها: نفقة، وفي مواضع كثيرة من القرآن تسمى الزكاة: نفقة؛ ولذلك في الآية نفسها قال: وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ [البقرة:267]، يعني: تزكون أو تتصدقون أو تخرجون.

وقال الجصاص وغيره: إن العلماء أجمعوا على أن النفقة المقصودة في هذه الآية هي الزكاة.

الموضع الثاني: قوله تعالى في سورة الأنعام: وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ [الأنعام:141]، ففي هذه الآية الكريمة عدة أمور منها:

أولاً: أن الله سبحانه وتعالى ذكر الجنات المعروشات وغير المعروشات، فما هو الفرق بينهما؟

أقوال، الأظهر والأقرب منها أن المقصود بالمعروشات: ما يقام لها العروش، كما يضع الفلاحون مثلاً للعنب عروشاً تكون عليها، وأما غير المعروشات فهو الشجر القائم بنفسه، وقيل: إن المعروشات هي التي يزرعها الناس، وغير المعروشات ما يخلقه الله سبحانه وتعالى .

ثم الله سبحانه وتعالى ذكر: (وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا)، وذكر: (وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ)، يعني: متشابهاً في الشكل، مختلفاً في الطعم.. أو غير ذلك من الأقوال.

قال سبحانه: (كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ)، فهذا أمر إباحة، (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ)، فهذا أمر إيجاب، (وَلا تُسْرِفُوا) هذا أيضاً نهي والنهي للتحريم، فإن الإسراف محرم، وقوله: (وَلا تُسْرِفُوا)، الأقرب أن مرجعه إلى الأكل، وأما بالنسبة لإيتاء الحق فإنه لا مدخل فيه للإسراف، فإن الإنسان لو أنفق كثيراً مما عنده لم يكن في ذلك إسراف، زد على ذلك أن قوله: (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ) إشارة إلى حق معلوم، و فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ [المعارج:24]، وهذا الحق لا يزيد ولا ينقص في الجملة، ولذلك فالأقرب أن قوله: (وَلا تُسْرِفُوا)، يرجع إلى قوله: (كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ).

(إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) .

قد روى الطبري في تفسيره عند هذه الآية، عن جماعة من الصحابة والتابعين: كـأنس بن مالك وابن عباس وجابر بن زيد والحسن البصري وسعيد بن المسيب وقتادة وطاوس ومحمد بن الحنفية والضحاك .. وغيرهم.. أن الحق المذكور في قوله تعالى: (وَآتُوا حَقَّهُ)، المقصود به: الزكاة أو الصدقة المفروضة، وهذا مذهب الجمهور.

ثم ذكر في المسألة قولاً آخر: وهو أن المقصود بالحق هنا حق أوجبه الله سبحانه وتعالى في أموال هؤلاء لليتامى، زائداً على الصدقة المفروضة، أو على الزكاة، ونقل هذا القول عن جماعة أيضاً، كـعطاء وحماد ومجاهد وسعيد بن جبير .. وغيرهم..

ثم ذكر قولاً ثالثاً: وهو أن هذه الآية كانت قبل إيجاب الزكاة، ثم أوجب الله سبحانه وتعالى الزكاة المفروضة فنسخت هذه الآية، ونقله عن بعضهم واختاره رحمه الله، فرجح الطبري أن قوله: (وَآتُوا حَقَّهُ) هاهنا منسوخ بإيجاب الزكاة، وما اختاره الطبري رحمه الله ضعيف، ولذلك رده عليه جماعة من المفسرين وغيرهم كـابن كثير وسواه؛ لأن القول بالنسخ يعني: إبطال حكم الآية، وهي نص من كلام الله تعالى محكم في القرآن، فالقول بإبطال حكمها لا ينبغي اللجوء إليه إلا إذا تعذر الجمع بين النصوص، والطبري رحمه الله ممن يردون النسخ في كثير من الحالات بمثل هذا، لكنه في هذا الموضع مال إلى النسخ.

والصواب أنه ليس في الآية نسخ، وأن الآية على وجهها، وأما إيجاب الزكاة فإنه قصاراه أن يكون بياناً لمجمل الآية أو تفصيلاً، ولذلك نقول: إن قوله وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ [الأنعام:141]، الحق يوم لم يكن ثمة زكاة مفروضة مؤقتة، كان الحق هو أن تمنح الفقير والمسكين ما تيسر لك، وتعطيه ما قدر الله لك، أما وقد فرضت الزكاة وحددت مقاديرها وأنصبتها، فإن الحق ينتقل إلى الزكاة المفروضة، وتبقى الآية على وجهها محكمة غير منسوخة.

وأما السلف رحمهم الله فإنهم كانوا يطلقون لفظ النسخ أحياناً، ولا يقصدون به النسخ عند المتأخرين، والذي يقصد به رفع معنى آية أو رفع معنى حكم شرعي بحكم آخر نزل بعده، وإنما يقصدون بالنسخ معنى أوسع، فقد يكون التخصيص عندهم نسخاً، وقد يكون الشرط عندهم نسخاً، وقد يكون الاستثناء يسمى في عرفهم نسخاً، ولا يعني ذلك النسخ الذي هو إبطال أو إلغاء حكم النص الشرعي.

إذاً: نقول: إن الآية محكمة غير منسوخة، وهي تدل على وجوب إخراج زكاة الخارج من الأرض مما ذكر في الآية ومما لم يذكر، ويلاحظ أن الآية يذكر فيها الجنات المعروشات وغير المعروشات، وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ [الأنعام:141]، فهذا سوف نحتاجه بعد قليل، هذا الدليل الأول من القرآن الكريم.

أما من السنة فإن الأحاديث مستفيضة في هذا الباب، ومن ذلك ما رواه الشيخان ومالك وأبو داود والترمذي والنسائي والدارمي وأحمد .. وغيرهم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة، ولا فيما دون خمس أواق صدقة، ولا فيما دون خمس ذود صدقة )، فقوله صلى الله عليه وسلم: ( ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة ): هذا نص في زكاة الخارج من الأرض؛ لأن الأوساق والتوسيق هو في الخارج من الأرض، وهو قد حدد نصابها، وإذ قد حدد نصابها فقد علم من باب أولى بوجوب الزكاة فيها.

ومثل ذلك أيضاً: ما ورد عن ابن عمر وغيره وجابر وسوف يمر ذكرها في مناسبتها في هذا الباب إن شاء الله تعالى.

أما الإجماع فقد نقل جماعة من أهل العلم: الإجماع على وجوب الزكاة في الخارج من الأرض من حيث الجملة، وإن اختلفوا في تفصيل ذلك، وممن نقل الإجماع ابن المنذر وابن عبد البر وابن تيمية والنووي والكاساني .. وغيرهم..

أما المعقول والنظر، فإن الله سبحانه وتعالى أوجب الزكاة مواساة للفقراء في مال الأغنياء، وجعلها سبحانه وتعالى في الأموال النامية والأموال الزائدة، ولا شك أن الخارج من الأرض مما امتن الله تعالى به على عباده، ففيه منة عليهم بالأرض في كونها قابلة للزرع والنماء، ولذلك الله سبحانه وتعالى امتن بهذا في غير موضع من كتابه، كما في قوله عز وجل: وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا * أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا [النازعات:30-31]، فهذه منة، وكذلك الهواء والحرارة والضوء.. وغيره مما يحتاجه النبات، فإنه كله مما امتن الله تعالى به على عباده، فالنبات يحتاج إلى ضوء للقيام بعملية التمثيل، ويحتاج إلى الهواء للاستنشاق، ومن النعم العظيمة أنه يستنشق ثاني أكسيد الكربون الذي يزفره الإنسان ويتخلص منه، فيكون في ذلك دورة مستمرة؛ لنقاء الهواء وبقائه ليستفيد منه الإنسان، والنبات يحتاج إلى ظلمة حتى يرتاح وينام، كما ينام الإنسان، وأذكر قصةً أن شركة في اليابان قامت بوضع كبوس كهربائية ضخمة في مناطق زراعية تشتغل طوال الليل، ففي نهاية السنة وجد أهل المزارع أن زروعهم ذبلت وكثيراً منها مات ولم تأت ولا بقليل من الغلة المعتادة، فرفعوا دعوى ضد هذه الشركة ودخلت الدعوى في المحاكم، ثم تطورت إلى المعامل والمختبرات، وكان من وراء هذه الدعوة اكتشاف أن النبات يحتاج إلى فترة مظلمة حتى يرتاح فيها كما يرتاح الإنسان.

فالمقصود أن الله سبحانه وتعالى امتن على الإنسان بهذا النبات، وإيجاد الجو والبيئة والظروف الملائمة لظهوره، كما في قوله عز وجل: أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ * أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ * لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ * إِنَّا لَمُغْرَمُونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ [الواقعة:63-67].

وكما في قوله تعالى في سورة (يس): وَآيَةٌ لَهُمُ الأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ * وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ * لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ [يس:33-35]، فكان من الشكر لنعمة الله سبحانه وتعالى أن يخرج الإنسان زكاة هذا المال كما يخرج زكاة أي مال آخر.

زكاة الخارج من الأرض تنفرد عن غيرها من الزكوات بحكم، وهو: أنها لا يشترط فيها الحول باتفاق العلماء، فإن الحول مشترط في عروض التجارة مثلاً، مشترط في الأثمان، مشترط في الأنعام، أما الخارج من الأرض فلا يشترط له الحول؛ ولذلك الله عز وجل قال: وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ [الأنعام:141]، فلم يشترط فيه حولاً وإنما تجب الزكاة فيه فوراً، كما تجب في المعادن وغيرها، وقد سبق بيان شيء من ذلك، وأن الخارج من الأرض هو نفسه نماء، لا يشترط به نماء آخر، كما ينتظر مثلاً في عروض التجارة أو في الأثمان أو في الماشية، وإنما هو نفسه نماء، فلما تكامل وطاب واشتد وأصبح قابلاً لأن يؤكل ويقتات، وجبت فيه الزكاة حينذاك من غير اشتراط حول.

المسألة الثالثة في الموضوع: وهي في أي الأنواع تجب؟

وقد ذكرنا قبلاً أنها تجب في نوعين: الأول: النبات، والثاني: المعدن، لكن فيما يتعلق بالنبات أو بالزروع والثمار، في أي الزروع وفي أي الثمار تجب؟ هل تجب الزكاة مثلاً في الفواكه؟ هل تجب في الخضروات؟ هل تجب في البقول؟

هذا محل خلاف كبير بين العلماء، ومن أجل حصر وتقريب وضبط أقوالهم، يمكن تقسيمها إلى أربعة أقسام؛ للتقريب العلمي، وإن كان كل مذهب له رأيه المنفرد في مسائل خاصة:

القول الأول: وجوب الزكاة في الأصناف الأربعة

المذهب الأول والقول الأول، وهو رواية في مذهب الإمام أحمد، ونقل عن ابن عمر رضي الله عنه، والحسن البصري وابن سيرين والشعبي والحسن بن صالح وعبد الله بن المبارك وأبي عبيد صاحب الأموال .. وغيرهم، قالوا: إن الزكاة لا تجب إلا في الأصناف الأربعة أو في الأقوات الأربعة المعروفة، وهي: الحنطة، والشعير من الحبوب، والتمر، والزبيب من الفواكه.

فالزكاة عندهم لا تجب إلا في هذه الأصناف الأربعة، وما زاد عليه فلا زكاة فيه: الحنطة، والشعير، والتمر، والزبيب، أو إن شئت قل: العنب.

وهذه الأصناف الأربعة مما يحتجون به على وجوب الزكاة فيها دون غيرها، قالوا: إن الزكاة في هذه الأصناف بإجماع العلماء، وقد سبق أن ذكرت لكم على سبيل المثال كلام ابن المنذر، وأنه قال: إن الزكاة تجب في تسعة أصناف، فذكر من هذه الأصناف الأربعة، وزاد عليها البقر والغنم والإبل، وزاد عليها الذهب والفضة، فقالوا: إن الزكاة في هذه الأصناف الأربعة إجماع، ولا إجماع فيما وراءها، ولا دليل أو نص أيضاً على وجوب الزكاة فيما سواها، قالوا: فنقتصر على ما ورد الإجماع فيه وما سواه فإن ذمة الإنسان معصومة، وماله معصوم فلا يحل ماله إلا بطيب نفس منه، أو بإيجاب شرعي، ولا إيجاب عندهم، فلا زكاة فيما وراء هذه الأصناف الأربعة.

الدليل الثاني أيضاً: أنهم احتجوا بما رواه أبو بردة بن أبي موسى عن أبي موسى ومعاذ : ( أن الرسول صلى الله عليه وسلم حينما بعثهما إلى اليمن يعلمان الناس أمر دينهم، أمرهما ألا يأخذا الصدقة إلا من هذه الأصناف الأربعة -المذكورة-: الحنطة، والشعير، والتمر، والزبيب )، وهذا الحديث رواه الحاكم في مستدركه والبيهقي والطبراني، وذكر البيهقي أن إسناده متصل، وأن رجاله ثقات، ولكن الصواب أن في إسناده يحيى بن طلحة وهو مختلف فيه، وأن الحديث أيضاً مختلف في رفعه ووقفه، فالحديث لا يخلو من علة، ولا يصح الاستدلال به في مثل هذه المسألة المهمة في قصر الزكاة على هذه الأصناف الأربعة .

إذاً: هذا هو القول الأول، وهو واضح ليس فيه إشكال.

القول الثاني: وجوب الزكاة في كل مكيل ومدخر

القول الثاني في المسألة: وهو مذهب الحنابلة، قالوا: إن الزكاة تجب في كل مكيل ومدخر.

إذاً: هم يشترطون الكيل، وممكن نقول: أو الوزن، ويشترطون الادخار، أن يكون مدخراً، سواء كان هذا المال أو كانت هذه الحبوب أو الثمار مما يقتات قوتاً أو لم تكن قوتاً.

إذاً: مذهب الحنابلة الذي يوضحه ويميزه أنهم لا يشترطون الاقتيات، يقولون: إذا كانت الحبوب أو الثمار مما يكال ومما يدخر ويحفظ، فإن الزكاة فيها واجبة؛ لأن الادخار فيه قوة، يعني: يجعل لهذا المال قوة، فهو يجعلهم في مقام أنه يواسى به الفقير ويخرج منه الزكاة، وأما القوت فقالوا: إنه ليس بشرط وليس بلازم، وهذا كما قال صاحب الإنصاف : إنه من مفردات مذهب الحنابلة، وعلى هذا تجب الزكاة عند الحنابلة في عدة أصناف مما يخرج من الأرض، تجب الزكاة عندهم في الأقوات، وطبيعي من باب أولى؛ لأنهم لا يشترطون القوت، ولكن معناه أنهم يوجبون الزكاة في القوت وفي غير القوت، فتجب عند الحنابلة في القوت، مثل ماذا القوت؟

مداخلة: .....

الشيخ: مثل الرز -الله يفتح عليك- وهو من أهم الأقوات خصوصاً في العصر الحاضر، أيضاً مثل: الحنطة، الشعير، السلت، الذرة، الدخن، هذه أقوات وإن كان مضى وقتها، ولكنها موجودة في بعض البيئات وفي عصور خلت، فهذه كلها أقوات، إما أقوات بالفعل، أو أقوات بالقوة، يعني: أنها تصلح لأن تكون قوتاً.

طيب، تجب أيضاً عند الحنابلة فيما يسمونها بالقطنيات، والقطنيات سميت بهذا؛ لأنها تقطن البيوت، يعني: تكون في البيوت وتبقى في البيوت وتدخر وتقتات، والقطنيات مثل: الباقلاء، والعدس، والحمص، واللوبيا، والماش، يمكن أكثر الإخوة لا يعرفونه، وهي نبات حبوبه صغيرة جداً، يستخدم غالباً الآن في العلاج وغيره.

تجب عند الحنابلة أيضاً في الأبازير، البزار مثل: الكزبر والكمون والكراويا.. وغيرها.

تجب عندهم أيضاً في بعض البذور كبذر الخيار وبذر البطيخ.. وغيرها.

تجب في حبوب البقول، مثل: الرشاد والسمسم والحلب وأيضاً الزيتون وغيرها.

تجب فيما يجفف ويدخر مما يجمع هذه الأوصاف السابقة أو كثيراً منها، مثل: التمر بطبيعة الحال، وهذا إجماع كما ذكرناه، مثل الزبيب، مثل المشمش، اللوز، الفستق، البندق.. إلى غير ذلك، هذه الأشياء تجب فيها الزكاة عند الحنابلة؛ لأنهم يشترطون أن يكون مدخراً، ولو لم يكن قوتاً.

طيب لكنها لا تجب مثلاً في الفواكه عند الحنابلة مثل الخوخ، والكمثرى، والتفاح، والبرتقال، والأترج، والمانجو.. وغيرها، فهذه الفواكه ليس فيها عندهم زكاة لماذا؟ لأنها لا تدخر، وأما كونها الآن توضع في الثلاجات أو غيرها، فهذا لا يعتبر ادخاراً، كذلك لا تجب الزكاة عندهم في البقول، مثل: الفجل، الثوم، البصل، الكراث، الخس، الجزر، هذه تعتبر بقولاً لا تجب فيها الزكاة، كذلك لا تجب في الخضروات المطبوخة مثل الباذنجان، الكوسة، القرع مثلاً.

إيه نعم، حجة الحنابلة في هذا عموم قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ( فيما سقت السماء والعيون العشر، وفيما سقي بالنضح نصف العشر )، والحديث رواه البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه من حديث ابن عمر باللفظ الذي ذكرته.

فقالوا: هذا عام، الحديث له شواهد كما ذكرت قبل قليل عن جابر عند مسلم وعن معاذ عند أحمد وغيره، والحديث يؤخذ بعمومه أن كل ما نبت فالأصل فيه وجوب الزكاة، وكذلك حديث أبي سعيد الخدري : ( ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة )، فقالوا: هذا دليل على أن كل ما يوسق يعني: يكال، فإن فيه الزكاة. ننظر في المذهب.

إذاً: هو اشترط الكيل واشترط الادخار، أما الكيل: فإن اشتراطه غير ظاهر؛ لأن الكيل وصف عادي، وصف عام، فهو لا يختلف عن الموزون، لا يختلف عن المعدود، لا يختلف عن غيره، وإنما الفقهاء والعلماء ذكروا الكيل في الربويات، البر بالبر، والتمر بالتمر، والشعير بالشعير، والملح بالملح؛ لأنه يشترط في الربويات التساوي في الوزن أو في الكيل، أما فيما يتعلق بالزكاة فإنه لا اعتبار له، والكيل أستطيع أن أقول: إنه وصف خارجي، فما هو الفرق بين شيء يكال وشيء يوزن، بحيث نجعل في هذا الزكاة، وهذا ليس فيه الزكاة؟ وأما الحديث فهو ليس فيه قوة أن ما لا يوسق ليس فيه زكاة، وإنما دلالة الحديث على أن الموسقات فيها الزكاة، وأما ما سواها فقد يفهم ذلك من نصوص أخرى، ولذلك أشار ابن تيمية رحمه الله إلى هذا المعنى كما في الفتاوى، وهو أن الكيل ليس وصفاً قوياً يمكن ترتيب وجوب الزكاة من عدمها على وجود الكيل أو عدم وجوده.

القول الثالث: وجوب الزكاة في كل ما يقتات ويدخر

أما ما يتعلق بكونه يدخر، فإن هذا له وجه من الاعتبار، لكن يبقى أيضاً كونه يمكن أن يكون أكثر من الادخار وهو الاقتيات، وهو المذهب الثالث الذي سوف أنتقل إليه: وهو مذهب الشافعية والمالكية، فإنهم قالوا: إن الزكاة تجب فيما يقتات ويدخر، فعلى هذا لو كان مدخراً كما هي الحال عند الحنابلة، ولكن ليس قوتاً، فإنه لا تجب فيه الزكاة.

طيب، هنا هل المالكية والشافعية يوجبون الزكاة في أشياء لا يوجبها الحنابلة أو العكس؟

العكس، يعني: هناك أشياء كثيرة تجب فيها الزكاة عند الحنابلة؛ لأنها تدخر، ولكنها لا تجب عند المالكية والشافعية؛ لأنها ليست قوتاً، فأضاف الشافعية والمالكية شرطاً أو وصفاً جديداً وهو القوت، والمراد بقولهم القوت ما يتخذه الناس قوتاً بالعادة، وليس بحالات الاضطرار، يعني: ما يتخذ قوتاً بالاختيار لا بالاضطرار، ولذلك اختلف المالكية مثلاً في التين، هل تجب فيه الزكاة أم لا؟ فنص الإمام مالك في موطئه على أن التين لا تجب فيه الزكاة، وقال: هذا هو المذهب، والذي وجدنا عليه الفقهاء والناس أنه لا زكاة فيه ولا فيما أشبهه من الفواكه، وخالفه كثير حتى من فقهاء المالكية أنفسهم، وقالوا كما قال ابن عبد البر : الظاهر أن الإمام مالك رحمه الله لم يكن يعلم أن التين يمكن أن ييبس ويجفف ويكال ويقتات ويدخر، وإلا لأوجب فيه الزكاة، ولهذا قالوا: إن طرد مذهب مالك إيجاب الزكاة في التين، وإن كان نصه أنه لا زكاة فيه.

ويظهر لي والله أعلم: أن الخلاف بين الشافعية والمالكية من جهة، وبين الحنابلة من جهة أخرى يتركز فيما يتعلق بالحبوب كالأبازير كما ذكرنا والبذور والبقول.. وغيرها. وأما الفواكه فيكادون يقترب بعضهم من بعض أنه لا يكون فيها زكاة، وحجتهم هي النفع العظيم المترتب على الاقتيات، وأنه يقوم في ذلك مقام بهيمة الأنعام التي يؤخذ منها اللبن والدر والسمن.. وغيره.

القول الرابع: وجوب الزكاة في كل ما يخرج من الأرض مما يغرس

المذهب الرابع: وهو مذهب أبي حنيفة وأبو حنيفة مذهبه أوسع المذاهب فهو نقيض المذهب الأول، فهو يقول: أن كل ما أخرجت الأرض مما يغرسه الإنسان عادة ففيه الزكاة، وهذا المذهب أيضاً هو مذهب الظاهرية، وربما هذه من الحالات القليلة التي يلتقي فيها الظاهرية مع الأحناف، وهو قول النخعي، وهو أيضاً ثابت بأسانيد صحيحة عن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، وهو مذهب مجاهد وحماد بن أبي سليمان، واختاره ابن العربي من فقهاء المالكية كما في شرحه للترمذي، وكما في أحكام القرآن له، ونصره بوجوه كثيرة.

فعلى هذا تجب الزكاة عند الأحناف أو عند أبي حنيفة ؛ لأن بعض أصحابه خالفوه، فتجب عنده في كل الثمار، والفواكه: كالتفاح والموز والبرتقال والمانجو والكمثرى.. وغيرها.. فالفواكه تجب عنده خلافاً للجمهور، وتجب أيضاً في كل الخضروات: كالخيار والقثاء والبطيخ والجزر واللفت والفجل.. وغيرها، وتجب في القطن والكتان وما أشبهه، وتجب في الأبازير وتجب في ما ذكرناه قبل قليل في مذهب الحنابلة وغيره.

أما الشاي فعلى مذهب الجمهور لا تجب فيه الزكاة؛ لأنه ليس قوتاً، وإن كان قد يدخر لكنه ليس قوتاً، وأيضاً ليس مما ربما أنه يوسق، والله أعلم.

أما عند الأحناف فإن الزكاة فيه واجبة، ونحن نعرف مثلاً أنك لما تذهب إلى بلاد جنوب شرق آسيا تجد خضرة مسافة كيلو مترات متواصلة، فتسأل: ما هذه المزارع؟ قالوا: هذه مزارع الشاي، وهكذا تذهب إلى تلك البلاد أو إلى غيرها أو إلى الهند فتجد مزارع بالكيلو مترات، تسأل: ما هذه المزارع؟ فيقولون: هذه مزارع الأرز.

ما حجة الأحناف في إيجاب الزكاة في هذه الأشياء احتجوا بعدة أدلة منها:

أولاً: قوله تعالى: وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ [البقرة:267]، واستدلالهم بهذه الآية ظاهر، فإن الله سبحانه وتعالى عم وقال: وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ [البقرة:267]، وهذه حجة قوية، إلا أن الآخرين خصوا هذا ببعض الآثار وبعض النصوص، مثل ما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( ليس في الخضروات صدقة )، والخضروات يعني: ممكن نقول: إنها جمع الجمع، عندك خضرة تجمع على خضر ثم تجمع الخضر على خضروات، فقوله: ( ليس في الخضروات صدقة ) رواه الترمذي واستغربه، يعني: ضعفه، ورواه الدارقطني أيضاً عن علي وعائشة وهو ضعيف، وقال الترمذي : لا يصح في الباب شيء، وكذلك قال البخاري : إنه لا يصح في الباب شيء.

إذاً: لا يصح حديث: ( ليس في الخضروات صدقة )، ولا يسلم أثر منها عن مطعن، لكن بعض الذين أخذوا بهذا الحديث من الشافعية كـالبيهقي والخطابي .. وغيرهما، ومن الحنابلة، قالوا: إن هذا الحديث أولاً: يعتضد بتعدد طرقه، فإنه يعطيه نوع من القوة، وقالوا: إنه يعتضد بنقل الصحابة، فإنه نقل عن عمر وعلي وجابر رضي الله عنهم أنهم قالوا ذلك، وكذلك يعضدونه بفعل الصحابة، فإنهم قالوا: إنه لم ينقل أن الصحابة رضي الله عنهم أخذوا الزكاة من الفواكه.. وغيرها التي كانت موجودة في الحجاز.

يبقى استدلال الأحناف قوياً بالآية، فإن عموم هذه الآية من الصعب الانتقال عنه إلا بوجه قوي، وعدم النقل ليس نقلاً للعدم كما يقولون، يعني: قد تكون الزكاة أخذت دون أن ينقل ذلك، وقد يكون ترك أو فوض أمر إخراجها إلى أهلها ولم يقم الإمام بجبايتها.. إلى غير ذلك من الاحتمالات والحجج.

الدليل الثاني: قول الله سبحانه وتعالى: وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ [الأنعام:141]، وهذا أيضاً أقوى من الأول؛ لأن قوله: (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ) جاء في سورة الأنعام، بعدما ذكر الله سبحانه وتعالى: النخيل، والزرع، والزيتون، والرمان، وهذه من الفواكه التي لا تجب فيها الزكاة عند بعضهم، كالرمان مثلاً، وكذلك الزيتون وإن كان عندهم اختلاف في وجوب الزكاة فيه، فهذا مما يقوي وجوب إخراج الزكاة، في كل خارج من الأرض مما يغرسه الإنسان عادة.

الدليل الثالث لهم: قوله صلى الله عليه وسلم: ( فيما سقت السماء العشر، وفيما سقي بالنضح نصف العشر )، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يميز في هذا الحديث بين ما يبقى وما لا يبقى، وما يكال وما لا يكال، وما يدخر وما لا يدخر، وما يقتات وما لا يقتات، ولذلك مع أن المسألة حقيقة لا تخلو من إشكال، وهي مسألة شائكة والترجيح فيها عسير إلا أنني أقول: إن مذهب الأحناف له قوة ووجاهة لا تخفى، وإن كان الترجيح المطلق له يحتاج إلى مزيد من البحث والتحري.

مذهب الشافعية والمالكية يأتي في تقديري في الدرجة الثانية في القوة والوجاهة، من جهة أن شرط القوت شرط واضح وقوي في المسألة، ومذهب الحنابلة قريب منه.

المذهب الأول والقول الأول، وهو رواية في مذهب الإمام أحمد، ونقل عن ابن عمر رضي الله عنه، والحسن البصري وابن سيرين والشعبي والحسن بن صالح وعبد الله بن المبارك وأبي عبيد صاحب الأموال .. وغيرهم، قالوا: إن الزكاة لا تجب إلا في الأصناف الأربعة أو في الأقوات الأربعة المعروفة، وهي: الحنطة، والشعير من الحبوب، والتمر، والزبيب من الفواكه.

فالزكاة عندهم لا تجب إلا في هذه الأصناف الأربعة، وما زاد عليه فلا زكاة فيه: الحنطة، والشعير، والتمر، والزبيب، أو إن شئت قل: العنب.

وهذه الأصناف الأربعة مما يحتجون به على وجوب الزكاة فيها دون غيرها، قالوا: إن الزكاة في هذه الأصناف بإجماع العلماء، وقد سبق أن ذكرت لكم على سبيل المثال كلام ابن المنذر، وأنه قال: إن الزكاة تجب في تسعة أصناف، فذكر من هذه الأصناف الأربعة، وزاد عليها البقر والغنم والإبل، وزاد عليها الذهب والفضة، فقالوا: إن الزكاة في هذه الأصناف الأربعة إجماع، ولا إجماع فيما وراءها، ولا دليل أو نص أيضاً على وجوب الزكاة فيما سواها، قالوا: فنقتصر على ما ورد الإجماع فيه وما سواه فإن ذمة الإنسان معصومة، وماله معصوم فلا يحل ماله إلا بطيب نفس منه، أو بإيجاب شرعي، ولا إيجاب عندهم، فلا زكاة فيما وراء هذه الأصناف الأربعة.

الدليل الثاني أيضاً: أنهم احتجوا بما رواه أبو بردة بن أبي موسى عن أبي موسى ومعاذ : ( أن الرسول صلى الله عليه وسلم حينما بعثهما إلى اليمن يعلمان الناس أمر دينهم، أمرهما ألا يأخذا الصدقة إلا من هذه الأصناف الأربعة -المذكورة-: الحنطة، والشعير، والتمر، والزبيب )، وهذا الحديث رواه الحاكم في مستدركه والبيهقي والطبراني، وذكر البيهقي أن إسناده متصل، وأن رجاله ثقات، ولكن الصواب أن في إسناده يحيى بن طلحة وهو مختلف فيه، وأن الحديث أيضاً مختلف في رفعه ووقفه، فالحديث لا يخلو من علة، ولا يصح الاستدلال به في مثل هذه المسألة المهمة في قصر الزكاة على هذه الأصناف الأربعة .

إذاً: هذا هو القول الأول، وهو واضح ليس فيه إشكال.


استمع المزيد من الشيخ سلمان العودة - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الحج والعمرة - باب الفدية 3985 استماع
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب البيوع – باب الخيار -2 3924 استماع
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الزكاة - زكاة السائمة 3852 استماع
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الزكاة - باب زكاة العروض 3844 استماع
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الطهارة - باب المسح على الخفين 3670 استماع
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الحج والعمرة - باب محظورات الإحرام -1 3623 استماع
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الصلاة - باب صلاة المريض 3611 استماع
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب البيوع – مراجعة ومسائل متفرقة في كتاب البيوع 3549 استماع
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الحج والعمرة - باب صفة الحج 3513 استماع
شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الصلاة - باب أركان الصلاة وواجباتها 3442 استماع