شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الصلاة - باب سجود السهو


الحلقة مفرغة

[ باب سجدتي السهو ].

المسألة الأولى: السهو: هو الذهول عن الشيء، ويقال: سها في صلاته وسها عن صلاته، فأما السهو في الصلاة فهو المقصود، وهو الزيادة أو النقص أو الشك عن غير تعمد، بل عن نسيان، وأما السهو عن الصلاة فهو تركها، وهو المتوعد عليه بقوله تعالى: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ [الماعون:4-7].

ومما يتعلق بهذه المسألة: أن العلماء اختلفوا في سجود السهو أهو واجب، أم سنة؟ فذهب الإمام الشافعي وجماعته: إلى أنه سنة ليس بواجب، وذهب الإمام أحمد إلى أنه واجب، وذهب مالك إلى أن السهو إن كان عن نقص فهو واجب؛ لأنه جبر لنقص الصلاة، وإن كان عن زيادة فليس بواجب، والصواب: أن سجود السهو واجب؛ لأحاديث عدة سوف تمر إن شاء الله، إلا أن يكون السهو لترك سنة، فحينئذ لا يكون واجباً، بل يكون مستحباً عند من يقول بمشروعية سجود السهو لترك السنة، وهو الإمام أحمد رحمه الله ومن وافقه، وإنما يسجد إذا ترك سنةً كان من عادته أن يفعلها، فتركها نسياناً فحينئذ يسجد بسببها.

المسألة الثانية: قال: [والسهو على ثلاثة أضرب]، أي: أن السهو الذي يحدث في الصلاة يكون على ثلاثة أنواع؛ لأن السهو لا يخلو: إما أن يكون عن زيادة، أو أن يكون عن نقص في الصلاة، أو أن يكون عن شك فيها لا يدري هل أتى بهذه الركعة أو لم يأت، وهل أتى بهذا الركن أو الواجب أو لم يأت به؟

فهذه هي الأشياء الثلاثة التي يشرع لها سجود السهو، إما الزيادة، وإما النقص، وإما الشك.

السهو بزيادة فعل من جنس الصلاة

المسألة الثالثة: قال: [أحدها: زيادة فعل من جنس الصلاة كركعة أو ركن]، فزيادة الركعة، أي: أن يأتي بخامسة في الظهر مثلاً، أو في العشاء، أو رابعة في المغرب، أو ثالثة في الفجر، وأما زيادة الركن فكأن يأتي بركوع آخر أو سجود آخر.

ومثله أيضاً: لو أتى بزيادة في واجب، وهل يتصور أن يأتي بزيادة واجب في الصلاة؟

مثلاً: أتى بزيادة في تسبيح الركوع، هل يتصور هذا؟ يتصور أم لا؟ في تسبيح الركوع، لا يتصور في تسبيح الركوع؛ لأنه مهما زاد فهذا داخل في المشروع، أو في قوله: (رب اغفر لي) بين السجدتين، هل يتصور الإتيان بزيادة على الواجب؟!

إذاً: يتصور، كأن يكرر تكبيرة الانتقال سهواً أو أن يجلس تشهدين، أن يكرر التشهد الأول، وهو واجب كما سبق.

إذاً: الزيادة قد تكون زيادة ركعة، وقد تكون زيادة ركن، وقد تكون زيادة واجب في الصلاة، ولا شك أن زيادة الفعل من جنس أفعال الصلاة -كالركوع أو السجود أو القعود عن سهوٍ- أنها داخلة في السهو الذي يجب له السجود كما فعله النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فإنه زاد في الصلاة، وهذا أحد وجوه سهوه صلى الله عليه وسلم، فإنه قد سها في صلاته كما ثبت ذلك في الصحاح وغيرها، وقال صلى الله عليه وسلم كما في حديث ابن مسعود : ( إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون ).

أما حديث: ( إني لا أنسى، ولكن أنسى لأسن )، فهذا لا يصح، وقد رواه مالك في الموطأ بلفظ: ( إني لأنسى -أو أنسى- لأسن )، رواه مالك بلاغاً منقطعاً، وهو أحد أحاديث أربعة لم توجد موصولة في الموطأ ولا في غيره، الموطأ فيه أحاديث كثيرة منقطعة، لكنها موصولة خارج الموطأ، أما هذا الحديث فإنه لم يوجد موصولاً خارج الموطأ قط، ومعه أربعة أحاديث لم توصل، ذكرها أهل العلم.

منها: قول معاذ رضي الله عنه: ( كان آخر ما أوصاني النبي صلى الله عليه وسلم وقد وضعت رجلي في الغرز أن: حسن خلقك للناس ).

ومنها قوله: ( إن النبي صلى الله عليه وسلم أري أعمار أمته فكأنه تقالّها، فأعطي ليلة القدر وهي خير من ألف شهر ).

والحديث الرابع منها: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا أنشأت بحرية ) يعني: السحاب ( إذا أنشأت بحرية ثم تشاءمت فهي عين غديقة )، يعني: فيها رواء ومطر كثير، فهذا من الفوائد، الأحاديث هذه الأربعة في الموطأ لم توجد موصولة قط، بل هي أحاديث منقطعة، رابعها حديث سجود السهو: ( إني لأنسى أو أنسى لأسن )، فهو لا يصح ويعارضه الحديث الذي في صحيح مسلم، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون ).

وكان نسيانه صلى الله عليه وسلم على أضرب، منها: أنه سلم من ركعتين، ومنها أنه سلم من ثلاث، ومنها أنه زاد في الصلاة، ومنها أنه نقص، ومنها أنه شك، وهذا ما ذكره الإمام أحمد، فقد نقل عنه رضي الله عنه أنه قال: (إن مدار أحاديث سجود السهو على خمسة أحاديث: سلم من ثنتين) وهذه من الفوائد أيضاً، الإمام أحمد يقول: (مدار سجود السهو على خمسة أحاديث: أنه سلم من ثنتين، وسلم من ثلاث، والزيادة، والنقص، والشك)، ومثل ذلك أيضاً قاله الخطابي رحمه الله تعالى، وذكر الأحاديث كحديث أبي هريرة وحديث ابن مسعود وحديث أبي سعيد الخدري وحديث عمران بن حصين وحديث المغيرة بن شعبة وغيرهم رضي الله عنهم.

حكم الزيادة في الصلاة من جنسها عمداً

المسألة الرابعة: قال: [فتبطل الصلاة بعمده]، أي: أنه لو زاد فعلاً من جنس الصلاة عمداً، فإن الصلاة تبطل بذلك، كما لو زاد ركعة أو ركوعاً أو تشهداً متعمداً، فإن الصلاة تبطل بذلك، وإنما بطلت الصلاة بذلك لأن هذا الفعل غير مشروع؛ وهو من جنس أفعال الصلاة، فزيادته له نوع من العبث في الصلاة، وزيادة شيءٍ فيها لم يشرعه الله تعالى ولا رسوله ولم يأذن به، فهو مبطل لها.

ما يلزم من زاد في الصلاة من جنسها سهواً

الخامسة: قال: [ ويسجد لسهوه ]، أي: أنه إن فعل شيئاً من ذلك ساهياً فإن الصلاة لا تبطل، بل صلاته صحيحة ويسجد للسهو؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فعل ذلك، فإنه زاد فعلاً من جنس الصلاة، فصلى خمساً كما في أحد حديثي ابن مسعود رضي الله عنه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى خمساً -وهو في الصحيح- فلما سلم توشوش القوم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما شأنكم؟ قالوا: يا رسول الله! هل زيد في الصلاة؟ قال: لو زيد شيء في الصلاة أخبرتكم، قالوا: فإنك صليت خمساً، فاستقبل النبي صلى الله عليه وسلم القبلة وسجد سجدتين ثم سلم، ثم قال: إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون، فإذا نسي أحدكم فليسجد سجدتين )، وفي رواية أنه قال: ( فإذا نسي أحدكم فزاد أو نقص فليسجد سجدتين )، فذلك دليل على أنه إذا نسي فزاد شيئاً من جنس الصلاة ركعة أو ركوعاً أو واجباً؛ فإنه يسجد لذلك؛ لأنه إذا ثبت أنه صلى الله عليه وسلم فعل ذلك في الركعة ففيما دونها من باب أولى، كما لو نسي فزاد سجوداً وهو ركن، أو زاد تشهداً وهو واجب، فمن باب أولى أنه تصح صلاته ويجب عليه حينئذ السجود.

ما يلزم من ذكر الزيادة وهو فيها

المسألة السادسة: قال: [وإن ذكر وهو في الركعة الزائدة جلس في الحال]، أي: أنه لو تذكر أنه سها وهو في خلال الزيادة -سواء كانت ركعة أو غيرها- فإن عليه أن يتركها ويعود إلى الواجب الأصلي عليه في الحال، فلو زاد ركعة خامسة في رباعية مثلاً، ثم ذكر وهو في الركعة -سواء كان في قيامها أو ركوعها أو سجودها- فإنه يجب عليه أن يرفض تلك الركعة التي زاد ويعود إلى الواجب الأصلي عليه، فلو زاد خامسة مثلاً في رباعية ثم تذكر وهو في الركوع فهل يرفع من الركوع؟ لا يرفع؛ لأنه لو رفع لكان قد أتى بركن زائد عمداً، بل يجب عليه أن يعود من ركوعه إلى القعود للتشهد الأخير؛ لأن هذه الركعة زائدة، ومثله أيضاً لو كانت الزيادة سجوداً فذكر فعليه ألا يسبح في السجود، بل أن يعود إلى تشهده مباشرة، ومثله أيضاً لو جلس لتشهد أول زائد ثم ذكر، فعليه أن يرفضه وينتقل إلى الواجب في حقه مباشرة؛ ولهذا قال: [ وإن ذكر وهو في الركعة الزائدة جلس في الحال ].

ما يلزم من سلم عن نقص في صلاته

السابعة: قال: [ وإن سلم عن نقص في صلاته أتى بما بقي عليه ثم سجد ]، إن سلم عن نقص في صلاته -كما لو سلم عن ثنتين في رباعية مثلاً- فإنه يجب عليه إذا علم أو عُلم أن يأتي بما بقي عليه، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم في حديث المسيء صلاته، وقد رواه الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: ( صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إحدى صلاتي العشي إما الظهر وإما العصر -شك أبو هريرة رضي الله عنه- قال: فسلم من ركعتين، ثم قام إلى خشبة معروضة في المسجد فاتكأ عليها كأنه غضبان وشبك بين أصابعه، وفي القوم أبو بكر وعمر فهابا أن يكلماه، قال: فقام رجل يقال له -كما في بعض طرق الحديث-: الخرباق في يديه طول، وكان يسمى ذا اليدين، فقال: يا رسول الله! أَقُصُرت الصلاة أم نسيت؟ قال: ما نسيت ولم تقصر، ثم أقبل النبي صلى الله عليه وسلم على القوم، فقال: أكما يقول ذو اليدين ؟ فقالوا: نعم -وفي رواية عند أبي داود : فأشاروا أن نعم- فقام النبي صلى الله عليه وسلم فاستقبل القبلة وصلى بهم ركعتين ثم سلم ثم سجد سجدتين ثم سلم )، فهذا الحديث دليل على أنه إذا سلم عن نقص في صلاته أتى بما بقي عليه منها ثم سجد، ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم سلم عن ركعتين ثم أتى بما بقي عليه.

هاهنا سؤال: إذا سلم عن نقص، نقص ركعة أو ركعتين أو غير ذلك، هل يجب عليه أن يحرم، يعني: يكبر من جديد إذا استقبل القبلة أو لا يكبر؟

لا يكبر، الصواب الذي عليه الجمهور: أنه لا يكبر؛ وذلك أنه بمجرد ما ذكر أنه نقص في صلاته فإنه يكون في صلاة حينئذ؛ لأن السلام الذي سلمه كان سهواً فلا تبطل الصلاة به، وحينئذ فعليه أن يستقبل القبلة ويستأنف صلاته، ولا يحتاج إلى تكبير للإحرام حينئذ كما هو مذهب الجمهور، وهو الذي فعله النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولذلك قال المصنف: [ وإن سلم عن نقص في صلاته أتى بما بقي عليه منها ]، يعني: سواء كان ركعة أو ركعتين أو كان غير ذلك ثم سجد للسهو، ولم يبين سجود السهو حينئذٍ: هل هو قبل السلام أو بعده؛ لأنه سيبين ذلك في آخر الباب.

وقد سلم النبي صلى الله عليه وسلم عن نقص كما في حديث أبي هريرة في قصة ذي اليدين، حيث سلم في إحدى صلاتي العشي من ركعتين، وسلم أيضاً من نقص كما في حديث عمران بن حصين أنه: ( صلى الله عليه وسلم سلم في صلاة الظهر أو العصر عن ثلاث ركعات، ثم أتى بالركعة الرابعة وسجد للسهو ).

حكم العمد والنسيان في فعل ما ليس من جنس الصلاة

الثامنة: قال: [ولو فعل ما ليس من جنس الصلاة لاستوى عمده وسهوه]؛ وذلك أن الأعمال التي من جنس الصلاة -كالركوع أو السجود أو الأذكار- سبق الكلام فيها.

أما ما ليس من جنس الصلاة فذلك كالأعمال الأخرى الدنيوية التي لا تعلق للصلاة بها، كالذهاب والإياب والالتفات والأخذ والعطاء والفتح والإغلاق والترويح باليد وما أشبه ذلك، فإن هذه الأشياء ليست من جنس الصلاة فيستوي عمدها وسهوها.

حكم العمل الكثير في الصلاة مما ليس من جنسها

التاسعة: قال: [ فإن كان كثيراً أبطلها ]، أي: إن كان العمل كثيراً في نظر المصلي أبطل الصلاة، لقول الله تعالى: وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ [البقرة:238]؛ لأن كثرة العمل تدل على عدم الخشوع وعلى عدم القنوت لله تعالى، فتبطل الصلاة، والكثير قيل في حده: إنه ما فحش في نظر المصلي وفي نفسه، وقيل: حده أنه ما أوهم أن هذا الإنسان ليس بمصل، بحيث إن من رآه لم يعلم أنه يصلي؛ لكثرة حركته والتفاته وتحريك يديه وما أشبه ذلك.

[ فإن كان كثيراً أبطل الصلاة، وإن كان يسيراً كفعل النبي صلى الله عليه وسلم في حمله أمامة ]، كما جاء في الصحيحين: ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم -فيما رواه أبو قتادة - كان يصلي وهو حامل أمامة بنت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم -وهي بنت أبي العاص بن الربيع بن عبد شمس - فإذا قام صلى الله عليه وسلم حملها وإذا سجد وضعها )، فهذه من الحركة التي تعد من الحركات اليسيرة في الصلاة، ومثله أيضاً ما روي أنه صلى الله عليه وسلم: ( فتح الباب لـعائشة )، ومثله أيضاً ما أذن فيه الشرع من الأعمال التي ليست من جنس الصلاة، مثل قتل الأسودين، قتل الحية والعقرب في الصلاة، فإنه قد أذن بذلك، ومثله أيضاً إنقاذ معصوم، مثل من رأى من يوشك أن يهلك بسقوطه في بئر أو بحر أو نحو ذلك فإنه يتعين عليه هذا، ومثله أيضاً الحريق يتعلق بإنقاذ معصوم.

وأما رد السلام فلا يرد إلا بحركة يسيرة بيده، نعم هذا مشروع أيضاً، رد السلام بحركة يسيرة بيده أو أصابعه كما سبق، وأيضاً لو علم أن عليه نجاسة وهو في الصلاة، ثم اشتغل بإزالتها، فإن ذلك داخل في تحصيل الواجب أو تحصيل مصلحة الصلاة، وكل ذلك مما أذن به شرعاً أو أمر به شرعاً، فلا تبطل الصلاة به، فهذا من هذا الباب، فإن كان يسيراً فإن الصلاة لا تبطل به.

ومما يدخل في ذلك أيضاً الحركة التي يفعلها المصلي في صلاة الخوف، سواء كانت قليلة أو كثيرة؛ لقول الله تعالى: فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا [البقرة:239]، وقوله: وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ [النساء:102] إلى آخر الآية، وكذلك فعل النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه، وحديث ابن عمر : ( فإن كان خوف أكثر من ذلك صلوا قياماً أو ركباناً مستقبلي القبلة وغير مستقبليها )، فإن الحركة في صلاة الخوف قد تكون حركة كثيرة أحياناً ويتوهم من رآه أنه غير مصل، ومع ذلك أذن فيها الشارع؛ لأنها في المصلحة، ولأنه لابد للمصلي منها، ولذلك أذن أيضاً في صلاة الخوف بترك استقبال القبلة وترك القيام وغير ذلك مما هو داخل في باب الأركان؛ لشدة الحاجة إلى ذلك في صلاة الخوف.

المسألة الثالثة: قال: [أحدها: زيادة فعل من جنس الصلاة كركعة أو ركن]، فزيادة الركعة، أي: أن يأتي بخامسة في الظهر مثلاً، أو في العشاء، أو رابعة في المغرب، أو ثالثة في الفجر، وأما زيادة الركن فكأن يأتي بركوع آخر أو سجود آخر.

ومثله أيضاً: لو أتى بزيادة في واجب، وهل يتصور أن يأتي بزيادة واجب في الصلاة؟

مثلاً: أتى بزيادة في تسبيح الركوع، هل يتصور هذا؟ يتصور أم لا؟ في تسبيح الركوع، لا يتصور في تسبيح الركوع؛ لأنه مهما زاد فهذا داخل في المشروع، أو في قوله: (رب اغفر لي) بين السجدتين، هل يتصور الإتيان بزيادة على الواجب؟!

إذاً: يتصور، كأن يكرر تكبيرة الانتقال سهواً أو أن يجلس تشهدين، أن يكرر التشهد الأول، وهو واجب كما سبق.

إذاً: الزيادة قد تكون زيادة ركعة، وقد تكون زيادة ركن، وقد تكون زيادة واجب في الصلاة، ولا شك أن زيادة الفعل من جنس أفعال الصلاة -كالركوع أو السجود أو القعود عن سهوٍ- أنها داخلة في السهو الذي يجب له السجود كما فعله النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فإنه زاد في الصلاة، وهذا أحد وجوه سهوه صلى الله عليه وسلم، فإنه قد سها في صلاته كما ثبت ذلك في الصحاح وغيرها، وقال صلى الله عليه وسلم كما في حديث ابن مسعود : ( إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون ).

أما حديث: ( إني لا أنسى، ولكن أنسى لأسن )، فهذا لا يصح، وقد رواه مالك في الموطأ بلفظ: ( إني لأنسى -أو أنسى- لأسن )، رواه مالك بلاغاً منقطعاً، وهو أحد أحاديث أربعة لم توجد موصولة في الموطأ ولا في غيره، الموطأ فيه أحاديث كثيرة منقطعة، لكنها موصولة خارج الموطأ، أما هذا الحديث فإنه لم يوجد موصولاً خارج الموطأ قط، ومعه أربعة أحاديث لم توصل، ذكرها أهل العلم.

منها: قول معاذ رضي الله عنه: ( كان آخر ما أوصاني النبي صلى الله عليه وسلم وقد وضعت رجلي في الغرز أن: حسن خلقك للناس ).

ومنها قوله: ( إن النبي صلى الله عليه وسلم أري أعمار أمته فكأنه تقالّها، فأعطي ليلة القدر وهي خير من ألف شهر ).

والحديث الرابع منها: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا أنشأت بحرية ) يعني: السحاب ( إذا أنشأت بحرية ثم تشاءمت فهي عين غديقة )، يعني: فيها رواء ومطر كثير، فهذا من الفوائد، الأحاديث هذه الأربعة في الموطأ لم توجد موصولة قط، بل هي أحاديث منقطعة، رابعها حديث سجود السهو: ( إني لأنسى أو أنسى لأسن )، فهو لا يصح ويعارضه الحديث الذي في صحيح مسلم، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون ).

وكان نسيانه صلى الله عليه وسلم على أضرب، منها: أنه سلم من ركعتين، ومنها أنه سلم من ثلاث، ومنها أنه زاد في الصلاة، ومنها أنه نقص، ومنها أنه شك، وهذا ما ذكره الإمام أحمد، فقد نقل عنه رضي الله عنه أنه قال: (إن مدار أحاديث سجود السهو على خمسة أحاديث: سلم من ثنتين) وهذه من الفوائد أيضاً، الإمام أحمد يقول: (مدار سجود السهو على خمسة أحاديث: أنه سلم من ثنتين، وسلم من ثلاث، والزيادة، والنقص، والشك)، ومثل ذلك أيضاً قاله الخطابي رحمه الله تعالى، وذكر الأحاديث كحديث أبي هريرة وحديث ابن مسعود وحديث أبي سعيد الخدري وحديث عمران بن حصين وحديث المغيرة بن شعبة وغيرهم رضي الله عنهم.

المسألة الرابعة: قال: [فتبطل الصلاة بعمده]، أي: أنه لو زاد فعلاً من جنس الصلاة عمداً، فإن الصلاة تبطل بذلك، كما لو زاد ركعة أو ركوعاً أو تشهداً متعمداً، فإن الصلاة تبطل بذلك، وإنما بطلت الصلاة بذلك لأن هذا الفعل غير مشروع؛ وهو من جنس أفعال الصلاة، فزيادته له نوع من العبث في الصلاة، وزيادة شيءٍ فيها لم يشرعه الله تعالى ولا رسوله ولم يأذن به، فهو مبطل لها.

الخامسة: قال: [ ويسجد لسهوه ]، أي: أنه إن فعل شيئاً من ذلك ساهياً فإن الصلاة لا تبطل، بل صلاته صحيحة ويسجد للسهو؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم فعل ذلك، فإنه زاد فعلاً من جنس الصلاة، فصلى خمساً كما في أحد حديثي ابن مسعود رضي الله عنه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى خمساً -وهو في الصحيح- فلما سلم توشوش القوم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما شأنكم؟ قالوا: يا رسول الله! هل زيد في الصلاة؟ قال: لو زيد شيء في الصلاة أخبرتكم، قالوا: فإنك صليت خمساً، فاستقبل النبي صلى الله عليه وسلم القبلة وسجد سجدتين ثم سلم، ثم قال: إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون، فإذا نسي أحدكم فليسجد سجدتين )، وفي رواية أنه قال: ( فإذا نسي أحدكم فزاد أو نقص فليسجد سجدتين )، فذلك دليل على أنه إذا نسي فزاد شيئاً من جنس الصلاة ركعة أو ركوعاً أو واجباً؛ فإنه يسجد لذلك؛ لأنه إذا ثبت أنه صلى الله عليه وسلم فعل ذلك في الركعة ففيما دونها من باب أولى، كما لو نسي فزاد سجوداً وهو ركن، أو زاد تشهداً وهو واجب، فمن باب أولى أنه تصح صلاته ويجب عليه حينئذ السجود.

المسألة السادسة: قال: [وإن ذكر وهو في الركعة الزائدة جلس في الحال]، أي: أنه لو تذكر أنه سها وهو في خلال الزيادة -سواء كانت ركعة أو غيرها- فإن عليه أن يتركها ويعود إلى الواجب الأصلي عليه في الحال، فلو زاد ركعة خامسة في رباعية مثلاً، ثم ذكر وهو في الركعة -سواء كان في قيامها أو ركوعها أو سجودها- فإنه يجب عليه أن يرفض تلك الركعة التي زاد ويعود إلى الواجب الأصلي عليه، فلو زاد خامسة مثلاً في رباعية ثم تذكر وهو في الركوع فهل يرفع من الركوع؟ لا يرفع؛ لأنه لو رفع لكان قد أتى بركن زائد عمداً، بل يجب عليه أن يعود من ركوعه إلى القعود للتشهد الأخير؛ لأن هذه الركعة زائدة، ومثله أيضاً لو كانت الزيادة سجوداً فذكر فعليه ألا يسبح في السجود، بل أن يعود إلى تشهده مباشرة، ومثله أيضاً لو جلس لتشهد أول زائد ثم ذكر، فعليه أن يرفضه وينتقل إلى الواجب في حقه مباشرة؛ ولهذا قال: [ وإن ذكر وهو في الركعة الزائدة جلس في الحال ].

السابعة: قال: [ وإن سلم عن نقص في صلاته أتى بما بقي عليه ثم سجد ]، إن سلم عن نقص في صلاته -كما لو سلم عن ثنتين في رباعية مثلاً- فإنه يجب عليه إذا علم أو عُلم أن يأتي بما بقي عليه، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم في حديث المسيء صلاته، وقد رواه الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: ( صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إحدى صلاتي العشي إما الظهر وإما العصر -شك أبو هريرة رضي الله عنه- قال: فسلم من ركعتين، ثم قام إلى خشبة معروضة في المسجد فاتكأ عليها كأنه غضبان وشبك بين أصابعه، وفي القوم أبو بكر وعمر فهابا أن يكلماه، قال: فقام رجل يقال له -كما في بعض طرق الحديث-: الخرباق في يديه طول، وكان يسمى ذا اليدين، فقال: يا رسول الله! أَقُصُرت الصلاة أم نسيت؟ قال: ما نسيت ولم تقصر، ثم أقبل النبي صلى الله عليه وسلم على القوم، فقال: أكما يقول ذو اليدين ؟ فقالوا: نعم -وفي رواية عند أبي داود : فأشاروا أن نعم- فقام النبي صلى الله عليه وسلم فاستقبل القبلة وصلى بهم ركعتين ثم سلم ثم سجد سجدتين ثم سلم )، فهذا الحديث دليل على أنه إذا سلم عن نقص في صلاته أتى بما بقي عليه منها ثم سجد، ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم سلم عن ركعتين ثم أتى بما بقي عليه.

هاهنا سؤال: إذا سلم عن نقص، نقص ركعة أو ركعتين أو غير ذلك، هل يجب عليه أن يحرم، يعني: يكبر من جديد إذا استقبل القبلة أو لا يكبر؟

لا يكبر، الصواب الذي عليه الجمهور: أنه لا يكبر؛ وذلك أنه بمجرد ما ذكر أنه نقص في صلاته فإنه يكون في صلاة حينئذ؛ لأن السلام الذي سلمه كان سهواً فلا تبطل الصلاة به، وحينئذ فعليه أن يستقبل القبلة ويستأنف صلاته، ولا يحتاج إلى تكبير للإحرام حينئذ كما هو مذهب الجمهور، وهو الذي فعله النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولذلك قال المصنف: [ وإن سلم عن نقص في صلاته أتى بما بقي عليه منها ]، يعني: سواء كان ركعة أو ركعتين أو كان غير ذلك ثم سجد للسهو، ولم يبين سجود السهو حينئذٍ: هل هو قبل السلام أو بعده؛ لأنه سيبين ذلك في آخر الباب.

وقد سلم النبي صلى الله عليه وسلم عن نقص كما في حديث أبي هريرة في قصة ذي اليدين، حيث سلم في إحدى صلاتي العشي من ركعتين، وسلم أيضاً من نقص كما في حديث عمران بن حصين أنه: ( صلى الله عليه وسلم سلم في صلاة الظهر أو العصر عن ثلاث ركعات، ثم أتى بالركعة الرابعة وسجد للسهو ).