شرح العمدة (الأمالي) - كتاب الصلاة - باب صفة الصلاة -2


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

يقول المصنف رحمه الله تعالى: [ ثم يسجد الثانية كالأولى ثم يرفع رأسه مكبراً ].

ثم يسجد السجدة الثانية كالأولى ثم يرفع رأسه مكبراً، والسجدة الثانية هي ركن في الصلاة كالسجدة الأولى، ومع السجود يكبر أيضاً لأنها تكبيرة انتقال، ويقول في سجدته الثانية كما قال في الأولى، والدليل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حديث المسيء صلاته حينما علمه الصلاة، قال له: ( ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً ) يعني: السجدة الثانية ( ثم اسجد حتى تطمئن ساجداً )، والحديث أخرجه الجماعة.

ويكبر في سجوده؛ لحديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم (كان يكبر حين يسجد ويكبر حين يرفع رأسه) والحديث متفق عليه.

فذلك دليل على أنه يكبر إذا هوى إلى السجود، ويكبر إذا رفع رأسه من السجود، وهو دليل أيضاً على أن التكبير يكون مصاحباً للحركة، للانتقال، ولهذا يسمى تكبير الانتقال.

المسألة الثانية: قال: [ وينهض قائماً فيصلي الثانية كالأولى ].

أي: ينهض قائماً للركعة الثانية فيصليها كما صلى الركعة الأولى؛ وذلك لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حديث المسيء صلاته، قال له: ( ثم افعل ذلك في صلاتك كلها )، أي: افعل في الركعة الثانية كما فعلت في الركعة الأولى.

وقيل: إنه يجلس جلسة خفيفة بعدما يرفع رأسه من السجود وقبل أن ينهض للركعة الثانية، وهذه الجلسة يسميها بعض الفقهاء: جلسة الاستراحة، ولم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سماها بذلك، وإنما هم ظنوا أنها تفعل من باب الاستراحة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما فعلها بعدما كبر سنه عليه الصلاة والسلام؛ وذلك أن ممن رواها عن النبي صلى الله عليه وسلم مالك بن الحويرث، وهو إنما قدم على النبي صلى الله عليه وسلم في آخر عمره، فلاحظ أنه كان يجلس هذه الجلسة، وتسمى جلسة الاستراحة.

وقد جاءت هذه الجلسة من طريق ثلاثة من الصحابة رضي الله عنهم، أحدهم مالك بن الحويرث، والثاني أبو حميد الساعدي، والثالث أبو هريرة رضي الله عنه، وساق أحاديثها بتطويل وتفصيل الإمام الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى في تخريجه لأحاديث الأذكار، وتكلم على هذه الأحاديث وطرقها وعللها، وذكر ما يثبت منها وما لا يثبت.

والخلاصة: أنه جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يجلس جلسة الاستراحة، فإما أن يقال بأنها مشروعة مطلقاً، كما هو قول طائفة من أهل العلم وفقهاء المحدثين، وإما أن يقال: إنها مشروعة أحياناً يفعلها حيناً ويتركها حيناً؛ لأن نقلها عن النبي صلى الله عليه وسلم ليس نقلاً مستفيضاً كثيراً، وعامة الذين نقلوا صلاة النبي صلى الله عليه وسلم لم ينقلوا جلسة الاستراحة في غالب الأحاديث، فيقال: إنه يشرع أن يفعلها تارة ويتركها تارة، فتكون من السنن المتنوعة التي لها وجوه متعددة في النقل.

هذا أحسن ما يجمع فيه بين الأحاديث، والله تعالى أعلم.

ثالثاً: قال: [ فإذا فرغ منهما جلس للتشهد مفترشاً ].

أي: إذا فرغ من الركعتين، وذلك فيما إذا كانت الصلاة ثنائية كصلاة الفجر أو الراتبة أو نحوهما؛ فإنه يجلس للتشهد مفترشاً، والتشهد هاهنا هو التشهد الوحيد في الصلاة الثنائية؛ لأنه ليس في تلك الصلاة تشهدان، فيجلس مفترشاً كما يجلس بين السجدتين، يفرش رجله اليسرى وينصب رجله اليمنى، وذلك جاء في حديث أبي حميد الساعدي رضي الله عنه، فإنه قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم ( إذا كان في الركعتين جلس على رجله اليسرى ونصب اليمنى ) وهذا هو الافتراش، والحديث في صحيح البخاري، وكذلك جاء في حديث عائشة رضي الله عنها وهو في صحيح مسلم في صفة صلاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قالت: ( وكان يقول في كل ركعتين التحية، وكان يفرش رجله اليسرى وينصب اليمنى )، فذلك دليل على أن السنة في التشهد الأول، وكذلك في التشهد الأخير في الصلاة التي ليس فيها إلا تشهد واحد، أنه يجلس مفترشاً كما يجلس بين السجدتين، ولا أعلم أنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الجلوس إلا هذه الصفة، يعني: في جلوس التشهد إلا هذه الصفة، وهي: أن يفرش رجله اليسرى وينصب اليمنى إذا كان ذلك التشهد هو التشهد الوحيد في الصلاة، كما جاء في حديث أبي حميد وعائشة رضي الله عنهما.

صفة وضع اليدين على الفخذين حال الجلوس في التشهد

رابعاً: قال: [ ويضع يده اليسرى على فخذه اليسرى ويده اليمنى على فخذه اليمنى ].

وذلك لأنه هو الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي حميد وعبد الله بن الزبير وغيرهما رضي الله عنهما، فيضع يده اليسرى على فخذه اليسرى، وفي رواية: على ركبته اليسرى، ويضع يده اليمنى على فخذه اليمنى، وفي رواية: على ركبته اليمنى، ويجعل مرفق اليد اليمنى على طرف فخذها.

خامساً: [ يقبض منها الخنصر والبنصر، ويحلق الإبهام مع الوسطى، ويشير بالسبابة في تشهده مراراً ].

يعني: من اليد اليمنى، وذلك أن صفة اليد اليمنى أثناء الجلوس للصلاة ثبت فيها عن النبي صلى الله عليه وسلم صورتان:

الأولى: أن يقبض أصابع اليد اليمنى كلها ويضعها على طرف فخذه، ثم يشير بالسبابة.

الثانية: أن يقبض الخنصر والبنصر، ويحلق الوسطى مع الإبهام ويشير بالسبابة.

وكلا الأمرين ثبت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فيحمل هذا على التنوع في السنة، وأنه يفعل هذا تارة وهذا تارة؛ لثبوت الأمرين عنه صلى الله عليه وآله وسلم.

والمقصود بالسبابة: هي التي تلي الإبهام وتكون بينها وبين الوسطى، وإنما سميت السبابة لأن الإنسان إذا غضب فإنه يسب بها، وقيل: لأن الإنسان يسبح بها، فكأنه يسب نفسه إذا سبح واستغفر بأنه ينسب لنفسه العجز والضعف والتقصير، فيكون يسب نفسه بها، ولذلك تسمى أحياناً السباحة بالحاء، وتسمى المسبحة أيضاً.

والإشارة بها فيها وجوه عديدة، والذي نرتضيه ونختاره من ذلك: أنه إنما يشير بها في الدعاء؛ لأن هذا هو المحفوظ عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه البيهقي وغيره بإسناد صحيح أنه يدعو بها، وكذلك عهد عنه صلى الله عليه وسلم في خطبته يوم الجمعة أنه يشير بها في الدعاء، ولذلك قال أهل العلم -كما قال الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى وغيره-: إن الدعاء يكون على أحوال:

الأول: الدعاء بالسبابة.

الثاني: الدعاء برفع اليدين.

الثالث: هو الابتهال برفع يديه إلى أعلى.

فالمقصود أنه يشير بها في التشهد مراراً عند الدعاء، وكذلك يشير بها عند التشهد؛ لما جاء: ( أن رجلاً أشار بأصبعيه في التشهد، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أحّد أحّد ) والحديث إسناده صحيح .

فالظاهر أنه يشير بها عند التشهد: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، ويشير بها عند الدعاء: اللهم صل على محمد، اللهم بارك على محمد، أعوذ بالله من عذاب جهنم ومن عذاب القبر ومن فتنة المحيا والممات.. إلى غير ذلك من الأدعية التي يقولها في صلاته.

وذهب بعضهم إلى أنه يشير بها دائماً، وهي رواية عن الإمام أحمد أنه [ قيل له: أيشير بأصبعه؟ قال: نعم شديداً ]، وجاء في ذلك روايات استظهر منها بعض العلماء هذا، والأمر في ذلك واسع على كل حال.

صيغ التشهد

السادسة: قال: [ويقول: التحيات لله، والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله].

قال المصنف: [فهذا أصح ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد].

هذا التشهد معروف بتشهد عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم علمه ابن مسعود، كما قال رضي الله عنه: ( علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم التشهد كفي بين كفيه كما يعلمني السورة من القرآن، ثم قال: التحيات لله.. ) إلى آخره، وكذلك جاء في لفظ آخر عند البخاري ومسلم من حديث ابن مسعود بلفظ الأمر: ( إذا تشهد أحدكم، فليقل: التحيات لله والصلوات والطيبات.. )، وذلك دليل على وجوبه للأمر به، ( فليقل: التحيات لله والصلوات والطيبات )، وفي لفظ عند النسائي عن ابن مسعود قال: [ كنا نقول قبل أن يفرض علينا التشهد ] فهو دليل على أنهم فهموا أنه مفروض عليهم، وفي رواية: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم علمه ابن مسعود وأمره أن يعلمه الناس ).

وهناك صيغ أخرى في التشهد، منها تشهد ابن عباس وابن عمر وأبي موسى الأشعري وعائشة وغيرهم رضي الله عنهم، وهي متقاربة جداً تختلف في ألفاظ وكلمات يسيرة في أول التشهد، وبأي تشهد منها تشهد في الصلاة أجزأه ذلك؛ لأنها جميعاً ثابتة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولكن تشهد ابن مسعود أشهرها، وهو الذي اختاره الإمام أحمد رحمه الله تعالى وغيره.

يقول المؤلف: إنه أصح ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد، ووافقه على ذلك جماعة من أهل العلم كـمحمد بن يحيى الذهلي والترمذي وغيرهم.

صيغة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد الأخير

السابعة: [ ثم يقول: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد ].

هذا كما أسلفت؛ لأن التشهد هنا هو التشهد الأخير؛ إذ ليس في هذه الصلاة إلا تشهدان، فهي صلاة ثنائية كالفجر أو الراتبة، فيستحب بعد التشهد، وقيل: يجب أن يصلي على النبي صلى الله عليه وآله وسلم بهذه الصيغة وهي أكمل الصلوات، أن يقول: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد، زاد في بعض طرق الحديث: في العالمين إنك حميد مجيد، وقد ثبت ذلك من حديث أبي مسعود رضي الله عنه كما في صحيح مسلم ومن حديث غيره، كما جاء ذلك في حديث كعب بن عجرة -وهو أيضاً في الصحيح- أنه قال: ( يا رسول الله! عرفنا كيف نسلم عليك فكيف نصلي عليك؟ ) وفي رواية: ( إذا نحن صلينا عليك في صلاتنا، فقال: قولوا: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد.. ) إلى آخر الحديث.

وفيما يتعلق بألفاظ هذين الدعاءين السابقين فإن قوله: (التحيات لله): التحيات: جمع تحية، وهي ألفاظ التعظيم والبقاء والثناء.

(لله): أي أنها لا تكون إلا لله تعالى، فهو الحقيق بها سبحانه، وكذلك الصلوات، فمن ذلك الدعاء ومنها أيضاً الصلوات فروضها ونفلها، فإنها لا تكون إلا لله جل وتعالى.

وكذلك الطيبات من الأقوال والأفعال والصفات فإنها لله تعالى حقيقة، ولهذا قال: والطيبات، أي: والصلوات لله، والطيبات لله.

ثم قال: (السلام عليك أيها النبي)، وهو دعاء له صلى الله عليه وسلم بالسلامة في الآخرة، فإنه صلى الله عليه وسلم يقول وسائر الأنبياء: اللهم سلم سلم، وهو دعاء أيضاً لدينه وسنته عليه الصلاة والسلام بالبقاء والظهور على من خالفها.

(السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته)، والرحمة من الله تعالى لعبده هي تشمل رحمته له في الآخرة، وتشمل ذكره له في الملأ الأعلى، وتشمل كل فضل من الله تعالى لعبده.

(وبركاته): وهي جمع بركة، وهو الخير الكثير الباقي من الله جل وتعالى.

(السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين) فهو دعا لنفسه أيضاً بالسلامة من فتن الدين والدنيا ومصائب الدنيا والآخرة، فدعا لنفسه ولعباد الله الصالحين، فإذا قال ذلك سلم على كل عبد صالح في السماء والأرض.

ثم تشهد فقال: (أشهد أن لا إله إلا الله)، وفي بعض الألفاظ: (وحده لا شريك له)، كما في حديث ابن عباس.

(وأشهد أن محمداً عبده ورسوله).

أما قوله: (اللهم صل على محمد)، فالصلاة من الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم هي: ذكره له في الملأ الأعلى وثناؤه عليه صلى الله عليه وآله وسلم.

(كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد)، في بعض طرق الحديث: كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد؛ وذلك لأن الرجل يكون من الآل، فإذا قيل: آل بني فلان ففلان منهم، كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ( اللهم صل على آل أبي أوفى ) لما أتاه عبد الله بن أبي أوفى بزكاته أو صدقته، فقال: ( اللهم صل على آل أبي أوفى )، فيكون عبد الله حينئذ منهم، فإذا قال: (كما صليت على آل إبراهيم) فالمقصود: على إبراهيم وعلى آله، فهو يدخل فيهم، فإذا قيل: آل بني فلان شمل الشخص وآله وذريته وأهله، وإذا قيل: آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم فكذلك.

وفي بعضها التصريح بـإبراهيم لأنه هو الأصل، فيقول: كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم.

وهاهنا إشكال ذكره جماعة من أهل العلم، منهم صاحب كتاب جلاء الأفهام في الصلاة والسلام على خير الأنام، والصلات والبشر في الصلاة والسلام على خير البشر، وغيرهم من أهل العلم ابن القيم والفيروزآبادي وسواهما، وهو أنه كيف جعل الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم مشبهة بالصلاة على إبراهيم، فمعنى ذلك أن الصلاة على إبراهيم أفضل من الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ لأن العادة أن المشبه به يكون أقوى من المشبه؟

والجواب على ذلك من وجوه عدة تصل إلى عشرة، أفضلها وأحسنها أن يقال: إن آل إبراهيم عليهم الصلاة والسلام فيهم كثير من الأنبياء كموسى وعيسى وداود وسليمان .. وغيرهم، فإن إبراهيم عليه الصلاة والسلام هو أبو الأنبياء، فالأنبياء هؤلاء الذين بعده من ذريته، أما محمد صلى الله عليه وسلم فبه ختم الأنبياء والمرسلين، فليس في ذريته وآله نبي، فهو خاتم الأنبياء، هذا وجه.

الوجه الثاني اختاره ابن القيم ورجحه: أن الصلاة على آل إبراهيم يدخل فيها الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم نفسه؛ لأنه هو من آل إبراهيم، إذ هو من ذريته كما هو معلوم، فإذا قال: كما صليت على آل إبراهيم، أي: على إبراهيم وعلى ذريته من الأنبياء والمرسلين، ومنهم محمد صلى الله عليه وسلم، ومن المعلوم أنه إذا أضيفت الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم إلى الصلاة على آل إبراهيم فإنها تكون أكثر ولا شك.

الوجه الثالث -وهو المختار فيما يظهر لي-: أن الكاف هاهنا ليست للتشبيه، وإنما هي للتعليل، فتقول: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد؛ لأنك قد صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وهاهنا لا مجال للتشبيه، بل هو -كما ذكرت- من باب التعليل.

فهو كقوله تعالى: وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ [البقرة:198] أي: اذكروه لأنه هداكم، والكاف تأتي للتشبيه في مواضع، وتأتي للتعليل في مواضع كثيرة منها هذا الموضع.

استحباب الاستعاذة من أربع في التشهد الأخير

الثامنة: قال: [ ويستحب أن يتعوذ من عذاب جهنم ومن عذاب القبر ومن فتنة المحيا والممات ومن فتنة المسيح الدجال ].

هذا هو المشهور وهو مذهب الجمهور أن ذلك مستحب.

وقال بعض أهل العلم: إن ذلك واجب، وهو منقول عن طاوس رحمه الله وجماعة من فقهاء المحدثين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث المتفق عليه: ( إذا تشهد أحدكم فليستعذ بالله من أربع )، قالوا: هذا أمر يقتضي الوجوب، ومذهب الجمهور أقوى والله تعالى أعلم، أن ذلك استحباب، وإن كان مسلم نقل عن طاوس أن ولداً له صلى فسأله إن كان استعاذ؟ قال: لا. فأمره أن يعيد صلاته، وذلك محمول على التدريب والتعليم، وإلا فلو قلنا بالإعادة لكان ذلك مقتضياً للركنية لا للوجوب، ولا قائل بذلك فيما أعلم.

يستحب أن يتعوذ بالله بعد التشهد من عذاب القبر، وهو ما يصيب الإنسان في قبره من العذاب إذا كان مستحقاً له، كما جاء في صاحبي القبرين: ( إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير ).

وفي بعض طرق الحديث ( من فتنة القبر )، فيدخل في ذلك العذاب ويدخل فيه سؤال الملكين منكر ونكير: من ربك؟ ما دينك؟ ومن نبيك؟

(ومن عذاب جهنم، ومن فتنة المحيا والممات)، ويدخل في فتنة المحيا والممات ألوان الفتن التي تعرض للإنسان في دنياه، وتعرض له في دينه، كفتنة الشهوات وفتنة الشبهات، والفتن والمصائب والمحن التي تنزل به، فيتعوذ من جميع الفتن.

أما فتن الممات فيدخل فيها فتنة الإنسان عند موته وما قد يعرض له من التردد، وما قد يزين له الشيطان من الرجوع عن دينه أو الموت على غيره، وأيضاً فتنة الممات يدخل فيها فتنة الإنسان في قبره.

(ومن فتنة المسيح الدجال )، وهي أعظم الفتن، ولم يكن بين نوح عليه السلام إلى قيام الساعة فتنة أعظم منها، وقد حذرها الأنبياء أقوامهم، وهي فتنة عظيمة معروفة جاء فيها أحاديث متواترة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فتعوذ صلى الله عليه وسلم من أمهات الفتن ورءوسها في هذا الدعاء، وهو وارد -كما أسلفت- في الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا تشهد أحدكم فليستعذ بالله من أربع: من عذاب القبر، ومن عذاب جهنم، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال ).

وجاء في ذلك أيضاً أدعية أخرى إضافية، كما في حديث عائشة أيضاً بنحو حديث أبي هريرة، وأضافت: ( ومن المأثم والمغرم ) يعني: ما يكون سبباً في الإثم، والمغرم: هو الدين، فقالت رضي الله عنها: ( يا رسول الله! ما أكثر ما تستعيذ من المغرم؟ قال: إن العبد إذا غرم حدث فكذب ووعد فأخلف ).

وكذلك من الأدعية الواردة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد التشهد حديث أبي بكر : ( علمني دعاء أدعو به في صلاتي؟ قال: قل: اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً، وإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم ).

ومنها أيضاً: حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه -وهو في صحيح مسلم -: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: ( اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت وما أسرفت، أنت المقدم وأنت المؤخر، لا إله إلا أنت ).

ومنها أيضاً: قصة الأعرابي -وهي في الصحيح-: ( أما إني لا أحسن دندنتك ودندنة معاذ، ولكني أسأل الله الجنة وأعوذ به من النار )، فيستحب أن يقول: اللهم إني أسألك الجنة وأعوذ بك من النار؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( حولهما ندندن )، في أدعية كثيرة معلومة.

رابعاً: قال: [ ويضع يده اليسرى على فخذه اليسرى ويده اليمنى على فخذه اليمنى ].

وذلك لأنه هو الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي حميد وعبد الله بن الزبير وغيرهما رضي الله عنهما، فيضع يده اليسرى على فخذه اليسرى، وفي رواية: على ركبته اليسرى، ويضع يده اليمنى على فخذه اليمنى، وفي رواية: على ركبته اليمنى، ويجعل مرفق اليد اليمنى على طرف فخذها.

خامساً: [ يقبض منها الخنصر والبنصر، ويحلق الإبهام مع الوسطى، ويشير بالسبابة في تشهده مراراً ].

يعني: من اليد اليمنى، وذلك أن صفة اليد اليمنى أثناء الجلوس للصلاة ثبت فيها عن النبي صلى الله عليه وسلم صورتان:

الأولى: أن يقبض أصابع اليد اليمنى كلها ويضعها على طرف فخذه، ثم يشير بالسبابة.

الثانية: أن يقبض الخنصر والبنصر، ويحلق الوسطى مع الإبهام ويشير بالسبابة.

وكلا الأمرين ثبت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فيحمل هذا على التنوع في السنة، وأنه يفعل هذا تارة وهذا تارة؛ لثبوت الأمرين عنه صلى الله عليه وآله وسلم.

والمقصود بالسبابة: هي التي تلي الإبهام وتكون بينها وبين الوسطى، وإنما سميت السبابة لأن الإنسان إذا غضب فإنه يسب بها، وقيل: لأن الإنسان يسبح بها، فكأنه يسب نفسه إذا سبح واستغفر بأنه ينسب لنفسه العجز والضعف والتقصير، فيكون يسب نفسه بها، ولذلك تسمى أحياناً السباحة بالحاء، وتسمى المسبحة أيضاً.

والإشارة بها فيها وجوه عديدة، والذي نرتضيه ونختاره من ذلك: أنه إنما يشير بها في الدعاء؛ لأن هذا هو المحفوظ عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه البيهقي وغيره بإسناد صحيح أنه يدعو بها، وكذلك عهد عنه صلى الله عليه وسلم في خطبته يوم الجمعة أنه يشير بها في الدعاء، ولذلك قال أهل العلم -كما قال الإمام ابن تيمية رحمه الله تعالى وغيره-: إن الدعاء يكون على أحوال:

الأول: الدعاء بالسبابة.

الثاني: الدعاء برفع اليدين.

الثالث: هو الابتهال برفع يديه إلى أعلى.

فالمقصود أنه يشير بها في التشهد مراراً عند الدعاء، وكذلك يشير بها عند التشهد؛ لما جاء: ( أن رجلاً أشار بأصبعيه في التشهد، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أحّد أحّد ) والحديث إسناده صحيح .

فالظاهر أنه يشير بها عند التشهد: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، ويشير بها عند الدعاء: اللهم صل على محمد، اللهم بارك على محمد، أعوذ بالله من عذاب جهنم ومن عذاب القبر ومن فتنة المحيا والممات.. إلى غير ذلك من الأدعية التي يقولها في صلاته.

وذهب بعضهم إلى أنه يشير بها دائماً، وهي رواية عن الإمام أحمد أنه [ قيل له: أيشير بأصبعه؟ قال: نعم شديداً ]، وجاء في ذلك روايات استظهر منها بعض العلماء هذا، والأمر في ذلك واسع على كل حال.

السادسة: قال: [ويقول: التحيات لله، والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله].

قال المصنف: [فهذا أصح ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد].

هذا التشهد معروف بتشهد عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، فإن النبي صلى الله عليه وسلم علمه ابن مسعود، كما قال رضي الله عنه: ( علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم التشهد كفي بين كفيه كما يعلمني السورة من القرآن، ثم قال: التحيات لله.. ) إلى آخره، وكذلك جاء في لفظ آخر عند البخاري ومسلم من حديث ابن مسعود بلفظ الأمر: ( إذا تشهد أحدكم، فليقل: التحيات لله والصلوات والطيبات.. )، وذلك دليل على وجوبه للأمر به، ( فليقل: التحيات لله والصلوات والطيبات )، وفي لفظ عند النسائي عن ابن مسعود قال: [ كنا نقول قبل أن يفرض علينا التشهد ] فهو دليل على أنهم فهموا أنه مفروض عليهم، وفي رواية: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم علمه ابن مسعود وأمره أن يعلمه الناس ).

وهناك صيغ أخرى في التشهد، منها تشهد ابن عباس وابن عمر وأبي موسى الأشعري وعائشة وغيرهم رضي الله عنهم، وهي متقاربة جداً تختلف في ألفاظ وكلمات يسيرة في أول التشهد، وبأي تشهد منها تشهد في الصلاة أجزأه ذلك؛ لأنها جميعاً ثابتة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولكن تشهد ابن مسعود أشهرها، وهو الذي اختاره الإمام أحمد رحمه الله تعالى وغيره.

يقول المؤلف: إنه أصح ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد، ووافقه على ذلك جماعة من أهل العلم كـمحمد بن يحيى الذهلي والترمذي وغيرهم.

السابعة: [ ثم يقول: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد ].

هذا كما أسلفت؛ لأن التشهد هنا هو التشهد الأخير؛ إذ ليس في هذه الصلاة إلا تشهدان، فهي صلاة ثنائية كالفجر أو الراتبة، فيستحب بعد التشهد، وقيل: يجب أن يصلي على النبي صلى الله عليه وآله وسلم بهذه الصيغة وهي أكمل الصلوات، أن يقول: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد، زاد في بعض طرق الحديث: في العالمين إنك حميد مجيد، وقد ثبت ذلك من حديث أبي مسعود رضي الله عنه كما في صحيح مسلم ومن حديث غيره، كما جاء ذلك في حديث كعب بن عجرة -وهو أيضاً في الصحيح- أنه قال: ( يا رسول الله! عرفنا كيف نسلم عليك فكيف نصلي عليك؟ ) وفي رواية: ( إذا نحن صلينا عليك في صلاتنا، فقال: قولوا: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد.. ) إلى آخر الحديث.

وفيما يتعلق بألفاظ هذين الدعاءين السابقين فإن قوله: (التحيات لله): التحيات: جمع تحية، وهي ألفاظ التعظيم والبقاء والثناء.

(لله): أي أنها لا تكون إلا لله تعالى، فهو الحقيق بها سبحانه، وكذلك الصلوات، فمن ذلك الدعاء ومنها أيضاً الصلوات فروضها ونفلها، فإنها لا تكون إلا لله جل وتعالى.

وكذلك الطيبات من الأقوال والأفعال والصفات فإنها لله تعالى حقيقة، ولهذا قال: والطيبات، أي: والصلوات لله، والطيبات لله.

ثم قال: (السلام عليك أيها النبي)، وهو دعاء له صلى الله عليه وسلم بالسلامة في الآخرة، فإنه صلى الله عليه وسلم يقول وسائر الأنبياء: اللهم سلم سلم، وهو دعاء أيضاً لدينه وسنته عليه الصلاة والسلام بالبقاء والظهور على من خالفها.

(السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته)، والرحمة من الله تعالى لعبده هي تشمل رحمته له في الآخرة، وتشمل ذكره له في الملأ الأعلى، وتشمل كل فضل من الله تعالى لعبده.

(وبركاته): وهي جمع بركة، وهو الخير الكثير الباقي من الله جل وتعالى.

(السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين) فهو دعا لنفسه أيضاً بالسلامة من فتن الدين والدنيا ومصائب الدنيا والآخرة، فدعا لنفسه ولعباد الله الصالحين، فإذا قال ذلك سلم على كل عبد صالح في السماء والأرض.

ثم تشهد فقال: (أشهد أن لا إله إلا الله)، وفي بعض الألفاظ: (وحده لا شريك له)، كما في حديث ابن عباس.

(وأشهد أن محمداً عبده ورسوله).

أما قوله: (اللهم صل على محمد)، فالصلاة من الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم هي: ذكره له في الملأ الأعلى وثناؤه عليه صلى الله عليه وآله وسلم.

(كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد)، في بعض طرق الحديث: كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد؛ وذلك لأن الرجل يكون من الآل، فإذا قيل: آل بني فلان ففلان منهم، كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ( اللهم صل على آل أبي أوفى ) لما أتاه عبد الله بن أبي أوفى بزكاته أو صدقته، فقال: ( اللهم صل على آل أبي أوفى )، فيكون عبد الله حينئذ منهم، فإذا قال: (كما صليت على آل إبراهيم) فالمقصود: على إبراهيم وعلى آله، فهو يدخل فيهم، فإذا قيل: آل بني فلان شمل الشخص وآله وذريته وأهله، وإذا قيل: آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم فكذلك.

وفي بعضها التصريح بـإبراهيم لأنه هو الأصل، فيقول: كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم.

وهاهنا إشكال ذكره جماعة من أهل العلم، منهم صاحب كتاب جلاء الأفهام في الصلاة والسلام على خير الأنام، والصلات والبشر في الصلاة والسلام على خير البشر، وغيرهم من أهل العلم ابن القيم والفيروزآبادي وسواهما، وهو أنه كيف جعل الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم مشبهة بالصلاة على إبراهيم، فمعنى ذلك أن الصلاة على إبراهيم أفضل من الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ لأن العادة أن المشبه به يكون أقوى من المشبه؟

والجواب على ذلك من وجوه عدة تصل إلى عشرة، أفضلها وأحسنها أن يقال: إن آل إبراهيم عليهم الصلاة والسلام فيهم كثير من الأنبياء كموسى وعيسى وداود وسليمان .. وغيرهم، فإن إبراهيم عليه الصلاة والسلام هو أبو الأنبياء، فالأنبياء هؤلاء الذين بعده من ذريته، أما محمد صلى الله عليه وسلم فبه ختم الأنبياء والمرسلين، فليس في ذريته وآله نبي، فهو خاتم الأنبياء، هذا وجه.

الوجه الثاني اختاره ابن القيم ورجحه: أن الصلاة على آل إبراهيم يدخل فيها الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم نفسه؛ لأنه هو من آل إبراهيم، إذ هو من ذريته كما هو معلوم، فإذا قال: كما صليت على آل إبراهيم، أي: على إبراهيم وعلى ذريته من الأنبياء والمرسلين، ومنهم محمد صلى الله عليه وسلم، ومن المعلوم أنه إذا أضيفت الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم إلى الصلاة على آل إبراهيم فإنها تكون أكثر ولا شك.

الوجه الثالث -وهو المختار فيما يظهر لي-: أن الكاف هاهنا ليست للتشبيه، وإنما هي للتعليل، فتقول: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد؛ لأنك قد صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وهاهنا لا مجال للتشبيه، بل هو -كما ذكرت- من باب التعليل.

فهو كقوله تعالى: وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ [البقرة:198] أي: اذكروه لأنه هداكم، والكاف تأتي للتشبيه في مواضع، وتأتي للتعليل في مواضع كثيرة منها هذا الموضع.

الثامنة: قال: [ ويستحب أن يتعوذ من عذاب جهنم ومن عذاب القبر ومن فتنة المحيا والممات ومن فتنة المسيح الدجال ].

هذا هو المشهور وهو مذهب الجمهور أن ذلك مستحب.

وقال بعض أهل العلم: إن ذلك واجب، وهو منقول عن طاوس رحمه الله وجماعة من فقهاء المحدثين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث المتفق عليه: ( إذا تشهد أحدكم فليستعذ بالله من أربع )، قالوا: هذا أمر يقتضي الوجوب، ومذهب الجمهور أقوى والله تعالى أعلم، أن ذلك استحباب، وإن كان مسلم نقل عن طاوس أن ولداً له صلى فسأله إن كان استعاذ؟ قال: لا. فأمره أن يعيد صلاته، وذلك محمول على التدريب والتعليم، وإلا فلو قلنا بالإعادة لكان ذلك مقتضياً للركنية لا للوجوب، ولا قائل بذلك فيما أعلم.

يستحب أن يتعوذ بالله بعد التشهد من عذاب القبر، وهو ما يصيب الإنسان في قبره من العذاب إذا كان مستحقاً له، كما جاء في صاحبي القبرين: ( إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير ).

وفي بعض طرق الحديث ( من فتنة القبر )، فيدخل في ذلك العذاب ويدخل فيه سؤال الملكين منكر ونكير: من ربك؟ ما دينك؟ ومن نبيك؟

(ومن عذاب جهنم، ومن فتنة المحيا والممات)، ويدخل في فتنة المحيا والممات ألوان الفتن التي تعرض للإنسان في دنياه، وتعرض له في دينه، كفتنة الشهوات وفتنة الشبهات، والفتن والمصائب والمحن التي تنزل به، فيتعوذ من جميع الفتن.

أما فتن الممات فيدخل فيها فتنة الإنسان عند موته وما قد يعرض له من التردد، وما قد يزين له الشيطان من الرجوع عن دينه أو الموت على غيره، وأيضاً فتنة الممات يدخل فيها فتنة الإنسان في قبره.

(ومن فتنة المسيح الدجال )، وهي أعظم الفتن، ولم يكن بين نوح عليه السلام إلى قيام الساعة فتنة أعظم منها، وقد حذرها الأنبياء أقوامهم، وهي فتنة عظيمة معروفة جاء فيها أحاديث متواترة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فتعوذ صلى الله عليه وسلم من أمهات الفتن ورءوسها في هذا الدعاء، وهو وارد -كما أسلفت- في الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا تشهد أحدكم فليستعذ بالله من أربع: من عذاب القبر، ومن عذاب جهنم، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال ).

وجاء في ذلك أيضاً أدعية أخرى إضافية، كما في حديث عائشة أيضاً بنحو حديث أبي هريرة، وأضافت: ( ومن المأثم والمغرم ) يعني: ما يكون سبباً في الإثم، والمغرم: هو الدين، فقالت رضي الله عنها: ( يا رسول الله! ما أكثر ما تستعيذ من المغرم؟ قال: إن العبد إذا غرم حدث فكذب ووعد فأخلف ).

وكذلك من الأدعية الواردة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد التشهد حديث أبي بكر : ( علمني دعاء أدعو به في صلاتي؟ قال: قل: اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً، وإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم ).

ومنها أيضاً: حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه -وهو في صحيح مسلم -: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: ( اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت وما أسرفت، أنت المقدم وأنت المؤخر، لا إله إلا أنت ).

ومنها أيضاً: قصة الأعرابي -وهي في الصحيح-: ( أما إني لا أحسن دندنتك ودندنة معاذ، ولكني أسأل الله الجنة وأعوذ به من النار )، فيستحب أن يقول: اللهم إني أسألك الجنة وأعوذ بك من النار؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( حولهما ندندن )، في أدعية كثيرة معلومة.

التاسعة: قال: [ ثم يسلم عن يمينه: السلام عليكم ورحمة الله وعن يساره كذلك ].

وذلك لحديث وائل بن حجر ( أنه صلى خلف النبي صلى الله عليه وسلم فكان يسلم عن يمينه: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وعن يساره: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ) والحديث رواه أبو داود وإسناده صحيح .

وفي بعض طرقه أنه ( كان يقول عن يمينه: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وعن يساره: السلام عليكم ورحمة الله ).

إذاً: التسليمات عن النبي صلى الله عليه وسلم جاء فيها وجوه كثيرة يتلخص من جمعها: أن الواجب تسليمة واحدة يقول فيها: السلام عليكم، وما زاد عن ذلك فهو سنة.

وكان الغالب من فعله صلى الله عليه وسلم أنه يقول: السلام عليكم ورحمة الله عن يمينه، ويقول: السلام عليكم ورحمة الله عن شماله، وهذا غالب المنقول عنه صلى الله عليه وآله وسلم.

وفي حديث وائل بن حجر أنه كان يقول عن يمينه: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أحياناً، ويقول عن يساره مثل ذلك، وقد يقول عن يساره: السلام عليكم ورحمة الله فحسب، وربما قال النبي صلى الله عليه وسلم عن يمينه: السلام عليكم ورحمة الله، ثم قال عن يساره: السلام عليكم فقط، وربما سلم تسليمة واحدة تلقاء وجهه، كما جاء من حديث عائشة بأسانيد متعددة يقوي بعضها بعضاً، وجاء عن طريق غيرها من الصحابة أنه كان يسلم في وتره تسليمة واحدة تلقاء وجهه، وينصرف بها إلى يمينه شيئاً ما، والأحاديث في ذلك قوية، وهو دليل على أن التسليمة الثانية سنة، وقد نقل ابن المنذر وغيره إجماع أهل العلم على أن ذلك ليس بواجب، وقال: إن الأنصار كانوا يسلمون تسليمتين عن اليمين وعن الشمال، والمهاجرين كانوا يسلمون تسليمة واحدة، ومن المعلوم أنه في التسليمة الأولى خرج من الصلاة؛ ولذلك خاطب وقال: السلام عليكم، وهذا يدل على خروجه من الصلاة، فما بعده لا يكون داخلاً في الصلاة أو واجباً، وإنما هو من جنس الأذكار المستحبة المشروعة.