شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [56]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة الطيبين، وعمن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، أما بعد:

فآخر شيءٍ كنا نتدارسه في موضوع نظر كل من الزوجين إلى عورة صاحبه، وقلت: ظاهر الآثار تدل على الجواز من آيات القرآن وفعل نبينا عليه الصلاة والسلام، وهذا ما قرره علماؤنا الكرام كما سيأتينا، لكن هل هو مستحسن أو مستحب، أو تركه أحب؟ هذا محل بحث، سيأتينا أن أئمتنا استحبوا عدم نظر كل من الزوجين إلى عورة صاحبه؛ لأنه يضعف البصر بعد ذلك ولا يتناسب مع تمام الحياء والأدب، ويقولون أيضاً: لو حصل هذا عند المباشرة يخرج الولد بعد ذلك وما عنده حصانة وحياء وأدب كثير، فالأولى البعد عن هذا.

وسيأتينا أيضاً آثار تشير علينا بأن نبتعد عن النظر إلى السوءة، لكن من فعل هذا فلا إثم عليه ولا حرج، وقد فعل نبينا عليه الصلاة والسلام وقد تقدم معنا ما يدل على هذا وهو ثابت في الصحيحين وفي غيرهما كما تقدم في: كيف كان يغتسل عليه صلوات الله وسلامه مع أمهاتنا، وقلت: إذا اغتسل الإنسان مع أهله وكلٌ منهما بدنه عارٍ توقع العين على عورة صاحبه فلا حرج، ثم أبيح له ما هو أعظم من النظر، فإذاً: الأمر في دائرة الجواز إن شاء الله، وقلت: التصريح بأن نبينا عليه الصلاة والسلام فعل هذا مع أهله، وأهله يفعلونه معه عليه صلوات الله وسلامه، هذا ثبوته فيه ضعف في قصة سيدنا عثمان بن مظعون رضي الله عنه وأرضاه، الذي تقدم معنا شيء من مناقبه ضمن مباحثنا السابقة، وأنه عندما توفي قبله نبينا عليه وآله وصحبه صلوات الله وسلامه، وتقدم معنا أن الحديث صحيح في المسند والمستدرك، ورواه أهل السنن الأربعة إلا الإمام النسائي ، فقبله النبي عليه الصلاة والسلام وهو يبكي حتى سقطت الدموع منه عليه صلوات الله وسلامه، وثبت في صحيح البخاري ومصنف عبد الرزاق عن أم العلاء رضي الله عنها وأرضاها قالت: ( اشتكى عثمان بن مظعون فمرضناه، فلما قبض حضر النبي عليه الصلاة والسلام، فقلت: هنيئاً لك أبا السائب الجنة! فشهادتي لك أن الله أكرمك، فقال نبينا عليه الصلاة والسلام: وما يدريك يا أم العلاء أن الله أكرمه -تشهدين له بالجنة- والله إني لرسول الله عليه الصلاة والسلام وما أدري ما يفعل بي ) وفي هذا أن التألي على الله غير محمود.

فقال نبينا عليه الصلاة والسلام عن سيدنا عثمان : أرجو له الخير، قالت أم العلاء : والله لا أزكي أحداً بعده، أي: إذا كان عثمان بن مظعون الذي له شأن ونبينا عليه الصلاة والسلام يحزن لفراقه ويقبله ويبكي، وما قبل مني أن أشهد أن الله أكرمه، وأنه من أهل الجنة، فقالت: والله لا أزكي أحداً بعده، قالت: فنمت فرأيت عيناً تجري على عثمان ، فقصصتها على النبي عليه الصلاة والسلام، فقال: ( ذاك عمله ) أي: هذا عمله الطيب الخير يأتيه الآن نفعه بعد موته رضي الله عنه وأرضاه.

وقد جاء في طبقات ابن سعد من طريق الواقدي عليهم جميعاً رحمة الله أن عثمان لما توفي وقع في قلب عمر شيء كما يقول هو عن نفسه وقع في قلبه شيء، يقول بينه وبين نفسه: كان زاهداً قانتاً عابداً، ثم يموت على فراشه، يعني: هو يرى أنه إذا لم يمت شهيداً ففيه منقصة، يقول: فهبط من قلبي، قال: فلما قبض أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه قلت: ويحك خيارنا يموتون، لأن أبا بكر خير مني، يعني: استعظم هذا، وقبله لأنه مات النبي عليه الصلاة والسلام، قلت: خيارنا يموتون ومات أبو بكر ، يعني: لا يشترط أن يموت في المعركة ليكون علامة على صدقه، يقول: فرجع عثمان إلى المنزلة التي كان عليها، والمؤمن على خير في جميع أحواله، إن مات على فراشه فهو على خير، وإن مات في ساحة المعركة فهو على خير، (وأكثر شهداء هذه الأمة أصحاب الفرش، ورب قتيل بين الصفين الله أعلم بنيته).

إذاً: ما تقدم معنا من استدلال معتبر: أنه يجوز لكل من الزوجين النظر إلى عورة صاحبه، ورد ما يعارض ذلك، وتعدد ذلك الوارد واختلاف طرقه ومخارجه مع ضعفه يحتم القول باستحباب ترك النظر، أي: نظر كل من الزوجين إلى عورة صاحبه مع إباحة فعله، لكن هذه الآثار مع تلك تتقوى واستمعوا لبعض هذه الآثار.

حديث عائشة في أن النبي لم ير منها ولم تر منه

روى الإمام أحمد في المسند في الجزء (6/63 ، 190) والأثر رواه الإمام ابن ماجه في سننه في الجزء (1/217) في كتاب الطهارة: باب النهي أن يرى عورة أخيه، وأعاده في كتاب النكاح في الجزء (1/619) باب التستر عند الجماع، وذكره في المكانين، ورواه الإمام الترمذي لكن في الشمائل المحمدية على نبينا صلوات الله وسلامه صفحة (192)، ورواه ابن سعد في الطبقات في الجزء (1/384) ورواه البيهقي في السنن الكبرى في الجزء (7/94) وابن أبي شيبة في مصنفه في الجزء (1/106) .

ولفظ الحديث: عن مولى لأمنا عائشة، وفي روايةٍ: عن مولاة لأمنا عائشة، إما مولى ذكر، وإما مولاة أنثى، رضي الله عنهم أجمعين، عن أمنا عائشة رضي الله عنها قالت: ما رأيت فرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي رواية: ما نظرت إلى فرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، والحديث ضعيف لكن ضعفه يسير، قال الإمام البوصيري في مصباح الزجاجة في الجزء (1/238) وفي الجزء (2/96) لأنه تكلم في المكانين في كتاب الطهارة وفي كتاب النكاح على حسب إيراد الإمام ابن ماجه له، قال: إسناده ضعيف لجهالة تابعة أو تابعيته، يعني: التابعي ذكر أو أنثى مجهول، هل هو مولى لأمنا عائشة أو مولاة لأمنا عائشة؟

ما يتعلق وتقدم معنا بالجهل بالنسبة لطبقة التابعي ولا سيما للطبقة المتقدمة، مع أنه ضعف في الإسناد لكن كما قلت: يختلف عن الجهل في الطبقات الأخرى من الرواة، فهو مولى لأمنا عائشة نعت بذلك، لكن ما اسمه؟ ما وضعه؟ وحقيقةً بقي فيه جهالة، وبقية الإسناد ثقات.

والحديث في هذه الدواوين: ما رأيت فرج رسول الله عليه الصلاة والسلام، أو ما نظرت إلى فرج رسول الله على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه، وقد ورد أنها كانت تغتسل معه؛ وعليه فلو أراد الإنسان أن يجمع، فيمكن أن يقال إذاً: في حالة الاغتسال ترى ما عدا هذا لا تراه، ويمكن أن يقال: تغتسل ولا ترى، لا سيما إذا كان الإنسان يلبس إزاراً، أو إذا غضت طرفها، يعني: إذا ما تأمل من يغتسل معه فيمكن أن يغتسل الإنسان مع زوجه ولا ينظر إلى العورة، وصرف النظر ميسور وليس فيه حرج.

هذا إذا أردنا أن نجمع، أو أن نقول كما جمع أئمتنا: النظر يدل على الجواز، وما ورد من نفيٍ يدل على استحباب ترك النظر، وهذا ما قرره أئمتنا كما ستسمعون إلى هذه الدلالة، وكل طريقٍ منها ضعيف، لكن إذا اجتمعت تعتضد، وحقيقةً لا بد من الإنصاف، فبعض من يشتغلون بالحديث في هذه الأيام، جاء إلى هذه الأحاديث التي سأذكرها من أولها إلى آخرها فضربها وقال: موضوعة! وهي ليست موضوعة ولا نقول: الأمر الأول لم يثبت، فلا يوجد تصريح من نبينا عليه الصلاة والسلام أنه فعل هذا بأهله أو فعله أهله معه، إنما هو استدلال فقط من واقعة اغتساله، وأما حديث عثمان بن مظعون المتقدم فليس هو أحسن حالاً من الأحاديث التي سيذكرها، والتي تدل على عدم النظر.

وخلاصة الكلام كما قرر أئمتنا الكرام، وهم أهل الهدى: هذا جائز وتركه أولى، وهذا وجه الجمع والأمر فيه سعة، والناس بعد ذلك يختلفون في كيفية التمتع بما أحل الله، فإذا أراد الإنسان أن ينظر فلا حرج، وإذا أراد أن يلمس فلا حرج، ولو أراد حتى أن يقبل فلا حرج، ولو أراد أن يلحس ذلك المكان فلا حرج، والأمر كله ضمن دائرة الإباحة، والنفوس بعد ذلك تختلف، وتركه أحسن، كنت مرةً في بلاد الشام فسألني بعض الإخوة من المدرسين، في تلك الليلة طلق زوجه ثلاثاً من أجل المباشرة والمعاشرة، على حسب كلامه، يعني: حلف عليها بالطلاق ثلاثاً أن تمس عضوه وإلا فهي طالق، فإذا طلع الفجر وما فعلت تطلق، وهي قالت: أنا أعاف هذا، ولا أستطيع فعله، فقلت: أنت والله مجنون وهي أجن منك، يعني: هي لو فعلت فهو مباح واستراحت، وأما أنت فما عندك عقل، وليس بينك وبين زوجك تفاهم فلم تفعل بنفسها إذا كان لك رغبة، ولا فعلت عندما حلفت بالطلاق من بابٍ أولى.

فقال: ألا يوجد مخرج، قلت: هذا هو البلاء، أحدكم يركب الصعب والذلول ليأتي ويبحث عن مخرج، فمن الذي ألزمك أن توقع نفسك في هذا المأزق ثم تقول: ابحثوا لي عن مخرج؟! وهذه بلية، لكن كما قلت: لو اتفق الزوجان بينهما، فهي راضيةً وهو راضٍ فلا حرج، والأمر فيه سعة.

والقرآن لا يمنع من ذلك: هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ [البقرة:187] وعليه فلا حشمة بين الزوجين على الإطلاق فكما في ملابسك التي تلبسها لا تستحي منها، فكذلك هي تستره وتحيط ببدنه كاللباس، ولا داعي أن يفصل القول فيها، والأمر على الجواز، كما قال نبينا عليه الصلاة والسلام: ( اتق الحيضة والدبر ).

أحاديث أخرى عن عائشة في نظر الزوجين إلى عورة بعضهما والحكم عليها

إذاً: هذا حديث مروي من طريق مولىً أو مولاة عن أمنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها، وروي أيضاً من طريق آخر عن أنس عن أمنا عائشة ، رواه الطبراني في معجمه الصغير في الجزء (1/100)، وأبو نعيم في الحلية في الجزء (2/247)، والخطيب في التاريخ صفحة (4/225)، عن أنس رضي الله عنه، عن أمنا عائشة رضي الله عنهم أجمعين، قالت: (ما رأيت عورة رسول الله صلى الله عليه وسلم قط).

لكن الحديث تفرد به بركة بن محمد الحلبي، قيل: اسمه الحسين وبركة لقب له كما ذكر ذلك الإمام ابن ماكولا فيما نقله عنه الحافظ في اللسان في الجزء (2/9) وأورد الحافظ هذا الحديث في ترجمة بركة الحلبي، قال الإمام الذهبي في المغني في الجزء (1/102): معروف بالكذب، وقال الإمام ابن حبان في كتابه المجروحين في الجزء (1/203): كان يسرق الحديث، وانظروا ترجمته في الجرح والتعديل لـابن أبي حاتم في الجزء (2/433)، وفي سير أعلام النبلاء في الجزء (14/29) ختم ترجمته عن صالح بن محمد الملقب بـجزرة لأنه صحف: خرزة إلى جزرة، فصار هذا نعتاً له ولقباً عليه، وكان لا يأنف منه، وفيه دعابة، وبعض الدعابات مستنكرة، أوردها الإمام الذهبي في السير وعلق عليه ما ترونه لو نظرتم في ترجمته: أنه قال هذا إما حال غيبوبة عقله عند المرض، أو أنه دعابة لكنها مذمومة.

يقول: صالح جزرة لما وقع على أحاديث بركة الحلبي قال: هذا عقوبة وليس ببركة، وفي رواية: هذا نقمة وليس ببركة.

وروى الحديث أبو الشيخ في كتاب: أخلاق النبي على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه، عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: عن أمنا عائشة رضي الله عنهم أجمعين قالت: (ما رأيته من رسول الله عليه الصلاة والسلام ولا رآه مني، وما أتى امرأة من نسائه عليه الصلاة والسلام إلا متقنعاً -أي: يلبس القناع ويغطي رأسه- يرخي الثوب على رأسه ).

وهذا أدب أيضاً لو حافظ عليه الإنسان كما هو الحال عندما يدخل الخلاء، يعني: يستر رأسه عندما يباشر أهله، وسيأتينا أيضاً: يستحب ألا يتجردا تجرد العيرين أي: تجرد الحميرين: الحمر الأهلية أو الحمر الوحشية، فليلق على نفسه ستاراً أو بطانية أو شرشفاً، وهذا أكمل وأفضل، ولو لم يفعل فلا حرج، لكن هذا أدب يستحب المحافظة عليه والأخذ به.

الحديث من طريق محمد بن القاسم الأسدي ، لقبه : كاو ، وحاله كحال بركة الحلبي ، قال الحافظ : كذبوه، وتوفي سنة 207 وهو من رجال الترمذي ومترجم له في التقريب، وغالب ظني أنه تقدم له ترجمة معنا في الأحاديث المتقدمة وقال الإمام الهيثمي في المجمع في الجزء (8/104): وثقه ابن معين وضعفه أحمد وغيره، وقال في الجزء (10/67): مجمع على ضعفه، وانظروا ترجمته في تهذيب التهذيب (9/74).

إذاً: صار معنا طرق متعددة، مولى أو مولاةٍ، ومن طريق أنس ومن طريق عبد الله بن عباس رضي الله عنهم أجمعين، والحديث ضعيف لكن لا يصل كما قلت إلى درجة الوضع ولا الترك، ففي الطريق الأولى كما تقدم معنا جهالة التابعي أو التابعية وقلنا: الضعف يسير، وقال الإمام ابن حزم في المحلى في الجزء (10/33) أن ذلك مباح وجائز، ثم قال: وما نعلم للمخالف تعلقاً إلا بأثر سخيف عن امرأة مجهولة عن أم المؤمنين رضي الله عنهم أجمعين أنها قالت: ( ما رأيت فرج رسول الله عليه الصلاة والسلام قط ).

إذاً: هذا الحديث ضعيف، وروي النهي عن النظر إلى السوأتين أدباً واحتياطاً بسندٍ ضعيفٍ أيضاً وهو حديث آخر، رواه الإمام البيهقي وكما قلت: أحاديث ضعيفة إذا اجتمعت اعتضدت، وهذا فقه أئمتنا استنبطوا منها استحباب عدم نظر كلٍ من الزوجين إلى عورة صاحبه مطلقاً حال المباشرة أو حال الاغتسال أو في غير ذلك من الأحوال.

حديث ابن عباس في أن نظر الرجل لفرج زوجته يورث العمى

الحديث الثاني رواه الإمام البيهقي في السنن الكبرى في الجزء (6/95)، ورواه الإمام ابن عدي والإمام ابن عساكر وابن أبي حاتم والإمام ابن الجوزي في كتابه: الموضوعات في الجزء (2/271) بسنده، ورواه الإمام ابن حبان في كتابه: المجروحين في الجزء (1/201)، انظروا أيضاً جمع الجوامع للسيوطي في الجزء (1/641).

ولفظ الحديث عن سيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنهم أجمعين، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إذا جامع أحدكم زوجته أو جاريته - يعني: سريته وأمته - فلا ينظر إلى فرجها، فإن ذلك يورث العمى ) والحديث في إسناده بقية بن الوليد ، وهو صدوق كما تقدم معنا مراراً، روى له البخاري تعليقاً ومسلم في صحيحه وأهل السنن الأربعة لكنه كثير التدليس عن الضعفاء، وقد صرح بالتحديث، لكن قال أبو حاتم : هذا خطأ، يعني: تصريحه بالتحديث هنا خطأ ممن روى عنه، وقال الإمام ابن حبان في المجروحين: امتحن بتلاميذ كانوا يدلسون عنه، يعني: هو لا يقول: حدثنا، وهم يقولونها، يعني: كما هو يدلس ابتلاه الله بتلاميذ، أحياناً هو يقول: عن، وهم يقولون: حدثنا، ويفهم من كلام الإمام الذهبي عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا في الجزء (4/298) في الميزان أنه يميل إلى ذلك: أن بقية وإن صرح بالتحديث فهذا خطأ كما قال أبو حاتم ، ولذلك حكم الإمام ابن الجوزي على الحديث بالوضع، ونقل عنه ذلك الحكم الإمام الدسوقي من أئمة المالكية في حاشية الدسوقي على مختصر خليل في الجزء (2/192) .

إذاً: يرون أنه موضوع، لكن الإمام السيوطي في اللآلئ المصنوعة في الجزء (2/170) وهكذا الإمام ابن عراق في تنزيه الشريعة في الجزء (2/209) وهكذا الإمام المناوي في فيض القدير في الجزء (1/326) حكوا أن الإمام ابن القطان ذكر في كتاب أحكام النظر له: أن بقي بن مخلد رضي الله عنهم أجمعين، وهو من شيوخ الإسلام وأئمة الهدى روى هذا الحديث بسنده عن بقية بن الوليد وفيه التصريح بالتحديث؛ ولذلك قال الإمام ابن الصلاح كما في هذه الكتب المتقدمة: إن هذا الحديث جيد الإسناد: ( إذا جامع أحدكم زوجته أو جاريته فلا ينظر إلى فرجها، فإن ذلك يورث العمى ) وأوردوا له شاهداً آخر من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه، رواه الإمام الأزدي في الضعفاء وهو أيضاً في كتاب الموضوعات للإمام ابن الجوزي بلفظ: ( إذا جامع أحدكم زوجته أو جاريته فلا ينظر إلى فرجها، فإن ذلك يورث العمى ولا يكثر الكلام، فإن ذلك يورث الخرس ) .

لكن في طريق الأزدي : إبراهيم بن محمد بن يوسف الفريابي قال عنه الأزدي : إنه ساقط، ورد أئمتنا كلام الأزدي فهو صدوق تكلم فيه، وهو من رجال سنن ابن ماجه ، قال الذهبي في الميزان في الجزء (1/61): لا يلتفت إلى كلام الأزدي فيه فإن في لسانه في الجرح رهقاً، أي: يسقط ويزيد، وأقر ذلك الإمام ابن حجر في تهذيب التهذيب في الجزء (1/161) وعليه؛ فـإبراهيم بن محمد بن يوسف الفريابي لا يحكم عليه بأنه ساقط، ولا الرواية الثالثة لأنها جاءت من طريقه.

نعم في الإسناد راوٍ آخر وهو محمد بن عبد الرحمن القشيري ، وورد ذكره في الكتب الستة، والذي يبدو لي أنه خطأ؛ لأنه بالرجوع إلى كتب التراجم، قال عنه الخليلي : تفرد به -أي: بهذا الحديث- ويأتي بمناكير، وليست له رواية في الكتب الستة، هو مترجم في الميزان في الجزء (5/250) قال الإمام ابن عدي : إنه منكر الحديث، وقال عنه الأزدي : كذاب متروك، وترجمته أيضاً في المغني في الجزء (1/606)، وقال في ترجمته: كذاب متروك.

ولا زلت أقول: تلك الأحاديث مع ضعفها تعضد ببعضها وترتفع عن درجة الترك، فتصلح للاستشهاد بها، ولذلك نقل الإمام ابن عراق في تنزيه الشريعة في الجزء (2/209) عن الإمام أبي بكر بن العربي رضي الله عنهم أجمعين أنه قال في كتابه مراقي الزلف: أقول بكراهة النظر؛ لأن الخبر وإن لم يثبت فالخبر الضعيف أولى عند العلماء من الرأي والقياس، وقد تتابع أئمتنا الكرام على استحباب عدم النظر أدباً، وكرهوا النظر حياءً وطباً.

كلام الفقهاء في نظر الرجل إلى فرج زوجته

قال الإمام ابن عابدين الحنفي في رد المحتار على الدر المختار في الجزء (6/366): الأولى ألا ينظر كل من الزوجين إلى عورة صاحبه؛ لأن ذلك يورث النسيان ويضعف البصر، وقال الدسوقي المالكي في الجزء (2/192): قال زروق من أئمة المالكية يحل لكل من الزوجين النظر إلى فرج صاحبه اتفاقاً، الحل والجواز لا خلاف فيه، لكن كرهوا ذلك للطب لأنه يؤذي البصر ويورث قلة الحياء في الولد.

ولذلك قال الإمام القرطبي وهو من أئمة المالكية أيضاً في تفسيره في الجزء (12/232): الأصح جواز النظر؛ لأنه إذا جاز له التلذذ به فالنظر أولى، وقال أصبغ من أئمة المالكية: يجوز له أن يلحسه بلسانه، كما تقدم معنا.

وقال الإمام أبو بكر بن العربي : إن المنع محمول على الأدب.

إذاً: المالكية أيضاً منعوا أدباً وطباً، وكذا الحنفية وكذلك الشافعية، قال الإمام النووي في الروضة في الجزء (7/25): يجوز للزوج النظر إلى جميع بدن زوجته إلا الفرج ففيه وجهان: أصحهما: أنه لا يحرم لكن يكره، وفي وجه آخر: يحرم، والثاني: لا يحرم لكن يكره، قال: وباطنه أشد كراهةً، ثم قال: وهكذا فرج نفسه لا ينظر إليه إلا لحاجة، وكما تقدم معنا عند مبحث الاستتار عند قضاء الحاجة، وسيأتينا بعض الآثار أيضاً التي تقرر هذا ضمن هذا المبحث إن شاء الله.

وقال الإمام ابن حجر في الفتح وهو من أئمة الشافعية أيضاً في الجزء (9/339): الأصح الجواز لكن يكره حيث لا سبب، وقال الإمام البغوي في شرح السنة الجزء (9/25): يجوز لكل من الزوجين النظر إلى بدن صاحبه إلا نفس الفرج، فإن النظر إليه مكروه، وكذلك فرج نفسه.

إذاً: الحنفية والمالكية وبعدهم الشافعية وأما آخر المذاهب على حسب الترتيب الزمني وهم الحنابلة، فقال الإمام ابن قدامة في المغني في الجزء (7/458): يباح لكل واحد من الزوجين النظر إلى جميع بدن صاحبه، ولمسه حتى الفرج؛ لحديث كما سيأتينا: ( احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك ) من رواية بهز بن حكيم عن أبيه عن جده معاوية بن حيدة وسيأتينا تخريجه قريباً، قال الإمام ابن قدامة : ولأن الفرج يحل الاستمتاع به فجاز النظر إليه ولمسه كبقية البدن، ويكره النظر إلى الفرج؛ لما روي عن أمنا عائشة رضي الله عنها، قالت: ما رأيت فرج رسول الله صلى الله عليه وسلم قط.

روى الإمام أحمد في المسند في الجزء (6/63 ، 190) والأثر رواه الإمام ابن ماجه في سننه في الجزء (1/217) في كتاب الطهارة: باب النهي أن يرى عورة أخيه، وأعاده في كتاب النكاح في الجزء (1/619) باب التستر عند الجماع، وذكره في المكانين، ورواه الإمام الترمذي لكن في الشمائل المحمدية على نبينا صلوات الله وسلامه صفحة (192)، ورواه ابن سعد في الطبقات في الجزء (1/384) ورواه البيهقي في السنن الكبرى في الجزء (7/94) وابن أبي شيبة في مصنفه في الجزء (1/106) .

ولفظ الحديث: عن مولى لأمنا عائشة، وفي روايةٍ: عن مولاة لأمنا عائشة، إما مولى ذكر، وإما مولاة أنثى، رضي الله عنهم أجمعين، عن أمنا عائشة رضي الله عنها قالت: ما رأيت فرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي رواية: ما نظرت إلى فرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، والحديث ضعيف لكن ضعفه يسير، قال الإمام البوصيري في مصباح الزجاجة في الجزء (1/238) وفي الجزء (2/96) لأنه تكلم في المكانين في كتاب الطهارة وفي كتاب النكاح على حسب إيراد الإمام ابن ماجه له، قال: إسناده ضعيف لجهالة تابعة أو تابعيته، يعني: التابعي ذكر أو أنثى مجهول، هل هو مولى لأمنا عائشة أو مولاة لأمنا عائشة؟

ما يتعلق وتقدم معنا بالجهل بالنسبة لطبقة التابعي ولا سيما للطبقة المتقدمة، مع أنه ضعف في الإسناد لكن كما قلت: يختلف عن الجهل في الطبقات الأخرى من الرواة، فهو مولى لأمنا عائشة نعت بذلك، لكن ما اسمه؟ ما وضعه؟ وحقيقةً بقي فيه جهالة، وبقية الإسناد ثقات.

والحديث في هذه الدواوين: ما رأيت فرج رسول الله عليه الصلاة والسلام، أو ما نظرت إلى فرج رسول الله على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه، وقد ورد أنها كانت تغتسل معه؛ وعليه فلو أراد الإنسان أن يجمع، فيمكن أن يقال إذاً: في حالة الاغتسال ترى ما عدا هذا لا تراه، ويمكن أن يقال: تغتسل ولا ترى، لا سيما إذا كان الإنسان يلبس إزاراً، أو إذا غضت طرفها، يعني: إذا ما تأمل من يغتسل معه فيمكن أن يغتسل الإنسان مع زوجه ولا ينظر إلى العورة، وصرف النظر ميسور وليس فيه حرج.

هذا إذا أردنا أن نجمع، أو أن نقول كما جمع أئمتنا: النظر يدل على الجواز، وما ورد من نفيٍ يدل على استحباب ترك النظر، وهذا ما قرره أئمتنا كما ستسمعون إلى هذه الدلالة، وكل طريقٍ منها ضعيف، لكن إذا اجتمعت تعتضد، وحقيقةً لا بد من الإنصاف، فبعض من يشتغلون بالحديث في هذه الأيام، جاء إلى هذه الأحاديث التي سأذكرها من أولها إلى آخرها فضربها وقال: موضوعة! وهي ليست موضوعة ولا نقول: الأمر الأول لم يثبت، فلا يوجد تصريح من نبينا عليه الصلاة والسلام أنه فعل هذا بأهله أو فعله أهله معه، إنما هو استدلال فقط من واقعة اغتساله، وأما حديث عثمان بن مظعون المتقدم فليس هو أحسن حالاً من الأحاديث التي سيذكرها، والتي تدل على عدم النظر.

وخلاصة الكلام كما قرر أئمتنا الكرام، وهم أهل الهدى: هذا جائز وتركه أولى، وهذا وجه الجمع والأمر فيه سعة، والناس بعد ذلك يختلفون في كيفية التمتع بما أحل الله، فإذا أراد الإنسان أن ينظر فلا حرج، وإذا أراد أن يلمس فلا حرج، ولو أراد حتى أن يقبل فلا حرج، ولو أراد أن يلحس ذلك المكان فلا حرج، والأمر كله ضمن دائرة الإباحة، والنفوس بعد ذلك تختلف، وتركه أحسن، كنت مرةً في بلاد الشام فسألني بعض الإخوة من المدرسين، في تلك الليلة طلق زوجه ثلاثاً من أجل المباشرة والمعاشرة، على حسب كلامه، يعني: حلف عليها بالطلاق ثلاثاً أن تمس عضوه وإلا فهي طالق، فإذا طلع الفجر وما فعلت تطلق، وهي قالت: أنا أعاف هذا، ولا أستطيع فعله، فقلت: أنت والله مجنون وهي أجن منك، يعني: هي لو فعلت فهو مباح واستراحت، وأما أنت فما عندك عقل، وليس بينك وبين زوجك تفاهم فلم تفعل بنفسها إذا كان لك رغبة، ولا فعلت عندما حلفت بالطلاق من بابٍ أولى.

فقال: ألا يوجد مخرج، قلت: هذا هو البلاء، أحدكم يركب الصعب والذلول ليأتي ويبحث عن مخرج، فمن الذي ألزمك أن توقع نفسك في هذا المأزق ثم تقول: ابحثوا لي عن مخرج؟! وهذه بلية، لكن كما قلت: لو اتفق الزوجان بينهما، فهي راضيةً وهو راضٍ فلا حرج، والأمر فيه سعة.

والقرآن لا يمنع من ذلك: هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ [البقرة:187] وعليه فلا حشمة بين الزوجين على الإطلاق فكما في ملابسك التي تلبسها لا تستحي منها، فكذلك هي تستره وتحيط ببدنه كاللباس، ولا داعي أن يفصل القول فيها، والأمر على الجواز، كما قال نبينا عليه الصلاة والسلام: ( اتق الحيضة والدبر ).


استمع المزيد من الشيخ عبد الرحيم الطحان - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح الترمذي - باب الاستتار عند الحاجة، والاستنجاء باليمين، والاستنجاء بالحجارة [4] 4045 استماع
شرح الترمذي - باب ما جاء في فضل الطهور [6] 3979 استماع
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [9] 3906 استماع
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [46] 3793 استماع
شرح الترمذي - مقدمات [8] 3787 استماع
شرح الترمذي - باب مفتاح الصلاة الطهور [2] 3771 استماع
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [18] 3570 استماع
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [24] 3486 استماع
شرح الترمذي - باب ما يقول إذا خرج من الخلاء [10] 3465 استماع
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [59] 3418 استماع