شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [54]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة الصادقين الناصحين، وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً، سهل علينا أمورنا، وعلمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الراحمين، اللهم زدنا علماً نافعاً، وعملاً صالحاً بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين، سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك، سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك، اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد:

لا زلنا نذكر الأمور التي ينبغي أن نحصن بها أنفسنا من الشيطان، وهذه الأمور التي نحصن بها أنفسنا تقدم معنا أنها تدور على سبعة أمور: حفظ الخطرات، وحفظ اللحظات، وحفظ اللفظات، وحفظ الخطوات، وحفظ السمع وهو آلة المسموعات، وحفظ البطن، وحفظ الفرج.

وكنا ذكرنا الأمر السابع وقلنا: إنه ينبغي أن نحفظ فروجنا عن كشفها وعن استعمالها فيما لم يأذن به ربنا سبحانه وتعالى.

قلت: أما أمر استعمال الفرج فيكون في عدة أمور ينبغي أن نحذرها، أولها: الزنا، وثانيها: اللواط، وثالثها: وطء الزوجة أو السرية في دبرها، ورابعها: السحاق بين النساء، وخامسها: المباشرة فيما دون السبيلين، وسادسها: الاستمناء، نسأل الله العافية، وقد مر الكلام على هذه الأمور الستة، وبقيت معنا ثلاث مسائل سنذكرها في هذا المبحث بعون الله جل وعلا:

أولها: في إتيان البهائم، وصيانة الفرج عن الاتصال بالبهائم، وثانيها: عن وطء المرأة عند حيضها أي: مباشرتها في حال حيضها، وثالثها: مسألة تتعلق بين الزوجين ويجري السؤال عنها بكثرة في موضوع نظر كل منهما إلى بدن صاحبه من أوله لآخره، وهل هناك شيء ينبغي أن يصان النظر عنه أم لا؟ وإذا وصلنا إلى هذه المسألة أختمها بعد ذلك ببيان عورة الرجل وعورة المرأة، وما ينبغي أن نصون أنفسنا من نظر الغير إليه، وما ينبغي أن نصون أعيننا عنه من عورات الناس، من الذكور والإناث إن شاء الله.

قبل أن أدخل في الأمر السابع ألا وهو فعل الفاحشة بالبهائم، يحسن بنا أن نذكر مقدمةً لطيفةً تتعلق بمنزلة المتعففين الذين يصونون فروجهم وما لهم من الأجر عند رب العالمين، وتقدم معنا شيء من ذلك في المباحث الماضية:

ثبت في كتاب حلية الأولياء لـأبي نعيم في الجزء (3/ 163)، ورواه الأصبهاني في الترغيب والترهيب، كما في الترغيب والترهيب للمنذري في الجزء (2/ 251).

ولفظ الحديث من رواية سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( كل عينٍ باكيةٌ يوم القيامة إلا عيناً غضت عن محارم الله، وعيناً سهرت في سبيل الله، وعيناً يخرج منها مثل رأس الذباب من خشية الله ) سبحانه وتعالى، فالعين الأولى غضت عن محارم الله وما نظرت إلى ما حرم الله، والثانية سهرت في سبيل الله في حراسة ومراقبة أعداء الله والمرابطة على الثغور، والثالثة: بكت من خشية الله، فخرج منها مثل رأس الذباب من الدمع، وإذا خرج هذا المقدار من هذه العين فإنها تصان من البكاء عند لقاء رب الأرض والسماء.

والحديث قال عنه أبو نعيم : تفرد به عمر بن طهبان ، وقد أخرج حديثه ابن ماجه من أهل الكتب الستة فقط، وحكم عليه الحافظ في التقريب بأنه ضعيف، والحديث قال المناوي في فيض القدير الجزء (5/ 27): رمز المصنف لحسنه، وهو السيوطي عليهم جميعاً رحمة الله ورضوانه، هو حسن إن شاء الله بشواهده، سيأتي بعضها إن شاء الله.

والحديث قد استدل واحتج واستشهد به ابن تيمية في مجموع الفتاوى في الجزء (15/ 395)، كما استدل به ابن حجر الهيتمي في الزواجر عن اقتراف الكبائر في الجزء (2/4)، وروي حديث آخر بمعناه فيه هذه الأصناف الثلاثة، لكن من رواية بهز بن حكيم ، عن أبيه عن جده، وجده صحابي وهو معاوية بن حيدة والحديث رواه الطبراني في معجمه الكبير كما في المجمع في الجزء (5/ 188)، ورواه ابن عساكر في تاريخه كما في جمع الجوامع في الجزء (1/ 492)، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ثلاثة لا ترى أعينهم النار يوم القيامة ) هناك في حديث أبي هريرة : ( كل عينٍ باكية يوم القيامة إلا عيناً غضت عن محارم الله ) وأما هنا: ثلاثة لا ترى، أي: ثلاثة أصناف، أو ثلاثة نماذج، أو ثلاثة أنواع، ( ثلاثة لا ترى أعينهم النار يوم القيامة: - أولهم - عين حرست في سبيل الله - والثاني - عين بكت من خشية الله ) مثل الأصناف الثلاثة المتقدمة في حديث أبي هريرة لكن هناك: الأصناف باكية، وهنا لا ترى النار، والمعنى واحد تقريباً، فإنها إذا لم تبك في ذلك الموقف فلن ترى النار.

إذاً: ( ثلاثة لا ترى أعينهم النار يوم القيامة: عين حرست في سبيل الله، وعين بكت من خشية الله، وعين كفت - هناك: غضت - عن محارم الله ) قال الهيثمي في المجمع: فيه أبو حبيب العنقزي لم أعرفه، وبقية رجاله ثقات، فهذا مع ذاك يتقوى كما أشار إلى ذلك السيوطي حين رمز لحسنه، وقال المنذري في الترغيب والترهيب في المكان المتقدم: لا يحضرني حاله، وقال ابن حجر الهيتمي في الزواجر في المكان المتقدم: روي بسند صحيح إلا أن فيه مجهولاً، وهو: أبو حبيب العنقزي ، المنذري يقول: لا يحضرني حاله، والهيتمي ابن حجر يقول: مجهول، أي لا أعرفه.

إذاً: من غض عينه عن محارم الله فلن تبكي هذه العين يوم القيامة، ولن ترى النار بفضل العزيز الغفار سبحانه وتعالى، وللحديث شواهد كثيرة في الترغيب والترهيب في الجزء (2/ 249) فما بعدها.

لا بد من غض الطرف وحفظ الفرج: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ [النور:30] إذا جاهد الإنسان نفسه نال الأجر عند ربه سبحانه وتعالى ولا بد من المجاهدة، والمجاهد من جاهد نفسه في ذات الله سبحانه وتعالى.

قصة العابد الذي أحرق أصابعه ليردع نفسه عن الوقوع في الفاحشة

روى الإمام أحمد في كتابه الزهد صفحة (100) والأثر نقله عنه ابن القيم في كتابه: روضة المحبين صفحة (461) عن عبد الله بن وهب وهو مقبول، أخرج له الإمام النسائي في فضائل سيدنا علي رضي الله عنهم أجمعين، يروي عن أبيه، وأبوه هو وهب بن منبه وهو ثقة، توفي سنة بضع عشرة بعد المائة، وحديثه في الصحيحين، وفي سنن أبي داود ، والنسائي ، والترمذي ، وأخرج له ابن ماجه لكن في التفسير، فعليه أخرج له أهل الكتب الستة لكن الإمام ابن ماجه أخرج له في تفسيره، ولم يخرج له في سننه.

وهب بن منبه ، ينقل هذه القصة عن الأمة التي كانت قبلنا عن بني إسرائيل من في الأمم السابقة.

خلاصتها: أن عابداً من عباد بني إسرائيل كان في صومعته يعبد الله جل وعلا وهو صاحب اجتهادٍ في ذلك، فغاظ هذا بعض السفهاء من قومه فأرادوا فتنته، فأغروا بغياً بمبلغٍ من المال من أجل أن تفتنه إذا استطاعت، فتعرضت له في ليلة مظلمة مطيرة، فطرقت باب الصومعة وقالت: أما ترى الليل شاتياً وفيه برد شديد، وأريد أن تدخلني لأكون بجوار الباب، فما أجابها، ثم من كثرة إلحاحها فتح لها وأدخلها، فلما دخلت بدأت تتعرض له وتظهر له ما يفتنه، فالرجل جاهد نفسه وصبر وصابر، لكن لما نازعته نوازع الطبيعة قال: يا نفس! إذا تحملت نار الدنيا فمن الممكن أن نفكر بعد ذلك في تحمل نار الآخرة، فجاء إلى المصباح الذي يوقده في صومعته ووضع أصبعاً من أصابعه عليه حتى احترقت الأصبع وذابت وهو يصبر على حر نار الدنيا.

فلما رأت البغي ذلك ولولت وشهقت وابتعدت، فلما ذهبت الأصبع جاءت لتنفذ مهمتها، فعرضت نفسها عليه في هذه الليلة المظلمة، وما معهما رقيب إلا من لا تخفى عليه خافية سبحانه وتعالى، فقال: يا نفس! نجرب التحمل على نار الدنيا، فوضع أصبعه الثانية فذهبت، فلما خرج منها رائحة اللحم المشوي ولولت وصاحت وابتعدت، وهكذا الأصبع الثالثة، والرابعة حتى ذهبت أصابعه، ثم قال بعد ذلك: من كثرة شهيقها وصراخها وقعت ميتة، أما هو فذهبت أصابعه.

ولما طلع الفجر جاء أولئك العتاة ليتفقدوا حاله وهم يظنون أنه الآن يخوض فيما حرم الله عليه، فرأوا المرأة ميتة، فقالوا: يا شيخ السوء! فعلت بها وقتلتها؟! فقيدوه وأخذوه إلى السلطان في ذلك الزمان فأمر بقتله، فقال: اللهم إنك لا تظلم أحداً، وما سيقع بي فبذنب من ذنوبي الكثيرة وهذا سيطهرني، لكن أسألك برحمتك التي وسعت كل شيء ألا تفضح القراء بعدي.

فالناس الآن سيقولون: هذا الشيخ قتل من أجل جريمة الزنا، فبعد أن هتك عرض المرأة قتلها.

إذاً: كل شيخٍ سيفتضح، والمسألة كلها ملفقة فهو يقول: أنا أستحق القتل وذنوبي ما أكثرها، ولا يفعل بي شيء إلا بذنبي: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ [الشورى:30] انظر لتواضعه ولهضمه لنفسه ولتذلله لربه سبحانه وتعالى، يقول: ربي ما سيقع بي أستحقه، لكن أسألك برحمتك التي وسعت كل شيء ألا تفضح القراء بعدي.

في روضة المحبين ضبطها المعلق على الكتاب وهو حامد الفقي رحمه الله والمسلمين أجمعين: لا تفضح القرى بعدي، وما أعلم ما وجه القرى؟! مع أنه لو رجع إلى كتاب الزهد للإمام أحمد : لوجد أنها القراء.

فلما قال هذا أحيا الله تلك المرأة بإذنه جل وعلا، وقالت: انظروا إلى يديه، أليس عندكم عقل أو رشد؟ هذا لو فعل فاحشةً فلماذا ذهبت أصابعه؟ انظروا إلى يديه أصابعه ذابت، فلما تحققوا من براءته وسلامته وقعت ميتةً مرةً ثانية، والله على كل شيءٍ قدير.

هذا الخبر مروي عن وهب بن منبه رواه الإمام أحمد في كتابه الزهد في صفحة (100) وما ذلك ببعيد.

قصة شاب جعل سبابته في النار حتى اصطلمت كبحاً لشهوته

ويحكي ابن حزم عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا قصة عن شاب صالح في قرطبة ما بينه وبين من وقعت له إلا الناقل فقط، يقول في كتابه: طوق الحمامة في الألفة والألاف في صفحة (143) يقول: حدثني أبو موسى هارون بن موسى الطبيب ، كما قلت: هذا هو الواسطة بينه وبين الشاب الذي حصلت له تلك الحادثة:

أن شاباً حسن الوجه في قرطبة كان تفرغ للعبادة ولطلب العلم، وأعرض عن الدنيا وزينتها وأهلها، يقول: فزار أخاً له في الله في ليلة من الليالي وعزم على أن يبيت عنده تلك الليلة، فلما ذهب إلى بيت أخيه استقبله أخوه وأحسن ضيافته، ثم طرق عليه طارق فاحتاج أن يخرج إلى مكان في وسط الليل والله أعلم ما هو الطارق، فبقي في الحجرة وذاك خرج من ناحية البيت وكل واحد في حجرته، الزوجة في حجرتها، وهذا في حجرته، لا يوجد خلوة ولا يوجد اختلاط، فبقي هذا في حجرته بعد أن قال له: سأذهب لأقضي حاجةً وأعود، وأنت تبقى هنا.

فبتقدير الله تأخر حتى خرج العسس، وكان سابقاً إذا خرج العسس -وهم شرطة الليل أو الحراس- لا يسمح بالتجول، الرجل تنقطع وكل واحد يبقى مكانه ولا يتجول ويذهب من مكانٍ إلى مكان، فما استطاع أن يعود إلى بيته تلك الليلة، فلما تحققت المرأة أن زوجها لن يعود وسوس لها الشيطان لفعل ما حرم ربنا الرحمن، فجاءت إلى الشاب في حجرته، وطرقت عليه الباب ودخلت، فتعرضت له.

فقال: يا نفس! نجرب إن كنت تطيقين نار الدنيا ثم نبحث بعد ذلك في تحمل نار الآخرة، فوضع أصبعه السبابة على السراج، ففاح منها رائحة اللحم المشوي فولولت المرأة وابتعدت، فلما هدأ هذا الإنسان عادت إليه مرةً ثانية، فوضع أصبعه ثانية، فلما فاحت منها الرائحة وبدأ الدهن يقطر منها ابتعدت وصاحت، ثم رجعت بعد ذلك، فانبلج الصباح وسبابته قد اصطلمتها النار، أفتظنه بلغ هذا المبلغ من نفسه؟ لا، ولم يكن هذا إلا لفرط شهوةٍ قد كلفت به، واستولت عليه حتى كاد أن يقع في المحظور، فلا تظن أن الأمر يسير، وهل ترى أن الله يضيع له هذا المقام؟ كلا إنه لأكرم من ذلك وأعلى سبحانه وتعالى.

إذاً: لا بد من صيانة الفرج، ولا بد من حفظ النظر، وإذا حفظ الإنسان بصره ضبط فرجه، وهنيئاً له عند ربه سبحانه وتعالى، وإذا ضيع نفسه فالشقاء له في العاجل والآجل:

رب مستور كبته شهوة فتعرى ستره فانتهكا

صاحب الشهوة عبد فإذا ملك الشهوة أضحى ملكا

عبد الشهوة أذل من عبد الرقة.

هذان البيتان في ذم الهوى للإمام ابن الجوزي صفحة (34) وأتبعهما ببيت آخر:

نون الهوان من الهوى مسروقة فإذا هويت فقد لقيت هواناً

الهوان: أصلها هوى، لكن سرقت منه النون فقيل له: الهوان.. الهوى.

إن الهوان هو الهوى قلب اسمه فإذا هويت فقد لقيت هواناً

ومثل هذه القصص كانت تقع لسلفنا بكثرة، العفة، وصيانة الفرج، وغض البصر، مراقبة لله عز وجل.

قصة شاب أنصاري امتنع عن إجابة امرأة للزنا

ينقل الإمام ابن الجوزي في كتابه ذم الهوى صفحة (252)، والقصة نقلها عنه ابن القيم في كتابه: روضة المحبين صفحة (462)، وهي مروية عن حصين بن عبد الرحمن الأشهلي توفي سنة (126)، وحديثه في سنن أبي داود ، والنسائي ، ثقة صالح، وعبد قانت.

قال: بلغني أن فتىً من الأنصار من الصحابة الأبرار كان يشهد الصلوات مع سيدنا عمر رضي الله عنه ويلازمه، وكان عمر رضي الله عنه يحبه ويعجب به، فافتقده ليلةً في صلاة الفجر، فقال: أين الشاب الذي يلازم الصلوات، ويلازم دروس العلم وحلق الوعظ؟ فما مكث إلا قليلاً رضي الله عنه في مصلاه، حتى جيء بالشاب وهو مقيد من قبل الشُرط أو العسس في ذلك الوقت إلى سيدنا عمر رضي الله عنه وأرضاه، قال: ما له؟ قالوا: وجدناه في بيت امرأة وهي تستغيث بالله وتصيح في ظلام الليل.

فقال سيدنا عمر رضي الله عنه وأرضاه: اللهم لا تخيب فراستي فيه، ليس وجه هذا الشاب بوجه الزنا ولا الفاحشة، ثم خلا به سيدنا عمر رضي الله عنهم أجمعين، وقال: ما قصتك اصدقني ما الذي جرى؟ قال: يا أمير المؤمنين! ذهبت بعد صلاة العشاء إلى البلدة، فاعترضتني امرأة عجوز كبيرة وقالت: أيها الشاب! عندي عنزة أريد أن أحلبها وما استطعت، فلعلك تساعدني في حلبها، فذهبت مع هذه العجوز لأجل أن أحلب هذه الشاة، قال: فأدخلتني وأغلقت علي الباب، وإذا بامرأةٍ جميلة تهتكت أمامي وطلبت مني ما حرم الله جل وعلا.

فلما امتنعت ألحت، ثم امتنعت فألحت -وهنا لم يضع إصبعه لا على سراج ولا على مصباح- ثم قالت: أنت بين أمرين: إما أن تقع علي، وإما أن أصيح وأفضحك، فيقبض عليك وأنت في بيتي، قال: مصيبة الدنيا أخف من مصيبة الآخرة، افعلي ما شئتي، فبدأت المرأة تصيح وتولول، فجاء الجيران وقبضوا علي في البيت، فسألوها ماذا يفعل؟ قالت: تسور ليعتدي علي، فقيدوه وساقوه إلى سيدنا عمر رضي الله عنه وأرضاه، فقال: تعرف العجوز؟ قال: لا أعرفها لكنها إذا جاءت فأستطيع أن أميزها لكني لا أعرفها، من أي هذه الدور التي حوالينا هي.

فأمر سيدنا عمر رضي الله عنه بعجائز تلك المحلة بأسرهن أن يحضرن إلينا، والعجوز إذا قامت بمهمة الإفساد فالشيطان لا يستطيع أن يمشي معها؛ لأنه يتعجب من إفسادها، فجاءت العجائز فأخذ ينظر إليهن ولم ير واحدة ممن سمع صوتها حين عرضت عليه أن يحلب شاتها أو عنزتها، ثم جاءت واحدة فقال: هذه يا أمير المؤمنين! فخلا بها سيدنا عمر رضي الله عنه وضربها بالدرة -بالكسرة- وقال: اصدقيني خبر هذا الشاب وإلا سترين شيئاً آخر، ما خبر هذا الشاب؟

قالت: يا أمير المؤمنين! هذه المرأة من جيراننا أخبرتني أنها متعلقة به، ولا يقر لها قرار ولا يهدأ لها بال، فاحتلت عليه لأدخله إلى البيت من أجل أن يجتمع بها في سبيل الشيطان، فلما دخل لم يستجب لها فولولت وصاحت فقبض عليه وجيء به إليك، فقال عمر: اللهم لك الحمد لم تخيب فراستي فيه.

وهذه نماذج من هذه الأمة الطيبة المباركة، فتى تعرض عليه هذه الجريمة بحيث لا رقيب ولا حسيب، لكنه يتذكر أن هناك من لا تخفى عليه خافية، فبكى سيدنا عمر رضي الله عنه، وقال: الحمد لله الذي أراني في هذه الأمة شبيهاً بنبي الله يوسف.

هذا هو الإيمان، وهذه خشية الرحمن، ولا بد من أن تكون هذه حصانة لهذا الشاب كما في حديث السبعة المشهور في قوله صلى الله عليه وسلم: ( ورجلٌ دعته امرأة ذات منصب وجمال، فقال: إني أخاف الله ) هذا كذلك، فهو يؤثر عقوبة الدنيا والفضيحة صيانة لعرضه وخشية لربه، لولا أن برأه الله على لسان سيد المحدثين والملهمين في هذه الأمة سيدنا عمر رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين.

قصة شاب مات خوفاً من الوقوع في الفاحشة

مثل هذه الحوادث كثيرة في هذه الأمة المباركة، وكنت ذكرت قصةً سابقة في مدينة أبها في مدرسة تحفيظ القرآن في محاضرة الخوف والرجاء، وقد ذكرتها في كتاب التوحيد الذي كان مقرراً في أبها على الأخوات الطالبات في صفحة (15-16)، والقصة منقولة في تفسير ابن كثير ونسبها عليه وعلى أئمتنا رحمات ربنا إلى تاريخ ابن عساكر ، وهذا الذي فعلته سابقاً وما زدت عليه.

قال الحافظ ابن كثير عليه رحمة ربنا الجليل، ذكر ابن عساكر في ترجمة عمرو بن جامع من تاريخه: أن شاباً كان يتعبد في المسجد، فهويته امرأة فدعته إلى نفسها، فما زالت به حتى كاد أن يدخل معها المنزل، فذكر هذه الآية: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ [الأعراف:201] فخر مغشياً عليه، ثم أفاق فأعادها فمات، فجاء عمر رضي الله عنه وأرضاه فعزى فيه أباه وكان قد دفن ليلاً، فذهب فصلى على قبره بمن معه ثم ناداه سيدنا عمر رضي الله عنهم أجمعين، فقال: يا فتى! قال الله تعالى: وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ [الرحمن:46] فأجابه الفتى من داخل القبر: يا عمر ! قد أعطانيهما ربي عز وجل في الجنة، مرتين.

قلت: انظر تفسير ابن كثير الجزء (2/ 269) عند تفسير هذه الآية في سورة الأعراف، وعزاه السيوطي في الدر في الجزء (6/ 147)، والألوسي في روح المعاني في الجزء (27/ 116) إلى شعب الإيمان للبيهقي .

المشوشون يأبون إلا أن يعلقوا بالباطل على هذه القصة في الصفحة (104) فأحدهم يضع عنواناً: الطحان يروي قصةً ضعيفة، وهل ذكرت أنها صحيحة، أو متواترة، أو مقطوع بها؟ استمع لأمانته وخيانته معاً، يقول: نقل الطحان قصةً من تفسير ابن كثير -وهذه من أمانته- عزاها إلى تاريخ ابن عساكر في شريط: ثمرة الخوف، وهذه أمانة، مع أنها في الكتاب وعنده نسخة منه، وهو ينقل منه ويعلق.

قال: كان شاب يتعبد في المسجد فهويته امرأة فدعته إلى نفسها، فما زالت به حتى كاد أن يدخل معها المنزل فذكر هذه الآية: وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ [الأعراف:202] يقصد أول الآية: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ [الأعراف:201] مع أن هذا الذي تلاه الشاب، أما هذه الآية الأخرى التي ذكرها فلا وجود لها في هذه القصة، فخر مغشياً عليه، ثم أفاق فأعادها فمات، إلى آخر القصة ثم يقول: هي في تفسير ابن كثير كما ذكر.

أقول: هذه القصة أخرجها البيهقي في شعب الإيمان، من طريق جعفر بن جعفر الرازي عن أبي جعفر السائح ، عن الربيع بن صبيح ، عن الحسن البصري مختصراً، ولم ينقل أن الفتى أجاب عمر من القبر، ومع هذا ما لنا ولهذه الرواية، الرواية التي أنا ذكرتها من تفسير ابن كثير فيها الإجابة التي عزاها إلى تاريخ ابن عساكر.

يقول: وهذا إسناد ضعيف؛ لأن جعفراً ضعيف وشيخه مجهول، والحسن البصري لم يدرك عمر رضي الله عنه فهو منقطع، وأخرجها ابن عساكر مطولةً في تاريخ دمشق في ترجمة عمرو بن جامع وهذا الإسناد هو الذي ذكرته، وهو الذي روى ابن كثير القصة منه، من طريق عمرو بن جامع ، من طريق عمران بن موسى الطرسوسي ، حدثنا أبو صالح ، حدثنا يحيى بن أيوب الخزاعي ، والذي يظهر أنه الغافقي ؛ لأنني عندما نظرت في كتب التراجم وجدت أن يحيى بن أيوب الغافقي هو شيخ أبي صالح ، عبد الله بن صالح وهو كاتب الليث .

قال: سمعت من يذكر أنه كان في زمن عمر إلى آخره، وهذه إسنادها ضعيف، فيه أبو صالح كاتب الليث وهو ضعيف.

أما قوله: أبو صالح كاتب الليث ضعيف فغير صحيح، فـعبد الله بن صالح كاتب الليث ترجمته في التقريب: صدوق كثير الغلط ثبت في كتابه، أي: إذا حدث من كتابه يكون ثقة، هذا يقوله عنه الحافظ ابن حجر في التقريب، توفي سنة (222)، روى له البخاري في صحيحه تعليقاً، وأهل السنن الأربعة إلا النسائي ، لكن ما أجرأكم على تضعيف الأحياء والأموات! فقولك: ضعيف، عمن تنقل هذا؟!

قال الذهبي في السير في ترجمته في الجزء (10/405): هو الإمام المحدث شيخ المقرئين، كان صدوقاً في نفسه من أوعية العلم، أصابه داء شيخه ابن لهيعة وهو النسيان والخرف الذي طرأ عليه، أما ابن لهيعة فكان بسبب احتراق كتبه، وأما أبو صالح فبسبب كبر سنه فقد زاد على التسعين وقاربها، يقول: وتهاون بنفسه حتى ضعف حديثه، ولم يترك بحمد الله، والأحاديث التي نقلوها عليه معدودة في سعة ما روى، قال الذهبي : وهو في عقلي عقل من؟ الذهبي ليس في عقول المعاصرين أقوى من نعيم بن حماد ، وما هو دون إسماعيل بن أبي أويس .

إسماعيل بن عبد الله بن أبي أويس ترجمه الحافظ فقال: صدوق أخطأ في أحاديث رواها من حفظه، توفي سنة 226 ، وحديثه في الكتب الستة إلا سنن النسائي .

الذهبي ماذا يقول؟ يقول: وما عبد الله بن صالح كاتب الليث بدون إسماعيل بن أبي أويس ، لكنه فوق نعيم بن حماد ، يقول: وهو في عقلي، أي: عندي أقوى من نعيم بن حماد .

أما نعيم بن حماد فقال فيه الحافظ : صدوق يخطئ كثيراً، وهو فقيه عارف بالفرائض، توفي سنة 228، روى له البخاري في صحيحه، ومسلم في مقدمة الصحيح، وأهل السنن الأربعة إلا سنن النسائي ، ومثل هذا لا يضعف مع هذا فـأبو صالح أعلى من نعيم بن حماد ، الذي خرج البخاري وهو شيخ البخاري له، وهو ليس بدون إسماعيل بن أبي أويس ، فكيف يتجرأ بعض الناس على تضعيفه؟! إنني أعجب أن يقال: ضعيف، هكذا أمام الله جل وعلا، وهو رجل صالح قانت، كاتب سيدنا الإمام الليث بن سعد من يتبرك بذكر اسمه، وتنزل الرحمة عند ذكر اسمه، رضي الله عنه وأرضاه، وأنت تأتي هكذا وتقول إنه: ضعيف! من أين لك هذا؟ ومن أي كتب العلماء في التخريج أتيت به؟ أقول: عبد الله بن صالح كاتب الليث صدوق، يا رجل! فاتق الله في نفسك.

ثم يقول: وفيه انقطاع، نعم القصة منقطعة، وما أحد قال لك: إنها متصلة ولا أحد قال: إنها متواترة، ولا أحد قال: إنها ثابتة، لكن كما قرر أئمتنا أن أمور الترغيب والترهيب وأمور الفضائل يتساهل فيها، والقصة -كما قلت- في تفسير ابن كثير في الجزء (2/ 279).

وأخرجها الحافظ ابن عساكر في ترجمة عمرو بن جامع من تاريخه، وزيادة على ذلك فالقصة رواها ابن الجوزي في كتابه: ذم الهوى في صفحة (252)، ورواها من طرق بعد أن نقل القصة يقول: وقد بلغتنا هذه الحكاية على وجه آخر ثم ساقها بإسنادٍ قال فيه:

أخبرتنا شهدة بنت أحمد قالت: أنبأنا أبو محمد بن السراج إلى آخر الإسناد: أن فتى كان يعجب به عمر بن الخطاب ، فقال عمر : إن هذا الفتى ليعجبني، ثم ذكر نظير هذه القصة، يقول: فلما وقف بالباب أبصر وجلي عنه بعد أن دعته تلك المرأة، ومثلت هذه الآية على لسانه: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ [الأعراف:201] فخر مغشياً عليه، فنظرت إليه المرأة فإذا هو كالميت، فلم تزل هي وجارية لها تتعاونان عليه حتى ألقوه على باب داره، إلى آخره ثم يقول: فبلغ ذلك عمر رضي الله عنه، فقال: ألا آذنتموني بموته، فذهب حتى وقف على قبره فنادى: يا فلان! وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ [الرحمن:46] فأجابه الفتى من داخل القبر: قد أعطانيهما ربي يا عمر رضي الله عنه وأرضاه.

ونقلها الإمام ابن القيم في كتابه: روضة المحبين صفحة (450)، والقصة المتقدمة ذكرها في صفحة (462)، وصفحة (451).

وخلاصة الأمر أنها ذكرت في تفسير ابن كثير ، وفي ذم الهوى، وفي روضة المحبين، وفي تاريخ دمشق، وفي الدر المنثور، وفي روح المعاني، وما أحدٌ من أئمتنا علق على هذه القصة بأنها باطلة، -مع ضعف إسنادها- والسبب في ذلك ما تقدم معنا مراراً: أن أخبار الفضائل يتساهل فيها، هذا فيما ينقل عن نبينا عليه الصلاة والسلام، فكيف بك بهذه القصص الأخرى من أحاديث الفضائل، أئمتنا كانوا يرخصون في روايتها ويتساهلون، وتقدم معنا كلام ابن عبد البر في ذلك مراراً، في صفحة (22) من كتابه: جامع بيان العلم وفضله في الجزء الأول، يقول: أهل العلم يرخصون في روايتها ويتساهلون.

نقول: أهل العلم بجماعتهم - نعم هؤلاء أهل العلم أما أهل الجهل فلهم شأن آخر - يتساهلون في الفضائل، فيروونها عن كل أحد، وإنما يتشددون في أحاديث الأحكام، وقال في صفحة (31): الفضائل تروى عن كل أحد، والحجة من جهة الإسناد إنما تتخطى في الأحكام وفي الحلال والحرام، وقال في صفحة (1/ 45): أحاديث الفضائل تسامح العلماء قديماً في راويتها عن كل أحد، ولم ينتقدوا فيها كانتقادهم في أحاديث الأحكام.

هذا في الأحاديث، فكيف في القصص التي ترقق القلوب وتسوقها إلى علام الغيوب، وما يطلب منها إثبات حكم شرعي، نحن عندنا في كلام ربنا: وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ [الرحمن:46] في سورة الرحمن، فمن خاف مقام الله في نفسه، ثم بعد ذلك أخذه ما أخذه فخر مغشياً عليه ومات، ثم بعد ذلك نطق بعد موته، ما المانع؟ أليس الله على كل شيءٍ قديراً؟! فهذا أمر خارق للعادة. والمهم أن يُقال: هل في هذه القصة من أولها لآخرها خروج عن أصول أهل السنة والجماعة؟! هل يوجد أو يترتب عليها محظور أو غير ذلك؟!

والجواب: لا ثم لا، إنما بعد ذلك إسنادها ثابت أو لا؟ هذا موضوع آخر، وأنت تعترف أنني قلت: هي في تفسير ابن كثير وعزاها إلى تاريخ دمشق، إذاً: قد خرجت من العهدة، عندما أقول: هذا حديث في المسند، وتأتي تبحث ويتبين لك أنه موضوع، فهل ستقول هو يصحح الحديث؟ لا؛ لأن هذا الحديث في المسند أولاً، وثانياً: أنني لا أضيفه إلى النبي عليه الصلاة والسلام، حتى أحقق الكلام فيه، ولا أقتصر على نسبته إلى الكتب، أما الأخبار فالأصل أنه لا يؤخذ منها أحكام، إنما المقصود منها كما قلت ترقيق القلوب، وعندنا الأصول ثابتة في الكتاب والسنة، فهذا المعنى حق ولا حرج، فعلام بعد ذلك التشويش؟!

إذاً: القصة التي ذكرها الطحان ، وعزاها إلى ابن كثير وغيره ضعيفة لا تقوم بها حجة، هل اعترضت على ابن كثير كما اعترضت على الطحان ؟! لا، لم تعترض عليه، ابن كثير لم يقل: روي، بل قال: وقد ذكر، هلا اعترضت عليه، أو هلا اعترضت على الإمام ابن القيم ، أو على ابن الجوزي ، أو على الألوسي ، أو على السيوطي ، أو على البيهقي عندما رووها؟!

ثم يقول: إن متن القصة فيه نكارة، وهنا الآن التمذهب الباطل، وتأمل التمذهب في هذه الأيام، قال: متن القصة فيه نكارة؛ لأنه يخالف القرآن والسنة والعقل، أما العقل: فأرحنا منه وضعه تحت الرجل، ولنبحث في القرآن والسنة؛ لأننا إذا أردنا أن نعيد الأمور إلى العقول، فسنعيد الأمور إلى الفوضى التي لا نهاية لها، إلى عقل من سنحتكم؟ إلى عقلي، أو إلى عقلك، أو إلى عقل من؟! ولذلك فالفارق بين المهتدين والضالين مسألة العقل، فنحن أسسنا ديننا على المنقول وجعلنا المعقول تبعاً، والضالون على العكس: أسسوا دينهم على المعقول وجعلوا المنقول تبعاً، فمسألة العقل ضعها تحت الرجل وأرحنا، لن نتحاكم إلى عقلك، ولا إلى عقلي في هذه القضية إنما إلى كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم.

روى الإمام أحمد في كتابه الزهد صفحة (100) والأثر نقله عنه ابن القيم في كتابه: روضة المحبين صفحة (461) عن عبد الله بن وهب وهو مقبول، أخرج له الإمام النسائي في فضائل سيدنا علي رضي الله عنهم أجمعين، يروي عن أبيه، وأبوه هو وهب بن منبه وهو ثقة، توفي سنة بضع عشرة بعد المائة، وحديثه في الصحيحين، وفي سنن أبي داود ، والنسائي ، والترمذي ، وأخرج له ابن ماجه لكن في التفسير، فعليه أخرج له أهل الكتب الستة لكن الإمام ابن ماجه أخرج له في تفسيره، ولم يخرج له في سننه.

وهب بن منبه ، ينقل هذه القصة عن الأمة التي كانت قبلنا عن بني إسرائيل من في الأمم السابقة.

خلاصتها: أن عابداً من عباد بني إسرائيل كان في صومعته يعبد الله جل وعلا وهو صاحب اجتهادٍ في ذلك، فغاظ هذا بعض السفهاء من قومه فأرادوا فتنته، فأغروا بغياً بمبلغٍ من المال من أجل أن تفتنه إذا استطاعت، فتعرضت له في ليلة مظلمة مطيرة، فطرقت باب الصومعة وقالت: أما ترى الليل شاتياً وفيه برد شديد، وأريد أن تدخلني لأكون بجوار الباب، فما أجابها، ثم من كثرة إلحاحها فتح لها وأدخلها، فلما دخلت بدأت تتعرض له وتظهر له ما يفتنه، فالرجل جاهد نفسه وصبر وصابر، لكن لما نازعته نوازع الطبيعة قال: يا نفس! إذا تحملت نار الدنيا فمن الممكن أن نفكر بعد ذلك في تحمل نار الآخرة، فجاء إلى المصباح الذي يوقده في صومعته ووضع أصبعاً من أصابعه عليه حتى احترقت الأصبع وذابت وهو يصبر على حر نار الدنيا.

فلما رأت البغي ذلك ولولت وشهقت وابتعدت، فلما ذهبت الأصبع جاءت لتنفذ مهمتها، فعرضت نفسها عليه في هذه الليلة المظلمة، وما معهما رقيب إلا من لا تخفى عليه خافية سبحانه وتعالى، فقال: يا نفس! نجرب التحمل على نار الدنيا، فوضع أصبعه الثانية فذهبت، فلما خرج منها رائحة اللحم المشوي ولولت وصاحت وابتعدت، وهكذا الأصبع الثالثة، والرابعة حتى ذهبت أصابعه، ثم قال بعد ذلك: من كثرة شهيقها وصراخها وقعت ميتة، أما هو فذهبت أصابعه.

ولما طلع الفجر جاء أولئك العتاة ليتفقدوا حاله وهم يظنون أنه الآن يخوض فيما حرم الله عليه، فرأوا المرأة ميتة، فقالوا: يا شيخ السوء! فعلت بها وقتلتها؟! فقيدوه وأخذوه إلى السلطان في ذلك الزمان فأمر بقتله، فقال: اللهم إنك لا تظلم أحداً، وما سيقع بي فبذنب من ذنوبي الكثيرة وهذا سيطهرني، لكن أسألك برحمتك التي وسعت كل شيء ألا تفضح القراء بعدي.

فالناس الآن سيقولون: هذا الشيخ قتل من أجل جريمة الزنا، فبعد أن هتك عرض المرأة قتلها.

إذاً: كل شيخٍ سيفتضح، والمسألة كلها ملفقة فهو يقول: أنا أستحق القتل وذنوبي ما أكثرها، ولا يفعل بي شيء إلا بذنبي: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ [الشورى:30] انظر لتواضعه ولهضمه لنفسه ولتذلله لربه سبحانه وتعالى، يقول: ربي ما سيقع بي أستحقه، لكن أسألك برحمتك التي وسعت كل شيء ألا تفضح القراء بعدي.

في روضة المحبين ضبطها المعلق على الكتاب وهو حامد الفقي رحمه الله والمسلمين أجمعين: لا تفضح القرى بعدي، وما أعلم ما وجه القرى؟! مع أنه لو رجع إلى كتاب الزهد للإمام أحمد : لوجد أنها القراء.

فلما قال هذا أحيا الله تلك المرأة بإذنه جل وعلا، وقالت: انظروا إلى يديه، أليس عندكم عقل أو رشد؟ هذا لو فعل فاحشةً فلماذا ذهبت أصابعه؟ انظروا إلى يديه أصابعه ذابت، فلما تحققوا من براءته وسلامته وقعت ميتةً مرةً ثانية، والله على كل شيءٍ قدير.

هذا الخبر مروي عن وهب بن منبه رواه الإمام أحمد في كتابه الزهد في صفحة (100) وما ذلك ببعيد.

ويحكي ابن حزم عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا قصة عن شاب صالح في قرطبة ما بينه وبين من وقعت له إلا الناقل فقط، يقول في كتابه: طوق الحمامة في الألفة والألاف في صفحة (143) يقول: حدثني أبو موسى هارون بن موسى الطبيب ، كما قلت: هذا هو الواسطة بينه وبين الشاب الذي حصلت له تلك الحادثة:

أن شاباً حسن الوجه في قرطبة كان تفرغ للعبادة ولطلب العلم، وأعرض عن الدنيا وزينتها وأهلها، يقول: فزار أخاً له في الله في ليلة من الليالي وعزم على أن يبيت عنده تلك الليلة، فلما ذهب إلى بيت أخيه استقبله أخوه وأحسن ضيافته، ثم طرق عليه طارق فاحتاج أن يخرج إلى مكان في وسط الليل والله أعلم ما هو الطارق، فبقي في الحجرة وذاك خرج من ناحية البيت وكل واحد في حجرته، الزوجة في حجرتها، وهذا في حجرته، لا يوجد خلوة ولا يوجد اختلاط، فبقي هذا في حجرته بعد أن قال له: سأذهب لأقضي حاجةً وأعود، وأنت تبقى هنا.

فبتقدير الله تأخر حتى خرج العسس، وكان سابقاً إذا خرج العسس -وهم شرطة الليل أو الحراس- لا يسمح بالتجول، الرجل تنقطع وكل واحد يبقى مكانه ولا يتجول ويذهب من مكانٍ إلى مكان، فما استطاع أن يعود إلى بيته تلك الليلة، فلما تحققت المرأة أن زوجها لن يعود وسوس لها الشيطان لفعل ما حرم ربنا الرحمن، فجاءت إلى الشاب في حجرته، وطرقت عليه الباب ودخلت، فتعرضت له.

فقال: يا نفس! نجرب إن كنت تطيقين نار الدنيا ثم نبحث بعد ذلك في تحمل نار الآخرة، فوضع أصبعه السبابة على السراج، ففاح منها رائحة اللحم المشوي فولولت المرأة وابتعدت، فلما هدأ هذا الإنسان عادت إليه مرةً ثانية، فوضع أصبعه ثانية، فلما فاحت منها الرائحة وبدأ الدهن يقطر منها ابتعدت وصاحت، ثم رجعت بعد ذلك، فانبلج الصباح وسبابته قد اصطلمتها النار، أفتظنه بلغ هذا المبلغ من نفسه؟ لا، ولم يكن هذا إلا لفرط شهوةٍ قد كلفت به، واستولت عليه حتى كاد أن يقع في المحظور، فلا تظن أن الأمر يسير، وهل ترى أن الله يضيع له هذا المقام؟ كلا إنه لأكرم من ذلك وأعلى سبحانه وتعالى.

إذاً: لا بد من صيانة الفرج، ولا بد من حفظ النظر، وإذا حفظ الإنسان بصره ضبط فرجه، وهنيئاً له عند ربه سبحانه وتعالى، وإذا ضيع نفسه فالشقاء له في العاجل والآجل:

رب مستور كبته شهوة فتعرى ستره فانتهكا

صاحب الشهوة عبد فإذا ملك الشهوة أضحى ملكا

عبد الشهوة أذل من عبد الرقة.

هذان البيتان في ذم الهوى للإمام ابن الجوزي صفحة (34) وأتبعهما ببيت آخر:

نون الهوان من الهوى مسروقة فإذا هويت فقد لقيت هواناً

الهوان: أصلها هوى، لكن سرقت منه النون فقيل له: الهوان.. الهوى.

إن الهوان هو الهوى قلب اسمه فإذا هويت فقد لقيت هواناً

ومثل هذه القصص كانت تقع لسلفنا بكثرة، العفة، وصيانة الفرج، وغض البصر، مراقبة لله عز وجل.




استمع المزيد من الشيخ عبد الرحيم الطحان - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح الترمذي - باب الاستتار عند الحاجة، والاستنجاء باليمين، والاستنجاء بالحجارة [4] 4048 استماع
شرح الترمذي - باب ما جاء في فضل الطهور [6] 3981 استماع
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [9] 3907 استماع
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [46] 3795 استماع
شرح الترمذي - مقدمات [8] 3787 استماع
شرح الترمذي - باب مفتاح الصلاة الطهور [2] 3772 استماع
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [18] 3573 استماع
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [24] 3486 استماع
شرح الترمذي - باب ما يقول إذا خرج من الخلاء [10] 3466 استماع
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [59] 3417 استماع