شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [49]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة الطيبين، وعن من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً، سهل علينا أمورنا، وعلمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الراحمين، اللهم زدنا علماً نافعاً وعملاً صالحاً بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين، سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك، سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك، اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد! إخوتي الكرام: كنا نتدارس الأمور التي يتحصن بها أهل الإيمان من الجان، وتقدم معنا أن هذه الأمور منها ما ينبغي أن نحذره وأن نبتعد عنه وأن نحصن أنفسنا منه، ومنها ما ينبغي أن نفعله وأن نقوم به.

والأمر الأول يدور على سبعة أمور كما تقدم معنا، والأمر الثاني على ثمانية أمور، وعليه مجموع الأمور كما تقدم معنا خمسة عشر أمراً، وقلت جاء حصرها في هذا العدد اتفاقاً بتقدير الله دون قصد، ووافق هذان العددان كما تقدم معنا عدد أبواب النار وأبواب الجنة.

أما الأمور التي ينبغي أن نصون أنفسنا منها وأن نحترس وأن لا نجعل للشيطان منفذاً منها؛ قلت أولها: حفظ الخطرات، وثانيها: حفظ اللحظات، وثالثها: حفظ اللفظات، ورابعها: حفظ الخطوات، ومن ضبطها فهو صديق كما تقدم معنا، والخامس: حفظ السمع الذي هو آلة الأصوات، والسادس: حفظ البطن، وهذه الأمور الستة مر الكلام عليها ووصلنا إلى السابع ألا وهو: حفظ الفرج.

وأما الثمانية التي ينبغي أن نتحلى بها؛ قلت: الاستعانة بالرحمن، والاستعاذة من الشيطان، وقراءة القرآن، وذكر الرحمن، وكثرة الصلاة والسلام على نبينا خير الأنام عليه الصلاة والسلام، والمحافظة على الجماعة، وأن يحافظ على الطاعة، وأن يكتب العلم ويحرص عليه فهو أربح بضاعة، وأن يكثر من الصوم فهو حصن حصين لنا من كل آفة.

إخوتي الكرام! كما قلت وصلنا إلى الأمر السابع من الأمور التي ينبغي أن نحصن أنفسنا نحوها، وأن لا يدخل الشيطان منها، وهو حفظ الفرج.

ويراد بالحفظ إخوتي الكرام الحفظ مطلقاً، لا يجوز أن نظهر هذا العضو ولا أن نستعمله إلا فيما أذن فيه ربنا سبحانه وتعالى، وورد فيه نص يدل على الإباحة، فالأصل فيه الحظر والمنع، وتقدم معنا في المواعظ السابقة أن الله عندما قرن بين البصر والفرج فرق بينهما، فقال ربنا العزيز الغفور في سورة النور: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ [النور:30]، قلت: أدخل (من) في حفظ البصر؛ لأن الأصل فيه الإباحة، وحذفت من الفرج: وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ [النور:30]؛ لأن الأصل فيه الحظر الا ما استثني وقام عليه دليل الإباحة، ولذلك ينبغي أن نستره ولا يجوز أن نكشفه عمن لا يحل له أن ينظر إليه، وهكذا لا يجوز أن نستعمله إلا فيما قام الدليل على جواز استعمال الفرج فيه، وعليه ينبغي أن نصون فروجنا عن الزنا، وعن اللواط، وينبغي أيضاً أن يصون النساء فروجهن عن السحاق، وينبغي أن نصون فروجنا كذلك عن الوطء الذي حرمه علينا ربنا وإن كان في الأصل حلالاً لنا كإتيان الزوجة أو السرية في حالة الحيض أو في حالة النفاس، وهكذا ينبغي أن نحذر الوطء في الأدبار مع زوجة أو سرية، وهكذا ينبغي أن نصون فروجنا من الاستعمال المحرم مع البهائم سواء كان الإنسان ذكراً أو أنثى، فلا تمكن الأنثى بهيمة من نفسها كما انتشر في هذا العصر الهابط، ولا يفعل الذكر ببهيمة، وهكذا الاستمناء محرم على الذكور وعلى الإناث.

هذه الأمور إخوتي الكرام ينبغي أن نصون الفروج عنها، ولا أريد أن أستعرضها على التفصيل، كان في نيتي أن أذكر أمرين اثنين منها ثم ننتقل إلى الأمور الثمانية، لكن بعد هذين الأمرين بدا لي أن أضيف أمراً آخر أبين سببه -إن شاء الله- عندما نصل إليه بعد التحذير من أمرين هما أشنع ما يقع الإنسان فيه عند التفريط في الفرج، وهما الزنا واللواط، نسأل الله العافية.

الزنا إخوتي الكرام سماه الله فاحشة في كتابه فقال جل وعلا: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا [الإسراء:32]، والفاحشة: هي المعصية المتناهية في القبح والرذيلة، بحيث حرمها الشرع ويستهجنها ويمتهنها ويستقبحها العقل، وهكذا قال عن جريمة اللواط: أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ [الأعراف:80]، معصية خبيثة تستنكرها الفطر السليمة والعقول المستقيمة، وحرمتها شريعة الله القويمة. ينبغي أن نصون فروجنا عن هذين الأمرين المحرمين وعن بقية الأمور.

حديث ابن عباس: (يا فتيان قريش لا تزنوا...)

وقد ثبت في مستدرك الحاكم بسند صحيح على شرط مسلم، والحديث سكت عنه الذهبي وهو في الجزء الرابع صفحة ثمان وخمسين وثلاثمائة، وذكره الإمام المنذري في الترغيب والترهيب في الجزء الثالث صفحة اثنتين وثمانين ومائتين، ونسب إلى الحاكم أنه قال: صحيح على شرط الشيخين فوافقه، والذي في المستدرك أنه على شرط مسلم كما ذكرت، والحديث رواه البيهقي في شعب الإيمان والطبراني في معجمه الكبير والأوسط كما في المجمع في الجزء الرابع صفحة ثلاث وخمسين ومائتين، وقال الإمام الهيثمي عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا: رجاله رجال الصحيح، ولفظ الحديث من رواية سيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( يا شباب قريش: احفظوا فروجكم، لا تزنوا، ألا من حفظ فرجه فله الجنة )، الحديث رواه الإمام أبو داود الطيالسي بهذا اللفظ كما في منحة المعبود في ترتيب مسند الطيالسي أبي داود في الجزء الأول صفحة سبع وتسعين ومائتين، وهكذا رواية البيهقي أيضاً في شعب الإيمان: ( يا فتيان قريش: لا تزنوا، فإنه من سلم الله له شبابه دخل الجنة )، والحديث كما قلت من رواية سيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، وإسناده صحيح ثابت.

نعم، روي الحديث أيضاً من رواية سيدنا طلحة رضي الله عنه وأرضاه، كما في المجمع في الجزء الرابع صفحة ثلاث وخمسين ومائتين، وعزى الرواية إلى مسند أبي يعلى، لكن إسناد الحديث فيه انقطاع، قال الإمام الهيثمي : منقطع وفيه من لم أعرفه، ولفظ رواية أبي طلحة : ( يا شباب قريش: لا تزنوا، من سلم شبابه فله الجنة )، الحديث مع ضعفه بانقطاع وجهالة في رواة إسناده، فإن الرواية المتقدمة تغني عنه وتشهد له، وهي صحيحة ثابتة، وقد أخبرنا نبينا عليه الصلاة والسلام أنه يخاف خوفاً شديدا على هذه الأمة المباركة من التفريط في فروجهم والوقوع في جريمة الزنا، نسأل الله العافية.

حديث عبد الله بن زيد في التحذير من الزنا والشهوة الخفية

روى الإمام أبو يعلى في مسنده، والطبراني في معجمه الكبير، والإمام الضياء المقدسي في الأحاديث الجياد المختارة، كما في جمع الجوامع للإمام السيوطي في الجزء الأول صفحة اثنتين وثمانين وتسعمائة، والحديث صحيح كما نص على ذلك الإمام المنذري في الترغيب والترهيب في الجزء الثالث صفحة واحد وسبعين ومائتين، وقال الإمام الهيثمي في المجمع في الجزء السادس صفحة خمس وخمسين ومائتين: رجال الطبراني رجال الصحيح، غير عبد الله بن بديل بن ورقاء الخزاعي وهو ثقة، وقال عنه الحافظ في التقريب: صدوق يخطئ، ورمز له بأنه روى له البخاري تعليقاً (خت)، وروى له أبو داود والإمام النسائي في السنن عليهم جمعاً رحمة الله ورضوانه.

ولفظ الحديث من رواية الصحابي الجليل عبد الله بن زيد المازني ، يكنى أبا محمد ويعرف بـابن أم عمارة ، وهو الذي شارك وحشياً رضي الله عنهم أجمعين في قتل اللعين مسيلمة الكذاب، رماه وحشي بحربة له فصرعه، ثم تقدم عبد الله بن زيد المازني فحز رقبته وضربه، ومسيلمة هو الذي قتل أخا عبد الله بن زيد المازني -وهو حبيب بن زيد المازني - عندما أرسله النبي عليه الصلاة والسلام إلى مسيلمة وقال له: أتشهد أن لا إله إلا الله؟ قال: نعم، قال: أتشهد أن محمداً رسول الله عليه الصلاة والسلام؟ قال: نعم، قال: أتشهد أني رسول الله؟ قال: لا أسمعك، فأعاد مسيلمة عليه ثلاثاً: أتشهد أن محمداً رسول الله عليه الصلاة والسلام؟ وفي كل مرة يقول: نعم، فيقول: أتشهد أني رسول الله؟ فيقول: لا أسمع، فبعد الثالثة قطعه عضواً عضواً، فعجل الله له العقوبة في هذه الحياة مع ما يدخر له بعد الممات، فقتله ربنا جل وعلا على يد أخي حبيب وهو راوي الحديث عبد الله بن زيد المازني ، والحديث كما قلت إسناده صحيح، ولفظه عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال: ( يا نعايا العرب ) (يا نعايا). ضبطت في كتاب الترغيب والترهيب بدل النون الموحدة من فوق باء من تحت لتصبح أشنع توصيف: ( يا بغايا العرب )، ( يا نعايا العرب إن أخوف ما أخاف عليكم الزنا والشهوة الخفية )، ولفظ النعايا شرحه أئمتنا في كتب اللغة والغريب كما في الفائق لـالزمخشري في الجزء الرابع صفحة أربعة، واللسان لـابن منظور في الجزء العشرين صفحة سبع ومائتين، وفي النهاية للإمام ابن الأثير في غريب الحديث في الجزء الخامس صفحة خمس وثمانين، وفي غريب الحديث للإمام ابن الجوزي في الجزء الثاني صفحة واحدة وعشرين وأربعمائة، والخلاصة أن (نعايا) تحتمل ثلاثة أمور: إما أن تكون جمع نعي مصدر نعى الميت نعيا، أي: يا من ينعون ويصيحون، نادوا على العرب بهذا إذا وقعوا في الزنا، فهذه أعظم مصيبة يقعون فيها، ( يا نعايا العرب إن أخوف ما أخاف عليكم الزنا والشهوة الخفية )، وإما أن تكون اسم جمع كأخايا جمع آخي، ونعايا جمع ناعي.

والثالث: إما أن تكون النعايا جمع نعاء، اسم فعل على صيغة فعال المؤنثة، والتقدير: (يا نعايا العرب)، جئن فهذا وقتكن، اصرخن على العرب، على الإسلام، نادين عليهم بهذا الأمر، ( إن أخوف ما أخاف عليكم الزنا والشهوة الخفية ).

الزنا بالزاي والنون، قال الإمام المنذري في الترغيب والترهيب: وضبط بالراء والياء: ( إن أخوف ما أخاف عليكما الريا والشهوة الخفية )، لكن الإمام الهيثمي يرى أن الضبط الوحيد لهذا الحديث الزنا، ولذلك أورده في المجمع في باب ذم الزنا.

والشهوة الخفية: هي كل شيء من المعاصي يضمره الإنسان ويصر عليه، فإذا رأى مثلاً جارية حسناء مرت غض طرفه ثم بدأ يحدث نفسه بها ففُتن، فكم من إنسان -نسأل الله العافية-، يمر به ما حرم عليه ربنا الرحمن فيغض طرفه عنه لكن يفكر فيه بقلبه بشهوة خفية، وهذا لا يجوز، بل كما ينبغي أن تصون الجوارح الظاهرة ينبغي أيضاً أن تصون القلب من باب أولى؛ لأن الشهوة الخفية التي تعشعش في هذا القلب الخفي الداخلي أمر لا يصلح.

حديث شداد بن أوس في بيان المراد بالشهوة الخفية

ويراد بالشهوة الخفية كما فسر في بعض الأحاديث أن يبدأ الإنسان في طاعة من صلاة أو صيام أو غير ذلك، ثم تعرض له شهوة من شهوات الدنيا، فيعرض عن طاعته إلى حيث سارت به شهوته، وما أكثر ما يقع هذا، نعم، إذا وقع هذا باعتبار شرعي فلا حرج، كمن شرع في صيام نافلة ثم دعاه أمر شرعي إلى الفطر من إكرام ضيف أو إجابة دعوة، أما أن يفطر من أجل شهوة في نفسه، بأن اشتهى طعاماً أو شيئاً مما أباحه الله فقد فضل حظ النفس على طاعة الرب سبحانه وتعالى؛ ولذلك ثبت في المستدرك الجزء الرابع صفحة ثلاثين وثلاثمائة، من رواية شداد بن أوس ، والحديث رواه الإمام أحمد في المسند، والإمام ابن ماجه في السنن، وقد صحح الحديث الإمام الحاكم لكن تعقبه الإمام الذهبي فقال: فيه عبد الواحد بن زيد وهو متروك، وهكذا تعقبه الإمام المنذري في الترغيب والترهيب في الجزء الأول صفحة واحدة وسبعين، فبعد أن نقل تصحيح الحاكم للحديث قال: قلت بل ضعيف، هذا الحديث ضعيف وليس بصحيح، وهكذا تعقبه الإمام العراقي في تخريج أحاديث الإحياء في الجزء الثالث صفحة ثمان وستين ومائتين، ولفظ الحديث من رواية عبادة بن نسي التابعي رضي الله عنه وأرضاه، قال: ( دخلت على شداد بن أوس في مصلاه وهو يبكي، فقلت: أبا عبد الرحمن ما الذي يبكيك؟ قال: حديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلت: وما هو؟ قال: بينما نحن مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم، إذ رأيت بوجهه أمراً ساءني -نظر إلى وجه النبي عليه الصلاة والسلام فرأى فيه الكراهية، رأى علامة الغضب، الانفعال بوجه نبينا عليه الصلاة والسلام- فقلت: بأبي وأمي أنت يا رسول الله ما الذي أرى في وجهك؟ فقال عليه الصلاة والسلام: أمراً أتخوفه على أمتي بعدي، فقال له شداد بن أوس : وما هو يا رسول الله؟ فقال نبينا عليه الصلاة والسلام: الشرك والشهوة الخفية، فقلت: يا رسول الله أتشرك أمتك من بعدك؟ فقال عليه الصلاة والسلام: أما إنهم لا يعبدون شمساً ولا قمراً، ولا وثناً ولا حجراً، ولكن يراءون الناس بأعمالهم، قلت: يا رسول الله الرياء شرك؟ قال: نعم، قلت: وما الشهوة الخفية؟ -هذا محل الشاهد في بيان الشهوة الخفية- في قوله: إن أخوف ما أخاف على أمتي الزنا والشهوة الخفية، قال: يصبح أحدكم صائماً، فتعرض له شهوة من شهوات الدنيا فيفطر )، أي: يصبح أحدكم في طاعة من الطاعات، ثم يطرأ عليه حظ النفس في الحياة فيلغي العبادة، ويجعل حظ النفس شهوة خفية ورعونة في النفس البشرية، فخشي علينا نبينا عليه الصلاة والسلام من هذين الأمرين: الشرك، والشهوة الخفية، الشرك هو الريا، والشهوة الخفية أن يقدم الإنسان حظ نفسه على طاعة ربه سبحانه وتعالى.

ترجمة عبد الواحد بن زيد

عبد الواحد بن زيد -إخوتي الكرام- توفي بعد خمسين ومائة من الهجرة، قيل عاش إلى سنة سبعين ومائة واستبعد ذلك الإمام الذهبي في السير، انظروا ترجمته في الجزء السابع صفحة ثمان وسبعين ومائة، وليست له رواية في الكتب الستة، والآفة التي فيه من حفظه لا من ديانته رضي الله عنه وأرضاه، قال عنه الإمام الذهبي في السير: هو الزاهد القدوة شيخ العباد، ثم نقل عن الإمام ابن حبان عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا الرحمن أنه رجل صالح لكن تفرغ للعبادة فكان يفحش خطؤه فيغلط، ولذلك حكم عليه أئمتنا بالترك لعدم قبول الرواية لفحش غلطه وكثرة خطئه، وانظروا ترجمته الطويلة كذلك في حلية الأولياء في الجزء السادس صفحة ثلاث وستين، وقد بقي أربعين سنة يصلي الصبح بوضوء العشاء، وذكر الإمام ابن تيمية له كرامة في الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، وهي موجودة ضمن مجموع الفتاوى في الجزء الحادي عشر صفحة اثنتين وثمانين ومائتين، والقصة في الحلية، وهي أنه أصيب بالفالج -وهو الشلل- رضي الله عنه وأرضاه، فسأل ربه أن يطلق أعضاءه وقت الوضوء والصلاة، فإذا أراد أن يتوضأ تعود إليه صحته وعافيته ويتوضأ وضوء كاملاً ثم يصلي، فإذا انتهى من هاتين العبادتين يعود إليه الفالج والشلل، وقد يقول قائل: إذا كان العبد الصالح عبد الواحد بن زيد عند الله بهذه المنزلة، فهلا سأل ربه أن يذهب عنه ما به بالكلية، يعني في هذين الوقتين وفي غيرهما من الأوقات، والجواب: أحب الأمرين إلى الصالحين أحبهما إلى رب العالمين، فهو قدر عليه من الله يرى أنه من المطهرات ومما يرفع له به الدرجات، وأن الصبر عليه يعني المثوبة، لكن مع ذلك يريد أن يؤدي العبادة على وجه التمام والكمال، يقول: ربي أطلق أعضائي -فقط- عند الوضوء والصلاة؛ لأتلذذ بخدمتك على وجه التمام والكمال، فلا يكون عندي نقص يجعلني لا أستطيع القيام ولا أستطيع السجود على التمام، فيبقى في الخدمة شيء من القصور والتقصير وإن كان بغير اختياري، وقد قال صلى الله عليه وسلم: ( إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره ) وعبد الواحد بن زيد كان في البصرة، والإمام ابن تيمية عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا في الجزء الحادي عشر من الفتاوى في الجزء العاشر في السلوك والتصوف عندما بحث في فرقة الصوفية يقول عنه: أول من بنا داراً للصوفية في البصرة عبد الواحد بن زيد ، فكان يجتمع بهم واجتماعه في الأمر الأول لمحاكمة نفوسهم وذكر ربهم سبحانه وتعالى، ولم يحصل عندهم مراسيم البدع ومن باب أولى الزندقة التي وجدت بعد ذلك فيمن ينتسب إلى التصوف، فكانوا يجتهدون في العبادة، وضرب بهم المثل حتى في العصر الأول، فكان يقال: عبادة بصرية وفقه كوفي، أي: كما اجتهد إخوانهم من أهل الكوفة في الفقه والاستنباط والنظر وبرعوا في القياس، فهؤلاء اجتهدوا في ذكر الله وطاعته، وبرعوا في ذلك وصار جل وقتهم في ذلك، فلا يضيع ربنا أجر من أحسن عملاً سبحانه وتعالى.

ثم بعد أن ذكر الإمام الذهبي لـعبد الواحد بن زيد -عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا- ذكر بعض الملاحظات مع أنه نفى عنه تهمة الاعتزال التي كانت تعج بها البصرة، قال: لكن كان يتوقف في نسبة الإضلال إلى الله، فيقول: لا يجوز أن نقول: إن الله يضل أحداً، لكن يثبت الكسب على خلاف قول المعتزلة قال: وهذه بدعة لا شك؛ لأن الله جل وعلا يضل من يشاء ويهدي من يشاء، قال ربنا جل وعلا في سورة النحل: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [النحل:93]، سبحانه وتعالى هو الهادي، لا إله غيره ولا رب سواه، وأئمتنا عندما بحثوا في أنواع الهدايات كما تقدم معنا في محاضرات التفسير، وذكرنا في آخر محاضرة أنواع الهدايات، وهي نوعان في الأصل، ولكل نوع قسمان:

الأولى: هداية عامة كما تقدم معنا، وهي هداية كل مخلوق لما ركب فيه من استعدادات كما في قوله تعالى: قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى [طه:50]، سواء كان من الإنس أو الجن أو الحيوان كالنمل والنحل وغير ذلك فتتصرف حسبما ألهمها الله جل وعلا، وحسبما جعلها مستعدة له، وحسبما هداها ربنا الآمر.

والثانية: هداية إيضاح للحق بإذن الله جل وعلا، فأنزل الكتب وأرسل الرسل ليقيم على الناس الحجة والبينة، وليهديهم إلى صراط مستقيم.

قلت: هذان النوعان يدخلان تحت قسم واحد ألا وهو هداية الإرشاد والبيان، والقسم الثاني هداية التوفيق والامتنان، وهي الأرفع شأناً، كما أنها نوعان:

النوع الأول: أن يلهم الله من رضي عنهم وأنعم عليهم بفعل الطاعات وترك المنكرات، اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6]، بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [الحجرات:17].

والنوع الثاني: وهي الهداية التي هي أكمل من الأولى حين يهديهم في عرصات الموقف إلى دخول الجنة: وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ [محمد:6]، إذاً هو الذي يهدي سبحانه وتعالى، هدى من شاء من عباد كرماً وفضلا، وخذل من شاء علماً وعدلا، فـعبد الواحد بن زيد يقول: عن هذه أنها بدعة، وقد ذكر الإمام الذهبي هذا فقال: وبالجملة فـعبد الواحد بن زيد من كبار العباد والكمال عزيز، أي: له شأن لكن لا يسلم بشر من خطأ وتقصير.

دفاع عن الحارث المحاسبي

العبد الصالح الحارث المحاسبي تقدم معنا ذكره، وقد كنت استدليت بكلام له أحلى من العسل وأصفى من الذهب، وهو قوله: شرع الله لعقولنا كالشمس لأعيننا، ذكرت هذا في بعض مواعظ الجمعة وقلت هذا القول حق كما قاله أئمتنا عن هذا العبد الصالح الحارث المحاسبي ، وهو كلام الإمام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم والإمام ابن أبي العز في شرح الطحاوية، وهو كلام لآخرين كـابن الجوزي في تلبيس إبليس، فهم يكررون هذا القول المحكم: شرع الله لعقولنا كالشمس لأعيننا، فكما أن الأعين لا ترى بدون شمس، فالعقول لا تهتدي بدون وحي لكن علق بعض المشوشين على هذا الكلام فقال: الحارث المحاسبي هذا من أئمة البدع والضلالة وأنت تستدل بكلامه؟ وأنا حقيقة لا أدري ماذا يوجد في هذا الكلام من الخلل أو الزلل وهذا السؤال يتضمن أمرين: أولاً: اتهام هذا العبد الصالح بالبدعة، ولا يتهمه بذلك في هذا الوقت إلا من كان خبيثاً، انظروا ترجمته في تقريب التهذيب، صحيح أنه ليس له رواية في الكتب الستة، لكن هناك راو غيره اسمه الحارث بن أسد ، فرَّق بينهما الإمام ابن حجر في التقريب، فقال عن الحارث بن أسد المحاسبي : مقبول، والمقبول كما لا يخفى عليكم ديانته ثابتة لا خدش فيها، إنما الكلام في ضبطه ينبغي أن يتعزز وأن يتابع فقط، ثم كتبت ونزلت له رواية في الكتب الستة، ثم إنك لو نظرت في حاله فإنه كان يقول لأبيه: طلق أمي فإنها على دين وأنت على دين آخر؛ لأن أباه كان من الواقفة الذين لا يقولون: إن القرآن مخلوق ولا يقول إنه غير مخلوق، فإذا كان هذا حاله مع الواقفة فكيف سيكون حاله فيمن قال إن القرآن مخلوق؟! ولذلك أئمتنا يقولون: رد على المعتزلة وعلى أهل البدع وعلى الرافضة فألف كتباً في ذلك، نعم، سلك طريق النسك، وهذا أمر لا يوجد عليه ملاحظة.

إخوتي من الذي يسلم من الملاحظات؟ ولو أحصى إنسان علينا ما نفعله كل يوم في حياتنا لملأ دفتراً كبيرا من التخبطات التي تجري منا في كل يوم.

قال في التقريب الحارث المحاسبي مات سنة ثلاث وأربعين بعد المائتين، وميز بينه وبين الراوي الذي قبله، واسمه الحارث بن أسد ، فهو الزاهد المشهور صاحب التصانيف وهو مقبول، والمقبول كما قلت روايته تقبل عند المتابعة على اصطلاح الحافظ ابن حجر ، لكن ديانته لا ينال فيها، وأنا أعجب ممن يدعي بعد ذلك في هذا الوقت أنه محدث ديار كذا، هذا محدث الديار اليمنية، وهذا محدث الديار الشامية، وخذ ما شئت من المصطلحات، ولا يعلم ماذا يوجد في التقريب، يعني محدث الديار اليمنية لا يعرف ماذا يوجد في تقريب التهذيب، رحمة الله على الإمام الذهبي عندما يقول عن علم الحديث: ليبكه من كان باكياً، ما في التقريب لا تعلمه، وأنت تقول جرح وتعديل ألا تتقي الله، أليس هذا كتاب الجرح والتعديل؟!

حقيقة أنا سمعت الكلام وقلت: سبحانك ربي صار الإنسان إذا نقل كلاماً عن الحارث المحاسبي أو عبد الله بن زيد يعمل عليه محاضرة، لذلك فصلت ما يتعلق بشيء من حالهم، حتى ما يأتي أحد ويقول: كيف تستدل بكلام عبد الواحد بن زيد وهذا أول من بنى داراً للصوفية، أي هذا الآن أشد من الحارث المحاسبي .

إخوتي الكرام عبد الواحد بن زيد من رجال الإسناد، ويأتي معنا كما قلت في المستدرك، وروى له كما قلت الإمام أحمد .

حديث شداد بن أوس في بيان المراد بالشهوة الخفية من طريق أخرى عند ابن ماجه

أما رواية الإمام ابن ماجه عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا للحديث فهي من غير طريق عبد الواحد بن زيد ، وهي في السنن في الجزء الثاني صفحة ستٍ بعد الأربعمائة والألف في كتاب الزهد له باب في الرياء والسمعة، وقد أشار إليه الإمام المنذري في الترغيب والترهيب في الجزء الأول صفحة واحدة وسبعين فقال: ورواه ابن ماجه مختصراً من رواية رواد بن الجراح ، عن عامر بن عبد الله ، عن الحسن بن ذكوان ، عن عبادة بن نسي ، عن شداد رضي الله عنهم أجمعين قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن أخوف ما أخاف على أمتي الإشراك بالله، أما إني لست أقول يعبدون شمساً ولا قمراً ولا وثناً، ولكن أعمالاً لغير الله وشهوة خفية ).

قال الإمام المنذري عليه رحمة الله: عامر بن عبد الله لا يعرف، نعم، حكم عليه الحافظ في التقريب بأنه مجهول، ورمز له (ق) أي انفرد الإمام ابن ماجه بالإخراج له.

أما رواد إخوتي الكرام! فهو رواد بن الجراح العسقلاني ، تكلم عليه الإمام المنذري في آخر كتابه الترغيب والترهيب في الجزء الرابع صفحة سبعين وخمس مائة فقال: قال عنه الدارقطني : متروك، وقال ابن عدي : عامة ما يرويه لا يتابعه عليه الناس، وقال النسائي : ليس بقوي، وقال الإمام أحمد : لا بأس به صاحب سنة إلا أنه حدث عن سفيان -يعني سفيان الثوري عليهم جميعاً رحمة الله- بمناكير، ثم نقل عن ابن معين أيضاً أنه قال: إنه ثقة مأمون، وقال أيضاً: إنه لا يغلط، وإنما غلط في حديثه عن سفيان ، وقال أبو حاتم: محله الصدق وتغير حفظه، هذا ما ذكره الإمام المنذري في آخر الترغيب والترهيب، وأما الحافظ فقد ترجمه في التقريب فقال: صدوق اختلط بآخر فترك، وفي حديثه عن الثوري ضعف شديد، ثم رمز له (ق) أي انفرد الإمام ابن ماجه بالإخراج له.

وانظروا -إخوتي الكرام- أيضاً الكلام على حديث سنن ابن ماجه في مصباح الزجاجة في الجزء الثالث صفحة سبع وتسعين ومائتين، والعلم عند الله جل وعلا.

حديث أبي برزة الأسلمي في التحذير من شهوات الفروج والبطون

إخوتي الكرام! خاف علينا نبينا عليه الصلاة والسلام أن نقع في شهوات البطون والفروج.

ثبت في مسند الإمام احمد ومسند البزار والحديث رواه الطبراني في معاجمه الثلاثة، كما في المجمع في الجزء الأول صفحة ثمان وثمانين ومائة، ورواه أيضاً في المجمع في الجزء السابع صفحة ستٍ وثلاثمائة، وقال رجاله رجال الصحيح، والحديث من رواية أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إنما أخشى عليكم شهوات الغي في بطونكم وفروجكم، ومضلات الهوى )، ( إنما أخشى عليكم )، الشهوات في البطون وفي الفروج، ومضلات الهوى في العقول وفي القلوب، وهذان المرضان يجمعان سائر الآفات والآثام، شبهات وشهوات، مضلات الهوى شبهات، شهوات البطون والفروج شهوات، وكيف لا يخشى علينا نبينا صلى الله عليه وسلم من شهوة الفرج والوقوع في الزنا، وإذا وقع الإنسان فيها نزع منه الإيمان -نسأل الله العافية والسلامة من سخطه وغضبه- كما ثبت الحديث بذلك عن نبينا عليه الصلاة والسلام.

حديث: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن)

ثبت في المسند والصحيحين والسنن الأربعة من رواية سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه، والحديث رواه البيهقي في السنن الكبرى وعبد الرزاق في مصنفه، كما رواه أبو نعيم في الحلية، والخطيب في تاريخ بغداد، أنه قال صلى الله عليه وسلم: ( لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن )، وفي رواية: ( ولا ينتهب نهبة ذات شرف يمد إليها الناس أعناقهم فيما ينتهبها وهو مؤمن )، أما لفظ: ( لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن )، فهو في الستة وهو في أعلى درجات الصحة.

حديث ابن عباس في انتزاع نور الإيمان من قلب الزاني

وهذا الحديث -إخوتي الكرام- مستفيض عن نبينا عليه صلوات الله وسلامه، روي أيضاً من رواية سيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما في المسند وصحيح البخاري وسنن النسائي ومصنف عبد الرزاق، ورواه الإمام البزار أيضا والإمام الطبراني في معجمه الكبير والخطيب في تاريخ بغداد بلفظ: ( لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ).

وفي صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما موقوفاً عليه من قوله: ينزع منه نور الإيمان في الزنا، وقد علقه الإمام البخاري عن سيدنا عبد الله بن عباس ، ووصله الإمام ابن أبي شيبة في كتابه الإيمان بلفظ: كان عبد الله بن عباس رضي الله عنهما يدعو غلمانه غلاماً غلاماً، أولاده وأرقاءه، فيقول لكل واحد منهم عندما يدعوه فرداً فردا: ألا أزيدك؟ فما من عبد يزني إلا نزع منه نور الإيمان فإن شاء أن يرده الله إليه رده.

إخوتي الكرام هذا الأثر الموقوف على سيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال عنه الحافظ في الفتح: له شاهد من حديث /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 172