شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [48]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة الصالحين المصلحين، وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فقد أخبرنا نبينا صلى الله عليه وسلم أنه في آخر الزمان سيختل أمر أكثر بني الإنسان، ولا يبالي من أين أخذ أمن حلال أم من حرام، كما في المسند، ورواه البخاري في صحيحه، وفي التاريخ الكبير، ورواه النسائي ، والإمام الدارمي في سننه، والخطيب في تاريخ بغداد ، وأبو يعلى في مسنده، وبوب عليه البخاري في كتاب البيوع باب: من لم يبال من حيث كسب المال، كما في الفتح الجزء (4/296).

ولفظ الحديث من رواية سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه، عن نبينا صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يأتي على الناس زمان، لا يبالي المرء ما أخذ منه أمن الحلال أم من الحرام؟)، والسبب معروف عند كثير من الناس في هذه الأيام لأن ضابط الحرام عندهم هو: ما لا يصل إليه، أما ما يصل إليه من أي طريق شاء فهذا هو الحلال، فحالنا كحال الثعلب الذي قفز ليأكل العنب مئات المرات وما استطاع أن يصل ثم قال: حامض لا يؤكل، أنا لا أرغب فيه، بعد أن عجز، وعمل الحيل فما استطاع أن يصل، فعلل نفسه بما ذكر، وهكذا حال أكثر الناس في هذه الأيام، لا يتورع عن المال الحرام، يأخذه ويملأ به جوفه ويأكله من أي مكان جاء ولا يبالي، لكن إذا ما استطاع يقول: هذا ما استطعت له، وما وصلت إليه إذاً: فهو حرام.

وتقدم معنا أن بعض الناس عندما سقط منه شيء سأل ربه ألا يعثر عليها بعض شياطين الجن في هذه الأيام، قالوا: لم؟ قال: لأنه إذا عثر عليها فسيعمل لها طريقاً من الطرق ويأخذها وانتهى الأمر، ما دام أن المسألة فيها مكر وحيل وكيد وما أكثر هذا؛ ولذلك كان بعض شيوخنا يقول: علماء السوء لو نزل عليهم رغيف من السماء وقال: أنا حرام فلا يحل أكلي، لأضافوه على غيره، ليشتبه ثم يقولون: الأمر فيه سعة.

وأخبرنا نبينا عليه الصلاة والسلام (أن اللحم إذا نبت من السحت فالنار أولى به) فإذا نبت جسمك من السحت، فكيف ستحصن نفسك من الشيطان؟! وأنت شيطان في هذه الحالة، فهذا لا بد من وعيه، ولا بد من ضبطه.

روى الإمام أحمد في المسند الجزء الثالث، صفحة تسع وتسعين وثلاثمائة، وصفحة واحدة وعشرين وثلاثمائة، والحديث رواه البزار كما في المجمع في الجزء الخامس، صفحة سبع وأربعين ومائتين، قال الإمام الهيثمي : رجاله رجال الصحيح. وقال المنذري في الترغيب والترهيب في الجزء الثالث، صفحة خمس وتسعين ومائة: رواتهما -يعني رواة المسند والبزار- محتج بهم في الصحيح، والحديث رواه ابن حبان في صحيحه، كما في الإحسان الجزء السابع، صفحة أربع وعشرين، ورواه الحاكم في المستدرك الجزء الرابع، صفحة اثنتين وعشرين وأربعمائة، وصححه الحاكم وأقره عليه الذهبي ، ولفظ الحديث من رواية سيدنا جابر بن عبد الله رضي الله عنهما هو وأبوه صحابيان، أن نبينا صلى الله عليه وسلم قال لـكعب بن عجرة : (يا كعب بن عجرة ! أعاذك الله من إمارة السفهاء)، وفي رواية لـابن حبان : (أعيذك بالله من إمارة السفهاء. قال: وما إمارة السفهاء؟ قال: أمراء يكونون بعدي لا يهتدون بهديي، ولا يستنون بسنتي، فمن صدقهم بكذبهم، وأعانهم على ظلمهم، فأولئك ليسوا مني ولست منهم، ولا يردون علي حوضي، ومن لم يصدقهم بكذبهم ولم يعنهم على ظلمهم فأولئك مني وأنا منهم، وسيردون علي حوضي. يا كعب بن عجرة ! الصيام جنة، والصدقة تطفئ الخطيئة، والصلاة قربان، أو قال: برهان. يا كعب بن عجرة ! الناس غاديان: فمبتاع نفسه فمعتقها، وبائع نفسه فموبقها، يا كعب بن عجرة ! لا يدخل الجنة لحم نبت من سحت)، زاد الحاكم في المستدرك في روايته: (لا يدخل الجنة لحم نبت من سحت أبداً، النار أولى به).

وهذا الحديث تقدم معنا وله روايات متعددة كنت ذكرتها سابقاً، فالحديث هنا روي عن جابر أنه قال لسيدنا كعب رضي الله عنه، ولكنه تقدم معنا عن كعب مباشرةً عن نفسه، هو راوي الحديث بنفسه دون أن يروى من طريق جابر أن النبي عليه الصلاة والسلام قال لـكعب بن عجرة ، ورواية كعب في سنن الترمذي ، وسنن النسائي ، وصحيح ابن حبان يقول سيدنا كعب بن عجرة رضي الله عنه: (خرج علينا النبي عليه الصلاة والسلام ونحن تسعة، خمسة وأربعة أحد العددين من العرب والآخر من العجم، فقال: اسمعوا، هل سمعتم أنه سيكون عليكم أمراء، فمن دخل عليهم وصدقهم بكذبهم وأعانهم على ظلمهم، فليس مني ولست منه، ولا يرد علي الحوض يوم القيامة، ومن لم يدخل عليهم ولم يصدقهم بكذبهم ولم يعنهم على ظلمهم فهو مني وأنا منه، وسيرد علي الحوض يوم القيامة).

والحديث بهذا المعنى: (لا يدخل الجنة لحم نبت من سحت أبداً، النار أولى به)، روي أيضاً في مستدرك الحاكم في الجزء الرابع، صفحة ست وعشرين ومائة، عن عبد الرحمن بن سمرة قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم -هناك جابر بن عبد الله يقول: قال لي كعب بن عجرة -وهنا عبد الرحمن بن سمرة يقول: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم- (أعاذك الله من أمراء يكونون بعدي. فقال عبد الرحمن بن سمرة : وما هم يا رسول الله عليه الصلاة والسلام؟ قال: من دخل عليهم فصدقهم وأعانهم على جورهم فليس مني، ولا يرد عليّ الحوض، اعلم يا عبد الرحمن أن الصيام جنة، والصلاة برهان، يا عبد الرحمن ! أبى الله أن يدخل الجنة لحماً نبت من سحت، النار أولى به).

قال الحافظ : وشاهده حديث جابر -وتقدم معنا حديث جابر وهو صحيح-، قال الحاكم: وقد روي قوله صلى الله عليه وسلم: (كل لحم نبت من سحت فالنار أولى به) عن أبي بكر ، وعمر ، ثم أورد الروايتين: رواية عن أبي بكر مرفوعة إلى نبينا عليه وآله وصحبه صلوات الله وسلامه، ورواية عن سيدنا عمر موقوفة عليه من قوله، أما رواية أبي بكر فلفظها في المستدرك بسند صحيح: (من نبت لحمه من سحت فالنار أولى به).

ورواية سيدنا أبي بكر كما رويت في المستدرك رويت في غير ذلك من دواوين السنة ، لكن بلفظ آخر فيها هذا المعنى، رواها أبو يعلى في مسنده، والبزار في مسنده، والطبراني في معجمه الأوسط، ورجال أبي يعلى ثقات، وفي بعضهم خلاف كما في المجمع في الجزء العاشر، صفحة ثلاث وتسعين ومائتين، رواه البيهقي في شعب الإيمان، وأبو نعيم في الحلية، كما في جمع الجوامع في الجزء الأول، صفحة سبع وعشرين وتسعمائة، أما رواية أبي نعيم في الحلية فستأتيكم إن شاء الله عما قريب في الجزء الأول صفحة واحدة وثلاثين في ترجمة سيدنا أبي بكر رضي الله عنه، وهو أول ترجمة بدأ بها بعد سيدنا رسول الله خير خلق الله على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه.

ولفظ روايات أبي يعلى ، والبزار ، والطبراني ، ومن معهم: (لا يدخل الجنة جسد غذي بحرام) هذه من روايات سيدنا أبي بكر ، وأما رواية أبي بكر رضي الله عنه التي في الحلية فهي: (كل جسد نبت من سحت فالنار أولى به).

قصة تقيؤ أبي بكر للطعام الذي أتاه به غلامه

وفي رواية أبي بكر في الحلية قصة طريفة في الجزء الأول، صفحة واحدة وثلاثين من رواية سيدنا زيد بن أرقم رضي الله عنه وأرضاه، قال: كان لـأبي بكر رضي الله عنه غلام يغل عليه، يغل أي: يقوم على غلته وعلى نفقته ويحضر له طعامه وهو الذي يشتغل بالكسب وتحصيل الأجرة، فكان إذا أفضى إلى سيدنا أبي بكر رضي الله عنه بطعام لا يأكل منه حتى يسأله عنه من أين؟ وكيف اكتسبه؟ يحقق معه؛ لأن هؤلاء العبيد والأرقاء لا بد من أن يُتحرى معهم خشية أن يدخلوا في أمور الحرام، وفي يوم من الأيام قدم طعاماً لسيدنا أبي بكر رضي الله عنه فأكل لقمةً، أو لقمتين، ولم يسأل هذا الغلام من أين أتى بهذا المال؟ عندها بدأ الخادم بالسؤال مستغرباً قال: كنت تسألني دائماً فعلام لم تسأل هذا اليوم؟ انظروا لتقدير الله سبحانه وتعالى، ولو أنه سأل ما أكل، لكن ليرينا الله مكانة سيدنا أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه، فقال له: كنت جائعاً، هذا اليوم أنا جائع مجهد، ولهذا لم يسأل، ثم قال له: ويحك، من أين أحضرته؟ فقال له: كنت في الجاهلية رقيت على بيت فما أعطاني أجرتي، فمررت عليهم اليوم وعندهم عرس وتغيرت الأحوال فطلبت منهم أجرتي التي كانت في الجاهلية فأعطوني أجرة الرقية التي كانت في الجاهلية، فهذه مما أكلته، أي: هذا الطعام الذي قدم لك رقية كنت عملتها في الجاهلية، فقال سيدنا أبو بكر رضي الله عنه: ويحك كدت أن تهلكني رضي الله عنه وأرضاه، ثم بدأ يتقيأ، هي لقمة أو لقمتان، ولقمهم ليست كلقمنا أيضاً، وماذا سينتفع من لقمة كبيرة، أو لقمتين؟! ثم كيف سيخرجها وهو جائع، وقد ثبتت في أصل معدته، فلا تخرج منها إلا بجهد جهيد؟! فقيل له: لا يمكن أن تخرج يا خليفة رسول الله عليه الصلاة والسلام إلا بماء فأحضر طستاً من ماء وبدأ يشرب ويشرب ويتقيأ حتى خرجت، فقال الغلام له: كدت أن تهلك نفسك، قال: والله لو لم تخرج حتى تخرج نفسي لأخرجت نفسي حتى تخرج، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (كل جسد نبت من سحت فالنار أولى به).

قال أبو نعيم بعد أن روى هذا الحديث: ورواه عبد الرحمن بن القاسم ، عن أبيه القاسم ، عن أمنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها وهي عمته، ورواه المنكدر بن محمد بن المنكدر ، عن أبيه، عن جابر نحوه، وفيها هذا المعنى تقيأ أبو بكر وذكر هذا الحديث.

أما رواية أمنا عائشة فقد رواها البخاري في صحيحه، وأن سيدنا أبا بكر تقيأ عندما أكل من خراج غلامه، وكان في خراجه هذا الدنس، هذا ثابت في صحيح البخاري كما في فتح الباري الجزء السابع، صفحة تسع وأربعين ومائة، في كتاب مناقب الأنصار في أيام الجاهلية.

عن القاسم بن محمد ، عن أمنا عائشة رضي الله عنها قالت: كان لـأبي بكر غلام يخرج له الخوارج، وكان أبو بكر رضي الله عنه يأكل من خراجه، فجاء يوماً بشيء فأكل منه أبو بكر ، فقال له الغلام: أتدري ما هذا؟ فقال أبو بكر : وما هو؟ قال: كنت تكهنت -وهناك رقيت- لإنسان في الجاهلية، وما أحسن الكهانة، إلا أني خدعته وأعطاني بذلك، فهذا الذي أكلت منه، فأدخل أبو بكر رضي الله عنه يده فقاء كل شيء في بطنه.

قال الحافظ في شرح الأثر في صفحة أربع وخمسين ومائة: كان لـأبي بكر غلام لم أقف على اسمه، وفي قصة ذكرها عبد الرزاق بإسناد صحيح، يقول: وقع له مع النعيمان بن عمرو وليس مع غلام الخراج، والحافظ اقتصر على بعض الرواية، في المصنف في الجزء الحادي عشر صفحة تسع ومائتين، من طريق محمد بن سيرين أنهم نزلوا بماء فجعل النعيمان بن عمرو يتكهن لهم ويقول: يكون كذا وكذا، فيأتونه بالطعام وباللبن، فيرسله إلى أصحابه، فبلغ أبا بكر رضي الله عنه وكان معهم في هذه السفرة والنعيمان بن عمرو يقول لهم: يكون كذا وكذا، يقع عليكم كذا وكذا، تحصلون كذا وكذا، وهم يعطونه أجرة، وهو من الصحابة رضي الله عنه، فأعطوه هذه الأجرة فأرسلها إلى الصحابة وفيها اللبن والطعام فأكلوه، فأخبر أبو بكر رضي الله بذلك، فقال: ما أراني آكل كهانة النعيمان منذ اليوم، ثم أدخل يده في حلقه فاستقاءه، وفي رواية المصنف ينقلها الحافظ ابن حجر : فقيل لـأبي بكر : تعلم ما هذا؟ إن هذا ما تكهن به النعيمان يخط في الأرض خطوطاً من أجل أن يلهمهم أنه يعلم أشياء من الغيب بواسطة هذه الخطوط يخط أو يتكهن، فقال: ما أراني كنت آكل من كهانة النعيمان منذ اليوم، ثم أدخل يده في حلقه فاستقاءه.

قال الحافظ في الفتح: وفي الورع للإمام أحمد ، صفحة خمسين عن إسماعيل ، عن أيوب ، عن ابن سيرين ، قال: لم أعلم أحداً استقاء من طعام غير أبي بكر ، فإنه أتي بطعام رضي الله عنه وأرضاه فأكل ثم قيل له: جاء به ابن النعيمان قال: أطعمتموني كهانة ابن النعيمان ، ثم استقاءه، ورجاله ثقات لكنه مرسل، وأما هنا فقد تقدم معنا أنه ثابت بإسناد صحيح.

ولـأبي بكر قصة أخرى بنحو هذا، أخرجها يعقوب بن شيبة في مسنده -وليس عندي مسند يعقوب بن شيبة - من طريق نبيح العنزي عن أبي سعيد الخدري قال: كنا ننزل رفاقاً فنزلت في رفقة فيها أبو بكر على أهل أبيات فيهن امرأة حبلى ومعنا رجل فقال لها: أبشرك أن تلدي ذكراً، والذي يبدو لي أن قوله: أبشرك أن تلدي ذكراً هذا غلط، ولعل الصواب: أيسرك أن تلدي ذكراً؟ لأنها بعد ذلك قالت: نعم، فسجع لها أسجاعاً فأعطته شاةً فذبحها وجلسنا نأكل، فلما علم أبو بكر رضي الله عنه بالقصة قام فتقيأ كل شيء أكله.

أما أثر سيدنا عمر، فرواه الحاكم في المستدرك كما قاله هناك: وقد روي عن أبي بكر ، وعمر ، وأثر أبي بكر رواه مرفوعاً، وأثر سيدنا عمر رضي الله عنه رواه في المستدرك بلفظ (من نبت لحمه من سحت فإلى النار).

فلا بد من الاحتراز لا سيما إذا كان عندك سرية أو خادم ولا يعرفان أمور الحلال من الحرام، فلا بد من مراقبته وضبطه، والانتباه له خشية أن يأتيك بحرام وأنت لا تدري فيظلم القلب؛ لذلك روي عن سيدنا حذيفة رضي الله عنه كما في معجم الطبراني الأوسط، والأثر في المجمع في الجزء العاشر، صفحة ثلاث وتسعين ومائتين، عن نبينا عليه الصلاة والسلام.

وروي عن سيدنا حذيفة أيضاً من رواية أيوب بن سويد ، عن سفيان الثوري .

قال الإمام الهيثمي : رواية أيوب بن سويد ، عن سفيان الثوري مستقلة، لكن في الإسناد إبراهيم بن خلف الرمضي لم أعرفه، وبقية رجاله رجال الصحيح.

ولفظها تقدم معنا (لا يدخل الجنة لحم نبت من سحت، النار أولى به)، أما رواية حذيفة التي هي من قوله، وتتعلق بخراج الأرقاء والأجراء فرواها أبو نعيم في الحلية في الجزء الأول، صفحة واحدة وثمانين ومائتين، وهي في جمع الجوامع في الجزء الأول، صفحة اثنتين وثلاثمائة، أن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما خطب بالمدائن فقال وكان أميراً على بلاد المدائن: أيها الناس! تعاهدوا ضرائب غلمانكم، يعني: ما تضعونه من خراج على الغلمان، والمعنى: أن الغلام يأتي بكذا في كل يوم، فتعاهدوا ومن أين يأتي بهذا المال، تعاهدوا ضرائب غلمانكم، إن كانت من حلال فكلوها، وإن كانت من غير ذلك فارفضوها، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إنه لن يدخل لحم نبت من سحت الجنة، إنما النار أولى به).

وروي بهذا المعنى من رواية سيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، رواه الطبراني في معجمه الكبير كما في المجمع في الجزء العاشر، صفحة ثلاث وتسعين ومائتين، وهو في جمع الجوامع في الجزء الأول، صفحة سبع وعشرين وتسعمائة، ولفظ حديث سيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يدخل الجنة لحم نبت من سحت).

وفي إسناد الحديث حسين بن قيس يلقب بـحنش ، قال الهيثمي : متروك، وبذلك حكم عليه الحافظ في التقريب ورمز له (ت) أي: أخرج له الترمذي و(ق) أي أخرج له ابن ماجه ، وقال الإمام الذهبي في المغني: ضعفوه، والرواية وإن كانت ضعيفة كرواية سيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، لكن المعنى ثابت صحيح وتقدم معنا من رواية أبي هريرة ومن رواية جابر ، ومن رواية عبد الرحمن بن سمرة ، ومن رواية سيدنا أبي بكر ومن رواية حذيفة ، وهو من رواية سيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنهم أجمعين، والحديث مستفيض، وهو بين المتواتر والمشهور، وإن كانت هذه الرواية فيها ما فيها.

وفي رواية أبي بكر في الحلية قصة طريفة في الجزء الأول، صفحة واحدة وثلاثين من رواية سيدنا زيد بن أرقم رضي الله عنه وأرضاه، قال: كان لـأبي بكر رضي الله عنه غلام يغل عليه، يغل أي: يقوم على غلته وعلى نفقته ويحضر له طعامه وهو الذي يشتغل بالكسب وتحصيل الأجرة، فكان إذا أفضى إلى سيدنا أبي بكر رضي الله عنه بطعام لا يأكل منه حتى يسأله عنه من أين؟ وكيف اكتسبه؟ يحقق معه؛ لأن هؤلاء العبيد والأرقاء لا بد من أن يُتحرى معهم خشية أن يدخلوا في أمور الحرام، وفي يوم من الأيام قدم طعاماً لسيدنا أبي بكر رضي الله عنه فأكل لقمةً، أو لقمتين، ولم يسأل هذا الغلام من أين أتى بهذا المال؟ عندها بدأ الخادم بالسؤال مستغرباً قال: كنت تسألني دائماً فعلام لم تسأل هذا اليوم؟ انظروا لتقدير الله سبحانه وتعالى، ولو أنه سأل ما أكل، لكن ليرينا الله مكانة سيدنا أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه، فقال له: كنت جائعاً، هذا اليوم أنا جائع مجهد، ولهذا لم يسأل، ثم قال له: ويحك، من أين أحضرته؟ فقال له: كنت في الجاهلية رقيت على بيت فما أعطاني أجرتي، فمررت عليهم اليوم وعندهم عرس وتغيرت الأحوال فطلبت منهم أجرتي التي كانت في الجاهلية فأعطوني أجرة الرقية التي كانت في الجاهلية، فهذه مما أكلته، أي: هذا الطعام الذي قدم لك رقية كنت عملتها في الجاهلية، فقال سيدنا أبو بكر رضي الله عنه: ويحك كدت أن تهلكني رضي الله عنه وأرضاه، ثم بدأ يتقيأ، هي لقمة أو لقمتان، ولقمهم ليست كلقمنا أيضاً، وماذا سينتفع من لقمة كبيرة، أو لقمتين؟! ثم كيف سيخرجها وهو جائع، وقد ثبتت في أصل معدته، فلا تخرج منها إلا بجهد جهيد؟! فقيل له: لا يمكن أن تخرج يا خليفة رسول الله عليه الصلاة والسلام إلا بماء فأحضر طستاً من ماء وبدأ يشرب ويشرب ويتقيأ حتى خرجت، فقال الغلام له: كدت أن تهلك نفسك، قال: والله لو لم تخرج حتى تخرج نفسي لأخرجت نفسي حتى تخرج، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (كل جسد نبت من سحت فالنار أولى به).

قال أبو نعيم بعد أن روى هذا الحديث: ورواه عبد الرحمن بن القاسم ، عن أبيه القاسم ، عن أمنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها وهي عمته، ورواه المنكدر بن محمد بن المنكدر ، عن أبيه، عن جابر نحوه، وفيها هذا المعنى تقيأ أبو بكر وذكر هذا الحديث.

أما رواية أمنا عائشة فقد رواها البخاري في صحيحه، وأن سيدنا أبا بكر تقيأ عندما أكل من خراج غلامه، وكان في خراجه هذا الدنس، هذا ثابت في صحيح البخاري كما في فتح الباري الجزء السابع، صفحة تسع وأربعين ومائة، في كتاب مناقب الأنصار في أيام الجاهلية.

عن القاسم بن محمد ، عن أمنا عائشة رضي الله عنها قالت: كان لـأبي بكر غلام يخرج له الخوارج، وكان أبو بكر رضي الله عنه يأكل من خراجه، فجاء يوماً بشيء فأكل منه أبو بكر ، فقال له الغلام: أتدري ما هذا؟ فقال أبو بكر : وما هو؟ قال: كنت تكهنت -وهناك رقيت- لإنسان في الجاهلية، وما أحسن الكهانة، إلا أني خدعته وأعطاني بذلك، فهذا الذي أكلت منه، فأدخل أبو بكر رضي الله عنه يده فقاء كل شيء في بطنه.

قال الحافظ في شرح الأثر في صفحة أربع وخمسين ومائة: كان لـأبي بكر غلام لم أقف على اسمه، وفي قصة ذكرها عبد الرزاق بإسناد صحيح، يقول: وقع له مع النعيمان بن عمرو وليس مع غلام الخراج، والحافظ اقتصر على بعض الرواية، في المصنف في الجزء الحادي عشر صفحة تسع ومائتين، من طريق محمد بن سيرين أنهم نزلوا بماء فجعل النعيمان بن عمرو يتكهن لهم ويقول: يكون كذا وكذا، فيأتونه بالطعام وباللبن، فيرسله إلى أصحابه، فبلغ أبا بكر رضي الله عنه وكان معهم في هذه السفرة والنعيمان بن عمرو يقول لهم: يكون كذا وكذا، يقع عليكم كذا وكذا، تحصلون كذا وكذا، وهم يعطونه أجرة، وهو من الصحابة رضي الله عنه، فأعطوه هذه الأجرة فأرسلها إلى الصحابة وفيها اللبن والطعام فأكلوه، فأخبر أبو بكر رضي الله بذلك، فقال: ما أراني آكل كهانة النعيمان منذ اليوم، ثم أدخل يده في حلقه فاستقاءه، وفي رواية المصنف ينقلها الحافظ ابن حجر : فقيل لـأبي بكر : تعلم ما هذا؟ إن هذا ما تكهن به النعيمان يخط في الأرض خطوطاً من أجل أن يلهمهم أنه يعلم أشياء من الغيب بواسطة هذه الخطوط يخط أو يتكهن، فقال: ما أراني كنت آكل من كهانة النعيمان منذ اليوم، ثم أدخل يده في حلقه فاستقاءه.

قال الحافظ في الفتح: وفي الورع للإمام أحمد ، صفحة خمسين عن إسماعيل ، عن أيوب ، عن ابن سيرين ، قال: لم أعلم أحداً استقاء من طعام غير أبي بكر ، فإنه أتي بطعام رضي الله عنه وأرضاه فأكل ثم قيل له: جاء به ابن النعيمان قال: أطعمتموني كهانة ابن النعيمان ، ثم استقاءه، ورجاله ثقات لكنه مرسل، وأما هنا فقد تقدم معنا أنه ثابت بإسناد صحيح.

ولـأبي بكر قصة أخرى بنحو هذا، أخرجها يعقوب بن شيبة في مسنده -وليس عندي مسند يعقوب بن شيبة - من طريق نبيح العنزي عن أبي سعيد الخدري قال: كنا ننزل رفاقاً فنزلت في رفقة فيها أبو بكر على أهل أبيات فيهن امرأة حبلى ومعنا رجل فقال لها: أبشرك أن تلدي ذكراً، والذي يبدو لي أن قوله: أبشرك أن تلدي ذكراً هذا غلط، ولعل الصواب: أيسرك أن تلدي ذكراً؟ لأنها بعد ذلك قالت: نعم، فسجع لها أسجاعاً فأعطته شاةً فذبحها وجلسنا نأكل، فلما علم أبو بكر رضي الله عنه بالقصة قام فتقيأ كل شيء أكله.

أما أثر سيدنا عمر، فرواه الحاكم في المستدرك كما قاله هناك: وقد روي عن أبي بكر ، وعمر ، وأثر أبي بكر رواه مرفوعاً، وأثر سيدنا عمر رضي الله عنه رواه في المستدرك بلفظ (من نبت لحمه من سحت فإلى النار).

فلا بد من الاحتراز لا سيما إذا كان عندك سرية أو خادم ولا يعرفان أمور الحلال من الحرام، فلا بد من مراقبته وضبطه، والانتباه له خشية أن يأتيك بحرام وأنت لا تدري فيظلم القلب؛ لذلك روي عن سيدنا حذيفة رضي الله عنه كما في معجم الطبراني الأوسط، والأثر في المجمع في الجزء العاشر، صفحة ثلاث وتسعين ومائتين، عن نبينا عليه الصلاة والسلام.

وروي عن سيدنا حذيفة أيضاً من رواية أيوب بن سويد ، عن سفيان الثوري .

قال الإمام الهيثمي : رواية أيوب بن سويد ، عن سفيان الثوري مستقلة، لكن في الإسناد إبراهيم بن خلف الرمضي لم أعرفه، وبقية رجاله رجال الصحيح.

ولفظها تقدم معنا (لا يدخل الجنة لحم نبت من سحت، النار أولى به)، أما رواية حذيفة التي هي من قوله، وتتعلق بخراج الأرقاء والأجراء فرواها أبو نعيم في الحلية في الجزء الأول، صفحة واحدة وثمانين ومائتين، وهي في جمع الجوامع في الجزء الأول، صفحة اثنتين وثلاثمائة، أن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما خطب بالمدائن فقال وكان أميراً على بلاد المدائن: أيها الناس! تعاهدوا ضرائب غلمانكم، يعني: ما تضعونه من خراج على الغلمان، والمعنى: أن الغلام يأتي بكذا في كل يوم، فتعاهدوا ومن أين يأتي بهذا المال، تعاهدوا ضرائب غلمانكم، إن كانت من حلال فكلوها، وإن كانت من غير ذلك فارفضوها، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إنه لن يدخل لحم نبت من سحت الجنة، إنما النار أولى به).

وروي بهذا المعنى من رواية سيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، رواه الطبراني في معجمه الكبير كما في المجمع في الجزء العاشر، صفحة ثلاث وتسعين ومائتين، وهو في جمع الجوامع في الجزء الأول، صفحة سبع وعشرين وتسعمائة، ولفظ حديث سيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يدخل الجنة لحم نبت من سحت).

وفي إسناد الحديث حسين بن قيس يلقب بـحنش ، قال الهيثمي : متروك، وبذلك حكم عليه الحافظ في التقريب ورمز له (ت) أي: أخرج له الترمذي و(ق) أي أخرج له ابن ماجه ، وقال الإمام الذهبي في المغني: ضعفوه، والرواية وإن كانت ضعيفة كرواية سيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، لكن المعنى ثابت صحيح وتقدم معنا من رواية أبي هريرة ومن رواية جابر ، ومن رواية عبد الرحمن بن سمرة ، ومن رواية سيدنا أبي بكر ومن رواية حذيفة ، وهو من رواية سيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنهم أجمعين، والحديث مستفيض، وهو بين المتواتر والمشهور، وإن كانت هذه الرواية فيها ما فيها.

لا بد من حفظ البطن وما وعاه، وتقدم معنا في مباحثنا السابقة ضمن مباحث سنن الترمذي عند مبحث صرع الجني للإنسي، الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ [البقرة:275] ، تقدم معنا الكلام على أكل الربا، وذكرت هناك عدة أحاديث منها:

ما ثبت في المستدرك في الجزء الثالث، صفحة سبع وثلاثين، قال الحاكم: وهو على شرط الشيخين وأقره عليه الذهبي ، ورواه البيهقي في شعب الإيمان من رواية سيدنا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، عن نبينا عليه صلوات الله وسلامه أنه قال: (الربا ثلاث وسبعون باباً، أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه، وإن أربى الربا: الاستطالة في عرض الرجل المسلم).

إذاً كانت هذه شناعة أكل الحرام، فكيف ستحصن نفسك من الشيطان إذا كنت تأكل الحرام؟ لا بد من أن تتقيَ الله، وهذا الحديث رواه الإمام ابن ماجه ، والبزار ، في رواية عبد الله بن مسعود رضي الله عنهم أجمعين دون الزيادة في آخر الحديث (أيسرها: مثل أن ينكح الرجل أمه).

والحديث روي من رواية سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه في سنن ابن ماجه ، والبيهقي في شعب الإيمان وإسناده لا بأس به كما قال المنذري في الترغيب والترهيب في الجزء الثالث، صفحة ستة، ولفظ هذه الرواية: (الربا سبعون حوباً، أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه).

وفي الأثر: (الربا اثنان وسبعون حوباً، قيل: ما حوب؟ قال: أدناها مثل أن ينكح الرجل أمه سبعين مرة)، والحديث صحيح وقوله: (اثنان وسبعون حوباً) أي: باباً من المعاصي والآثام، وما جاء في رواية عبد الله بن مسعود وأبي هريرة ثابت في رواية البراء بن عازب ، وعبد الله بن عباس ، وعبد الله بن سلام ، وعبد الله بن حنظلة غسيل الملائكة، على نبينا وعليهم أفضل الصلاة وأزكى السلام.

وفي الختام لا بد من أن نحذر الحرام؛ ولأن يدخل الإنسان جوفه التراب خير من أن يأكل الحرام، الذي فيه معصية للكريم الوهاب، كما أشار إلى ذلك نبينا عليه الصلاة والسلام.

روى الإمام أحمد في المسند الجزء الثاني، صفحة سبع وخمسين ومائتين من رواية سيدنا أبي هريرة رضي الله عنهم أجمعين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (والذي نفسي بيده لأن يأخذ أحدكم تراباً فيجعله في فيه خير له من أن يجعل في فيه ما حرم الله عليه)، قال الإمام الهيثمي في المجمع في الجزء العاشر، صفحة ثلاث وتسعين ومائتين: رجاله رجال الصحيح إلا محمد بن إسحاق وقد وثق، ومحمد بن إسحاق تقدم معنا ذكره مراراً، ولا ينزل حديثه عن درجة الحسن، فهو من رجال مسلم أخرج له متابعةً ومقروناً، ومن رجال السنن الأربعة، وأخرج له البخاري كما تقدم معنا، وما أعلم تعليقاً في الأدب المفرد، نحتاج النظر في التقريب، والتهذيب، فإن قال الحافظ: خت فيعني: البخاري تعليقاً، وإن قال: (بخ) فيعني: في الأدب المفرد، ومحمد بن إسحاق بن يسار المطلبي يقول عنه الهيثمي : وثق، ويقول عنه الحافظ: صدوق وقال عنه: رمي بالتشيع.

ومعنى قول الحافظ: رمي بالتشيع أن أمره سهل كما تقدم معنا فليس فيه لوثة من موضوع الغلاة إنما فيه زيادة ميل إلى آل البيت رضي الله عنهم أجمعين، وأما بدعة القول بالقدر فلم يصح عنه كما قال أئمتنا، وهو أعلم الناس بالمغازي والسير من رجال مسلم.

على كل حال لابد من وعي هذا، وأن نبتعد عن الحرام، أخبر مرة بعض شيوخنا وهو محمد أبو الخير زين العابدين قال: عندما كان في بلاد تركيا وهم غلمان يدرسون كان معهم أحد من الغلمان من الطلاب في سن الطلب، بقي مع الشيخ فترة في تحفيظه الفاتحة، فما استطعنا تحفيظه إياها، كل يوم يخطئ فيها، يقول: قرابة شهر وبذل معه جهداً كبيراً فما استطاع، قال: يا ولدي هذا الأمر وراءه شيء، هذا ليس بأمر طبيعي، والولد ليس فيه ما يدل على أن في عقله لوثاً أو أنه ليس بكامل الوعي، فحاله كحال الغلمان الطلاب، لكن سبحان الله قلبه مريض، فجاء والده قال: أما تتقي الله في ولدك، قال: وماذا أعمل معه؟ قال: أنت تطعمه الحرام ولا تتقي فيه الرحمن، ألا تتقي الله في ولدك، قال: أصدقك؟ قال: نعم، قال: جميع ما أحضره إلى البيت كله من الحرام، ما بين قمار، وما بين سرقة، وما بين احتيال وأنا ليس عندي مورد حلال، كلها حرام، قال: أما تتقي الله في هذا الولد، إذا كان يأكل الحرام فقلبه سيظلم إذاً، كيف سيحفظ؟ قال: هذا موردي، فقال له: طيب تترك الولد عندنا ونحن نطعمه واتركه عندنا في هذه المدرسة ليعيش، قال: كما تريد فخلصني منه، فيقول الشيخ بعد ثلاثة أيام: استنار قلبه وذهبت الظلمة، فصار هذا الولد أحفظنا، يسمع السور الأخرى يحفظها ويضبط، وصار من خيار عباد الله، نسأل الله أن يلهمنا رشدنا.