وماذا يصنع الجنيه؟
مدة
قراءة المادة :
3 دقائق
.
وماذا يصنع الجنيه؟اختارت موقعًا خطيرًا يقصدُه روَّاد محطة القطار، ويمرُّ به عدد هائل من ركاب الميكروباص الذي يربط طرفي البلدة شرقها بغربها، مكانها يدل على حسن تخطيط لنَيْل غرضها، هيئتها تنمُّ عن فقر شديد وعوز بالغ، وقفتُ غير بعيد أنظر إليها، أما هي فجلست تترقب المارة؛ فإن لاح على أحدهم علاماتُ الثراء واليسار، ألحَّت عليه في السؤال، وحاصرته بالطلب، بكلمات آسرةٍ، وعبارات مؤثرة، ولاحقته حتى يذعن ويدسُّ في الجيب يدَه، فيخرج ما تيسر، ويدفعه لها.
ومن عجب أنها تنظر لما دفع وقد ترضى فتمضيه، أو تعترض، فترمقه في سخطٍ، وتلومه بحارق النظر على دناءة العطيَّة، وكأن الرجل لم يقيِّم جهدها، أو بخسها حقَّها!
وقد يستبد بها الغضب فتلقي ما أُعطِيت على الأرض، وكأنه لا يليق بها، أو كأنه إهانة لها، أتمدُّ يدها وتريق ماء وجهها بثمن بخس؟ أتمد يدها على جنيه أو جنيهين؟ يا له من عطاء! الحرمان أليق منه، والأرضُ أولى به، فرمَتْه بلا تردد.
أما صاحب العطاء فنظرت إليه كأنما أجرم، ولم تكتفِ بحديث العيون، أو رَمْي الجنيه، فقالت: امضِ لحالك يا مسكين!
أتظن أني أمد يدي لجنيه أو جنيهين؟ وعادت تقول وتردد: "معاملة الناس صارت عجيبة! كيف وصل بهم البخل كأنما لا يرون الأسعار؟! ثم قالت: إنها قلَّة نظر!
أخذني العجب من حالها ومقالها! أين هذا مما ورد عن عائشة أنها قالت: جاءت مسكينة تحمل ابنتين لها، وأعطيتها ثلاث تمرات، فأعطَتْ كلَّ واحدة منهما تمرة، ورفعت إلى فِيها تمرة لتأكلها، فاستطعمَتْها ابنتاها، فشقَّت التمرة التي كانت تريد أن تأكلها بينهما، فأعجبتني، فذكرت الذي صنعتْ لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((إن الله تعالى أوجب لها بها الجنة، وأعتقها بها من النار)).
أعطَتْها عائشة ثلاث تمرات فقط، ولم يَرِد عنها أنها استقلَّت العطيَّة، بل شكرت من أنعم عليها، فآثرت ابنتيها؛ فأُعطيت الجنة؛ جزاء شكرها وصبرها ورحمتها، وشتَّان ما بينها وبين السائلة؛ موضوع المقال، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط، ونسأله تعالى العفو عنا وعنها.
احتقار العطاء آفة قد تكون سببًا في الفقر والحرمان، وضِيق الرزق، وهكذا تسلسلت في رأسي الأفكار، ورعبت أن يكون فينا مثل سلوك السائلة مع أعطيات الله النازلة، فنحتقر الأرزاق، ونستقل العطاء، ونرى أننا أجدرُ بالغنى، وقد وسع على غيرنا.
فما بالنا نزدري ما لدينا ويكون فعلنا كتلك السائلة؟ عيوننا لأملاك الناس ممدودة، ونعم الله علينا منسيَّة ومجحودة، فلا نستمتع بما أتيحُ، ويُذهبه الطمع كريشٍ في مهب ريح، ثم يبقى لنا الحرمان، فالغنى وجهان: القناعة، أو الوجدان، فإن لم تجد غنًى ويسارًا، فاقنع بما في اليدين؛ فالعطاء فتنة، وكذا الحرمان.
فيا أيها المحتاج، أنت ممتحَن بالحرمان، فلا تسخط فتضيع منك الآخرة، ولم تملك الدنيا!
فماذا يصنع الجنيه إن حُرمتَ منه وأخذت الجنة، لو صبرت؟
فماذا يصنع الجنيه إن حرمت منه ودخلت النار، لو جزعت؟