أرشيف المقالات

الموت حق (وقفة تأمل)

مدة قراءة المادة : 19 دقائق .
الموت حق (وقفة تأمل)
 

إن الحمد لله، نَحْمده ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شُرور أنفسنا، ومن سيِّئات أعمالنا، مَنْ يهده الله فلا مُضِلَّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، صلوات ربِّي وسلامُه عليه، وعلى آله وصَحْبه أجمعين.
 
أما بعد:
الموت حقٌّ على كل كائن حي على وَجْه البسيطة، لا مفرَّ منه ومن سكراته كائنًا من كان، حيوانًا كان، أو إنسيًّا، أو جنيًّا، وحتى الأحجار الصمَّاء ستنهار، والبحار ستنفجر، والأرض ستُزلزَل وتزول، وتُخرِج ما فيها، وتنتهي وتتبدَّل؛ قال تعالى: ﴿ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ [القصص: 88]، حتى مَنِ اصطفاهم عز وجل من أنبيائه ورُسُله من البشر لم يكتب لهم الخلود الأبدي؛ بل ماتوا ورحلوا؛ فقد مات نبيُّ الله نوح، ومات خليل الله إبراهيم، ومات كليم الله موسى، وسوف يموت روح الله عيسى قُرْبَ قيام الساعة عليهم السلام أجمعين، وحتى نبينا صلى الله عليه وسلم أحَبُّ الخَلْق إلى الله، صاحبُ المقام المحمود يوم القيامة؛ مات، وقال له تعالى: ﴿ إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ ﴾ [الزمر: 30].
 
والصحابة الكِرام أصحاب الهمَّة العالية والإيمان الراسخ كالجبال؛ كأبي بكر الصديق، والفاروق عمر بن الخطاب، ومن تستحي منه الملائكة؛ عثمان بن عفان، ومن كان للنبي بمنزلة هارون من موسى ابن عمِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ علي بن أبي طالب، وأمين الأمة أبي عبيدة بن الجراج، وسيف الله خالد بن الوليد وغيرهم من الرعيل الأول من سلفنا الصالح من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين، ومَنْ تَبِعَهم من التابعين وتابعي التابعين عليهم سحائبُ الرحمة، ماتوا جميعًا كذلك، كما مات وسيموت أهل الكُفْر والفسوق في ربوع العالمين على مرِّ الدهور والعصور؛ من أمثال أبي جهل، وأبي لهب، والوليد بن المغيرة، وقيصر، وكسرى، وغيرهم، وأشباههم قديمًا وحديثًا؛ ولكن مع الفارق بين ما ينتظره أهل الإيمان من نعيم مقيم بوَعْد من الله القائل: ﴿ وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ [التوبة: 100]، وما ينتظره أهل الظلام والكفر من عذاب أليم بوَعْد من الله القائل: ﴿ قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ ﴾ [آل عمران: 12].
 
فالموت حقٌّ حتى للملائكة المقرَّبين؛ كملك الموت نفسه عليه السلام، الكُلُّ يموت ويفنى، وكُلُّ مَنْ عليها فانٍ، ولا يبقى إلَّا الحيُّ القيوم، العزيز القهَّار؛ قال تعالى: ﴿ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ﴾ [غافر: 16]، فلا ملك إلَّا مُلكه، ولا سُلطان إلَّا سُلطانه، ولا شفاعة إلَّا له وبإذنه، كما قال تعالى: ﴿ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ ﴾ [البقرة: 255].
 
فلا عجب أن الموت هو الحقيقة التي تقف أمامها البشريةُ بغرورها وحُبِّها للحياة، إلا مَنْ رحم ربِّي عاجزةً عن الهروب منه؛ كما قال الحق جل وعلا: ﴿ أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ ﴾ [النساء: 78]، ومهما برعت قريحتُهم بكلِّ أسباب الرفاهية والغرور، فحياتهم وروحهم التي لا يعلم سِرَّها إلَّا خالقُها ومالِكُها في أجسادهم إلى حين الأجل المقدور، فيأذن بخروجها؛ قال تعالى: ﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا ﴾ [الإسراء: 85]، وأمَّا الجسد الفاني سيظلُّ جثةً لا حراكَ فيها، فمن التراب خلقَه الله، وإلى التراب يعود ﴿ مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى ﴾ [طه: 55].
 
قال السعدي رحمه الله في بيانها ما مختصره: أخبر أنه خلقنا منها، وفيها يُعيدنا إذا مِتْنا فدُفِنَّا فيها، ومنها يُخرجنا تارة أخرى، فكما أوجدنا منها من العَدَم، وقد علمنا ذلك وتحقَّقْناه، فسيُعيدنا بالبعث منها بعد موتنا؛ ليُجازينا بأعمالنا التي عملناها عليها؛ تفسير السعدي (ص/507).
 
فالموت مرحلة اللاعودة لكل شيء مخلوق، إلا في القيامة، وأنه سوف يفنى وينتهي، ولا ملجأ منه إلا إليه سبحانه وتعالى، وهذه حقيقة أبدية، لا تتغيَّر، ولا تتبدَّل، وجميعًا نعلم هذا، وعلى بصيرة به، ومن ثم ليس عجيبًا أن نسأل ونعترض تعجُّبًا من العباد؛ لغفلتهم مع إيمانهم به، وأنه حقٌّ وليس من الموت نفسه؛ فهو أمرٌ مفروغ منه.
 
فنقول: الموت حق، وبعض العباد يهرولون ويُضيِّعون حياتهم في اللهو واللعب والانشغال بالزوجات والأولاد وجَمْع المال من هنا وهناك، ونسوا أنهم في دار الغرور والمتاع الزائل الفاني؛ كما قال تعالى: ﴿ اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ ﴾ [الحديد: 20]، وهي دارٌ مسترجعة، يرزق الله فيها المؤمن والكافر بالأسباب التي جعلها لهم، وهي من قدره وحكمته؛ لأنها لا تساوي عنده عز وجل جناح بعوضة، كما قال نبيُّنا صلى الله عليه وسلم: ((لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناحَ بعوضةٍ، ما سقى كافرًا منها شربةَ ماءٍ))؛ صحيح الجامع/5292، والصحيحة برقم/943.
 
وإن شاء رزقهم بعير الأسباب بفضله وكرمه، وليس لنا من الأمر شيء، ولا مجال للاعتراض أو السؤال عن هذا الفضل والكرم؛ فهذا راجع لحكمته ومشيئته ورحمته وعلمه الذي وسِعَ كل شيء ﴿ لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ ﴾ [الأنبياء: 23].
 
فالموت حق والناس في غفلة عن ضياع العمر في القيل والقال، وإضاعة المال، وإهمال العبادة والطاعة، وهي سببُ وجودهم، والتي تُقرِّبهم من الله خالقهم ورازقهم، كما قال تعالى: ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ ﴾ [الذاريات: 56، 57].
 
وما كانت الهموم والغموم وأنواع البلايا التي تصيب بعض العباد في الدنيا إلا امتحان لمدى صبرهم وتقواهم؛ أن أفلحوا، ومن أجل إقامة الدليل والحجة على أنفسهم أن جحدوا وظلموا، وباعوا دينَهم بدُنْياهم؛ قال تعالى: ﴿ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ ﴾ [الملك: 2].
 
ولا ينجو إلَّا مَنْ رحِم ربِّي، وذكر الموت دومًا، ووضعه نصب عينيه، ويعرف من أين جاء وإلى أين يمضي، فلم يُطِعْ شيطانه ونفسه الأمَّارة بالسوء، وعمل لدارٍ أبديَّة حقيقية، فيها ما لا عين رأتْ، ولا أُذُن سمِعَتْ، ولا خطر على قلب بشَرٍ بجوار من أحبَّ سُنَّتَه، وتمسَّك بهَدْية، فكان ممَّن قال الله فيهم بإذن الله أن أفلح وصدق ﴿ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا ﴾ [النساء: 69].
 
ولهذا يوصينا نبيُّنا الكريم، فيقول لكل مسلم ومسلمة: ((أكثروا ذكر هاذم اللذات: الموت؛ فإنه لم يذكره أحدٌ في ضيق من العيش إلَّا وسَّعَه عليه، ولا ذكره في سعة، إلَّا ضيَّقها عليه))؛ صحيح الجامع برقم/1211.
 
وكما قلت الناس في غفلة إلَّا مَنْ رحِمَ ربِّي منهم، والأيام تمرُّ يومًا بعد يوم، وشهرًا بعد شهر، وسنوات تمضي سراعًا، ويقترب الأجل وهو قريب في كل وقتٍ وحين إلى أن يأذن ربُّ العباد بانتهائه، فلا مفرَّ منه، ولا ملجأ من الله إلا إليه سبحانه وتعالى.
 
وقد يظنُّ البعض ممَّن في قلبه مرض أن الموت لا يُصيب إلَّا المرضى الميئوس من شفائهم، أو مَنْ وصل إلى أرذل العمر، وغير ذلك مما يراه أهلُ الغَفْلة، مع أن الموت لا يُفرِّق عندما يحين وقته بين كبيرٍ وصغيرٍ، ولا بين خفير ووزير، ولا بين غني وفقير، ولا بين رجل وامرأة؛ بل كما قال جل وعلا: ﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ﴾ [الأنبياء: 35].
 
الموت حق..
ومن المؤلم أن يفارقنا بالموت إنسانٌ عزيزٌ على قلوبنا، نُحبُّه ونستشعر بألم الفراق به، فقد اختَفَتْ بسمتُه وضحكتُه، وضاعت كلماتُه الحلوة، ورائحتُه الطيبة، وجلساته التي أشاعَت السعادة في قلوبنا، وفرَّق بيننا وبينه هاذم اللذَّات، وفارقنا هو بروحه إلى خالقها، وبقي جسدُه جثةً لا حراك فيها، ودون إرادة منه أو اختيار، وذهب إلى غير رجعةٍ إلينا، بما جنَتْ يداه من خيرٍ أو شرٍّ، ولا حيلة لنا أمام قضاء الله إلَّا الرِّضا والتسليم، فهو خالقه يعلم سريرته وعلانيته، وهو القائل جل وعلا: ﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ * إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ * وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ ﴾ [ق: 16 - 19].
 
فمهما كان الألم في نفوسنا ونحن نرى موته رؤية عين، ونُشيِّعه لقبره، ونحن لا نملك له إلَّا الدُّعاء له جلَّ جلالُه حتى يتغمَّده برحمته، ويعفو عنه، وهو في أشدِّ الحاجة إلى رحمته، وهو أرحم الراحمين؛ لأننا بكُلِّ بساطةٍ لا نملك له، ولا لأنفسنا نَفْعًا ولا ضرًّا، ولا موتًا، ولا حياةً، ولا نشورًا.
 
وجميعًا نفتقر إلى رحمة الله تعالى الحي والميت، والغني والفقير، والمتعلِّم والجاهل، والقوي والضعيف؛ لأنه سبحانه الذي يتكفَّل بأرزاقنا وأعمارنا ومصائرنا في الدنيا، فلا رزق ألَّا رِزْقه، ولا نعيش في أرضٍ إلا أرضه، ولا نِعْمة إلَّا منه وإليه، وهو سبحانه الذي جعل لكل شيءٍ سببًا، وسخَّر لنا كلَّ ما في الكون كله لخدمتنا، وكذلك في الآخرة، لا رحمة إلَّا رحمته، ولا عَفْو إلَّا عفوه.
 
ومن الغفلة أن نعلم كل هذا، ولا نرتدع عن المحرَّمات، ولا تهاب أنفسُنا لقاء الله بالموت ونحن على معصية، إنها مصيبة تحتاج لمراجعة مع النفس قبل فوات الأوان.
 
ومن الغفلة والخطأ في حقِّ النفس أن ننتظر بلا عقل أو منطق أو ذرَّة من إيمان صادق لا وَرَعٍ زائف ما أصاب قلوبنا من حبٍّ للدُّنيا وزينتها من المال والنساء والأولاد والجاه والسلطان وغير ذلك، ونطمع في المزيد، وكل يوم لنا ميت نُشيِّعه، وننتظر دورنا على اختلافٍ بيننا في الاستعداد للقاء الله بين مؤمن وكافر وعاصٍ لربِّه، ومَنْ يُحسِن الظَّنَّ به بلا عملٍ، إلا من تاب وآمن وعمل صالحًا، كما قال تعالى: ﴿ إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا * وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا ﴾ [الفرقان: 70، 71].
 
ورحم الله من قال:






يا نفس توبي فإن الموت قد حانا
واعصي الهوى فالهوى ما زال فتَّانا


أما ترين المنايا كيف تلقطنا
لقطًا وتلحق أُخْرانا بأولانا


في كل يوم لنا ميت نُشِّيعه
نرى بمصرعه آثارَ مَوْتانا


يا نفس ما لي وللأموال أتركُها
خلفي وأخرجُ من دُنْياي عريانا؟






 
الموت حق وكل إنسان على نفسه بصيرة من أمره، وأنا لا أدري لماذا بعض الناس تحزن على ما فاتها من زينة الحياة الدنيا الفانية مع أن الآخرة خيرٌ وأبقى، وتغفل عن عبادة خالقها ورازقها، وفي ذلك نجاتهم أن عقلوا؛ قال عز وجل: ﴿ وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [التوبة: 105].
 
قال السعدي رحمه الله في بيانها؛ أي: لا بدَّ أن يتبيَّن عملكم ويتضح، ﴿ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [التوبة: 105] من خيرٍ وشرٍّ، ففي هذا التهديد والوعيد الشديد على مَنِ استمرَّ على باطله وطغيانه وغيِّه وعصيانه.

ويحتمل أن المعنى: أنكم مهما عملتم من خيرٍ أو شرٍّ، فإن الله مُطَّلِعٌ عليكم، وسيطَّلِع رسوله وعباده المؤمنين على أعمالكم ولو كانت باطنة؛ ا ه (ص/351).
 
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إنه ليس شيء يُقرِّبُكم إلى الجنة، إلَّا قد أمرتكم به، وليس شيء يُقرِّبُكم إلى النار، إلَّا قد نهيتُكم عنه، إن روح القدس نفث في روعي: إن نفسًا لا تموت حتى تستكمل رِزْقَها، فاتقوا الله، وأجملوا في الطلب، ولا يحملنَّكم استبطاء الرزق أن تطلبوه بمعاصي الله، فإن الله لا يدرك ما عنده إلَّا بطاعته))؛ السلسلة الصحيحة/2866.
 
وما أجمل قول الشاعر:






النفس تبكي على الدُّنيا وقد علمت
أن السلامة فيها ترك ما فيها


لا دار للمرء بعد الموت يسكنُها
إلا التي كان قبل الموت يبنيها


فإنْ بناها بخيرٍ طابَ مسكنُه
وإنْ بناها بشرٍّ خابَ بانيها






 
الموت حق وما زال البعض إلا من رحم ربي، من الطفولة البريئة بلا حساب وتجاوز من رحيم غفور، إلى البلوغ والشباب والقوة وسِجلُّه حافل بالمعاصي والذنوب إلى الكهولة والضعف وقلة الحيلة والأعمال في دنياهم الفانية؛ كما قال تعالى: ﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ ﴾ [الروم: 54].
 
قال ابن كثير رحمه الله: "يُنَبِّهُ تَعَالَى عَلَى تَنَقُّلِ الْإِنْسَانِ فِي أَطْوَارِ الْخَلْقِ حَالًا بَعْدَ حَالٍ، فَأَصْلُهُ مِنْ تُرَابٍ، ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ، ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ، ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ، ثُمَّ يَصِيرُ عِظَامًا ثُمَّ يُكسَى لَحْمًا، ويُنفَخ فِيهِ الرُّوحُ، ثُمَّ يَخْرُجُ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ ضَعِيفًا نَحِيفًا وَاهِنَ الْقُوَى، ثُمَّ يَشِبُّ قَلِيلًا قَلِيلًا حَتَّى يَكُونَ صَغِيرًا، ثُمَّ حَدَثًا، ثُمَّ مُرَاهِقًا، ثُمَّ شَابًّا، وَهُوَ الْقُوَّةُ بَعْدَ الضَّعْفِ، ثُمَّ يَشْرَعُ فِي النَّقْصِ فَيَكْتَهِلُ، ثُمَّ يَشِيخُ، ثُمَّ يَهْرَمُ، وَهُوَ الضَّعْفُ بَعْدَ الْقُوَّةِ، فَتَضْعُفُ الْهِمَّةُ وَالْحَرَكَةُ وَالْبَطْشُ، وَتَشِيبُ اللَّمَّة، وَتَتَغَيَّرُ الصِّفَاتُ الظَّاهِرَةُ وَالْبَاطِنَةُ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ﴾؛ أَيْ: يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ، وَيَتَصَرَّفُ فِي عَبِيدِهِ بِمَا يُرِيدُ، ﴿ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ ﴾؛ ا هـ، تفسير ابن كثير (6 /327).
 
فكل هذا العمر الضائع ونحن على يقين بالموت، وأنه حقٌّ لا ريب فيه، والدفن في التراب، في باطن الأرض مسكنًا لنا، ولا مندوحة منه، وكل منَّا بلا أنيسٍ، ولا جليسٍ إلَّا عمله الصالح، وغيرها من الأعمال والأقوال في كتابٍ، لا يضِلُّ ربِّي، ولا ينسى، لا يُغادر صغيرةً ولا كبيرةً؛ قال تعالى: ﴿ وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا ﴾ [الكهف: 49].
 
♦ وعَنْ عَائِشَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((مَنْ نُوقِشَ الحِسَاب عُذِّبَ))، قَالَتْ: قُلْتُ: أَلَيْسَ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا ﴾ [الانشقاق: 8]، قَالَ: ((ذَلِكِ العَرْضُ))؛ البخاري برقم/ 6536.
 
الموت حق، وبعض الناس تستكثر زيارة القبور، والجلوس والتطويل ليس من سُنَّته صلى الله عليه وسلم، فقد كان إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه وقال: ((استغفروا لأخيكم، فإنه الآن يُسأل))، ولم يكن يدعو بهم دعاءً جماعيًّا كما يفعل البعض منَّا عند القبر؛ بل كل إنسان يدعو منفردًا له بما شاء، وأخذ العبرة بين أهل القبور من الأموات من السُّنَّة؛ فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((كنتُ نهيتُكم عن زيارة القبور، ألا فزوروها؛ فإنها ترق القلب، وتُدمِع العين، وتُذكِّر الآخرة، ولا تقولوا هجرًا))؛ صحيح الجامع/4584؛ ولكن البعض يضحك ويعود إلى سابق عهده بالدنيا، وكأنَّ شيئًا لم يكن، ولا يخفى على أولي الألباب والعقول أن من شيَّع ميِّتًا لقبره محمولًا على الأعناق، وهو يسير على قدميه، يعلم يقينًا أنه كما حَمل سيُحمَل هو على الأعناق لقبره، وأنه لن يدخل معه أحدٌ من أهله وأحبابه، وأنه ينتظره فتنةُ الممات التي يستعيذ منها كلَّ صلاة، وهو لا يعقلها ويعمل استعدادًا لها، وسيندم لظلمه وضلاله يوم لا ينفع الندم بعد العدم؛ أنْ أضلَّه الله عن التثبيت عند السؤال، وهذا هو الخسران المبين؛ قال تعالى: ﴿ يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ ﴾ [إبراهيم: 27].
 
وختامًا:
أذكِّركم ونفسي أننا جميعًا بعد الموت يوم الحساب بين يدي الله تعالى، الظالم والمظلوم، الطائع والعاصي، فأين المفرُّ؟! وممَّن نفرُّ ولا ملجأ من الله إلا إليه سبحانه؟!
 
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((لن يُنجِّي أحدًا منكم عملُه))، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ((ولا أنا، إلا أن يتغمَّدَني اللهُ برحمة، سدِّدوا وقاربوا، واغدُوا ورُوحوا، وشيء من الدُّلجة، والقصدَ القصدَ تبلغوا))؛ أخرجه البخاري في صحيحه، حديث رقم 6463، باب: القصد والمداومة على العمل.
 
ورحمة الله لا ينالها المرءُ ألا بالتماس أسباب الهداية، وقد ينال الكافر والعاصي والفاسق من رحمة الله في الدنيا شيئًا كما ينالها المؤمن والطائع والتائب؛ لأنه سبحانه كتب على نفسه الرحمة، فهو رحمن الدنيا ورحيم الآخرة؛ ولكنه لن يختم لمن ضلَّ طريقه وخرج عن حدوده، وبارزه بالمعاصي بحُسْن الخاتمة، لا في الدنيا، ولا في الآخرة، نسأل الله تعالى أن يرزُقَنا التوبةَ والإنابة برحمته وكرمه قبل فوات الأوان، وأن يُثبِّتَنا على الإجابة عند السؤال، وأن يُنجِّينا من الفتن، ما ظهر منها وما بطن، وأن يختم لنا بخاتمة السعادة أجمعين، إنَّه وليُّ ذلك، والقادر عليه، والحمد لله ربِّ العالمين.

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٣