شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [36]


الحلقة مفرغة

الحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة الطيبين، وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً.

أما بعد:

نحن ذكرنا في المبحث الماضي الكلام على إسناد حديث أبي هريرة رضي الله عنه ونذكر هنا لفظه، ولفظ الحديث: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما تعدون الشهيد فيكم؟ قالوا: يا رسول الله من قتل في سبيل الله فهو شهيد -يعني الذي يموت في قتال الكفار- فقال عليه الصلاة والسلام: إن شهداء أمتي إذاً لقليل) تحصرون هذه الشهادة فيمن يموت فقط في قتال الكفار، لقد حجرتم الواسع والله أعطى لهذه الأمة ثواب الشهادة في غير تلك الصورة، وقد جمعها الحافظ ابن حجر فزادت على عشرين صورة إذا مات الإنسان في واحدة منها ينال ثواب الشهادة، (قالوا: فمن هم يا رسول الله عليه الصلاة والسلام؟ قال: من قتل في سبيل الله فهو شهيد، ومن مات في سبيل الله فهو شهيد)، أي: دون أن يقتل في المعركة لكنه خرج للقتال ومات، (ومن مات في الطاعون فهو شهيد، ومن مات في البطن فهو شهيد)، حصل له إسهال شديد بحيث خرجت أمعاؤه ومغص، وهذا كان يموت بسببه أناس كثيرون من المتقدمين. نسأل الله العافية.

وعلى كل حال الأمراض المعدية كثيرة، ومنها الإسهال المستمر.

قال ابن مقسم : أشهد على أبيك -يعني: أبا صالح - أنه قال: (والغريق شهيد)، والمعنى: أنقل هذه في الرواية الغريق شهيد، وهذا وارد عن النبي عليه الصلاة والسلام في من يموت بغرق، أو حرق، وسيأتينا بعض الأحاديث في ذلك.

وفي رواية الموطأ، والترمذي ، وصحيح البخاري وما أشار إليها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الشهداء خمسة: المطعون) عن طريق وخز الجن، (والمبطون) يموت بسبب داء في بطنه وإسهال، (والغريق) الذي يموت بسبب الغرق (وصاحب الهدم) يسقط عليه جدار، (والشهيد في سبيل الله)، هؤلاء كلهم كما أشار نبينا عليه الصلاة والسلام شهداء عند الله جل وعلا.

رواية عبد الله بن بشر

الرواية الثامنة: رواية عبد الله بن بشر ، رواها الطبراني في معجمه الكبير، وهي في المجمع في الجزء الخامس، صفحة واحد وثلاثمائة، وقال عنها الهيثمي : رجال الحديث رجال الصحيح غير أبي صالح الفراء وهو ثقة، ولفظ الحديث: عن عبد الله بن بشر رضي الله عنه قال: (عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم سعد بن عبادة رضي الله عنه، وهو سيد الخزرج، فقال: ما تعدون الشهداء من أمتي؟ قال ذلك ثلاثاً، قالوا: الله ورسوله أعلم. قال سعد بن عبادة: إن شاء رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن لي فأخبرته من الشهداء من أمته، إن أذنت لي أنا أتكلم وهو مريض، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: فأخبرني من الشهداء من أمتي؟ قال: أسندوني، يعني: كان متكئاً على ظهره فأسندوه، قال: من آمن بالله وجاهد في سبيل الله، وقاتل حتى يقتل فهو شهيد، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: إن شهداء أمتي إذاً لقليل، القتل في سبيل الله شهيد) لعله يريد أن يقول هنا المقتول أو القتيل (والمبطون شهيد، والمطعون -وهو محل الشاهد عن طريق وخز الجن- شهيد، والغريق شهيد، والنفساء شهيدة)، إذا ماتت بجِمع بجَمع بجُمع والجيم مثلثة كما قال أئمتنا، أي: إذا ماتت في حال ولادتها فلها أجر الشهادة عند ربها، الحديث صحيح.

أراد بعض الصحابة أن يضيق بكلامه وأن الشهيد هو الذي يموت في المعركة، والأمر أوسع من ذلك بكثير، ورحمة الله واسعة، ورد عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال: (أكثر شهداء أمتي أصحاب الفرش، ورب قتيل بين الصفين الله أعلم بنيته)، والحديث رواه أحمد في المسند، وهو في الجزء الأول، صفحة سبع وتسعين وثلاثمائة، وأورده في مسند ابن مسعود رضي الله عنهم أجمعين.

وهذا ليس له علاقة بالأحاديث التي في الطاعون، وهذا من باب الاستطراد، قلت: وهو في مسند عبد الله بن مسعود في المسند، في الجزء الأول، صفحة سبع وتسعين وثلاثمائة، وإنما قلت: في مسند عبد الله بن مسعود لأمر سأذكره اختلف فيه الحافظان: الهيثمي ، مع ابن حجر في تعليل إيراد هذا الحديث في المسند، وهل هو متصل، أو مرسل كما سنذكر إن شاء الله، قال الهيثمي في المجمع في الجزء الخامس، صفحة اثنتين وثلاثمائة رواه إبراهيم بن عبيد بن رفاعة : أن أبا محمد أخبره وكان من أصحاب عبد الله بن مسعود : أنه حدثه عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: (إن أكثر شهداء أمتي لأصحاب الفرش، وربّ قتيل بين الصفين الله أعلم بنيته).

قال الهيثمي : هكذا رواه أحمد ، ولم أره ذكر ابن مسعود ، إنما قال: إن أبا محمد من أصحاب عبد الله بن مسعود حدثه عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: قال: وفيه ابن لهيعة ، وحديثه حسن وفيه ضعف، والظاهر أنه مرسل، ورجاله ثقات، يعني: رفعه أبو محمد صاحب عبد الله بن مسعود إلى النبي عليه الصلاة والسلام ولم يروه عن عبد الله بن مسعود فهو مرسل، وإلى هذا ذهب الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على المسند في الجزء الخامس صفحة تسعين ومائتين فقال: الحديث ضعيف للإرسال، جميع الرجال ثقات، وهو كما قلت لكم مراراً: حديث ابن لهيعة الشيخ أحمد شاكر يصححه، ولا إشكال عنده حول ابن لهيعة لكن يقول: مرسل، والحافظ ابن حجر في الفتح يخالفهم في ذلك، وكلامه في الجزء العاشر، صفحة أربع وتسعين ومائة.

يقول: أخرجه أحمد من طريق إبراهيم بن عبيد بن رفاعة ، أن أبا محمد أخبره وكان من أصحاب ابن مسعود أنه حدثه عن رسول الله عليه الصلاة والسلام: (إن أكثر شهداء أمتي لأصحاب الفرش، وربّ قتيل بين الصفين الله أعلم بنيته)، والدليل في قوله: إنه حدثه لـابن مسعود ، فإن أحمد أخرجه في مسند ابن مسعود ، ورجال سنده موثقون، وعليه هو متصل وليس بمرسل، وإذا كان متصلاً فالحديث رجاله ثقات.

وقبل أن نبدأ بالرواية التاسعة أقول: بعض الإخوة سألوا سؤالاً:

فقالوا: إذا كان الطاعون بوخز الجن وتسلط الجن على الإنس، فكيف يكون للجن تسلط على أولياء الله؟ وقد قال تعالى: لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ [الحجر:42].

الجواب: فيما يظهر والعلم عند الله جل وعلا لا تعارض بين الأمرين، لا سلطان للشيطان الرجيم، ولا لأتباعه على عباد الله المؤمنين الموحدين، فإن قيل: كيف تسلط عليهم عن طريق وخزهم وقتلهم؟

قلنا: إن المنفي غير المثبت، فالمنفي لا سلطان له عليهم بمعنى أنه يظلهم، ويحملهم على الفسوق والعصيان، والانحراف عن الإسلام فلا يستطيع هذا، وهذا كالسبيل المنفي في حق الكفار وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا [النساء:141] ، لا يمكن أن يتغلب كافر على مؤمن بالحجة والبينة والبرهان، وهم على باطل، ونحن على حق، والواحد منا على بينة من أمره وبينة من ربه لو اجتمع أهل الأرض وكفروا لقال الله لهم: إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ [الأنبياء:98]، أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ [الأنبياء:67]، هذه قضية واضحة، لكن قد يتسلط الكافر على بدني، قد يقتلني، وقد يتسلط هنا الجني على البدن فيقتله، فهذه مصيبة ليست معيبة، والمصيبة أنت تثاب عليها، والمعيبة أنت تأثم بسببها، فلو تسلط عدو من الإنس أو عدو من الجن على هذا البدن فقتله مت شهيداً، وتقدم معنا الطعن من الإنس هذا ظاهره، والطعن من قبل الجن أيضاً شهادة، وسيأتينا الآن ضمن الأحاديث أنه يأتي المطعون يوم القيامة، والذي قتل في ساحة المعركة وهذا خاصة له ( جرحهما يثعب دماً ) بلون واحد، ويختلف عن سائر أنواع الشهادة ممن يموت في حرق أو غرق، هذا مات شهيداً، وذاك مات شهيداً، أي: الشهيد الذي قتل بواسطة طعن من عدوه، ولذلك جرحهما يأتي يوم القيامة بلون واحد ورائحة واحدة، وهذا سيأتينا من كلام النبي عليه الصلاة والسلام، فهنا مصيبة.

وعليه عندما تسلط مثلاً الجن على أبي عبيدة رضي الله عنه وأصابوه بالطاعون وهو أمين هذه الأمة، ليس معنى ذلك أنهم تسلطوا على أولياء الله، والله يقول: إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ [النحل:99-100]، إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ [الحجر:42]، وهنا حصل له سلطان؛ السلطان المنفي أن يقودهم بالإغواء والإضلال إلى حيثما يريد، وهذا ما حصل، ولذلك لا حرج في أن يصاب الولي بالطاعون، على أن الطاعون كما سيأتينا سببه في الجملة حصول معصية في الرحمة، لا بد وأنه حصل معصية من الناس تعجل الله لهم بها العقوبة، وجعل الله عقوبة هذه الأمة في دنياها، وكلما اشتد صلاح الإنسان، إذا حصل منه أدنى شائبة عجلت له العقوبة، وأحياناً تنزل عقوبة عامة ولكن سببها أخطاء للبعض ومعاصي في الجملة، فالبلاء ينزل عاماً، وكل واحد بعد ذلك يأخذ جزاءه على هذا البلاء، فمثلاً العاصي يطهره، والمطيع يرفع درجته، إذا لم يكن عاصياً وأصيب بسبب معصية ذاك، وسيأتينا أن سبب الطاعون انتشار المنكرات، فمتى ما ظهرت يظهر الطاعون، أي: يسلط الله هؤلاء على الإنس، فينخزونهم ويقتلونهم فيموتون، لكن يكون هذا تطهيراً لهم بفضل الله ورحمته، فلا يمكن أن يحصل إلا إذا سبقه انتشار للمعاصي وتحلل، فالله يطهر هذه الأمة فيسلط عليهم هؤلاء ليكون طهارةً لهم وتكفيراً لذنوبهم، هذا كما أنه أحياناً المؤمنون يخذلون أمام أعدائهم بما كسبت أيديهم، والله ليس بظلام للعبيد سبحانه وتعالى.

هذا الذي يظهر جواباً على هذا والعلم عند الله جل وعلا، يعني: مثلاً كما قلت لكم العدو الإنسي الظاهر السبيل المنفي في حقه علينا أنه يغوينا، أو يضلنا، أو يغلبنا بالحجة هذا لا يتمكن منه، لكن قد يتمكن من قطع الرقبة، وكثير من أنبياء الله ورسله، فضلاً عن الصديقين والصالحين قتلوا من قبل الكفرة، وكان بنو إسرائيل يقتلون النبيين بغير الحق، والله يقول: وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا [النساء:141] ، أي سبيل أكثر من القتل؟ نقول: لا، إن السبيل بالظهور والغلبة والحجة لا يمكن، أما أن الإنسان يصاب من قبل هؤلاء ليزداد أجره عند الله فلا حرج، إن شاء الله.

رواية سلمان الفارسي

الرواية التاسعة: مروية عن سلمان الفارسي رضي الله عنه، وهي في معجم الطبراني الكبير، والأوسط، ورواها البزار وهي في مجمع الزوائد في الجزء الخامس، صفحة واحد وثلاثمائة، وفي إسناد الحديث مندل والميم مثلثة: مِندل، مُندل، مَندل، مثلث الميم ساكن الثاني، وهو مندل بن علي العنزي ، وقال: اسمه عمرو ، توفي سنة سبع وستين ومائة، أو وثمان وستين ومائة، قال الهيثمي في المجمع: فيه كلام كثير وقد وثق، وقال مرةً: هو ضعيف، وقد حكم عليه الحافظ في التقريب بأنه ضعيف، وهو من رجال أبي داود ، وسنن ابن ماجه ، ولفظ الحديث عن سلمان رضي الله عنه قال: (أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عليه الصلاة والسلام: ما تعدون الشهيد فيكم؟ قالوا: الذي يقتل في سبيل الله، فقال عليه الصلاة والسلام: إن شهداء أمتي لقليل، يعني: على حسب قولكم، القتل في سبيل الله شهادة، والطاعون شهادة، والنفساء شهادة، والحرق يعني: الموت بواسطة الحرق شهادة، والغرق شهادة، والسيل شهادة، والبطن شهادة).

وعلى كل حال الضعف ينجبر بالروايات التي شهدت له مما تقدم ومما سيأتينا إن شاء الله.

رواية سعد بن أبي وقاص

الرواية العاشرة: مروية عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه في مسند البزار ، بسند رجاله رجال الصحيح، والحديث في المجمع في الجزء الأول، صفحة ثلاثمائة، ولفظ الحديث عن سعد بن أبي وقاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تستشهدون -أي تموتون وتنالون أجر الشهادة- بالقتل، والطاعون، والغرق، والبطن، وموت المرأة جمعاً أي: موتها في نفاسها)، وتقدم معنا: جَمع جِمع جُمع مثلثة الجيم وهي التي ماتت في نفاسها، وقال بعض المصحفين: المرأة إذا ماتت بجمع يعني في مزدلفة، ولا علاقة لجمع في مزدلفة بموت المرأة في حال نفاسها.

رواية راشد بن حبيش

الرواية الحادية عشر: مروية عن راشد بن حبيش وهو صحابي معروف رضي الله عنه في مسند أحمد بسند رجاله ثقات، كما قال الهيثمي في المجمع في الجزء الخامس، صفحة تسع وتسعين ومائتين، كله في جزء واحد عند كتاب الجهاد باب ما تحصل به الشهادة.

وقال المنذري في الترغيب والترهيب في الجزء الثاني صفحة أربع وثلاثين وثلاثمائة: إسناده حسن، وقد استشهد به الحافظ في الفتح، وهو على شرطه لا ينزل عن درجة الحسن في الجزء السادس، صفحة ثلاث وأربعين، من رواية راشد بن حبيش رضي الله عنه: ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على عبادة بن الصامت رضي الله عنه يعوده في مرضه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتعلمون من الشهيد من أمتي؟ فأرمّ القوم -أي سكتوا وأطرقوا ما تكلم أحد منهم- فقال عبادة : أسندوني، فأسندوه)، وتقدم معنا لكن هناك في الرواية التاسعة: سعد بن عبادة ، وهنا عبادة بن الصامت ، ( فقال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم الصابر المحتسب)، يقصد بالصابر في ساحة المعركة يحتسب نفسه عند ربه ويطلب الأجر من خالقه، قتل وهو صابر محتسب، يعني: ما ولى الأدبار وجاءته طعنة من خلفه، (صابر محتسب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن شهداء أمتي إذاً لقليل، القتل في سبيل الله عز وجل شهادة، والطاعون شهادة، والغرق شهادة، والبطن شهادة، والنفساء يجرها ولدها بسرره إلى الجنة)، أي: إذا ماتت في حال ولادتها، قال: وزاد أبو العوام سادن بيت المقدس، وهو أحد رجال الإسناد حارس بيت المقدس: (والحرق والسيل)، أي: من يموت بحرق أو بالسيل فله أجر الشهادة، رواه أحمد بإسناد حسن، وراشد بن حبيش صحابي معروف كما قال الإمام المنذري في الترغيب والترهيب.

الرواية الثانية عشرة: رواية راشد بن حبيش والقصة وقعت مع عبادة وهنا عبادة دخل مع النبي عليه الصلاة والسلام في مرضٍ لـعبد الله بن رواحة رواية أخرى، وهو راوي الحديث هنا، رواها أحمد في المسند، والطبراني في معجمه الكبير بسند رجاله ثقات، كما في المجمع في الجزء الخامس صفحة ثلاثمائة، ورواها أيضاً من طريق آخر كما سيأتينا في المسند، ومعجم الطبراني الأوسط، والبزار كما في مجمع الزوائد في صفحة تسع وتسعين ومائتين.

عن عبادة بن الصامت قال: (دخلنا على عبد الله بن رواحة نعوده في مرضه فأغمي عليه، فقلنا: يرحمك الله، إن كنا لنرجو أن تموت على غير هذا، يعني: شهيداً في قتال المشركين، وأنت تموت على فراشك، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم ونحن نذكر هذا فقال: وفيم تعدون الشهداء؟ من الشهداء عندكم، فأرمّ القوم وتحرك عبد الله -يعني ابن رواحة - فقال: ألا تجيبون رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أجابه هو فقال: نعد الشهادة في القتل، فقال: إن شهداء أمتي إذاً لقليل، إن في القتل شهادة، وفي الطاعون شهادة، وفي البطن شهادة، وفي الغرق شهادة، وفي النفساء يقتلها ولدها شهادة).

وكما قلت: هذا إسناد مروي من طريق آخر فيه المغيرة بن زياد ، وثقه جماعة، وضعفه آخرون، وبقية رجاله ثقات.

رواية عبادة بن الصامت

الرواية الثانية عشرة: عن عبادة بن الصامت أيضاً قال: أتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم يعودني وأنا مريض، في الأول يروي الحديث أنه عاده هو ورسول الله صلى الله عليه وسلم كما في رواية راشد بن حبيش ، وفي حديثه هو يروي أنهم في عيادتهم لـعبد الله بن رواحة ، فالحديث يعتبر حديثاً واحداً؛ لأنه من رواية عبادة ، أما رواية راشد بن حبيش فانتهينا منها، يقول عبادة : (أتاني رسول الله عليه الصلاة والسلام يعودني وأنا مريض في ناس من الأنصار، وقال: هل تدرون من الشهيد؟ فسكتوا، فقال: هل تدرون من الشهيد؟ فقلت لامرأتي: أسنديني فأسندتني فقلت: من أسلم، ثم هاجر، ثم قتل في سبيل الله تبارك وتعالى)، أي: في قتال الكفار، فذكر نحو الحديث المتقدم: (إن شهداء أمتي إذاً لقليل.. إلى آخره)، رواه أحمد ، والبزار ، والطبراني في الأوسط، إلا أنه قال: (إن لم يكن شهداء أمتي إلا هؤلاء، إنهم إذاً لقليل، القتل في سبيل الله شهادة، والغريق شهيد، والمبطون شهيد، والطاعون شهادة، والنفساء يجرها ولدها بسرره إلى الجنة)، فيه المغيرة بن زياد وقد وثقه جماعة، وضعفه آخرون، وبقية رجاله ثقات، على كل حال هذه الرواية الثانية يشهد لها الرواية التي فيها المغيرة بن زياد، قلنا: والطريق الأخرى رجالها ثقات، المغيرة بن زياد حكم عليه الحافظ في التقريب فقال: صدوق له أوهام، وقد توفي سنة اثنتين وخمسين ومائة، وحديثه في السنن الأربعة، وهو المغيرة بن زياد البجلي الموصلي .

رواية ربيع الأنصاري

الرواية الثالثة عشرة: من رواية ربيع الأنصاري رضي الله عنه، رواها الطبراني في معجمه الكبير بسند رجاله رجال الصحيح، وقال المنذري في الترغيب والترهيب الجزء الثاني، صفحة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة: رواته محتج بهم في الصحيح، وكما قال الهيثمي : رجاله رجال الصحيح.

ولفظ الحديث: عن ربيع الأنصاري : (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاد ابن أخي جبراً الأنصاري )، وفي الصحابة عدد ممن يسمون باسم جبر، ويوجد من اسمه خير فلا تخلط بين الاثنين، وقد أورد ابن الأثير في أسد الغابة ثلاثة أو أربعة ممن يسمون بجبر من الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين، يقول: (عاد إذاً رسول الله عليه الصلاة والسلام ابن أخي جبراً الأنصاري ) جبر من الأنصار وهنا ربيع الأنصاري، ما يعلم له قصة صحيحة في حياته حتى ربيع رضي الله عنهم أجمعين إلا أنهم ثبت لهم صحبة للنبي عليه الصلاة والسلام، قال: (فجعل أهله يبكون عليه، فقال لهم: جبر -وهو المريض-: لا تؤذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأصواتكم، فقال رسول الله عليه الصلاة والسلام: دعهن يبكين ما دام حياً)، ما دام حياً يعني: ما دام المريض على قيد الحياة، (فإذا وجب فليسكتن، فقال بعضهم: لكن نرى أن يكون موتك على فراشك حتى تقتل في سبيل الله مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أوما القتل إلا في سبيل الله؟)، يعني: أن الشهادة لا تكون إلا إذا مات الإنسان في قتال الكفار، (إن شهداء أمتي إذاً لقليل، إن الطعن شهادة، والبطن شهادة، والطاعون شهادة، والنفساء بجمع شهادة، والحرق شهادة، والغرق شهادة، وذات الجنب شهادة)، رواه الطبراني، ورواته محتج بهم في الصحيح، قوله: بجمع تقدم، وقوله: (إذا وجب) بمعنى خرجت الروح منه وسكت، قوله: (ذات الجنب)، الجنب كما قال أئمتنا: الدمل الكبير، الذي يكون في باطن الجنب في الداخل، ويكون من الخارج دمل في باطن الجنب، وينفجر إلى داخل الإنسان، وقلما يسلم صاحب الجنب، وقد قال بعضهم: أنها الزائدة، ويمكن أن تكون الزائدة لا أدري حقيقةً، لكنها ليست بورم داخلي في جنب الإنسان، يقول العلماء حتى في ضبط كتب اللغة وهذا المرض مشهور عندهم، ويقولون: من أصيب بذات الجنب قل أن يبقى يعني: سيموت، وهو دمل يكون في الجانب وينفجر في الباطن، ولا يظهر له أثر في الخارج.

واسمه ذات الجنب، فهل الزائدة يقال لها: ذات جنب؟ على كل حال المقصود أنه شيء من الورم والالتفاف يكون في داخل الإنسان ينفجر إلى الداخل ولا يظهر له أثر في الخارج، من أصيب به فهو أيضاً شهيد بإذن الله فما تقوله يدخل فيه إن شاء الله من هذه الصور.

والرواية كما قلت عن ربيع الأنصاري وإسنادها صحيح.

رواية ربيع مروية أيضاً من طريق أخرى رواها ابن قانع بلفظ: (الطعن، والطاعون، والهدم، والغرق، وأكل السبع)، إذا أكل سبع إنساناً: افترسه، (والغرق، والحرق، والبطن، وذات الجنب شهادة)، الآن صارت كثيرة (الطعن والطاعون، والهدم، وأكل السبع من أكله سبع فهو شهيد، والغرق، والحرق، والبطن، وذات الجنب)، هذه كلها ينال الإنسان بها ثواب الشهادة، الشاهد من جميع هذه الروايات نحن نريد لفظ الطاعون في كل واحدة منها، ولفظ الطاعون وارد في كل رواية تقدمت.

رواية عقبة بن عامر

الرواية الرابعة عشرة: رواية عقبة بن عامر رواها النسائي في السنن، والحديث في جامع الأصول، وهو كذلك في الترغيب والترهيب في الجزء الثاني، صفحة أربع وثلاثين وثلاثمائة، واستشهد به الحافظ في الفتح في الجزء السادس، صفحة ثلاث وأربعين، والحديث حسن بشواهده، قلت: إنه في الترغيب والترهيب، إذاً بعد أن ننظر في جامع الأصول، عن عقبة بن عامر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (خمس من قبض في شيء منهن فهو شهيد)، قوله: (خمس)، هذه الأعداد كلها كما سيأتينا وكما تقدم معنا لا ينفي أن يزاد عليها، ويدخل القليل في الكثير والعلم عند الله جل وعلا، وعليه (خمس من قبض في شيء منهن فهو شهيد) لا للحصر بهذه الخمس، إنما هذه خمس مما ينال الإنسان به ثواب الشهادة إذا أصيب بها، وهناك ما يزيد على هذا وقلت لكم: إن الحافظ ابن حجر أوصلها إلى ما يزيد على عشرين خصلة، وليس غرضنا أن نستقصيها، نحن الآن نريد أن نذكر الأحاديث التي فيها التنصيص على أن الطاعون شهادة.

إذاً: المقتول في سبيل الله، والغريق في سبيل الله، والمبطون في سبيل الله، والمطعون في سبيل الله، والنفساء في سبيل الله، كلها فيها في سبيل الله حتى الرواية التي هنا في أصل سنن النسائي ، فالذي يظهر والعلم عند الله جل وعلا إما أن يقال: هؤلاء إذا خرجوا للقتال في سبيل الله بإحدى هذه الأوصاف وماتوا فهم شهيداء، أو أن المراد هنا أن من أصيب بذلك واحتسب هذا عند الله جل وعلا فله أجر الشهادة، الشاهد الذي نريده نحن هنا المطعون في سبيل الله شهيد.

رواية صفوان بن أمية

الرواية الخامسة عشرة: من رواية صفوان بن أمية ، رواها أحمد في المسند، والنسائي في السنن، والدارمي في سننه، وهي في معجم الطبراني الكبير، ورواها الضياء المقدسي في أحاديثه الجياد المختارة، ورواها البغوي ، وابن قانع كما في جمع الجوامع في الجزء الأول، صفحة سبع وعشرين وأربعمائة، والحديث كحديث عقبة بن عامر حسن بشواهده، ولفظ الحديث: عن صفوان رضي الله عنه قال: (الطاعون، والمبطون، والغريق، والنفساء شهادة)، قال: وحدثنا أبو عثمان مراراً، ورفعه مرةً إلى النبي عليه الصلاة والسلام، يعني: أن الرواة مرةً رفعوه إلى النبي عليه الصلاة والسلام، ومرةً أوقفوه على

الرواية الثامنة: رواية عبد الله بن بشر ، رواها الطبراني في معجمه الكبير، وهي في المجمع في الجزء الخامس، صفحة واحد وثلاثمائة، وقال عنها الهيثمي : رجال الحديث رجال الصحيح غير أبي صالح الفراء وهو ثقة، ولفظ الحديث: عن عبد الله بن بشر رضي الله عنه قال: (عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم سعد بن عبادة رضي الله عنه، وهو سيد الخزرج، فقال: ما تعدون الشهداء من أمتي؟ قال ذلك ثلاثاً، قالوا: الله ورسوله أعلم. قال سعد بن عبادة: إن شاء رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن لي فأخبرته من الشهداء من أمته، إن أذنت لي أنا أتكلم وهو مريض، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: فأخبرني من الشهداء من أمتي؟ قال: أسندوني، يعني: كان متكئاً على ظهره فأسندوه، قال: من آمن بالله وجاهد في سبيل الله، وقاتل حتى يقتل فهو شهيد، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: إن شهداء أمتي إذاً لقليل، القتل في سبيل الله شهيد) لعله يريد أن يقول هنا المقتول أو القتيل (والمبطون شهيد، والمطعون -وهو محل الشاهد عن طريق وخز الجن- شهيد، والغريق شهيد، والنفساء شهيدة)، إذا ماتت بجِمع بجَمع بجُمع والجيم مثلثة كما قال أئمتنا، أي: إذا ماتت في حال ولادتها فلها أجر الشهادة عند ربها، الحديث صحيح.

أراد بعض الصحابة أن يضيق بكلامه وأن الشهيد هو الذي يموت في المعركة، والأمر أوسع من ذلك بكثير، ورحمة الله واسعة، ورد عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال: (أكثر شهداء أمتي أصحاب الفرش، ورب قتيل بين الصفين الله أعلم بنيته)، والحديث رواه أحمد في المسند، وهو في الجزء الأول، صفحة سبع وتسعين وثلاثمائة، وأورده في مسند ابن مسعود رضي الله عنهم أجمعين.

وهذا ليس له علاقة بالأحاديث التي في الطاعون، وهذا من باب الاستطراد، قلت: وهو في مسند عبد الله بن مسعود في المسند، في الجزء الأول، صفحة سبع وتسعين وثلاثمائة، وإنما قلت: في مسند عبد الله بن مسعود لأمر سأذكره اختلف فيه الحافظان: الهيثمي ، مع ابن حجر في تعليل إيراد هذا الحديث في المسند، وهل هو متصل، أو مرسل كما سنذكر إن شاء الله، قال الهيثمي في المجمع في الجزء الخامس، صفحة اثنتين وثلاثمائة رواه إبراهيم بن عبيد بن رفاعة : أن أبا محمد أخبره وكان من أصحاب عبد الله بن مسعود : أنه حدثه عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: (إن أكثر شهداء أمتي لأصحاب الفرش، وربّ قتيل بين الصفين الله أعلم بنيته).

قال الهيثمي : هكذا رواه أحمد ، ولم أره ذكر ابن مسعود ، إنما قال: إن أبا محمد من أصحاب عبد الله بن مسعود حدثه عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: قال: وفيه ابن لهيعة ، وحديثه حسن وفيه ضعف، والظاهر أنه مرسل، ورجاله ثقات، يعني: رفعه أبو محمد صاحب عبد الله بن مسعود إلى النبي عليه الصلاة والسلام ولم يروه عن عبد الله بن مسعود فهو مرسل، وإلى هذا ذهب الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على المسند في الجزء الخامس صفحة تسعين ومائتين فقال: الحديث ضعيف للإرسال، جميع الرجال ثقات، وهو كما قلت لكم مراراً: حديث ابن لهيعة الشيخ أحمد شاكر يصححه، ولا إشكال عنده حول ابن لهيعة لكن يقول: مرسل، والحافظ ابن حجر في الفتح يخالفهم في ذلك، وكلامه في الجزء العاشر، صفحة أربع وتسعين ومائة.

يقول: أخرجه أحمد من طريق إبراهيم بن عبيد بن رفاعة ، أن أبا محمد أخبره وكان من أصحاب ابن مسعود أنه حدثه عن رسول الله عليه الصلاة والسلام: (إن أكثر شهداء أمتي لأصحاب الفرش، وربّ قتيل بين الصفين الله أعلم بنيته)، والدليل في قوله: إنه حدثه لـابن مسعود ، فإن أحمد أخرجه في مسند ابن مسعود ، ورجال سنده موثقون، وعليه هو متصل وليس بمرسل، وإذا كان متصلاً فالحديث رجاله ثقات.

وقبل أن نبدأ بالرواية التاسعة أقول: بعض الإخوة سألوا سؤالاً:

فقالوا: إذا كان الطاعون بوخز الجن وتسلط الجن على الإنس، فكيف يكون للجن تسلط على أولياء الله؟ وقد قال تعالى: لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ [الحجر:42].

الجواب: فيما يظهر والعلم عند الله جل وعلا لا تعارض بين الأمرين، لا سلطان للشيطان الرجيم، ولا لأتباعه على عباد الله المؤمنين الموحدين، فإن قيل: كيف تسلط عليهم عن طريق وخزهم وقتلهم؟

قلنا: إن المنفي غير المثبت، فالمنفي لا سلطان له عليهم بمعنى أنه يظلهم، ويحملهم على الفسوق والعصيان، والانحراف عن الإسلام فلا يستطيع هذا، وهذا كالسبيل المنفي في حق الكفار وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا [النساء:141] ، لا يمكن أن يتغلب كافر على مؤمن بالحجة والبينة والبرهان، وهم على باطل، ونحن على حق، والواحد منا على بينة من أمره وبينة من ربه لو اجتمع أهل الأرض وكفروا لقال الله لهم: إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ [الأنبياء:98]، أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ [الأنبياء:67]، هذه قضية واضحة، لكن قد يتسلط الكافر على بدني، قد يقتلني، وقد يتسلط هنا الجني على البدن فيقتله، فهذه مصيبة ليست معيبة، والمصيبة أنت تثاب عليها، والمعيبة أنت تأثم بسببها، فلو تسلط عدو من الإنس أو عدو من الجن على هذا البدن فقتله مت شهيداً، وتقدم معنا الطعن من الإنس هذا ظاهره، والطعن من قبل الجن أيضاً شهادة، وسيأتينا الآن ضمن الأحاديث أنه يأتي المطعون يوم القيامة، والذي قتل في ساحة المعركة وهذا خاصة له ( جرحهما يثعب دماً ) بلون واحد، ويختلف عن سائر أنواع الشهادة ممن يموت في حرق أو غرق، هذا مات شهيداً، وذاك مات شهيداً، أي: الشهيد الذي قتل بواسطة طعن من عدوه، ولذلك جرحهما يأتي يوم القيامة بلون واحد ورائحة واحدة، وهذا سيأتينا من كلام النبي عليه الصلاة والسلام، فهنا مصيبة.

وعليه عندما تسلط مثلاً الجن على أبي عبيدة رضي الله عنه وأصابوه بالطاعون وهو أمين هذه الأمة، ليس معنى ذلك أنهم تسلطوا على أولياء الله، والله يقول: إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ [النحل:99-100]، إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ [الحجر:42]، وهنا حصل له سلطان؛ السلطان المنفي أن يقودهم بالإغواء والإضلال إلى حيثما يريد، وهذا ما حصل، ولذلك لا حرج في أن يصاب الولي بالطاعون، على أن الطاعون كما سيأتينا سببه في الجملة حصول معصية في الرحمة، لا بد وأنه حصل معصية من الناس تعجل الله لهم بها العقوبة، وجعل الله عقوبة هذه الأمة في دنياها، وكلما اشتد صلاح الإنسان، إذا حصل منه أدنى شائبة عجلت له العقوبة، وأحياناً تنزل عقوبة عامة ولكن سببها أخطاء للبعض ومعاصي في الجملة، فالبلاء ينزل عاماً، وكل واحد بعد ذلك يأخذ جزاءه على هذا البلاء، فمثلاً العاصي يطهره، والمطيع يرفع درجته، إذا لم يكن عاصياً وأصيب بسبب معصية ذاك، وسيأتينا أن سبب الطاعون انتشار المنكرات، فمتى ما ظهرت يظهر الطاعون، أي: يسلط الله هؤلاء على الإنس، فينخزونهم ويقتلونهم فيموتون، لكن يكون هذا تطهيراً لهم بفضل الله ورحمته، فلا يمكن أن يحصل إلا إذا سبقه انتشار للمعاصي وتحلل، فالله يطهر هذه الأمة فيسلط عليهم هؤلاء ليكون طهارةً لهم وتكفيراً لذنوبهم، هذا كما أنه أحياناً المؤمنون يخذلون أمام أعدائهم بما كسبت أيديهم، والله ليس بظلام للعبيد سبحانه وتعالى.

هذا الذي يظهر جواباً على هذا والعلم عند الله جل وعلا، يعني: مثلاً كما قلت لكم العدو الإنسي الظاهر السبيل المنفي في حقه علينا أنه يغوينا، أو يضلنا، أو يغلبنا بالحجة هذا لا يتمكن منه، لكن قد يتمكن من قطع الرقبة، وكثير من أنبياء الله ورسله، فضلاً عن الصديقين والصالحين قتلوا من قبل الكفرة، وكان بنو إسرائيل يقتلون النبيين بغير الحق، والله يقول: وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا [النساء:141] ، أي سبيل أكثر من القتل؟ نقول: لا، إن السبيل بالظهور والغلبة والحجة لا يمكن، أما أن الإنسان يصاب من قبل هؤلاء ليزداد أجره عند الله فلا حرج، إن شاء الله.

الرواية التاسعة: مروية عن سلمان الفارسي رضي الله عنه، وهي في معجم الطبراني الكبير، والأوسط، ورواها البزار وهي في مجمع الزوائد في الجزء الخامس، صفحة واحد وثلاثمائة، وفي إسناد الحديث مندل والميم مثلثة: مِندل، مُندل، مَندل، مثلث الميم ساكن الثاني، وهو مندل بن علي العنزي ، وقال: اسمه عمرو ، توفي سنة سبع وستين ومائة، أو وثمان وستين ومائة، قال الهيثمي في المجمع: فيه كلام كثير وقد وثق، وقال مرةً: هو ضعيف، وقد حكم عليه الحافظ في التقريب بأنه ضعيف، وهو من رجال أبي داود ، وسنن ابن ماجه ، ولفظ الحديث عن سلمان رضي الله عنه قال: (أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عليه الصلاة والسلام: ما تعدون الشهيد فيكم؟ قالوا: الذي يقتل في سبيل الله، فقال عليه الصلاة والسلام: إن شهداء أمتي لقليل، يعني: على حسب قولكم، القتل في سبيل الله شهادة، والطاعون شهادة، والنفساء شهادة، والحرق يعني: الموت بواسطة الحرق شهادة، والغرق شهادة، والسيل شهادة، والبطن شهادة).

وعلى كل حال الضعف ينجبر بالروايات التي شهدت له مما تقدم ومما سيأتينا إن شاء الله.

الرواية العاشرة: مروية عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه في مسند البزار ، بسند رجاله رجال الصحيح، والحديث في المجمع في الجزء الأول، صفحة ثلاثمائة، ولفظ الحديث عن سعد بن أبي وقاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تستشهدون -أي تموتون وتنالون أجر الشهادة- بالقتل، والطاعون، والغرق، والبطن، وموت المرأة جمعاً أي: موتها في نفاسها)، وتقدم معنا: جَمع جِمع جُمع مثلثة الجيم وهي التي ماتت في نفاسها، وقال بعض المصحفين: المرأة إذا ماتت بجمع يعني في مزدلفة، ولا علاقة لجمع في مزدلفة بموت المرأة في حال نفاسها.