شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [32]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة الطيبين، وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً، سهل علينا أمورنا، وعلمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الراحمين! اللهم زدنا علماً نافعاً، وعملاً صالحاً، بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين.

سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك، سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك!

اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد: فلا زلنا نتدارس مباحث الجن، وقلت: إن دراستنا لهم ستقوم على أمور ثلاثة:

أولها: في أوجه الاتفاق بيننا وبينهم.

وثانيها: في أوجه الافتراق بيننا وبينهم.

وقد مضى الكلام على هذين الأمرين، وتحتهما كما تقدم معنا أيضاً ثمانية أمور.

والأمر الثالث: الصلة بيننا وبين الجن, وقلت: إن هذا المبحث الثالث أيضاً سنتدارس فيه أربعة أمور:

أولها: حكم استعانة الإنس بالجن.

وثانيها: التناكح بين الإنس والجن.

وقد مضى الكلام على هذين الأمرين، ووصلنا إلى الأمر الثالث وكنا نتدارسه, ألا وهو صرع الجن للإنس، وآخر الأمور لعل الله ييسر الكلام عليه في اللقاء الآتي إن شاء الله في تحصن الإنس من الجن.

كما قلت الأمر الثالث من هذه الأمور الأربعة: صرع الجن للإنس، وقد تقدم معنا أن الصرع له ثلاثة أنواع:

صرع معنوي، وهو أشنع أنواع الصرع, بحيث يستحوذ الشيطان على ابن آدم، ويلزمه ويشغله عن ذكر الرحمن سبحانه وتعالى.

والصرع الثاني: صرع حسي بحيث يصيبه بآفة في عقله، فيتخبط جسمه ويصرع ويقع، وقد يلازمه كما تقدم معنا هذا الوصف، وقد يأتي إليه ما بين الحين والحين، ودرجات الصرع الحسي متفاوتة كما تقدم معنا.

والنوع الثالث: قد يجتمعان، وهذا كله كما تقدم معنا في صرع الجن للإنس.

وهناك نوع من أنواع الصرع بواسطة فساد الأخلاط في الإنسان, وهو صرع طبيعي, فقلت: ما لنا علاقة به، فذاك يبحث فيه الأطباء وفي كيفية علاجه.

وقد تدارسنا النوع الأول من هذه الأنواع الثلاثة, وهو الصرع المعنوي، وانتهينا منه، وشرعنا في الصرع الحسي, وقلت: إنه واقع وموجود، وذكرت في اللقاء الماضي عشر حوادث وقعت في زمن نبينا عليه الصلاة والسلام, وهي صرع حسي, أصيب بها من أصيب في زمن نبينا الحبيب عليه الصلاة والسلام، وعالجها نبينا عليه الصلاة والسلام بنفسه، وأخرج الشيطان من المصروعين، وقد تقدم معنا أن تلك الأحاديث ما بين صحيح لذاته، وما بين حسن لذاته، وما بين ضعيف منجبر, فهو حسن لغيره إن شاء الله كما تقدم معنا.

وقلت بعد هذا: سنتدارس حادثتين اثنتين وقعتا في زمن النبي عليه الصلاة والسلام والمعالج لها بعض الصحابة من أتباع النبي عليه الصلاة والسلام, ولم يعالج في هاتين الحادثتين بنفسه صلى الله عليه وسلم.

والقصة الأولى ذكرتها: وهي ما رواه خارجة بن الصلت التميمي عن عمه علاقة بن صحار ، وقيل: اسمه عبد الله ، وحديثه صحيح, عندما عالج مصروعاً وكان موثقاً بالحديد، فشفي بإذن الله المجيد، وتقدم معنا أنه عالجه بسورة الفاتحة ثلاثة، أيام كان يجمع بصاقه ثم يتفل على هذا المصاب بعد أن يقرأ سورة الفاتحة, فشفي بإذن الله، وأعطوه قطيعاً من الغنم عدده مائة شاة، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: ( كله لعمري من أكل برقية باطل، لقد أكلت برقية حق ). تقدم معنا هذا وانتهينا منه، وسنتدارس إن شاء الله الحادثة الثانية بعون الله جل وعلا.

إخوتي الكرام! كما قلت: الصرع الحسي الذي يقع على بدن الإنسان موجود، والنسب تختلف.

وهذا النوع من الصرع قل -أيضاً- أن يسلم منه إنسان، لكن النسبة -كما تقدم- لا تتساوى، فكل ابن آدم يصاب بمس من الشيطان عند ولادته, وكنت ذكرت الحديث الثابت عن نبينا عليه الصلاة والسلام في ذلك، ومن أجل هذا يصيح المولود عندما يولد ويستهل باكياً؛ لأن الشيطان ينخسه ويصرعه في جنبه، أي في خاصرته، وهو فارق أنسه والدار التي اعتاد عليها، وقد تقدم معنا أن الحديث في ذلك ثابت في المسند والصحيحين، وقلت: إنه في المصنفين؛ مصنف شيخ الإسلام عبد الرزاق ومصنف شيخ الإسلام ابن أبي شيبة ، ورواه الطبري وابن أبي حاتم وابن المنذر في تفاسيرهم، كما رواه عبد بن حميد في مسنده، والحاكم في المستدرك، والبيهقي في السنن الكبرى من رواية أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ما من مولود إلا نخسه الشيطان حين يولد، فيستهل صارخاً من نخسه إياه إلا مريم وابنها )؛ وذلك لأن أمها قالت: إِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ [آل عمران:36]، فاستجاب الله لها، فحصن مريم وابنها عيسى -على نبينا وعليهما صلوات الله وسلامه- حصنهما الله من طعن الشيطان ونخسه.

وقد تقدم معنا أن هذه الكرامة الثابتة لهذين العبدين الصالحين لـمريم وابنها عيسى ثابتة لجميع أنبياء الله ورسله -على نبينا وعليهم جميعاً صلوات الله وسلامه- وهذا نقلاً عن الإمام القاضي عياض، وعن غيره من أئمتنا، رحمة الله ورضوانه عليهم أجمعين.

الحادثة الثانية التي سأذكرها في أول هذه الموعظة: حادثة العبد الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه، حيث عالج مصروعاً في زمن النبي عليه الصلاة والسلام, وقرأ في أذنه آيات, فبرأ بإذن الله جل وعلا، ثبت ذلك في مسند أبي يعلى كما في مجمع الزوائد في الجزء الخامس صفحة 115، والأثر رواه الإمام ابن السني في عمل اليوم والليلة صفحة 236، وهو موجود في كتاب الأذكار، وعزاه إلى ابن السني صفحة 112، وفي شرح الأذكار لـابن علان في الجزء الرابع صفحة 46، وقال: رواه الإمام الثعلبي أيضاً في تفسيره، والإمام الطبراني في كتاب الدعاء كما في المعجم الكبير أو الصغير أو الأوسط وجميع رجال الإسناد ثقات أثبات، وما فيهم من حوله كلام إلا الإمام ابن لهيعة ، وتقدم معنا حاله، والإمام الهيثمي في المجمع يقول: فيه ابن لهيعة وفيه ضعف، وحديثه حسن، وبقية رجاله رجال الصحيح.

وقد تقدم معنا أن المعتمد في أمر هذا العبد الصالح أن حديثه -إن شاء الله- في درجة الحسن، وقلت: إن الشيخ أحمد شاكر يرى تصحيح الحديث إذا جاء من طريق عبد الله بن لهيعة عليهم جميعاً رحمة الله.

إذاً: فيه ضعف، وحديثه حسن, وبقية رجاله ثقات أثبات, رجال الصحيح، هذا كلام الإمام الهيثمي في المجمع كما حددت في الجزء الخامس، صفحة 115.

والحديث من رواية حنش الصنعاني ، وهو حنش بن عبد الله ، ويقال: ابن علي السبائي , نسبة إلى سبأ, أبو رشدين الصنعاني ، نزيل إفريقيا, وهو ثقة, حديثه في صحيح مسلم والسنن الأربع، وهو الراوي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه, قال: قرأ عبد الله بن مسعود رضي الله عنه في أذن مبتلى فأفاق.

وهو ينقل هذا عن عبد الله بن مسعود , أن عبد الله بن مسعود قرأ في أذن مبتلى, أي: مصروع مصاب من قبل الجن، فأفاق, فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: ( ما قرأت في أذنه؟ فقال: قرأت قول الله جل وعلا: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ [المؤمنون:115], إلى آخر السورة, فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ * وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ * وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ [المؤمنون:116-118]، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: لو أن رجلاً موقناً قرأ بها على جبل لزال ). فإذا كان الإيمان كاملاً صحيحاً سليماً، والعمل مستقيماً حقيقة فبعد ذلك إذا أراد الإنسان أن يزيل الجبل لزال.

ويذكرون في ترجمة العبد الصالح الجنيد بن محمد القواريري وغالب ظني توفي سنة 298هـ تقدم معنا مراراً ذكر حاله، وهو من العلماء الربانيين، قالوا له: ما علامة المريد الصادق؟ قال: لو قال لهذا الجبل تحرك لتحرك، فتحرك الجبل، فقال: ما إياك أردت، أي: لا أريد أن تتحرك، إنما أمثل, للمريد الصادق .. أنه لو قال للجبل: تحرك لتحرك، فما إياك أردت.

والإمام ابن تيمية عليه رحمة ربنا له رسالة سماها: قاعدة في المعجزات والكرامات، ووضح هذا أيضاً في رسالة أخرى, وهي الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، قال: إن الإيمان إذا اكتمل في الإنسان عقيدة وعملاً، واحتاج إلى خرق عادة وطلب، فإنه ستخرق له العادة ولا بد؛ لأن الله يقول: إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا [الأنفال:29]، وقال: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ [الطلاق:2-3]. فأما إذا لم يطلب فهذا أمر آخر, فإذا صح إيمانه وطلب فسوف يعطيه الله جل وعلا سؤله, وهو على كل شيء قدير سبحانه وتعالى، وهنا لو أن رجلاً موقناً قرأ بها على جبل لزال، أي: أراد أن يزيل الجبل وعنده إيقان فقرأ هذه السورة بنية زوال الجبل لزال.

والحديث كما قلت: جميع رجاله رجال الصحيح، ما فيهم إلا الإمام ابن لهيعة , وتقدم معنا حاله مراراً، وحديثه إن شاء الله في درجة الحسن، والعلم عند الله جل وعلا.

إخوتي الكرام! هذه أحاديث مرفوعة, وهنا أثران موقوفان، ونبينا عليه الصلاة والسلام أقر ما وقع فيهما، ولكن أن يعالج بمثل ما كان يعالج صلوات الله وسلامه عليه، فهو أقر علاقة بن صحار على معالجته وعلى أخذه الجعل، وأقر عبد الله بن مسعود رضي الله عنه, وقال له: ( لو أن رجلاً موقناً قرأ بها على جبل لزال )، فهذه الآثار كلها تثبت وقوع الصرع الحسي كما تقدم معنا.

إخوتي الكرام! قبل أن ننتقل إلى المرحلة الثانية من مراحل البحث، لأنه تقدم معنا صرع واختطاف وطعن, فأحياناً يصرعونه وأحياناً يختطفونه ويأخذونه، وأحياناً يقتلونه، وكلها ثابتة عن نبينا عليه الصلاة والسلام كما سيأتينا الإشارة إلى ذلك إن شاء الله.

وقبل أن ننتقل إلى النوع الثاني ألا وهو الخطف، بقي في مبحث الصرع لو سأل سائل: ما سبب صرع الجن للإنس؟

الإمام ابن تيمية -عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا- تعرض لهذا في مجموع الفتاوى في مكانين، وقرر أن صرع الجن للإنس يكون لسبب من أسباب ثلاثة:

أولها: شهوة وهوى وعشق, أي أنه يهوى ويشتهي ويعشق, إما امرأة من الجن تعشق رجلاً من الإنس، أو رجلاً من الجن يعشق رجلاً من الإنس، أو يعشق امرأة من الإنس, لكي يقع ما يريد، كما يوجد من يعشق في بني آدم؛ امرأة تعشق امرأة، والرجل يعشق الرجل، والرجل يعشق امرأة، وامرأة تعشق الرجل، وإذا ما أعطاه أحياناً مراده فإنه يبذل ما في وسعه لكي يقع، وهناك كذلك إذا عشق الجني الإنسي، فدخل فيه وصرعه وخذله؛ ليحصل غرضه منه.

ثانيها: أن يكون بسبب بغض ومجازاة وانتقام, فإذا كان الإنسي آذاه كأن يصب مثلاً الماء الحار في الأمكنة التي يسكنونها، أو يدخل الخلاء ولم يستعذ بالله من الشيطان الرجيم, وقد تقدم معنا كلام النبي عليه الصلاة والسلام, وهو صحيح: ( وإذا أتى أحدكم الخلاء فليستتر ). ثم صب عليهم ما يؤذيهم, فيضربونه، وأحياناً يقتلونه فأنت إذا آذيتهم ولم تعلمهم ليخرجوا من المكان فقد يزيدون في الأذى، وهذا يقع بكثرة.

والسبب الثالث: الصرع يقع عن طريق العبث والاعتداء, فيعبثون بالإنسان -فقط- كما يعبث بعض الإنس ببعضهم، فبعض سفهاء الإنس يعبث ببعض الإنس فيعتدي عليه، ويرميه بالحجارة، أو يضحك عليه ويستهزئ به، أو يؤذيهم من باب العبث واللعب، وهكذا يوجد أيضاً في الجن.

فإذا اشتهى الجني، أو أوذي الجني من قبل الإنسي، أو أراد أن يعبث طمعاً بالإنسان بعد ذلك، فإذا استطاع الوصول إليه حصل مراد الجني، وإذا كان عند الإنسان حصن يحصن نفسه بذكر رب العالمين, إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ [الحجر:42]، فتأتي السهام موجهة من الجني وليس في وسعه الوصول إلى الإنسي فيعبث، كما أن عدوك الإنسي إذا أراد أن يصيبك بأذى وعندك تحفظ وقوة ويقظة فإنه لا يستطيع أن يقرب منك، وكذلك الجني، ولكن هذا معنوي وذاك حسي، فإذا كان عندك قوة حسية فإنك تدفع العدو الظاهري، وإن كان عندك قوة معنوية فإنك تدفع هذا العدو الباطني المخفي عنا الذي يرانا ولا نراه.

وهذا الإمام ابن تيمية -كما قلت- ذكره في موضعين, في مجموع الفتاوى في الجزء الثالث عشر صفحة 82، يقول عليه رحمة الله: صرع الجن للإنس هو لأسباب ثلاثة: تارة يكون الجني يحب المصروع, فيصرعه ليتمتع به، وهذا الصرع يكون أرفق من غيره وأسهل, فهذا أخف أنواع الصرع، إذا كان الصرع من أجل شهوة وحب وهوى وتحصيل المراد، فيصرعه من أجل أن يتمتع به فيغيبه عن وعيه.

والسبب الثاني: يقول: وتارة يكون الإنسي آذاهم إذا بال عليهم.

وهذا -كما قلت- لسبب الانتقام والمجازاة؛ لأنه اعتدى عليهم، فهم قابلوا الاعتداء باعتداء أحياناً يزيد, فإذا بال عليهم، أو صب عليهم ماء حاراً، أو يكون قتل بعضهم أو غير ذلك من أنواع الأذى، وأشد أنواع الصرع إذا كان بسبب انتقام؛ لأجل أنك آذيته، فإذا آذيته فهذا الصرع يكون كثيراً ويلازم الإنسان، وقد يفقد الإنسان بهذا الصرع عقله على الدوام، وقد يقتل ظلماً وعدواناً كثير من الناس، حتى لو كان الواحد منهم نائماً، كما يوجد في عصاة المؤمنين فأحياناً إذا سببته أخذ المسدس وأطلق عليك الرصاص، وما السبب في قتله؟ لأنه سبه، لا أقول: إنه يجوز السب، لكن لا يستحق هذا الأمر، فإذا تكلمت معه بكلام قاسٍ فبعضهم عنده هذا الغضب وهذا الظلم، وهكذا الجن، فإذا آذيته يكون أشنع أنواع الصرع.

يقول الإمام ابن تيمية في النوع الثاني: وكثيراً ما يقتلون المصروع, أي: في هذه الحالة، إذا كان من باب الانتقام من أجل عدوانٍ وقع منه.

والسبب الثالث: يقول: وتارة يكون بطريق العبث به - أي: بالإنسي- كما يعبث سفهاء الإنس بأبناء السبيل, يعتدون عليهم ويحذفونهم بالحجارة، وهكذا الجن يريدون أن يضحكوا على الإنس، وأن يعبثوا بهم، فيوقعونهم ثم يضحكون عليهم بعد ذلك، وإذا وجد من ينصحهم خافوا منه وهربوا.

من هذه الأسباب الثلاثة يقع صرع الجني للإنسي.

وكما قلت: قد ذكره أيضاً في مجموع الفتاوى في الجزء التاسع عشر صفحة 39، وهناك علق على هذه الأسباب الثلاثة بعض التعليق في كيفية علاجها وإزالتها.

ثم انتقل إلى مبحث آخر قال: ومن استمتاع الإنس بالجن استخدامهم في الإخبار بالأمور الغائبة, إلى غيره.

يقول هنا: فصل: فإذا كان الجن أحياء عقلاء مأمورين منهيين لهم ثواب وعليهم عقاب, وقد أرسل إليهم النبي عليه الصلاة والسلام كما أرسل إلى الإنس تماماً -وهذا تقدم معنا- فالواجب على المسلم أن يستعمل فيهم ما يستعمله في الإنس من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله جل وعلا، كما شرع الله جل وعلا ورسوله صلى الله عليه وسلم، وكما دعاهم النبي عليه الصلاة والسلام، ويعاملهم إذا اعتدوا عليه بما يعامل به المعتدي، وتعامله على حسب ما يستحق من شريعة الله جل وعلا، فيدفع صوله بما يدفع صول الإنس.

وصرعهم للإنس قد يكون عن شهوة وهوى وعشق، كما يتفق للإنس مع الإنس تماماً، وكم من إنسان أحب إنساناً وكان نتيجة هذا الحب من أجل ألا يكون عند غيره، فهذا يقع بكثرة, وأحياناً بعضهم يقتله ويقتل نفسه أيضاً، فالعشق نوع من الجنون.

وقد يتناكح الإنس والجن, ويولد بينهما ولد, وهذا ضمن أنواع الصرع، وهذا كثير معروف, حيث يتناكحون ويتوالدون.

وقلنا: من ناحية الوقوع واقع، ولكن من حيث الحكم الشرعي هو ممنوع منه ومحرم كما تقدم معنا، وقد ذكر العلماء ذلك وتكلموا عليه, وكره أكثر العلماء مناكحة الجن.

إذاً: هذا النوع الأول من أنواع الصرع, وقد يكون أكثره عن بغض ومجازاة، مثل أن يؤذيهم بعض الإنس، أو يظنوا أنهم يتعمدون أذاهم إما ببول على بعضهم، وإما بصب ماء حار، وإما بقتل بعضهم وإن كان الإنسي لا يعرف ذلك, وفي الجن جهل وظلم فيعاقبونه بأكثر مما يستحقه.

وقد يكون - وهو النوع الثالث- عن عبث منهم وشر بمثل سفهاء الإنس.

يقول: وحينئذ فما كان من الباب الأول - الصرع عن طريق العشق والشهوة- فهو من الفواحش التي حرمها الله تعالى كما حرم ذلك على الإنس، وإن كان برضا الآخر أي أن: جنية عشقت إنسياً وجاءت إليه، وتصرعه وتتمتع به، أو جني عشق إنسية ولو قدر أنها راضية فهذا كما قلت: فاحشة لا يجوز، سواء عن طريق التراضي أو عن طريق الغصب والإكراه، فكله إثم.

إذاً: هذه من الفواحش التي حرمها الله تعالى كما حرم ذلك على الإنس وإن كان برضا الآخر، فكيف إذا كان مع كراهته؟ فإنه فاحشة وظلم، فيخاطب الجن بذلك, ويعرفون أن هذه فاحشة محرمة، أو فاحشة وعدوان؛ لتقوم الحجة عليهم بذلك، ويعلموا أنه يحكم فيهم بحكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم الذي أرسله إلى الثقلين الإنس والجن.

وقد تقدم معنا أن أمنا عائشة رضي الله عنها قتلت جنياً عندما كان يظهر لها بشكل ثعبان، وقد تقدم معنا, وقيل لها: إنه جني مأمور, فقالت: لو كان بمؤمن لما تراءى وظهر وخرج على أزواج النبي عليه الصلاة والسلام، فكيف يراهن؟ فقيل لها من قبل الجن: ما دخل عليك إلا وعليك جلبابك، ولم يدخل عليك وأنت بغير حجاب؟ ثم بعد ذلك أعتقت، وهذا ليس من باب الوجوب، وإنما فعلت هذا من أجل أن تحتاط لنفسها رضي الله عنها.

إذاً: وما كان من القسم الثاني فإن كان الإنسي لم يعلم فيخاطبون بأنه لم يعلم، ومن لم يتعمد الأذى لا يستحق العقوبة، وإن كان قد فعل ذلك في داره وعرفوا بأن الدار ملكه, فله أن يتصرف فيها بما يجوز, أي: ما اعتدى عليكم وذهب إلى المغارات والخلوات التي تختصون بها، إنما هذا في داره، وأنتم ليس لكم أن تمكثوا في ملك الإنس بغير إذنهم، بل لكم ما ليس من مساكن الإنس كالخرب والفلوات والمغارات؛ ولهذا يوجدون كثيراً في هذه الأماكن, نسأل الله العافية.

ويوجدون في مواضع النجاسات كالحمامات والحشوش والمزابل، كما قد يوجدون عند المقابر.

والشيوخ الذين تقترن بهم الشياطين، أو تكون أحوالهم شيطانية لا رحمانية يأوون كثيراً إلى هذه الأماكن التي هي مأوى الشياطين، فتراه يعكف عند القبور بكثرة، وعند المزابل ويذهب إلى المغارات والأماكن التي فيها الشياطين، وهكذا في مبارك الإبل وما شاكل ذلك.

إذاً: الصرع كما قلت هذه أسبابه، وسيأتينا في آخر البحث كما وعدت كلام الإمام ابن تيمية عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا في علاج المصروع، وأن هذا مطلوب منا، وهو من باب التعاون على البر والتقوى, وسيأتينا شيء من الضوابط توضع في هذا الأمر بعون الله جل وعلا.

وسيأتينا عند حوادث الخطف التي وقعت أن بعض من خُطف لم يؤذه الجن، وإنما لحبه له اختطفه ليستأنس بحبه, فكما يوجد من بعض الإنس أنه يحب بعضهم، فهكذا الطبيعة, ( والأرواح جنود مجندة، ما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف )، فنقول للجان: صار حبك شؤماً على الإنسي وأذى له وعاراً عليه، فاتق الله في جميع تصرفاتك، وسيأتينا خطف وقع في الجاهلية قبل نبينا عليه الصلاة والسلام، واحتفظ بها ولم يقترب منها في جاهلية؛ لأنه يقول: إنه صاحب حسب ونسب، وهو جني ثم لما جاء الإسلام قال: إنه آمن وحرم عليه الإسلام ذلك، وهي عنده.

فنقول له: إن الذي حرم عليك أن تعتدي عليها حرم عليك أن تخطفها عندك، ثم بعد ذلك لما حصل حرب بين قبيلتين من الجن وانتصروا على تلك القبيلة، استطاعوا أن يعيدوها إلى أهلها فعادت كما سيأتينا إن شاء الله.

إذاً: هذه حوادث ثابتة واقعة في زمن نبينا عليه الصلاة والسلام، تقدمت معنا اثنا عشر حادثة، عولجت أكثرها من قبل نبينا عليه الصلاة والسلام عشرة منها مباشرة، وحادثتان من قبل الصحابة الكرام، وأقرهما نبينا عليه وعلى آله وصحبه أفضل الصلاة وأزكى السلام.

ننتقل بعد ذلك إلى نوعٍ آخر من أنواع الصرع الحسي, وهو في الحقيقة أشنع من الصرع الذي يعتري الإنسان وهو بين أهله، ويقع ما بين الحين والحين، وهذا النوع هو خطف الإنسان من قبل الجن، وهناك أمثلة وحوادث كثيرة نذكر بعضها فيما يأتي.

قصة خطف رجل من قبل الجن زمن عمر بن الخطاب

قد يخطف الإنسان بحيث لا يوقف له على خبر, وهذا حصل في العصور الأولى ووقع في زمن الخليفة الراشد الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، وقضى قضاءً في شأن هذا المفقود، وترتب على ذلك القضاء أن زوج زوجته بعد اختطافه، ثم عاد بعد حين، فخيره عمر رضي الله عنه بين الزوجة وبين المهر، فإن أراد الزوجة فإنها تطلق من الثاني وتعود إلى الأول، وإن أراد المهر فله ذلك, فاختار المهر، وأخذ نصف المهر الذي بذله من زوجته والنصف الثاني من زوجها، وقال: هي مباركة عليك, ولا أريد أن أتزوجها بعد أن دخلت بها أنت.

هذا وقع بسند صحيح كالشمس وضوحاً في رابعة النهار، والأثر رواه ابن أبي الدنيا والبيهقي في السنن الكبرى في الجزء السابع صفحة 445، ورواه شيخ الإسلام عبد الرزاق في مصنفه في الجزء الثالث صفحة 87، وسعيد بن منصور في سننه في الجزء الأول صفحة 401، والأثر رواه الإمام ابن أبي شيبة في المصنف في الجزء الرابع صفحة 238، ورواه الإمام الدارقطني في السنن في الجزء الثالث صفحة 312. وقد ذكر الأثر الإمام الشبلي في آكام المرجان صفحة 77، وذكره السيوطي في لقط المرجان صفحة 93، وهذان الأخيران الشبلي والسيوطي عزيا الأثر فقط إلى ابن أبي الدنيا ، مع أنه في تلك الكتب كما وضحته.

وخلاصة الأثر: عن عبد الرحمن بن أبي ليلى وهو من الأنصار الأبرار رضي الله عنهم أجمعين: أن رجلاً من قومه من الأنصار خرج ليصلي العشاء في زمن عمر رضي الله عنه ففقد, وما عاد إلى البيت, وانقطع خبره فانطلقت امرأته إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فحدثته بذلك, وقالت إن زوجها خرج ليصلي ففقد فماذا تفعل؟ فأمرها أن تتربص أربع سنين، فتربصت، فأمرها أن تتزوج, أي: بعد أن تعتد, وامرأة المفقود سيأتينا إيضاح المدة التي تنتظرها إن شاء الله ضمن مباحث الفرائض في إرث المفقود وتوزيع ماله.

والإمام أحمد عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا قسم المفقود إلى حالتين:

الحالة الأولى: مفقود يغلب على سفره السلامة وانقطع خبره، كما لو سافر لتجارة أو طلب علم.

الحالة الثانية: مفقود يغلب على سفره الهلاك والعطب وانقطع خبره، كما لو فقد في المعركة، ولم نعلم هل قتل أو أسر، كما لو خرج ليصلي وفقد إلى الآن ولم يسافر.

إذاً: الحالة الأولى: لو سافر لتجارة أو طلب علم وانقطع خبره فإنه يغلب عليه السلامة، فنقدر له موت أقرانه في البلد، فلو قدر أنه ذهب وعمره ثلاثين نقول: حتى يموت أقرانه ويصل إلى تسعين فحكم بموته، ثم تعتد زوجته بعد ذلك.

وأما هنا فمما يغلب عليه الهلاك أربع سنين ثم يحكم بموته, فتعتد الزوجة بعد ذلك، وتصبح كأن زوجها قد مات حكماً لا حقيقة.

وبقية المذاهب يأتي تفصيل أقوالها في هذه المسألة إن شاء الله، وهذا القضاء ثابت عن عمر بالإسناد الصحيح، وقضى به خليفتان راشدان معه: أولهما سيدنا عثمان ، وثانيهما سيدنا علي , فهو قضاء الخلفاء الراشدين الثلاثة رضي الله عنهم وأرضاهم. ويأتينا قضاء الخليفتين الراشدين عثمان وعلي ضمن الفرائض؛ لأنه هناك لا يوجد أحد قتل، وإنما القضاء في امرأة المفقود الذي خطف من قبل الجن كما ستسمعون، فهذا قضى به سيدنا عمر رضي الله عنه وأرضاه.

وبعد أن تربصت أربع سنين واعتدت بعد ذلك تزوجت, ثم قدم زوجها الأول، فجاء إلى بيته, وإذ به يجد رجلاً آخر بدله مع زوجته، فارتفعوا إلى عمر رضي الله عنه وعن الصحابة أجمعين, فقال سيدنا عمر رضي الله عنه وأرضاه: يغيب أحدكم الزمان الطويل لا يعلم أهله حالته, أي: كيف أنت تغيب وما تأتي بخبرك؟ حقيقة أمرك عجيب!

والإنسان أحياناً قد يسافر ولا يخبر أهله، ومرة بعض الناس في بعض البلاد التقيت به يقول: سافرت في الطائرة ما يقارب ست ساعات إن لم يكن أكثر، ثم جئت وليس لزوجتي علم، قلت: أمرك عجيب حقيقة؟ هذه أول مرة أسمع في حياتي أن إنساناً يخرج من بيته، ولا يخبر زوجته أنه مسافر، وسيمكث أسبوعاً أو شهراً, والعلم عند الله، فعجيب هذا إخوتي الكرام!

وهذا الذي سيأتينا الآن معذور، ولكن أنت ما عذرك، فاتصل بهم بعد ذلك وقل: أنا في مكان كذا.

ومرة بعض الناس أيضاً في بلاد الشام يقول: خرجت لصلاة العصر وقابلت بعض الناس سيذهبون تسلية فذهبت معهم, فقلت: وأهلك! وليس لهم علم بسفره.

عموماً سيدنا عمر رضي الله عنه يقول: أحدكم يغيب الزمان الطويل لا يعلم أهله ما حالته، إذاً ماذا يعملون؟ ينتظرونه إلى ما لا نهاية؟ الرجل كان لعذر يا أمير المؤمنين! قال: وما عذرك؟ قال: خرجت أصلي صلاة العشاء فسبتني الجن, يعني: أخذوه واختطفوه، أي أنه ما لقي وسيلة للاتصال بالإنس على الإطلاق، قال: فسبتني الجن فكنت فيهم زماناً طويلاً، أي أنها زادت على الأربع سنين قطعاً؛ لأنه بعد فقد زوجها بفترة رفعت أمرها إلى سيدنا عمر رضي الله عنه وأرضاه، ثم حكم أن تتربص أربع سنين، بعد التربص أن تعتد, ثم إن شاءت أن تتزوج فلتتزوج، أي: إذا انتهت العدة تزوجت، فهي مكثت خمس سنين أو عشر سنين, العلم عند الله.

يقول: فمكثت زماناً طويلاً، قال: فغزاهم جن مؤمنون فقاتلوهم فظهروا عليهم، فأصابوا سبايا, فكنت فيمن أصابوا، فصرت أيضاً في سبي الآخر، فقالوا: ما دينك أنت؟ قلت: ديني الإسلام, وأنا مسلم، قالوا: فأنت على ديننا لا يحل لنا سبيك، ولا يجوز أن نسبي المسلم، ثم قالوا: أنت مخير, فإن شئت أن تقيم معنا, وإن شئت أن نعيدك إلى أهلك، فماذا تريد؟ قال: فاخترت القفول, أي: الرجوع إلى أهله ووطنه. قال: فأقبلوا معي يظهرون بصورة بشر بالليل يؤنسونني ويحدثونني، هذا في الليل عندما لا يراهم أحد، وفي النهار إعصار وهي الرياح الشديدة فأتبعها، فتتشكل الجن بصورة ريح في النهار فأنا أمشي وراءها، فقال له سيدنا عمر رضي الله عنه وأرضاه: فما كان طعامك؟ قلت: كل ما لم يذكر اسم الله عليه والغول، وهو حب معروف، ولعل هذا مع الجن الذين هم من الفريق الأول.

قال: فما كان شرابك؟ قلت: الجدف.

قال الإمام ابن الأثير في النهاية: الجدف هو: ما لم يُخمَّر من الشراب، أي: ما لم يغط، فكل شيء لم يغط من شراب الإنس فإن الجن تشرب منه، قال: فخيره عمر رضي الله عنه بين المرأة وبين الصداق، فاختار الصداق.

وورد في بعض الروايات أن الصداق كان أربعة آلاف درهم، فأخذ ألفين من المرأة, وألفين من زوجها الجديد، وبقيت مع زوجها الجديد.

والقصة -كما قلت إخوتي الكرام!- إسنادها صحيح, وهي ثابتة، فهذا نوع من أنواع الخطف، وقع في عهد سيدنا عمر رضي الله عنه وأرضاه.

قصة خطف خرافة

وورد في حديث نبينا عليه الصلاة والسلام ما يشير إلى هذا النوع من الخطف، والحديث رواه الإمام أحمد في المسند في الجزء السادس صفحة 157 من المسند، ورواه الإمام الترمذي في الشمائل المحمدية على نبينا خير البرية صلوات الله وسلامه، وكتاب الشمائل للإمام الترمذي مجلد واحد صغير ملحق بسنن الترمذي في بعض الطبعات, وفي الطبعة المصرية لم يلحقوه بالشمائل, وملحق به كتابان: العلل والشمائل، فهذه الشمائل في الطبعة التي طبعت في بلاد الشام موجودة مع سنن الترمذي ، وهي في وصف النبي صلى الله عليه وسلم في خَلقه وخُلقه.

والإمام ابن كثير في البداية والنهاية في الجزء السادس صفحة 47 عند باب مزاح النبي عليه الصلاة والسلام من ضمن الشمائل في بيان خلق النبي الطاهر الزكي، وخلقه النبيل العلي عليه صلوات الله وسلامه، قال مشيداً بهذا الكتاب للإمام الترمذي : صنف الناس في هذا - أي: في الشمائل النبوية المحمدية قديماً وحديثاً، ومن أحسن ما جمع في ذلك هذا الشمائل المحمدية للإمام الترمذي , فإنه أجاد وأفاد، ثم قال الإمام ابن كثير : ونحن نورد عيون ما أورده - في البداية والنهاية في قسم السيرة النبوية- ونزيد عليها أشياء مهمة لا يستغني عنها المحدث ولا الفقيه.

فالأثر في كتاب الشمائل المحمدية صفحة 128، ورواه الإمام أبو يعلى في مسنده والبزار أيضاً في مسنده والطبراني في المعجم الأوسط، قال الإمام الهيثمي في المجمع في الجزء الرابع صفحة 315: رجال أحمد ثقات، وفي بعضهم كلام لا يقدح. وسيأتينا من المتكلم فيه إن شاء الله من رجال أحمد بعون الله، وإسناد الطبراني فيه علي بن أبي سارة الشيباني , وهو ضعيف، ضعفه الإمام ابن حجر في تقريب التهذيب، ولم يخرج له من أصحاب الكتب الستة إلا الإمام النسائي عليهم جميعاً رحمة الله.

أما أثر المسند فرجاله ثقات، وفي بعضهم كلام لا يقدح، والكلام كما سيأتينا في مجالد ؛ لأنه من طريق مجالد عن الشعبي عن مسروق عن أمنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها، وسيأتينا أن الإمام ابن كثير - هذا في الإسناد الثاني- استغرب هذا الحديث واستنكره، وقال: في إسناده مجالد ، وسيأتينا الكلام عليه إن شاء الله.

إذاً: طريق الطبراني في معجمه الأوسط فيها علي بن أبي سارة، والطريق الأخرى مجالد بن سعيد وسيأتينا الكلام عليه إن شاء الله.

وعزاه الإمام السخاوي في المقاصد الحسنة في صفحة 199 إلى الترمذي في باب السمر أي بعد العشاء من جامعه، وهذا وهم، ولا يوجد في جامع الترمذي، وإنما يوجد في الشمائل النبوية، وتبعه على ذلك صاحب تمييز الطيب من الخبيث في صفحة 74 فقال: رواه الترمذي في جامعه وفي الشمائل.

ولفظ الحديث: عن أمنا عائشة رضي الله عنها قالت: ( حدث رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة نساءه حديثاً )، وهذا أورده الإمام الترمذي في باب ما جاء في كلام رسول الله عليه الصلاة والسلام في السمر, أي: بعد العشاء. ( حدث نساءه حديثاً، فقالت امرأة منهن: كأن الحديث حديث خرافة يا رسول الله! فقال نبينا عليه الصلاة والسلام: أتدرون ما خرافة؟ إن خرافة كان رجلاً من عذرة أسرته الجن في الجاهلية، فمكث فيهم دهراً، ثم ردوه إلى الإنس، فكان يحدث الناس بما رأى فيها من الأعاجيب, فقال الناس: حديث خرافة ).

لذلك الناس يطلقون على ما يستملح ويستغرب من الأخبار بأنه خرافة.

وهذا قبل بعثة نبينا الحبيب عليه الصلاة والسلام حيث كانت الجن تسترق السمع، فكان هذا الرجل على علم بما استرقوه مما سيقع، فلما أعادوه إلى قومه كان يخبر قومه بأنه سيقع كذا وكذا، فيقع، فيقولون: هذا حديث خرافة, أي: هذا الذي حدثنا به رجل بني عذرة الذي اسمه خرافة، وبما أنه نبأ غريب عجيب مستملح صار الناس يقولون عما يكذب: حديث خرافة، وعما يستملح حديث خرافة، أما عما يكذب فهذا خطأ؛ لأن الأصل أن خبر خرافة صحيح، ولكن كما قلت: الإنسان أحياناً يكذب بما لم يحط به علماً وإن كانت حقيقة.

ولذلك إحدى نساء النبي -على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه- قالت للنبي عليه الصلاة والسلام عندما حدث به نساءه في السمر قالت: ( كأن هذا حديث خرافة ), أي: تقصد أنه خبر عجيب غريب غير صحيح, فقال النبي عليه الصلاة والسلام: ( أتدرون ما خرافة؟ ) هذا الذي يتناقل الناس خبره أتدرون من هو؟ فقلن: لا. فأخبرهن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه رجل من بني عذرة أسر في الجاهلية، وبقي زماناً عند الجن ثم أعادوه، فكان يحدث قومه بما رأى فيهم من أعاجيب، فيقول الناس: هذا حديث خرافة.

وقد وضح هذا المعنى الإمام ابن الأثير في النهاية في غريب الحديث في الجزء الثاني صفحة 15 عند حرف الخاء، فقال: هو اسم رجل من عذرة، وليس من التخريف والهوج والكلام الباطل، وإنما هو اسم رجل من عذرة استهوته الجن وأسروه، فبقي فيهم زماناً ثم أعادوه، فكان يحدث قومه بما رأى فيهم، فأجرى الناس هذا الكلام على كل ما يكذبونه من الأحاديث، وعلى كل ما يستملح ويتعجب منه, فيقال: حديث خرافة, وهذا كأنه نذر خرافة.

وزوجة نبينا عليه صلوات الله وسلامه التي قالت: (كأنه حديث خرافة) لم تسم في هذه الروايات، ولكن في معجم الطبراني الأوسط سميت، وأنها هي أمنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها, وهي راوية الحديث، وما أضافته إلى نفسها في هذه الرواية، وأما هناك فواضح أن هذا حصل معها لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكان خاص عندما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في لحافها.

وهذه رواية الطبراني في معجمه الأوسط عن أمنا عائشة رضي الله عنها قالت: ( إن النبي عليه الصلاة والسلام حدثنا بحديث وهو معها في لحاف, فقالت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله! لولا أنك حدثتني بهذا لقلت: إنه حديث خرافة، فقال عليه الصلاة والسلام: أتدرين ما حديث خرافة؟ قالت: الشيء إذا لم يكن وقع قيل: إنه حديث خرافة), أي: شيء مكذوب. ولولا أنك حدثتني لقلت: إن هذا خبر خرافة، فقال عليه الصلاة والسلام: ( إن أصدق الحديث حديث خرافة ), أي: أصدق الكلام في الدلالة ومطابقة الواقع، ولا يقصد أنه هو الكلام الحق الذي لا يوجد بعد ذلك حق غيره.

إذاً: هذا كلام حق، وحديث يتناقله الناس وهو صدق. ( إن أصدق الحديث حديث خرافة، وهو رجلٌ من بني عذرة أسرته الجن, فبقي فيهم زماناً، فكان يستمع منهم ما يسترقونه من السمع، وهم كانوا يخبرونه بما يسترقونه من السمع، فلما أعادوه إلى قومه أخبر الناس بما سمع من الجن، فكان إذا وقع الأمر حسبما أخبرهم به خرافة قالوا: هذا حديث خرافة -أي: أمر مستملح عجيب غريب- وليس هذا من الأكاذيب ).

الحديث -كما قلت- في المسند وغيره وفي الشمائل المحمدية على نبينا صلوات الله وسلامه.

والإمام ابن كثير حكم على رجال المسند ورجال الترمذي بأن جميع رجال الإسناد ثقات، وفي بعضهم كلام لا يقدح, وهو مجالد ، وأما طريق الطبراني في الأوسط فكما قلت: فيه علي بن أبي سارة وهو ضعيف.

والإمام ابن كثير في البداية والنهاية أشار إلى الكلام على الرواية التي من طريق مجالد في البداية والنهاية في المكان الذي أشرت إليه في الجزء السادس صفحة 47 في مزاح نبينا الأمين عليه الصلاة والسلام, فقال: هو من غرائب الأحاديث، وفيه نكارة. ثم قال ومجالد يتكلمون فيه.

وكنت وضحت قريباً في مباحث النبوة أن لفظ النكارة يطلق على معنيين:

الأول: يطلق على ما هو باطل شديد الضعف متروك لا يعول عليه ولا يجوز الاحتجاج به.

الثاني: يطلق على ما انفرد به راويه، وقد يكون صحيحاً أو حسناً أو ضعيفاً، ولعل الإمام ابن كثير يقصد هذا، فكثيراً ما يطلق النكارة على الشيء المستغرب في تفسيره وفي البداية والنهاية، والعلم عند الله جل وعلا.

نعم في مجالد كلام، ولكنه إن شاء الله في درجة القبول، وهنا عندنا طريقان للحديث, فيتقوى كل منهما بالآخر، والحديث لا ينزل عن درجة الحسن بعون الله.

أما مجالد فهو مجالد بن سعيد أبو عمرو الكوفي ، قال عنه الحافظ : ليس بالقوي، وقد تغير في آخر عمره، وهو من رجال مسلم والسنن الأربع، وتوفي سنة 144هـ، وقال الإمام الذهبي في الكاشف في الجزء الثالث صفحة 106 في ترجمته: ضعفه ابن معين , وقال النسائي : ليس بالقوي، وقال مرة: إنه ثقة، وقال في المغني في الضعفاء: روى له الإمام مسلم متابعة, وهو مشهور صالح الحديث.

وعلى كل حال هو من رجال مسلم ، ولكن روى له متابعة ومقروناً، وهو من رجال السنن الأربعة، وكما قلت: يشهد له الرواية الثانية من طريق الطبراني في المعجم الأوسط، وعلى أن الإمام ابن كثير ما اعتبر الكلام في مجالد ضاراً ومضعفاً للحديث، فقال: رجاله ثقات، وفي بعضهم كلام لا يقدح.

هاتان القصتان: القصة الأولى وقعت في زمن سيدنا عمر رضي الله عنه وأرضاه، والقصة الثانية وقعت قبل بعثة نبينا عليه الصلاة والسلام، وأخبرنا عنها نبينا عليه الصلاة والسلام، وهو لا ينطق عن الهوى.

والقصة الأولى التي وقعت في زمن سيدنا عمر رضي الله عنه وأرضاه -كما تقدم معنا- حكم عمر فيها بحكم، وترتب عليها حكم في هذه الحياة، وهي اعتداد المرأة وفراقها بعد ذلك من زوجها ثم تزّوجها، ثم أعيد بعد ذلك من أسر الجن.

قصة خطف فتاة في الجاهلية ورجوعها إلى أهلها في الإسلام

وقد حصل أيضاً خطف مثل هذا في الجاهلية، لكن صاحبها أعيد في الإسلام، ذكر هذا الإمام السيوطي في لقط المرجان صفحة 95, وعزاه إلى كتاب الخرائطي في الهواتف -له كتاب اسمه الهواتف- وما وقفت عليه, وليس عندي علم به، والأثر أورده من طريق الشعبي عن النضر بن عمرو الحارثي .

وخلاصة الأثر يقول: كنا في الجاهلية إلى جانبنا غدير ماء مستنقع -أي: حوض يكون فيه الماء- فأرسلت ابنتي بصحفة لتأتينا بماء، وأخذت قدراً لتملأه ماء، فذهبت إلى هذا الغدير وما رجعت، فاستبطأناها فأبطأت علينا، فطلبناها فأعيتنا، فبحثنا عنها فلم نجدها، يقول: فوالله إني لذات ليلة جالس تعباً تحت مظلتي إذ طلع علي شبح، فلما دنا مني فإذا هي ابنتي التي فقدت عندما ذهبت لتستقي الماء من هذا الغدير، فقلت: ابنتي؟ قالت: نعم ابنتك، قلت: أين كنت أي بنية؟ قالت: أرأيت ليلة بعثتني إلى الغدير، أخذني جني فاستطار بي, فغيبني وأخفاني, فلم أزل عنده حتى وقع بينه وبين فريق من الجن حرب، فأعطى هذا الجني عهداً لئن ظفر بعدوه ليردنّي عليك، فظفر بهم فردني عليك، قال: فإذا هي قد شحب لونها، وتمرط شعرها، وذهب لحمها من شدة فزعها وخوفها وهولها، قال: فأقامت عندنا فصلحت حالها وانتعشت، فخطبها ابن عمها فزوجناها, وقد كان الجني جعل بينه وبينها أمارة وعلامة أنه إذا رابها ريب، وطرأ عليها طارئ، وحدث عليها حادث. أن تدخن له, أي: تظهر شيئاً يخرج دخاناً, وفي رواية ثانية: أرادها أن تولول، أي: تصيح, فقال: إذا رابك شيء، أو اعتراك شيء، أو طرأ عليك مشكلة فدخني وولولي، وأنا بعد ذلك أغيثك، فقال: وإن ابن عمها ذاك بعد أن تزوجها عاب عليها وقال لها: إن أنت إلا من الجن، وأنت شيطانة ولست بإنسية، ويتكلم عليها ولا يدري قصتها وما طرأ عليها، قال: فدخنت وولولت، فنادى مناد زوجها: ما لك ولهذه، ولو كنت تقدمت إليها لفقأت عينك، ولو كنت نهيتك قبل لفقأت عينيك، ولكن الآن انتبه, وبعد هذه المرة ما بقي تحذير آخر، لقد رعيتها في الجاهلية بحبي، وفي الرواية الثانية: بحسبي.

يقول: أنا من كرام الجن، أو تظن أني أحبها وأهواها وأنا صاحب حسب، ما مددت يدي ولا اعتديت عليها، وإنما أستأنس بها.

هذه في الجاهلية ما اعتديت عليها، ولكن أرعاها بحبي وحسبي، ولما أسلمت واهتديت فخشية الله تمنعني من الاعتداء عليها، ولكن لما قاتلنا من قاتلناهم نذرت إن نصرني الله عليهم أن أعيدها إلى أهلها.

وحتماً اختطافها ظلم، ولكن قد يقع المؤمن في معصية، أي: كم من إنسي يعتدي على امرأة أحياناً وهو يعلم أن هذا ظلم وحرام, فهذا يقع، وهنا كذلك، ولكن هنا الاعتداء بالخطف فقط. فقال له الرجل: ألا تظهر لنا حتى نراك فأنت تكلمنا ولا نراك؟ فقال: ليس ذلك لنا, إن أبانا - وهو عزازيل كما يقول علماؤنا, وأبو مرة كنيته، ولقبه واسمه إبليس- سأل لنا ثلاثاً: أن نرى ولا نرى, إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ [الأعراف:27]، وأن نكون تحت أطباق الثرى, نختفي عن الناس ونسكن في المغارات والجحور, وأن يعمر أحدنا حتى تبلغ ركبتاه حنكه, أي: ظهره يتقوس، ومن شيخوخته حنكه يصل إلى ركبتيه، ثم يعود فتى شاباً كما كان. ولكن أئمتنا يقولون: هذا الوصف لا يكون لسائر الجن، وتقدم معنا أن الجن يموتون كما يموت بنو آدم، ويقولون: هذا يحصل لنوع من الجن وهو بكر بكراً، أي: إذا تزوج الجني بجنية فأول ولد منهما يعمر إلى ما شاء الله، فليس حاله كحال من بعده من إخوته, هذا تمتد حياته حتى تصيب ركبتاه حنكه، ثم بعد الهرم يعود صبياً, وهكذا.

فسأل أبونا - وهو إبليس- الله ثلاثة أمور لنا: أن نرى ولا نرى، وأن نغيب تحت أطباق الثرى, وعندنا قدرة على ذلك، وأن يعمر أحدنا حتى تصيب ركبتاه حنكه ثم يعود كما كان فتى.

هذه القصة أوردها وعلق عليها بعد ذلك بأمور في قرابة صفحتين من طريقين، ونقلاً عن كتاب الهواتف للإمام الخرائطي ، وما أستطيع أن أتكلم على سندها، إنما أقول: من طريق الشعبي عن النضر بن عمرو الحارثي ، والإسناد ليس أمامي لأتكلم عليه، ولكن وقوعه ممكن، وتقدم ما يشهد لها في الجملة من قصة خرافة, وأخبرنا عنها من لا ينطق عن الهوى عليه الصلاة والسلام، ومن قصة عبد الرحمن بن أبي ليلى في الصحابي الذي فقد أو لعله من التابعين, والعلم عند رب العالمين في زمن سيدنا عمر رضي الله عنهم أجمعين، لقد فقد واعتدت زوجته, ثم تزوجت بعد أن أسره الجن، وهذا ثابت.

فإذاً: وقوعه ثابت في الجملة، لكن هذه الحادثة ما درجتها؟ حقيقة لا أعلم.

وهذا الأمر فيما يظهر والعلم عند الله كان معلوماً عند الصحابة رضي الله عنهم.

والحديث الذي معنا وهو حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه: ( لا تستنجوا بالعظم ولا بالروث؛ فإنه زاد إخوانكم من الجن )، كنت ذكرت لكم أن روايته المطولة في سنن الترمذي في كتاب التفسير من تفسير سورة الأحقاف، ورواه الإمام أحمد أيضاً في المسند مطولاً، والإمام مسلم في صحيحه، شرح الإمام النووي في الجزء الرابع صفحة 166, وفيه: أن النبي عليه الصلاة والسلام عندما خرج إلى شعاب مكة ليقابل الجن وافتقده الصحابة، وظنوا أنه استطير أو اغتيل، والاستطارة: هي من طار به الجن وأخفوه عن الصحابة الكرام، فهذا كان معلوماً عند الصحابة، أو اغتيل أي: قتل خفية وسراً، ولفظه في صحيح مسلم عن عامر وهو الشعبي قال: سألت علقمة : ( هل كان ابن مسعود رضي الله عنه شهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن؟ قال: فقال علقمة : أنا سألت ابن مسعود , فقلت: هل شهد أحد منكم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن؟ قال: لا ).

وهذا كما سيأتينا أن بعضهم شهد وبعضهم لم يشهد، ولكن الوقائع تعددت، ففي بعض المواقع شهدوا, وفي بعض المواقع لم يشهدوا.

( ولكنا كنا مع رسول الله عليه الصلاة والسلام ذات ليلة ففقدناه فالتمسناه في الأودية والشعاب فقلنا: استطير, أي: طارت به الجن وأخفوه وخطفوه, أو اغتيل، أي: قتل خفية وسراً, قال: فبتنا بشر ليلة بات بها قوم، فلما أصبحنا إذا هو قد جاء من قبل حراء، قال: فقلنا: يا رسول الله! فقدناك فطلبناك فلم نجدك, فبتنا بشر ليلة بات بها قوم، فقال: أتاني داعي الجن, فذهبت معه فقرأت عليهم القرآن, قال: فانطلق بنا فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم، وسألوه الزاد, فقال: لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه )، وهذا في حق مؤمني الجن كما تقدم معنا ( يقع في أيديكم أوفر ما يكون لحماً، وكل بعرة علف لدوابكم, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فلا تستنجوا بهما؛ فإنهما طعام إخوانكم ).

إذاً: هذا كان معلوماً كما قلت عند الصحابة الكرام.

خلاصة الكلام إخوتي الكرام!: النوع الثاني مما يدخل في الصرع: الخطف وهو أن يختطف الجني الإنسي، وأن يغيبه عن أعين الإنس بحيث ينقطع خبره, ولا يعلم أين هو، وقد يعيدونه، وقد يموت عندهم.

نسأل الله أن يحفظنا من شر كل ذي شر، وألا يجعل للإنس ولا للجن علينا سبيلاً, إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.

قد يخطف الإنسان بحيث لا يوقف له على خبر, وهذا حصل في العصور الأولى ووقع في زمن الخليفة الراشد الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، وقضى قضاءً في شأن هذا المفقود، وترتب على ذلك القضاء أن زوج زوجته بعد اختطافه، ثم عاد بعد حين، فخيره عمر رضي الله عنه بين الزوجة وبين المهر، فإن أراد الزوجة فإنها تطلق من الثاني وتعود إلى الأول، وإن أراد المهر فله ذلك, فاختار المهر، وأخذ نصف المهر الذي بذله من زوجته والنصف الثاني من زوجها، وقال: هي مباركة عليك, ولا أريد أن أتزوجها بعد أن دخلت بها أنت.

هذا وقع بسند صحيح كالشمس وضوحاً في رابعة النهار، والأثر رواه ابن أبي الدنيا والبيهقي في السنن الكبرى في الجزء السابع صفحة 445، ورواه شيخ الإسلام عبد الرزاق في مصنفه في الجزء الثالث صفحة 87، وسعيد بن منصور في سننه في الجزء الأول صفحة 401، والأثر رواه الإمام ابن أبي شيبة في المصنف في الجزء الرابع صفحة 238، ورواه الإمام الدارقطني في السنن في الجزء الثالث صفحة 312. وقد ذكر الأثر الإمام الشبلي في آكام المرجان صفحة 77، وذكره السيوطي في لقط المرجان صفحة 93، وهذان الأخيران الشبلي والسيوطي عزيا الأثر فقط إلى ابن أبي الدنيا ، مع أنه في تلك الكتب كما وضحته.

وخلاصة الأثر: عن عبد الرحمن بن أبي ليلى وهو من الأنصار الأبرار رضي الله عنهم أجمعين: أن رجلاً من قومه من الأنصار خرج ليصلي العشاء في زمن عمر رضي الله عنه ففقد, وما عاد إلى البيت, وانقطع خبره فانطلقت امرأته إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فحدثته بذلك, وقالت إن زوجها خرج ليصلي ففقد فماذا تفعل؟ فأمرها أن تتربص أربع سنين، فتربصت، فأمرها أن تتزوج, أي: بعد أن تعتد, وامرأة المفقود سيأتينا إيضاح المدة التي تنتظرها إن شاء الله ضمن مباحث الفرائض في إرث المفقود وتوزيع ماله.

والإمام أحمد عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا قسم المفقود إلى حالتين:

الحالة الأولى: مفقود يغلب على سفره السلامة وانقطع خبره، كما لو سافر لتجارة أو طلب علم.

الحالة الثانية: مفقود يغلب على سفره الهلاك والعطب وانقطع خبره، كما لو فقد في المعركة، ولم نعلم هل قتل أو أسر، كما لو خرج ليصلي وفقد إلى الآن ولم يسافر.

إذاً: الحالة الأولى: لو سافر لتجارة أو طلب علم وانقطع خبره فإنه يغلب عليه السلامة، فنقدر له موت أقرانه في البلد، فلو قدر أنه ذهب وعمره ثلاثين نقول: حتى يموت أقرانه ويصل إلى تسعين فحكم بموته، ثم تعتد زوجته بعد ذلك.

وأما هنا فمما يغلب عليه الهلاك أربع سنين ثم يحكم بموته, فتعتد الزوجة بعد ذلك، وتصبح كأن زوجها قد مات حكماً لا حقيقة.

وبقية المذاهب يأتي تفصيل أقوالها في هذه المسألة إن شاء الله، وهذا القضاء ثابت عن عمر بالإسناد الصحيح، وقضى به خليفتان راشدان معه: أولهما سيدنا عثمان ، وثانيهما سيدنا علي , فهو قضاء الخلفاء الراشدين الثلاثة رضي الله عنهم وأرضاهم. ويأتينا قضاء الخليفتين الراشدين عثمان وعلي ضمن الفرائض؛ لأنه هناك لا يوجد أحد قتل، وإنما القضاء في امرأة المفقود الذي خطف من قبل الجن كما ستسمعون، فهذا قضى به سيدنا عمر رضي الله عنه وأرضاه.

وبعد أن تربصت أربع سنين واعتدت بعد ذلك تزوجت, ثم قدم زوجها الأول، فجاء إلى بيته, وإذ به يجد رجلاً آخر بدله مع زوجته، فارتفعوا إلى عمر رضي الله عنه وعن الصحابة أجمعين, فقال سيدنا عمر رضي الله عنه وأرضاه: يغيب أحدكم الزمان الطويل لا يعلم أهله حالته, أي: كيف أنت تغيب وما تأتي بخبرك؟ حقيقة أمرك عجيب!

والإنسان أحياناً قد يسافر ولا يخبر أهله، ومرة بعض الناس في بعض البلاد التقيت به يقول: سافرت في الطائرة ما يقارب ست ساعات إن لم يكن أكثر، ثم جئت وليس لزوجتي علم، قلت: أمرك عجيب حقيقة؟ هذه أول مرة أسمع في حياتي أن إنساناً يخرج من بيته، ولا يخبر زوجته أنه مسافر، وسيمكث أسبوعاً أو شهراً, والعلم عند الله، فعجيب هذا إخوتي الكرام!

وهذا الذي سيأتينا الآن معذور، ولكن أنت ما عذرك، فاتصل بهم بعد ذلك وقل: أنا في مكان كذا.

ومرة بعض الناس أيضاً في بلاد الشام يقول: خرجت لصلاة العصر وقابلت بعض الناس سيذهبون تسلية فذهبت معهم, فقلت: وأهلك! وليس لهم علم بسفره.

عموماً سيدنا عمر رضي الله عنه يقول: أحدكم يغيب الزمان الطويل لا يعلم أهله ما حالته، إذاً ماذا يعملون؟ ينتظرونه إلى ما لا نهاية؟ الرجل كان لعذر يا أمير المؤمنين! قال: وما عذرك؟ قال: خرجت أصلي صلاة العشاء فسبتني الجن, يعني: أخذوه واختطفوه، أي أنه ما لقي وسيلة للاتصال بالإنس على الإطلاق، قال: فسبتني الجن فكنت فيهم زماناً طويلاً، أي أنها زادت على الأربع سنين قطعاً؛ لأنه بعد فقد زوجها بفترة رفعت أمرها إلى سيدنا عمر رضي الله عنه وأرضاه، ثم حكم أن تتربص أربع سنين، بعد التربص أن تعتد, ثم إن شاءت أن تتزوج فلتتزوج، أي: إذا انتهت العدة تزوجت، فهي مكثت خمس سنين أو عشر سنين, العلم عند الله.

يقول: فمكثت زماناً طويلاً، قال: فغزاهم جن مؤمنون فقاتلوهم فظهروا عليهم، فأصابوا سبايا, فكنت فيمن أصابوا، فصرت أيضاً في سبي الآخر، فقالوا: ما دينك أنت؟ قلت: ديني الإسلام, وأنا مسلم، قالوا: فأنت على ديننا لا يحل لنا سبيك، ولا يجوز أن نسبي المسلم، ثم قالوا: أنت مخير, فإن شئت أن تقيم معنا, وإن شئت أن نعيدك إلى أهلك، فماذا تريد؟ قال: فاخترت القفول, أي: الرجوع إلى أهله ووطنه. قال: فأقبلوا معي يظهرون بصورة بشر بالليل يؤنسونني ويحدثونني، هذا في الليل عندما لا يراهم أحد، وفي النهار إعصار وهي الرياح الشديدة فأتبعها، فتتشكل الجن بصورة ريح في النهار فأنا أمشي وراءها، فقال له سيدنا عمر رضي الله عنه وأرضاه: فما كان طعامك؟ قلت: كل ما لم يذكر اسم الله عليه والغول، وهو حب معروف، ولعل هذا مع الجن الذين هم من الفريق الأول.

قال: فما كان شرابك؟ قلت: الجدف.

قال الإمام ابن الأثير في النهاية: الجدف هو: ما لم يُخمَّر من الشراب، أي: ما لم يغط، فكل شيء لم يغط من شراب الإنس فإن الجن تشرب منه، قال: فخيره عمر رضي الله عنه بين المرأة وبين الصداق، فاختار الصداق.

وورد في بعض الروايات أن الصداق كان أربعة آلاف درهم، فأخذ ألفين من المرأة, وألفين من زوجها الجديد، وبقيت مع زوجها الجديد.

والقصة -كما قلت إخوتي الكرام!- إسنادها صحيح, وهي ثابتة، فهذا نوع من أنواع الخطف، وقع في عهد سيدنا عمر رضي الله عنه وأرضاه.




استمع المزيد من الشيخ عبد الرحيم الطحان - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح الترمذي - باب الاستتار عند الحاجة، والاستنجاء باليمين، والاستنجاء بالحجارة [4] 4050 استماع
شرح الترمذي - باب ما جاء في فضل الطهور [6] 3982 استماع
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [9] 3910 استماع
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [46] 3797 استماع
شرح الترمذي - مقدمات [8] 3790 استماع
شرح الترمذي - باب مفتاح الصلاة الطهور [2] 3777 استماع
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [18] 3576 استماع
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [24] 3489 استماع
شرح الترمذي - باب ما يقول إذا خرج من الخلاء [10] 3469 استماع
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [6] 3418 استماع