تفسير سورة الحج (9)


الحلقة مفرغة

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.

أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذا اليوم ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله؛ يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).

وها نحن مع سورة الحج المكية المدنية، ومع هذه الآيات الأربع، والله تعالى نسأل أن ينفعنا بما ندرس ونسمع، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ * أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ [الحج:38-41].

معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا [الحج:38]، هذا خبر من أخبار الله تعالى، إذ أخبرنا في كتابه القرآن الكريم بأنه يدافع عن الذين آمنوا، وهذا شأنه عز وجل، إذ يدفع عن الذين آمنوا ظلم الظالمين وكيد الكائدين ومكر الماكرين؛ لأن المؤمنين بحق وصدق هم أولياء الله تعالى، والله عز وجل يقول: ( من آذى لي ولياً فقد آذنته بالحرب )، فإذا تحقق الإيمان الصادق وأصبح صاحبه مؤمناً حقاً فليعلم أن الله يدافع عنه والله العظيم، وهذا هو الخبر الأول.

وأما الخبر الثاني فقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ [الحج:38]، والخوان هو كثير الخيانة والغدر والعياذ بالله، والكفور هو كثير الكفر، فقد كفر بالله وبكتابه وبرسوله وبلقائه وشرائعه وأحكامه، فجحدها وتنكر لها، فهذان شخصيتان الله يكرههما ولا يحبهما، ومن كرهه الله والله ما سعد ولا نجا ولا كمل، ومن لم يحبه الله والله ما كمل ولا سعد، فلنحذر أن نكون ممن لا يحبهم الله تعالى، من هم؟ أصحاب الخيانة والغدر والكذب والكفر والجحود لله ولنعمه، لله ولشرائعه، لله ولرسله، ومعنى هذا: يجب أن نوقن أن الله يدفع عنا، وقرئ في القراءات السبع: (إن الله يدفع عن الذين آمنوا).

وقيل: إن هذه الآية: إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ [الحج:38]، نزلت في المؤمنين في مكة قبل الهجرة، وذلك عندما فكر بعضهم في أن يعملوا على اغتيال المشركين والغدر بهم وخيانتهم، فلم يسمح الله تعالى لهم بذلك؛ لأنهم عاجزون عن قتال الكافرين، وليس لهم دولة ولا سلطان ولا أمة، فكونهم يغتالون ويخدعون ويقتلون فإنهم يجلبون على أنفسهم البلاء أكثر، وهذا هو الذي فهمناه من كتاب الله تعالى، وقد قلنا لإخواننا المسلمين في الشرق والغرب: لستم أهلاً أبداً لأن تغتالوا وتقتلوا وتفجروا بحجة أنكم تريدون أن تكرموا الإسلام وشرائعه، فهذا غدر وخيانة وأمر باطل ولا يصح أبداً، إلا إذا التففتم حول رجل وبايعتموه علناً، والتفت حوله الأمة الإسلامية، فنعم حينئذٍ لهم أن يسقطوا أو يبعدوا الحاكم الذي لا يطبق شرع الله تعالى، وينصبوا الحاكم الذي تعهد لهم بتطبيق شرع الله تعالى، وهذه القضية سياسية، ولكن يجب أن نكون على بصيرة من ذلك، فالاغتيالات والتفجيرات والتكفير والسب والشتم ليس من شأننا أبداً، ولم يسمح الله تعالى لنا بها، فمن علموا أن الأمة معهم فليطلبوا الأمة أن تلتف حولهم، وأن تبايعهم، وأن يعلنوا عن دين الله وشرعه ودولته، وحينئذٍ إذا نازع الحاكم فلهم أن يسقطوه ويبعدوه.

إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ [الحج:38]، والخوان هو كثير الخيانة، والخوان هو الغادر الذي يغدر، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: ( إن الله ينصب يوم القيامة لكل غادر لواء يلصق بأسته على قدر غدره، ويقال: هذه غدرة فلان بن فلان )، فيفضحه في العالم يوم القيامة، ولذا ليس من شأننا الغدر والخيانة أبداً، فإذا أردنا الجهاد بايعنا إمامنا، ووجدنا أنفسنا قادرين على الجهاد مستعدين له، وعند ذلك يقودنا إلى الجهاد، أما التفجيرات والاغتيالات والتكفير والسب والشتم والخيانة فهذا الذي عم العالم الإسلامي سنين، كل هذا ليس من الإسلام في شيء، ولن يحقق شيئاً، وقد مضت أكثر من أربعين سنة هل حققت شيئاً في أي بلد؟ لا والله، بل حقق البلاء والمحن والفتن.

إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ [الحج:38]، هذه الآية نزلت في مكة حتى لا يقوم فلان وفلان باغتيال عمرو بن هشام أو عقبة بن أبي معيط فينتج عن ذلك فتن ويذبح المؤمنون ويقتلون، وقد قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ثلاث عشرة سنة في مكة وهم يتلقون الضرب والعذاب والاستهزاء والسخرية، ومع هذا لم يأذن الله تعالى لهم بالقتال؛ لأنه لا يثمر شيئاً ولا ينتج إلا البلاء في هذه الفترة، فكونك تفجر سيارة أو طيارة لا تحقق إلا البلاء والعياذ بالله تعالى، فهل فهمتم هذا الكلام أو لا ؟

إن هذا كلام الله بين أيدينا، ولذلك إذا أراد أهل إقليم أن يقيموا شرع الله تعالى فأولاً: أن يعملوا على توجيه الأمة إلى الإسلام حتى تصبح راغبة في تطبيقه وتنفيذه في أنفسها وفي أسرها، وحينئذٍ إذا ظهر الإصلاح وأصبح أهل البلاد مصلحين يسهل عليهم أن يبايعوا إماماً أو حاكماً لهم يطبق شرع الله فيهم، فيقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، أما مجرد هذه المناورات والاغتيالات والخداع والسب والشتم والتكفير، فهذا باطل وليس من الإسلام في شيء.

قال تعالى: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ [الحج:39].

أُذِنَ [الحج:39]، وفي قراءة سبعية: (أََذن)، فمن الذي أذن؟ الله، لمن؟ (للذين يقاتِلون) قراءة سبعية، بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا [الحج:39]، وهذه الآية قد نزلت في المدينة ، وذلك لما تكونت الدولة ووجد رسول الله والأمة وراءه من الأنصار والمهاجرين، فحينئذٍ جاء الإذن بالقتال.

أُذِنَ [الحج:39]، لمن؟ للذين يقدرون على القتال، لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ [الحج:39]، أي: يقاتلهم العدو وهم قادرون على القتال، فلماذا هذا الإذن؟ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا [الحج:39]، أي: أخرجوا من ديارهم، وصادروا أموالهم وتركوها في مكة وجاءوا إلى المدينة مهاجرين وعلى رأسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما وجدت الفرصة وسنحت جاء الإعلان الإلهي: أُذِنَ [الحج:39]، من الذي أذن؟ الله، لمن؟ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا [الحج:39]، أي: اخرجوا من بلدهم، فأخذت أموالهم وصودرت منهم، وسبوا وشتموا وفعلوا بهم العجب، فلما وجدت لهم شوكة أذن تعالى لهم بالقتال، بينما في مكة والله ما أذن لأحد أن يحمل سلاحاً، وإنما يتحملون الضرب والسب والشتم، ولو أخذوا يغتالون لانتهى المسلمين هناك.

أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا [الحج:39]، أي: بسبب ظلم العدو لهم، فلما ظلموا وأصبحوا أهلاً لئن يقاتلوا أذن الله لهم بالقتال، وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ [الحج:39]، وقد تحقق هذا بالحرف الواحد، وذلك لما جاءوا إلى بدر انتصروا، وبعد كذا سنة فتحوا مكة ودخلوا ديارها واحتلوها وأصبحت ملكاً لهم، وهذا مصداق قوله تعالى: وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ [الحج:39]، فلا يعجزه شيء أبداً، وقد فعل ذلك سبحانه وتعالى.

قال تعالى: الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ [الحج:40].

ثم قال تعالى في بيان هؤلاء الذين أذن لهم في القتال: الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ [الحج:40]، لماذا يخرجون رسول الله؟ لماذا يخرجون الصديق وأسرته؟ لماذا يخرجون عمر؟ لماذا يخرجون فلاناً وفلاناً؟ بأي سبب؟ على أن قالوا: لا إله إلا الله واعترفوا بوحدانية الله تعالى، أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ [الحج:40]، فما هناك مبرر أبداً لإخراجهم إلا قولهم: لا إله إلا الله، وهو والله حق، فقد أبوا أن يعترفوا بالأصنام مع الله فتكون آلهة، فقالوا: لا إله، أي: كل هذه الآلهة باطلة، ومن ثم غضبوا عليهم واستشاطوا وأرادوا أن يفعلوا بهم العجائب، فطردوهم وصادروا أموالهم، لا لسبب إلا لقولهم: ربنا الله، فالذي يقول: لا إله إلا الله يقتل؟! بل يحفظ ويكرم ويعز؛ لأنه اعترف بالحق، والذي يقول: إن الآلهة سبعة وعشرة وعشرين ومائة! فهذا والله لهو الكذاب المفتري، فلا يبارك حاله ولا يسكت عنه.

ثم قال تعالى: وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا [الحج:40]، وهذه سنة من سنن الله تعالى في الخلق، إذ يقول وقوله الحق: وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ [الحج:40]، أي: دفع الظالم بالمظلوم، ودفع المعتدي بمن اعتدي عليه، فلولا أنه في كل زمان وفي كل عصر يوجد ناس يدافعون عن الحق ويدفعون الباطل لما بقيت صومعة ولا بيعة ولا مسجد، والصوامع جمع: صومعة، والصومعة هي المكان الذي يجلس فيه الراهب النصراني يتعبد فيه، وفي المغرب يسمون المنارة صومعة؛ لأنه يجلس فيها المؤذن، والبيع جمع: بيعة، وهي الكنائس التي يبنيها النصارى ويتعبدون فيها، والصلوات جمع: صلوت، وهي بيع اليهود وكنائسهم، وقد تعربت، وأما المساجد فهي بيوت الله للمسلمين.

ولذلك لولا أن الله يدفع الباطل بالحق، ويسلط أهل الحق على الباطل ما بقي مسجد ولا كنيسة ولا عبِد الله تعالى، بمعنى: أن الحرب والقتال من سنن الله تعالى في الأرض، وهذه هي الحقيقة، إذ لولا أن هناك جهاد ومجاهدون ما بقي كنيسة ولا مسجد ولا عبد الله بالمرة، وهذا معنى قوله تعالى: وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ [الحج:40]، يعني: بالجهاد، لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا [الحج:40]، وبالفعل.

وهنا مسألة فقهية: لا يسمح لنا الرب تعالى بأن نهدم كنيسة إن دخلنا بلاد النصارى، وكذلك إن دخلنا بلاد اليهود، ولذلك فأيما معبد نجده فإننا نتركه ولا يسمح لنا بهدمه، لكن لا يسمح لنا أن نأذن لهم ببنائه، فلو سقط وتهدم وأرادوا أن يجددوا بنائه فلا يجوز، ولو طلبوا منا أن يبنوا كنيسة ما نسمح لهم؛ لأننا حينئذٍِ قد أذنا بالكفر وسمحنا به، لكن ما دمنا دخلنا بلادهم داعين إلى ربنا، وسدنا وحكمنا، فمن باب أنهم كانوا يعبدون الله في هذه الكنيسة فتبقى لهم ولا يجوز هدمها، لكن إن هدمت بسبب آخر فلا يسمح لهم بتجديد بنائها، وهذه قاعدة عامة، وهذا هو معنى قوله تعالى: وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا [الحج:40]، فهل عرفتم أن الجهاد مفروض على المؤمنين في كل زمان ومكان من قبل إبراهيم ومن بعده؟

وقوله تعالى: وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ [الحج:40]، هذا وعد إلهي صادق، وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ [الحج:40]، ولعزة الله وجلاله لننصرن من ينصرنا، فالله يحلف بأنه سينصر من ينصره، فمن هم الذين ينصرون الله؟ الكافرون أو المؤمنون؟ الموحدون أو المشركون؟ المستقيمون المهتدون أو الظالمون الفاجرون؟ ولينصرن الله من ينصره، وهل قد فعل هذا؟ إي نعم، فقد انتصر أصحاب رسول الله وأولادهم وأحفادهم ونشروا الدين الإسلامي في العالم، ففي خلال خمسة وعشرين سنة وصل الدين الإسلامي إلى نهر السند شرقاً وإلى الأندلس غرباً، أي: خلال ربع قرن فقط، واليوم لو وجدت أمة صادقة الإيمان مستقيمة على منهج الحق والله لينصرها الله ولو قاتلت أهل الأرض كلهم، إذ إن هذا وعد الله لا يتخلف أبداً؛ لأن الله قوي عزيز، إذ لو كان ضعيفاً أو غير عزيز يتنازل ويغلب لكان يقال: لو نقاتل الآن في سبيله فإننا سننهزم؛ لأنه لا ينصرنا لضعفه.

ثم قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ [الحج:40]، أي: عزيز لا يمانع في شيء يريده أبداً، وقوي قادر على فعل ما أراد أن يفعل بالإعزاز أو بالإذلال، بالإعطاء أو بالمنع، وهذا الوعد موجود ومتحقق، فلو أن المسلمين في أي إقليم رجعوا إلى الله واطرحوا بين يديه وبايعوا إماماً لهم، وطبقوا شرع الله فيهم، والله لو قاتلهم أهل الأرض أجمعون لانتصروا عليهم، وحقق الله لهم هذا الوعد الإلهي.

قال تعالى: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ [الحج:41].

الَّذِينَ [الحج:41]، أي: هؤلاء الذين ينصرهم الله، الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ [الحج:41]، وحكموا وسادوا، أقاموا الصلاة، وهذا أول مظهر من مظاهرهم الحقة، فما معنى: يقيمونها؟ يجبرون المواطنين على أدائها ولا يسمح بتركها بحال من الأحوال، وأن تؤدى على الوجه المطلوب كما أداها رسول الله صلى الله عليه وسلم وبينها، فلا تهاون ولا تلاعب ولا عبث، وإنما أقاموا الصلاة في ديارهم.

ثانياً: وَآتَوُا الزَّكَاةَ [الحج:41]، أي: جبوا الزكاة رسمياً رغم أنف الناس، وذلك من الأغنياء أرباب الأموال، ولا يتركون الناس من شاء أن يزكي ومن شاء ألا يزكي، بل يجب أن تؤخذ الزكاة منهم من الثمار والحبوب والأنعام والدينار والدرهم.

ثالثاً: وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ [الحج:41]، أي: أمروا بالمعروف وهو عبادة الله وحده، ونهوا عن المنكر وهو الشرك بالله تعالى، أمروا بالمعروف مما جاء به الإسلام من سائر المعروف، ونهوا عن المنكر من سائر المنكرات، فهذه هي أركان الدولة الإسلامية، فهل تحقق هذا في العالم؟ إي نعم، والله لقد تحقق ووجد في هذه البلاد، فهذا عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود تغمده الله برحمته أسس دولته هذه على هذه الأركان الأربعة، ومن ثم عمها الطهر والصفاء والأمن، فلم تشهد الدنيا مكاناً أطهر ولا أمن من هذه الديار على عهده وإلى أيامنا هذه، فما سبب ذلك؟ كثرة البوليس؟! الشرط؟! الجيش؟! والله ليس هذا، وإنما أقام دولته -وكان فقيراً وحيداً- على هذه الأركان الأربعة، فأولاً: أقام الصلاة إجبارياً، ففي القرية أو غيرها يقرأ الإمام أسماء أهل الحي أو القرية في الصبح، فيتبين له من لم يحضر صلاة الصبح والله العظيم، ولذلك لم يسمح لأي مواطن ألا يصلي أبداً، وإنما يقتل أو يرجى حتى يصلي، وجبيت الزكاة حتى رأس الغنم وحفنة الشعير امتثال لأمر الله تعالى، ووجدت هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن ثم نصرهم الله عز وجل، فقد كادوا لهم في حرب الخليج، وتآمروا عليهم مؤامرة يهودية عجيبة، وأرادوا إنهاء هذه الدولة، أرادوا تمزيق راية لا إله إلا الله، فلا يبقى من يقيم الصلاة، ولكن خذلهم الله وعادوا خائبين بعدما وقع البلد هذا في فخ الجنوب والشمال والشرق والغرب، وأبى الله ذلك وطردهم، وصدق الله العظيم: وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ [الحج:40].

وسياسة أخرى قرآنية: لما أخذنا نستقل بدأنا إقليماً بعد إقليم، فهل هناك إقليم استقل فأقام الدولة على هذه الأركان الأربعة؟ لا والله، بل من اندونيسيا إلى موريتانيا، وشمال أفريقيا بكامله، والشرق الأوسط من مصر إلى سوريا إلى العراق لما استقلوا ما أقاموا الدولة الإسلامية على هذه الأركان، فلماذا لم يقيموها على هذه الأركان؟ ومن ثم أذلهم الله وأفقرهم، وهم في أسوء الأحوال والظروف.

فهذا كلام الله وليس بكلام زيد أو عمرو، الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ [الحج:41]، وقد مكنهم الله وطرد فرنسا وإيطاليا وأسبانيا وبريطانيا من ديارهم، لكن لما استقلوا وتمكنوا ما أعلنوا عن دولة الإسلام، وذلك بأن تقام الصلاة إجبارية، وتجبى الزكاة، ويؤمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ولا يبقى مظهر من مظاهر الفساد والشر، فمن صرفهم؟ من ألزمهم بأن لا يقيموا دولتهم على هذا؟ إنه التقليد الأعمى والجري وراء الشهوات وأوساخ الدنيا وأطماعها، فمن شاء صلى ومن شاء ترك، لكن هل سعدوا بعد ذلك؟ لقد أذلنا الله على حفنة اليهود، فقد قهروا العالم العربي والإسلامي، فكم من مرة يدخلون معهم في الحرب فيذلهم الله تعالى؟! فهل اليهود هم الذين أذلوهم؟ لا، بل أذلهم الله تعالى، وما زلت أقول: والله لو يجتمع إخواننا الفلسطينيون تحت راية لا إله إلا الله فيقيمون دين الله نساءً ورجالاً وأطفالاً ويطبقونه، والله لهرب اليهود بدون قتال، فلمَ لا نقيم دولة الله؟ ما المانع؟ هل هناك قوة جابرة جبرتنا على عدم فعل ذلك؟! شهواتنا وأطماعنا وأوساخنا فقط، والجهل العام الذي عمنا، فالإسلام لا يراعي الطين والبلد والماء والتراب، وإنما الإسلام يريد أن يُعبد الله عز وجل، فماذا نصنع وهذا كلام الله تعالى؟ يقول جل جلاله وعظم سلطانه: وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ [الحج:40-41].

وأزيدكم سياسة لم تسمعوا بها: والله للعدو المتآلف على الشر يعملون على إسقاط هذه الحكومة، وقد عملوا جهداً كبيراً في إزالة هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقبحوهم ونكروهم، وفعلوا العجائب، إذ ما يريدون أن يبقى هذا النور، ولولا لطف الله عز وجل وصدق أهل هذه الحكومة لسقطت وعبثوا بها، إذ لا يريدون أن تبقى راية لا إله إلا الله محمد رسول الله، فيقولون: ما هذا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟! ما هذا الأذان الذي يقلقنا؟! فيكتبون ويقولون هذا والمسلمون جاهلون غافلون.

أسمعكم الآيات مرة أخيرة: إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ * أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ [الحج:38-40]، والله ينصر دينه وأولياءه وشرعه لا ذاته عز وجل، وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ [الحج:40]، في دينه وأوليائه، إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ [الحج:40-41].

وتذكرون أن الدولة السعودية دولة عبد العزيز ما كان يسمع في إذاعتها صوت امرأة تتكلم أو تغني، ومن ثم أقبلت الأمة على الهبوط فهبطت، وقالوا للمسئولين: ما داموا أنهم يسمعون الأغاني في كل إذاعة فغنوا لهم أنتم، أسمعوهم الأغاني من إذاعتكم، فلما انكب المواطنون على أصوات العواهر في سياراتهم وفي بيوتهم قالوا: الحكومة لا بد وأن تنزل؛ لأن الذين سخروهم لهذا هو يد وأصابع الماسونية، وبدل أن يسمعوا إذاعة لندن فقط يسمعوا إذاعتكم، ووالله ما كانوا يحبون أن يسمعوا إذاعة المملكة، إذ لم يكن فيها أغاني ولا أباطيل، ومن هنا نقول: وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا [الشورى:40]، فذنوبنا هي التي سوف تسلب هذه النعمة التي نحن فيها، أحببنا أم كرهنا، والله تعالى نسأل أن يتوفانا مسلمين وأن يلحقنا بالصالحين.

هداية الآيات

قال: [ من هداية الآيات: أولاً: وعد الله الصادق بالدفاع عن المؤمنين ]، وعد الله الصادق بالدفاع عن المؤمنين بحق، فأين ما يوجد مؤمنون صادقون إلا ويدفع الله عنهم.

قال: [ ثانياً: كره الله تعالى لأهل الكفر والخيانة ]، كره الله تعالى وبغضه تعالى لأهل الكفر والخيانة، إذ كل خائن وكل كافر هو مبغوض لله تعالى، والله لا يحب إلا المؤمنين أولياءه الصادقين المطيعين، ومن عداهم فإنه يبغضهم ويكرههم.

قال: [ ثالثاً: مشروعية القتال لإعلاء كلمة الله بأن يعبد وحده ولا يضطهد أولياؤه ]، مشروعية القتال في سبيل الله من أجل الدولة والسلطان؟! لا والله، وإنما من أجل أن يُعبد الرحمن وحده، ولذلك لما قاتلنا بريطانيا وفرنسا وإيطاليا قاتلناهم من أجل أن يعبد الله وحده؟! لا والله، إذ لو أردنا هذا لأقمنا دين الله في أول يوم، لكن أردنا الاستقلال للأكل والشرب والنكاح!

قال: [ رابعاً: بيان سر الإذن بالجهاد ونصرة الله لأوليائه الذين يقاتلون من أجله.

خامساً: بيان أسس الدولة الإسلامية التي ورثّ الله أهلها البلاد وملكهم فيها ]، ما هي أركان الدولة الإسلامية؟ أيما إقليم إسلامي أراد أن يقيم دولة إسلامية فعليه بهذه الكلمة فقط: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ [الحج:41]، فيجبرون المواطنين على الصلاة، ويجبون الزكاة، ويكوِّنون هيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلا فجور ولا مزامير ولا أغاني، وإنما دولة إسلامية وإن كانوا حفنة والله لينصرهم ويحفظهم.