تفسير سورة الأنبياء (9)


الحلقة مفرغة

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.

أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ * وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنكِرُونَ [الأنبياء:48-50]. ‏

دخول يوسف عليه السلام إلى مصر

نبي الله ورسوله يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام تمت له حادثة من أصعب الأحداث، وهي: أن ولده يوسف عليه السلام رأى رؤيا منامية، ورؤيا الأنبياء وحي، فقص تلك الرؤيا على والده يعقوب عليه السلام، فأعلمه أنها رؤية صالحة، وحذره من أن يقصها أو يحدث بها إخوته؛ خوفاً عليه.

وتجري المقادير والأقضية الإلهية، وينكل بيوسف، ويرمى في بئر من قبل إخوته الحاسدين، ثم يباع كعبد من العبيد، فيشتريه مصري، ويصبح في بيته. وتتم له أحداث ذكرت في سورة يوسف، منها: أنه ولاه أمر البلاد والعباد، وأسند إليه الملك. وقد كان يعقوب عليه السلام له أولاد يذهبون يتجرون، يستوردون البضائع ويوردونها، فشاء الله تعالى أن يعثر عليهم يوسف عليه السلام، ويأخذ أحد إخوانهم، ويدعي أنه سرق، وكان القضاء يحكم بقتل السارق أو بسجنه، وتجري الأيام ويوسف الحاكم العام في مصر، ويأتي أبوه وإخوته، فينزلون معه في الديار المصرية، ثم توالدوا حتى أصبحوا فرقة كبيرة في الديار المصرية.

رؤيا فرعون لذهاب ملكه على يد واحد من بني إسرائيل

بعد هذه الأحداث الطويلة رأى فرعون رؤيا، فعبرها له رجاله بأن دولته وسلطانه يزولان على يد بني إسرائيل، فمن ثم أخذ ينكل ببني إسرائيل ويعذبهم، وأصدر أمراً جائراً عجباً، وهو ذبح الذكور عندما يولدون، فكانوا يبعثون إلى المرأة عند ولادتها، فإن ولدت أنثى تركوها لها، وإن ولدت ذكراً ذبحوه، أو دفنوه في الأرض، وطالت الأيام وتململ رجال البلاد، وقالوا: الآن اليد العاملة تنتهي، ففكر يا رئيسنا! في الحل، فقضى بأن يعفى عن المواليد سنة، ولا يعفى عنهم سنة أخرى.

ملخص قصة موسى عليه السلام من الولادة إلى النبوة

ولد هارون في سنة العفو عن ذبح الأولاد بتدبير الله عز وجل، وفي السنة التي بعدها ولد موسى، فاحتارت أمة ماذا تفعل، فأوحى الله تعالى إليها، وعلمها وألقى في روعها أنها إذا وضعته تلفه في خرقة، وتضعه في صندوق من خشب، وترمي به في النيل، ففعلت، وأيقنت بما ألقي إليها. فذهب ذلك المولود في ذلك التابوت، ودخل في قصر أو حديقة القصر قصر فرعون، فأتت النساء أو البنات يلعبن في الماء فعثرن على الصندوق، فأخذنه ففتحنه، فإذا فيه موسى عليه السلام الغلام الطري النقي الطاهر. ومن ثم سمي بموشي، لأنه وجد ماشياً بين الماء والشجر، وما زال بنو إسرائيل إلى اليوم يسمون موشي، ومنهم موشي دايان ، وقد مات عليه لعائن الله من سنوات.

فسمي موسى موشي لأنه وجد بين الماء والشجر.

ثم كان من تدبير الله عز وجل أنه كلما قدمت له مرضع ليرضع يرفض رفضاً رضعها، ولم يرضع إلا اللبن الأول الذي ولد قبله، ثم ألقته أمه في اليم، فكان كلما جيء له بامرأة حسناء نقية نظيفة طاهرة ذات رائحة طيبة وقدمت له ثديها يرفض ذلك، كما قال تعالى في هذا: وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ [القصص:12]. وهذه الفتاة هي أخت يوسف، وكانت قد بعثتها أمها تتحسس في البلاد وتتجسس؛ علها تعثر عن أخيها، فقالت بعد ما علمت أنه رفض النساء كلهن: فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ [القصص:12]. فاستنطقوها وقالوا: كيف عرفت أنهم ناصحون؟ وشكوا أن تكون أمه، ولكن دفعهم الله، وأخذت أخاها إلى أمها وأرضعته، كما قال تعالى: فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ [القصص:13]. ثم بعد ذلك لما فطم وانتهى من الرضاعة عادوا به إلى فرعون.

ومن الأحداث التي وردت: أنه وفرعون جالس أراد أن يقوم على رجليه، فأخذ بلحية فرعون وقام، فغضب لذلك فرعون، وتشاءم من أخذه بليحته، وأراد قتله، فشفعت زوجة فرعون للغلام، وقالت: لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا [القصص:9]. وقالت: امتحنه واختبره. فأتى بإناء فيه لبن أو تمر، وآخر فيه جمر، ووضعه بين يديه، حتى إذا أخذ التمر ورفض الجمر دل ذلك على علمه وبصيرته، وأنه يريد كذا، فشاء الله تعالى أن يلقي بيده على الجمرة، ويلقيها في فمه، فيصاب بلكنة في لسانه. فكانت اللكنة التي في فمه سببها: أنه أخذ جمرة، ورمى بها في فمه، وقد قال لله تعالى يوم أن أرسله: وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي * وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ [طه:27-30].

وكان موسى عليه السلام يكبر ويشب، وكان مهيأً من صباه، ولما كان شاباً قبل أن ينبأ وقبل أن يرسل مر بإسرائيلي وقبطي يتقاتلان، فاستغاث به الإسرائيلي؛ ليخلصه من قبضة القبطي، فلكمه موسى فمات، فلما مات أعلمت الحكومة بذلك، وهرب موسى بعد أن أعلم بأنهم يريدونه، ومن ثم خرج عليه السلام متجهاً شرقاً إلى ديار مدين. ومن ثم نبئ، وأرسله الله تعالى إلى فرعون وملئه.

فعاش عشر سنوات في أرض مدين مع نبي الله شعيب يرعى غنمه له، وبعد ما أكمل العشر السنين أخذ أهله وأولاده ومشى متجهاً إلى أرض مصر؛ لأن والدته هناك، وفي الطريق نبأه الله وأرسله، وبعثه رسولاً إلى فرعون.

وهذه الأحداث كلها في سورة القصص وغيرها مفصلة تفصيلاً. وأنزل الله عليه التوراة، وهي كتاب عظيم، حوى بيان العقيدة والآداب والأخلاق، بعد الحلال والحرام والعبادات. وقد أسمى الله هذا الكتاب بالتوراة، كما قال تعالى: إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ [المائدة:44]. وقد أشار إلى هذا في هذه الآية الكريمة، إذا يقول تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ [الأنبياء:48].

معنى الفرقان

الفرقان هو: الذي يفرق بين الحق والباطل. والتوراة والإنجيل والقرآن كلها فارقة بين الحق والباطل.

والفرقان كذلك: انتصار أهل التوحيد وخذلان أهل الشرك والعياذ بالله، ولهذا نزل في حرب بدر كلمة الفرقان، قال تعالى: يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ [الأنفال:41] ... الآية. فالفرقان هو: القوة الفارقة بين الحق والباطل. فمن أعطي عقلاً سليماً صحيحاً بحيث لا يلتبس عليه ولا يختلط الحق بالباطل، ولا الخير بالشر، ولا المعروف بالمنكر فقد أوتي فرقاناً.

طلب موسى عليه السلام النبوة لأخيه

قال تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى [الأنبياء:48] ابن عمران، وأخوه هارون بن عمران، وأمهما واحدة، فهما شقيقان، ولهذا ليس هناك اثنان من الإخوة وقفا موقف موسى وهارون، فموسى لم يطلب لأخيه فرساً ولا دولة ولا سلطاناً، وإنما طلب له النبوة، وهذا لم يحدث أبداً، وحدث على عهد موسى وهارون، قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي * وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي * كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا * وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا [طه:25-34]. فموسى سأل الله تعالى لأخيه هارون النبوة. والنبوة لا تطلب، فلو اجتمعت البشرية كلها يطلبون الله أن ينبئ شخصاً لم يرد أن ينبئه ما نبئه لدعائهم، ولكن شاء الله، فوافق دعاء موسى قضاء الله وقدره، إذ لما أرسله إلى فرعون قبل أن يمشي طلب الزاد، فقال: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي [طه:25] حتى أتمكن من حمل الرسالة وإبلاغها، فقد أسب وأشتم فاجعل الصدر واسعاً. وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي [طه:27]. وهذه العقدة عرفتم أن سببها الجمرة التي ألقاها في فمه وهو طفل صغير. وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي [طه:26-28]. لأنه سيتكلم ويدعو، ويخطب ويعظ ويذكر، فلابد من الفصاحة، ولابد من اللسان، فلذلك قال: وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي [طه:27-28].

ثم قال: وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي [طه:29]. لا معيناً من جهة أخرى أو من قبيلة أخرى، بل أخي هارون، وذكر لذلك علة هذه الدعوة المباركة، فقال: كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا * وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا [طه:33-34]. فهذه الطلبات كلها مقابلها وجزاءها أن يسبحا الله ويذكرانه. وهذا ما علمناه وكررناه بالأمس، فقد قلنا: إن علة الحياة كلها الذكر والشكر، وسر الوجود: أن يذكر الله ويشكر. فعرف موسى هذا وقال: كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا * وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا [طه:33-34]. إذا علم أن الله أمر بذلك، وأنه يحب ذكره، ويحب شكره. وهذه العبادات التي تقومون بها من الصلاة إلى الاعتمار .. إلى الرباط كلها والله ما خرجت عن كونها ذكراً لله وشكراً له عز وجل.

وقوله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً [الأنبياء:48] الضياء: النور، فالتوراة فرقان وضياء ونور وذكر، فهذه الأربعة كلها في التوراة، كما قال تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ [الأنبياء:48]. وهي في القرآن من باب أولى.

وبالأمس عرفنا أن القرآن يسمى بالذكر، التوراة ذكر أيضاً؛ إذ كل من قرأ كلام الله ذكر الله، وكل من استمع إلى القرآن وهو يريد الاستماع إلا ذكر الله في قلبه في ذلك الاستماع. والتوراة كالإنجيل كالفرقان، فالكل فرقان وضياء وذكر، ولكن لِلْمُتَّقِينَ [الأنبياء:48]. وقد عرفنا بالأمس أن الكافرين أموات، والمؤمنون أحياء.

إذاً: فالفرقان أو القرآن فيه الفرقان والضياء والذكر للمتقين فقط، وأما الفاجرين والفاسقين والكافرين، فلا يجدون ذلك، ولا يحصلون عليه؛ لأن قلوبهم منتكسة منصرفة، لا يصغون ولا يسمعون، ولا يسمع الصم الدعاء. ولكنه ذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ [الأنبياء:48]، أي: موعظة للمتقين.

معنى التقوى وبيان المتقين

المتقون ليسوا قبيلة من قبائل العرب، ولا جنس من أجناس البشر، ولا نوع من أنواع البشرية. والمتقون جمع متقٍ، فمتقٍ يجمع على متقين، والمتقي هو الذي يتقي الشيء، أي: يخافه ويرهبه، فإن كان برداً اتقاه بالثياب، وإن كان حراً بالمظلة على رأسه، وإن كان جوعاً بإحضار الطعام، وإن كان ذئباً أو لصاً بالسيف في يده، فالمتقي هو: الذي يتقي ما يضره، ويؤثر عليه حياته. والله عز وجل الغالب القاهر الذي يحيي ويميت، والذي يعز ويذل، وبيده ملكوت كل شيء يجب أن نتقيه؛ لعظمته وجلاله، وقوته وسلطانه، فيجب أن نتقي الله؛ لأن أرواحنا بيده، وحياتنا كاملة بيده، وموتنا إليه وبيده، فإذاً: يجب أن نتقي الله، وأن نكون من المتقين.

وقد بينا أن ما نخافه في الدنيا نتقيه بشيء يقابله، فأنت تتقي الشمس بجعل مظلة على رأسك، والبرد بلبس ثياباً غليظة تقيك منه، والعدو بأن تحمل السلاح في يدك تتقي به.

والله عز وجل يجب أن يتقى؛ إذ أمرنا بذلك، وفرض علينا ذلك في غير ما آية من كتابه، فقد قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ [البقرة:278]. فقوله: اتَّقُوا اللَّهَ ، أي: خافوه واجعلوا بينكم وبينه وقاية تقيكم سخطه وعذابه.

وأكرر القول -إذ كلما تكرر القول استقر في النفس-: أن الله يتقى فقط بطاعته وطاعة رسوله، لا بالحصون ولا بالأسوار العالية، ولا بالطيران والجيوش، وإنما يتقى فقط بشيء واحد، وهو طاعته وطاعة رسوله، فمن أطاع الله تعالى فيما أمره به ونهاه عنه وأطاع رسوله في ذلك فهو متقٍ وفي عداد المتقين.

والمتقون هم: المطيعون لله وللرسول. وهؤلاء المتقون هم ورثة الجنة. والجنة والله تورث، وورثتها -يرحمكم الله- المتقون، ووالله لهم الوارثون لها، وهذا قوله عز وجل: تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا [مريم:63]. فهو لما وصفها ووصف نعيمها وحورها وقصورها في الآيات قال: تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ [مريم:63]، بمعنى: نورّث مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا [مريم:63]. سواء كان أبيض .. أحمر .. أصفر .. عربي .. عجمي .. طويل .. قصير، فهذه الأوصاف لا قيمة لها أبداً إلا بتقوى الله عز وجل، كما قال تعالى: مَنْ كَانَ تَقِيًّا [مريم:63].

فها نحن قد عرفنا من هم المتقون، ونحن منهم إن شاء الله، وفي القرآن ذكر لنا وضياء، وموعظة وطاعة.

نبي الله ورسوله يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام تمت له حادثة من أصعب الأحداث، وهي: أن ولده يوسف عليه السلام رأى رؤيا منامية، ورؤيا الأنبياء وحي، فقص تلك الرؤيا على والده يعقوب عليه السلام، فأعلمه أنها رؤية صالحة، وحذره من أن يقصها أو يحدث بها إخوته؛ خوفاً عليه.

وتجري المقادير والأقضية الإلهية، وينكل بيوسف، ويرمى في بئر من قبل إخوته الحاسدين، ثم يباع كعبد من العبيد، فيشتريه مصري، ويصبح في بيته. وتتم له أحداث ذكرت في سورة يوسف، منها: أنه ولاه أمر البلاد والعباد، وأسند إليه الملك. وقد كان يعقوب عليه السلام له أولاد يذهبون يتجرون، يستوردون البضائع ويوردونها، فشاء الله تعالى أن يعثر عليهم يوسف عليه السلام، ويأخذ أحد إخوانهم، ويدعي أنه سرق، وكان القضاء يحكم بقتل السارق أو بسجنه، وتجري الأيام ويوسف الحاكم العام في مصر، ويأتي أبوه وإخوته، فينزلون معه في الديار المصرية، ثم توالدوا حتى أصبحوا فرقة كبيرة في الديار المصرية.

بعد هذه الأحداث الطويلة رأى فرعون رؤيا، فعبرها له رجاله بأن دولته وسلطانه يزولان على يد بني إسرائيل، فمن ثم أخذ ينكل ببني إسرائيل ويعذبهم، وأصدر أمراً جائراً عجباً، وهو ذبح الذكور عندما يولدون، فكانوا يبعثون إلى المرأة عند ولادتها، فإن ولدت أنثى تركوها لها، وإن ولدت ذكراً ذبحوه، أو دفنوه في الأرض، وطالت الأيام وتململ رجال البلاد، وقالوا: الآن اليد العاملة تنتهي، ففكر يا رئيسنا! في الحل، فقضى بأن يعفى عن المواليد سنة، ولا يعفى عنهم سنة أخرى.

ولد هارون في سنة العفو عن ذبح الأولاد بتدبير الله عز وجل، وفي السنة التي بعدها ولد موسى، فاحتارت أمة ماذا تفعل، فأوحى الله تعالى إليها، وعلمها وألقى في روعها أنها إذا وضعته تلفه في خرقة، وتضعه في صندوق من خشب، وترمي به في النيل، ففعلت، وأيقنت بما ألقي إليها. فذهب ذلك المولود في ذلك التابوت، ودخل في قصر أو حديقة القصر قصر فرعون، فأتت النساء أو البنات يلعبن في الماء فعثرن على الصندوق، فأخذنه ففتحنه، فإذا فيه موسى عليه السلام الغلام الطري النقي الطاهر. ومن ثم سمي بموشي، لأنه وجد ماشياً بين الماء والشجر، وما زال بنو إسرائيل إلى اليوم يسمون موشي، ومنهم موشي دايان ، وقد مات عليه لعائن الله من سنوات.

فسمي موسى موشي لأنه وجد بين الماء والشجر.

ثم كان من تدبير الله عز وجل أنه كلما قدمت له مرضع ليرضع يرفض رفضاً رضعها، ولم يرضع إلا اللبن الأول الذي ولد قبله، ثم ألقته أمه في اليم، فكان كلما جيء له بامرأة حسناء نقية نظيفة طاهرة ذات رائحة طيبة وقدمت له ثديها يرفض ذلك، كما قال تعالى في هذا: وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ [القصص:12]. وهذه الفتاة هي أخت يوسف، وكانت قد بعثتها أمها تتحسس في البلاد وتتجسس؛ علها تعثر عن أخيها، فقالت بعد ما علمت أنه رفض النساء كلهن: فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ [القصص:12]. فاستنطقوها وقالوا: كيف عرفت أنهم ناصحون؟ وشكوا أن تكون أمه، ولكن دفعهم الله، وأخذت أخاها إلى أمها وأرضعته، كما قال تعالى: فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ [القصص:13]. ثم بعد ذلك لما فطم وانتهى من الرضاعة عادوا به إلى فرعون.

ومن الأحداث التي وردت: أنه وفرعون جالس أراد أن يقوم على رجليه، فأخذ بلحية فرعون وقام، فغضب لذلك فرعون، وتشاءم من أخذه بليحته، وأراد قتله، فشفعت زوجة فرعون للغلام، وقالت: لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا [القصص:9]. وقالت: امتحنه واختبره. فأتى بإناء فيه لبن أو تمر، وآخر فيه جمر، ووضعه بين يديه، حتى إذا أخذ التمر ورفض الجمر دل ذلك على علمه وبصيرته، وأنه يريد كذا، فشاء الله تعالى أن يلقي بيده على الجمرة، ويلقيها في فمه، فيصاب بلكنة في لسانه. فكانت اللكنة التي في فمه سببها: أنه أخذ جمرة، ورمى بها في فمه، وقد قال لله تعالى يوم أن أرسله: وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي * وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ [طه:27-30].

وكان موسى عليه السلام يكبر ويشب، وكان مهيأً من صباه، ولما كان شاباً قبل أن ينبأ وقبل أن يرسل مر بإسرائيلي وقبطي يتقاتلان، فاستغاث به الإسرائيلي؛ ليخلصه من قبضة القبطي، فلكمه موسى فمات، فلما مات أعلمت الحكومة بذلك، وهرب موسى بعد أن أعلم بأنهم يريدونه، ومن ثم خرج عليه السلام متجهاً شرقاً إلى ديار مدين. ومن ثم نبئ، وأرسله الله تعالى إلى فرعون وملئه.

فعاش عشر سنوات في أرض مدين مع نبي الله شعيب يرعى غنمه له، وبعد ما أكمل العشر السنين أخذ أهله وأولاده ومشى متجهاً إلى أرض مصر؛ لأن والدته هناك، وفي الطريق نبأه الله وأرسله، وبعثه رسولاً إلى فرعون.

وهذه الأحداث كلها في سورة القصص وغيرها مفصلة تفصيلاً. وأنزل الله عليه التوراة، وهي كتاب عظيم، حوى بيان العقيدة والآداب والأخلاق، بعد الحلال والحرام والعبادات. وقد أسمى الله هذا الكتاب بالتوراة، كما قال تعالى: إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ [المائدة:44]. وقد أشار إلى هذا في هذه الآية الكريمة، إذا يقول تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ [الأنبياء:48].