تفسير سورة المؤمنون (7)


الحلقة مفرغة

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.

أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذا اليوم ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله؛ يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).

قال تعالى: ثُمَّ أَنشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ * فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ * وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ * وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ * أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ * هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ * إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ * إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ [المؤمنون:31-38].

معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: ثُمَّ أَنشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ [المؤمنون:31]، أي: أنشأنا وخلقنا وأوجدنا بعد قوم نوح الغارقين الهالكين قرناً، أي: أمة أخرى، فيخبر تعالى أنه بعد إهلاك قوم نوح بالغرق أو بالطوفان أنشأ جيلاً أو قرناً أو أمة أو قوماً يعبدون الله عز وجل، ثُمَّ أَنشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ [المؤمنون:31].

ثم قال تعالى: فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا [المؤمنون:32]، اختلف في هذا الرسول من هو؟ فقيل: هو نبي الله هود، وقيل: صالح، وأهل القرآن لهم أن يتفكروا في هذا؛ لأن هذا القصص ما ذكر فيه اسم الرسول، لا صالح ولا هود ولا شعيب ولا غيرهم، لكن نظراً إلى أن القصص القرآني في الأعراف أو في سورة هود أو في غيرهما يبدأ بنوح ويثني بهود ثم بصالح ثم بفلان، فمن نظر إلى هذا الترتيب قال: إن هذا الرسول هو هود عليه السلام، ومن نظر إلى قوله تعالى في الآيات الآتية: فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ ، فإنه من المعلوم أن الصيحة أخذت ثمود قوم صالح، ومن ثم فكل المفسرين يذكرون الوجهين إلا ما كان من ابن جرير رحمه الله تعالى، إذ إنه ما ذكر إلا صالحاً عليه السلام، وجائز أن يجمع الله بين القصتين، أي: بين قصة هود وقصة صالح، إذ إن أحداثهم واحدة، وصراعهم مع أقوامهم واحد، فليس هناك فرق أبداً بين عاد وثمود، فأشار إلى صالح بكلمة: فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ [الحجر:83]، وهذا في آخر القصص، بينما في أوله ما ذكر، لكن المتبادر إلى الذهن أنه هود عليه السلام.

فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ [المؤمنون:32]، ألا وهو هود أو صالح عليهما السلام، فابن جرير والطبري وابن كثير وكل المفسرين يذكرون الوجهين، والذي ذكرته لكم هو لعلها إشارة إلى القبيلتين أو القومين، إذ وضعهم واحد، فالشرك والكفر والتكذيب بالبعث من دأبهم، فيكون الكلام صالحاً لقوم هود وقوم صالح عليهما السلام.

وقد ذكرت في الهامش في نهر الخير فقلت: وقيل: هم قوم صالح؛ بقرينة قوله تعالى: فأخذتهم الصيحة ، وهي التي أهلك الله تعالى بها ثمود قوم صالح، إذ قال تعالى: فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ [الحجر:83]، أي: في الصباح، ورُجِّح هذا لأن العبرة فيها أكثر من غيرها، يعني: أن العبرة في قوم صالح أكثر من العبرة في قوم هود.

إذاً: يجوز لك أن تقول: إن المراد بالرسول في قوله تعالى: فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا [المؤمنون:32] هو هود أو صالح عليهما السلام.

فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ [المؤمنون:32]، وما قال: (فأرسلنا إليهم)؛ لأنه من نفس القبيلة، إذ لو أرسله من قبيلة أخرى لقال: فأرسلنا إليهم، لكن قال: فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ [المؤمنون:32]، أي: من بينهم ومنهم، فبم أرسله؟ بقوله: اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [المؤمنون:32]، فهذه هي الرسالة، أي: أرسله برسالة إليهم وهي أن يعبدوا الله وحده، إذ لا يوجد لهم إله غيره، اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [المؤمنون:32]، هل لهم إله غير الله خلقهم ورزقهم وخلق الكون والحياة لهم؟! والله لا إله إلا الله.

وقوله: أَفَلا تَتَّقُونَ [المؤمنون:32]، كيف لا تتقون سخطه وعقابه وعذابه وأنتم تعصونه وتعبدون غيره وهو خالقكم ومالك أمركم؟! إن أمركم عجب، أَفَلا تَتَّقُونَ [المؤمنون:32]، أي: أفلا تتقون الله بعبادته دون عبادة غيره، وذلك بترك هذه الأوثان والأصنام، والإيمان به تعالى وبرسوله، وبالعمل بطاعته؟!

اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ [المؤمنون:32]، فهذه هي الرسالة التي يحملها هود أو صالح إلى أقوامهم، فبم أجاب الملأ؟ بالأمس عرفتم أن الملأ هم أشراف البلاد وأغنياؤها، وهم أهل السلطة فيها، والملأ مأخوذ من ملأ العين بالنظر إليه ولأبهته وكماله.

قال تعالى: وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ [المؤمنون:33]، أي: من قوم هود أو قوم صالح، فماذا قال هؤلاء الملأ؟ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الآخِرَةِ [المؤمنون:33]، فهؤلاء الذين تكلموا الآن وقالوا ما قالوه هم الملأ الذين كفروا أولاً، وكذبوا بالدار الآخرة، أي: كفروا بالله وبتوحيده وبرسوله، وكذبوا بالدار الآخرة، إذ قالوا: ما هناك حياة أخرى بعد هذه، وإنما هو الفناء فقط، وهذه النظرية العلمانية أو الإلحادية شائعة في العالم، إذ يعجبون كيف يحيينا الله حياة أخرى؟ وكيف يجزينا فيها؟ وهذا كله عائد إلى جهلهم وعدم بصيرتهم، أو إلى عنادهم والمحافظة على باطلهم وشرهم والعياذ بالله.

وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الآخِرَةِ [المؤمنون:33]، أي: بلقاء الله تعالى في الدار الآخرة، وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [المؤمنون:33]، فهذه هي علة الكفر والعناد، أي: الترف، فلهذا قوم صالح كانوا مترفين، وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [المؤمنون:33]، والترف يكون في الأكل والشرب واللباس والمسكن والمركوب، ويؤدي إلى الفخر والمباهاة وعدم المبالاة.

وهنا لطيفة لا ننساها: الذين يترفون أكثرهم يهلكون، إذ الترف يسبب لهم العصيان والفسق والخروج عن طاعة الله عز وجل، وهذا أمر لا جدال فيه، فإذا كثر المال وتلون الطعام والشراب واللباس أدى بصاحبه إلى الفسق ثم الفجور ثم الكفر العياذ بالله، وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [المؤمنون:33]، فبسبب إترافنا لهم قالوا هذه المقالات.

فماذا قالوا؟ قالوا: مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ [المؤمنون:33]، أي: أن هذا الرسول بشر مثلكم، فكيف تطيعونه؟ وكيف تسمعون كلامه؟ وكيف تمشون وراءه؟ وكيف تستجيبون له؟ ما هو إلا بشر وإنسان مثلكم، وهذا كما قال قوم نوح لنوح، إذ قالوا عنه: بأنه بشر لا ملك، يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ [المؤمنون:33]، وهذا تعليل الجحود والمعاندة، وهو أنه يأكل ويشرب مثلهم، فلماذا لا يكونون كالفقراء؟! ولم يترأسون ويترفعون؟! لكنه الجحود والمعاندة، وهذا الذي تنتجه هذه الأباطيل.

مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ [المؤمنون:33]، فكيف يكون رسولاً لله يأمركم باتباعه وطاعته وترك عبادة آلهتكم والانقطاع عنها؟ إنه يريد منكم ماذا؟

وقالوا: وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ [المؤمنون:34]، أي: خسرتم دنياكم نهائياً، وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ [المؤمنون:34]، وفيها معنى القسم واليمين، وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ [المؤمنون:34]، يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ [المؤمنون:33]، إذا أطعتموه، إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ [المؤمنون:34]، أي: خسرتم حياتكم وما بقي لكم جمال ولا كمال.

فهل سمعتم هذا الكلام؟ كلام من هذا؟ إنه كلام الطغاة والملحدين والمشركين والكافرين، وذلك من أجل صرف الأمة عن الله عز وجل وعبادته، وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ [المؤمنون:34]، ما بقيت لكم حياة أبداً.

وما زال قولهم: أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ [المؤمنون:35]، أي: أيعدكم صالح أو هود عليهما السلام بهذا الوعد؟! أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ [المؤمنون:35]، أي: أحياء؟ فكيف تقبلون بهذه النظرية وتصدقونه؟ وهكذا يرسخون الإلحاد والكفر بالله تعالى ولقائه في نفوسهم، وذلك حتى يستغلوهم ويمشوا وراءهم، وهذه أقوال الملأ والأعيان والأغنياء وأصحاب السلطان، لا أقوال العامة ولا بسطاء الناس.

أَيَعِدُكُمْ [المؤمنون:35]، وهذا الاستفهام إنكاري، أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا [المؤمنون:35]، كما هو الواقع، أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ [المؤمنون:35]، أي: أحياء؟ هكذا يعلمونهم، وهذا الكلام يقوله الملاحدة والله الآن، إذ الملاحدة في العالم بأسره -الذين لا يؤمنون بالله ولا بلقائه- يضحكون ويسخرون ويقولون: كيف العظام تعود إلى إنسان كما كان؟! إنها نظرية واهية.

لكنه العمى، فالذي أوجدكم في هذا القرن يوجدكم في قرن آخر، وذلك بأي واسطة أو بأي سبب، ثم ألستم موجودين؟ من أوجدكم؟ أما مضى زمان وأنتم غير موجودين ثم وجدتم، ثم يأتي زمان والله لا يبقى منكم أحد؟! لم تقولون إذاً: لم يوجدنا؟ كيف يوجدنا في المستقبل؟ إنها نظرية باطلة وسخيفة لا قيمة لها، لكن لكي يسيطرون على العوام ويجذبونهم إليهم يستخدمون هذه الأساليب الماكرة.

أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ [المؤمنون:35]، يعني: يعيدكم أحياء؟!

هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ [المؤمنون:36]، أي: بعد بعداً كبيراً مستحيلاً، إذ كيف تعودون أحياء بعد موتكم؟! وهؤلاء هم قوم هود، وأظنهم أقوى من قوم صالح، إذ كانوا فعلاً جبابرة، هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ [المؤمنون:36]، أي: بعد بعداً كبيراً هذا الذي يقول، إذ كيف تعودون أحياء بعد موتكم؟ ومعنى هذا: لا تخافوا هوداً ولا تمشوا وراءه، وإنما ابقوا على ما أنتم عليه من دين أجدادكم وآبائكم.

وما زالوا يقولون: إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا [المؤمنون:37]، أي: ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا، يعني: نكون غير موجودين ثم نوجد، وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ [المؤمنون:37]، أبداً، فلا يبعثنا باعث ولا يحيينا أحد، وإنما هي هذه فقط، فكنا أمواتاً فحيينا ثم نموت.

إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا [المؤمنون:37]، ليس المعنى: نحيا بعد الموت، إذ هم مكذبون به وينكرونه، وذلك بدليل: وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ [المؤمنون:37]، من قبورنا أحياء، نَمُوتُ [المؤمنون:37]، أي: نكون أمواتاً ثم يحيينا، أو نموت بأنفسنا ونحيا بأنفسنا، فلا يذكرون الله عز وجل، نَمُوتُ وَنَحْيَا [المؤمنون:37]، كيف تموت وتحيا وحدك؟! جرب فمت، أو أغمض عينيك ومت، ما تستطيع.

ولكن الشيطان أبا مرة هو الذي يلقي في نفوسهم هذه الأباطيل ويحملهم على التبجح بها والنطق بها، إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا [المؤمنون:37]، أي: ما، هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ [المؤمنون:37].

وأخيراً: إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا [المؤمنون:38]، أي: ما هود أو صالح إلا رجل فقط لا بملك، افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا [المؤمنون:38]، أي: كذب على الله تعالى وأخبر عنه بأخبار ما قالها ولا هي عنده! عجيب هؤلاء الناس! وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ [المؤمنون:38]، أبداً، فلا نتبعه ولا نؤمن برسالته ولا بدعوته.

قَالَ رَبِّ انصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ [المؤمنون:39]، كما قالها قبله نوح عليه السلام، وبالتالي فهذا هود عليه السلام.

أسمعكم الآيات مرة أخرى: ثُمَّ أَنشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ [المؤمنون:31]، أي: من بعد قوم نوح، قَرْنًا آخَرِينَ [المؤمنون:31]، أي: أمة وقوماً آخرين، ولفظ: (القرن) يطلق على مائة سنة، وأهل القرن يطلق عليهم لفظ: (قرن).

فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ [المؤمنون:32]، وقد عرفنا أن الرسول إما أن يكون هودا أو صالحاً، ولا حرج في هذا أو ذاك؛ لأن الله ما سمى هنا، وقد أرسل هوداً أولاً، وذلك لما دمر الله عاداً نزح المؤمنون من الجنوب إلى الشمال وتكونت لهم أمة ودولة في مدائن صالح.

فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ [المؤمنون:32]، وعرفتم لماذا قال: منهم، ولم يقل: فيهم؟ أي: ليسوا من قوم آخرين أو أمة أخرى، بل هو منهم وفيهم، فبم أرسل الرسول؟ بكلمة: اعْبُدُوا اللَّهَ [المؤمنون:32] أي: أطيعوه فيما يأمركم وينهاكم، وادعوه توكلوا عليه واستغيثوا به وارهبوه وخافوه، إذ لا يوجد لكم إله غيره، والله لا إله غيره سبحانه وتعالى.

أَفَلا تَتَّقُونَ [المؤمنون:32]، أي: عذاب الله وغضبه وسخطه عليكم، وأنت مصرون على عبادة غيره، معرضون عنه؟ لم؟ فبم أجابوا؟ ومن الذي أجاب؟ فقراء أو أعيان؟ الملأ، وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا [المؤمنون:33]، لو كانوا مؤمنين وما كذبوا فإنهم سيقولون بالحق والخير وإن كانوا أغنياء أو أشراراً أو سادة، لكن العلة هي أنهم كفروا وكذبوا بلقاء الآخرة.

وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [المؤمنون:33]، أي: يذكر علة كفرهم وتكذيبهم وعنادهم، فلهذا نحذر من الترف، فإذا أغناك الله فكل كما يأكل المؤمنون، والبس كما يلبس المؤمنون واركب كما يركبون، واحذر الترف فإنه يحمل القلب على القسوة والعصيان والعياذ بالله، وهذا أمر مفروغ منه لا جدال فيه.

وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [المؤمنون:33]، فماذا قالوا؟ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ [المؤمنون:33]، فكيف تطيعونه؟ وكيف تستجيبون له؟ وكيف تتركون آلهتكم وعبادة آبائكم وأجدادكم؟ إنه ليس بملك، وإنما هو رجل مثلكم يشرب مما تشربون، ويأكل مما تأكلون.

وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ [المؤمنون:34]، وهذا خطيبهم يقول ذلك، وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ [المؤمنون:34]، ولستم بأحياء ولا بأفراد صالحين أبداً، وإنما ستخسرون حياتكم كلها، أَيَعِدُكُمْ [المؤمنون:35]، والاستفهام ينكر على هود أو صالح، أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ [المؤمنون:35]، من قبوركم أحياء؟ فكيف تصدقونه وتقبلون منه؟!

ثم قال تعالى: هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ [المؤمنون:36]، أي: بعد بعداً كبيراً، لِمَا تُوعَدُونَ [المؤمنون:36]، فالذي يعدكم به لا يكون ولن يكون، فهو مستحيل، إذ كيف تحيون بعد موتكم وتجزون؟!

إِنْ هِيَ [المؤمنون:37]، أي: ما هي، إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ [المؤمنون:37] أبداً، وقد كنا أمواتاً فأحيانا، ثم بعد ذلك نموت ولن نبعث بحال من الأحوال.

وأخيراً: إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا [المؤمنون:38]، أي: ما هود أو صالح إلا رجل كذب على الله تعالى، إذ ما بعثه الله ولا أرسله ولا أوحى إليه، وإنما هو رجل افترى على الله كذباً، أي: يكذب على الله ويقول: قال الله وقال الله والله ما قال.

وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ [المؤمنون:38]، أبداً، فلا نصدقه ولا نمشي وراءه، فماذا فعل هود أو صالح؟ رفع يديه إلى الله، رَبِّ انصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ [المؤمنون:39].