تفسير سورة الحج (17)


الحلقة مفرغة

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.

أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذا اليوم ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله؛ يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).

وها نحن مع خاتمة سورة الحج المكية المدنية، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمُ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ [الحج:77-78].

معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! هاتان الآيتان ختام سورة الحج، وهي السورة الوحيدة التي بها سجدتان، بينما السور الأخرى ليس فيها إلا سجدة واحدة، ولم يجمع أهل العلم على السجدة الثانية في هذه السورة، ومنهم الإمام مالك وأبو حنيفة رحمهم الله تعالى، إذ كانا لا يريان أنها سجدة؛ لأن الله قال: ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا [الحج:77]، والمراد بهذا الصلاة لا السجود، ومع هذا لو سجدت فزت بالأجر؛ لأنك تسجد لربك وتسبحه وتقدسه وتسأل حاجتك، لكن لو لم تسجد لا يقال أثمت أو تركت سجدة.

ثم هذا النداء: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ، كان بعد أن بين تعالى الإيمان بأركانه الستة وبخاصة التوحيد والنبوة والبعث الآخر؛ إذ هذه السورة اشتملت على هذه الحقائق في عشرات الآيات، فلما آمن الناس ودخلوا في دين الله تعالى، وأصبحوا في المدينة ناداهم بنداء الإيمان، أي: بوصفهم مؤمنين، فيا من آمنتم بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد رسولاً! افعلوا كذا وكذا.

مرة أخرى: هذه السورة اشتملت على بيان عقيدة الإسلام بأركانها الستة وأعظمها لا إله إلا الله محمد رسول الله، والبعث الآخر، والدار الآتية للجزاء، فلما آمن المؤمنون ناداهم بعنوان الإيمان: يا من آمنتم بالله رباً، وبمحمد رسولاً، وبالإسلام ديناً! افعلوا كذا وكذا.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا ، والركوع والسجود هما أعظم أركان الصلاة، فالقيام باعتدال، وقراءة الفاتحة، والجلوس بين السجدتين وغيرها من أركان للصلاة، لكن أعظم أركانها هو الركوع والسجود، وبدونهما فلا صلاة، فلهذا خصهما بالذكر لما فيهما من إظهار الذل والافتقار والحاجة إليه، والعبودية الحقة والطمأنينة لعبادته، ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا ، أولاً، وَاعْبُدُوا رَبَّكُمُ ثانياً، وذلك بطاعته فيما يأمر به فيُفعل، وفيما ينهى عنه فيترك، ولا ننسى أن أوامر الرسول من أوامر الله تعالى، ونواهي الرسول صلى الله عليه وسلم من نواهي الله تعالى؛ لقوله تعالى: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ [النساء:80]؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يأمر إلا بما يحب الله تعالى، ولا ينهى إلا عما يكره الله عز وجل.

وَافْعَلُوا الْخَيْرَ أي: النوافل، وذلك من صلاة وصيام وحج وعمرة وغيرها، إذ كل المستحبات والفضائل تدخل في لفظ: (الخير)، بمعنى: أدوا الفرائض على الوجه المطلوب، ثم تنافسوا وتسابقوا في النوافل، فتؤدي مثلاً فريضة الزكاة وتتصدق طول العام، وتصلي الفريضة ثم تقوم فتتنفل، وتصوم رمضان ثم تصوم ستاً من شوال، وهكذا دعاهم ونحن إن شاء الله منهم إلى أن نفعل الخير، وذلك بعد أداء الواجبات والفرائض، واجتناب المحرمات والابتعاد عن المنهيات، وَافْعَلُوا الْخَيْرَ .

ثم علل لذلك بقوله: لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الحج:77]، و(لعل) هذه ليست للترجي والتوقع، وإنما تسمى الإعدادية، أي: ليعدكم بذلك للفلاح، والفلاح كما علمتم هو الفوز، يقال: أفلح فلان، أي: فاز، سواء فاز في تجارته أو في عمله أو في دراسته، وقد فسر تعالى لنا الفوز الحق وأنه البعد عن النار ودخول الجنة دار الأبرار؛ إذ قال تعالى: فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ [آل عمران:185]، فهذا هو الفلاح، فإيماننا الذي فزنا به، وإقامتنا للصلاة على الوجه المطلوب، وعبادتنا لربنا بكل ما أمرنا ونهانا، ثم المسابقة في الخيرات وفعلها، كل هذا يعدنا ويهيئنا للفلاح ألا وهو الفوز، والفوز هو البعد عن النار ودخول الجنة دار الأبرار، فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ [آل عمران:185].

قال تعالى: وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ [الحج:78]. ‏

أمر الله لعباده المؤمنين بالجهاد

وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ ، ولهذا فإن أركان الإسلام أو قواعده خمس، ويضاف إليها أيضاً الجهاد، فهذا من باب ذكر العام بعد الخاص، فتلك عبادات خاصة والجهاد يشمل عبادة الله بكل أنواعها وصورها، فأولاً: جهاد النفس، وذلك بأن يحملها -وهي كارهة- على طاعة الله ورسوله، وذلك بفعل ما أمر الله ورسوله، ويحملها والاجتناب والبعد عما نهى الله عنه ورسوله، وأما جهاد الشيطان فبلعنه والبعد عنه ومخالفته وعصيانه وعدم الاستجابة له، وأما جهاد الدنيا فبترك زخارفها وزينتها، فالجهاد لفظ عام.

وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ ، أي: من أجل إرضاء الله تعالى لكم وعليكم، ويدخل فيه الجهاد الذي هو قتال الكفار والظلمة والمجرمين، وليس في ذلك خلاف في أن الأمة الإسلامية يجب عليها أن تجاهد حتى تنشر دعوة الله في الأرض، وحتى لا يعبد في الأرض إلا الله تعالى.

ويبين ذلك قوله تعالى من سورة الأنفال: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ [الأنفال:39]، وقد نهض بهذا الواجب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأولادهم وأحفادهم إلى ثلاثمائة سنة أو أكثر، وهم ينشرون الإسلام بالجهاد حتى انتهى إلى ما وراء السند ووراء الأندلس، فلما ضعفت الأمة صرفوها عن دينها وأفسدوا قلوبها وعقائدها وهبطت ولصقت بالأرض، فما أصبحت أهلاً لأن تغزو وتدعو إلى الإسلام، لكن لو أن غداً يقوم إمام المسلمين ويقول: الله أكبر! الجهاد، ويعد العدة، فهيا نرسوا سفننا على شواطئ دولة كافرة، ونقول لهم: تدخلون في الإسلام أو ندخل دياركم؟

والشاهد عندنا: أن فرضية الجهاد قائمة عند توفر أسبابها، لكن جهاد النفس والهوى والشيطان والدنيا مستمر لا ينقطع، وإلا انهزمنا وانكسرنا، ويكون الجهاد في ذات الله تعالى، ومن أجل الله تعالى، وفي سبيل مرضاته سبحانه، لا في سبيل دنيا والعياذ بالله.

بيان فضيلة هذه الأمة المسلمة

ثم قال تعالى: هُوَ اجْتَبَاكُمْ ، فمن الذي اجتبانا من الأمم ورفع أصلنا وأعزنا وأكرمنا، وأنعم علينا بالإسلام وكتابه ورسوله؟ الله، فهو الذي اجتبى هذه الأمة، وما اجتبى اليهود ولا النصارى ولا البوذيين، ولكن اختار هذه الأمة، يعني: رسول الله وأصحابه وأحفادهم وأولادهم، فاجتباهم واختارهم من الأمم، وحملهم هذه الرسالة، وهذه فضيلة عزيزة وعظيمة والحمد لله.

هُوَ اجْتَبَاكُمْ ، أي: اختاركم واصطفاكم لتحملوا هذه الرسالة، فلا تضعوها ولا تهملوها، ولكن للأسف أهملناها لأننا رضينا بالتفرق والانقسام، وأصبحت دولة الإسلام أربعين ونيف دويلة صغيرة لا تقوى على الجهاد، فلو قلنا: الله أكبر! الجهاد، واجتمع رؤساء الدول الإسلامية في الروضة، وبايعوا إماماً للمسلمين، وأصبحت كلمتهم واحدة، ودولتهم واحدة، وجيشهم واحد، ودعوتهم واحدة، عند ذلك يتم ما يريد الله عز وجل، ولا يكلف ذلك شيئاً، بل يعقب ذلك من الخير والفضائل ما لا يقدر قدره إلا الله، وما إن يعلن عن الدولة الإسلامية الواحدة إلا وينهزم الكفار ويصابون بالوساوس.

والشاهد عندنا في قوله تعالى: وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ ، ولا تقل: هذا من المنسوخ، إذ من الذي يقدر أن يجاهد في الله تعالى حق جهاده؟ فنقول: لا، فجاهد في حدود الطاقة، قال تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16].

وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ، أي: ما جعل علينا في ديننا من حرج وضيق، وذلك بدليل أنك تتزوج ثلاث نساء أو أربع، وما ألزمك بامرأة واحدة، وهذه توسعة من الله، والمريض كذلك يفطر ولا يصوم، والعاجز عن الصلاة قائماً يصلي قاعداً، فإن عجز عن القعود صلى راقداً على جنبه، وهكذا الحج إذا ما استطاع فمعذور، وذلك إذا لم يكن عنده قدرة على الحج، أو كان الطريق غير آمن، فرفع الضيق عنا تماماً في ديننا.

وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ، أي: من تضييق، بل التوسعة والفرج، لكن ليس معنى هذا أنه يجوز لنا أن نسرق وأن نكذب وأن نفجر ونقول: هذا توسعة في الدين! حاشا وكلا.

ومما هو لطيفة في قضية الجهاد في سبيل الله: أن سائلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الجهاد في سبيل الله عند جمرة العقبة الأولى فلم يجبه، ثم سأله عند الجمرة الثانية فما أجابه حتى العقبة الكبرى، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( من السائل؟ )، قال: أنا ذا يا رسول الله! قال: ( الجهاد في سبيل الله كلمة عدل عند سلطان جائر )، أي: أن تقول: كلمة عدل وحق عند سلطان جائر، فإن كان السلطان غير جائر فلا يقال هذا، ولذلك لكي تكون مجاهداً حق الجهاد تقول كلمة العدل عند السلطان الجائر الظالم، وهذا مأخوذ من قوله تعالى: وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ .

إذاً: فقوله تعالى: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ، هو كما سمعتم، فالمصلي إذا عجز أن يصلي قائماً فله أن يصلي قاعداً، والصائم يفطر، والمجاهد إذ لم يكن عنده مال ولا قدرة فلا يجاهد، وهكذا لا حرج في الدين ولا تضييق، ومن ذلك أبيح لنا أنواع الأطعمة والأشربة، وما حرم إلا شيئاً معدوداً معروفاً، وكل هذا من التوسيع في الدين وقلة الحرج.

أمر الله للمؤمنين بأن يلزموا ملة إبراهيم

ثم قال تعالى: مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ ، أي: الزموا ملة أبيكم إبراهيم، إذ إنه دعاكم إلى الركوع والسجود، وإلى إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والجهاد، وأخبركم مبشراً: ما جعل عليكم في الدين من حرج، وبالتالي فالزموا ملة أبيكم إبراهيم، ولا يخرجن أحد عن الإسلام، إذ إن ملة إبراهيم هي الإسلام، وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ [البقرة:128]، فهذه هي دعوة إبراهيم.

إذاً: نلزم ملة إبراهيم عليه السلام، وهي أن نعبد الله وحده ونطيعه فيما يأمر به فنفعل، وفيما ينهى عنه فنترك، وذلك عقيدة وعبادة وحكماً وأدباً وخلقاً، وكلمة إبراهيم كلمة عبرية، وهي في الأصل: الأب الرحيم، فإبراهيم بمعنى: أب رحيم، وهو حق أب رحيم عليه السلام.

مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ ، فالعرب المستعربة كلهم من إسماعيل، وعلى رأسهم رسولنا صلى الله عليه وسلم، واليهود والنصارى من ولد إبراهيم إسحاق ويعقوب، وبالتالي فهو أب الجميع، مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ ، فهذه الأبوة كما سمعتم، فالعرب المستعربة جدهم إسماعيل ابن إبراهيم، واليهود والنصارى إسحاق ويعقوب.

وقوله تعالى: هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ ، هنا يقول بعضهم: هو، أي: إبراهيم، والصواب أنه الله عز وجل، إذ هو الذي سمانا بالمسلمين من قبل القرآن، فسمانا في الكتب الأولى، أي: في التوراة والإنجيل والزبور، بل وذكر صفاتنا، هُوَ ، أي: تعالى لا إبراهيم، سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ ، أي: من قبل نزول القرآن ومجيء النبي صلى الله عليه وسلم.

وَفِي هَذَا أي: الكتاب، ومن هنا فهمنا أن الذي سمانا بالمسلمين هو الله، وذلك في الكتب السابقة وفي هذا الكتاب، وَفِي هَذَا ما هذا؟ القرآن العظيم، أما قال: المسلمين والمسلمات؟

إذاً: يقول تعالى: وَفِي هَذَا ، أي: القرآن، لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ أي: يوم القيامة، فيستعرضنا الله عز وجل في عرصات القيامة ويطلب من يشهد علينا ولنا، فرسولنا صلى الله عليه وسلم هو الذي يشهد علينا، ونحن يطلبنا الله تعالى فنشهد على الأمم السابقة، قال تعالى: وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ، فالله عز وجل يستشهد رسولنا على أمته، فيشهد بما هو الحق، والأمم الأخرى لا يستشهد الأنبياء والرسل، وإنما يستشهد أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فيقال لهم: هل علمتم أن اليهود كانوا كذا وكذا؟ هل تشهدون على أن النصارى كانوا كذا وكذا؟ وهذه فضيلة عجيبة وعظيمة، أي: كوننا نشهد على الأمم، ويشهد علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وهنا لطيفة ذكرها ابن جرير وغيره، إذ يقول رحمه الله تعالى: بيان فضيلة هذه الأمة المسلمة حيث أعطيت ثلاث خصال أو ثلاث فضائل لم يعطها إلا نبي، وبيان ذلك: كان يقال للنبي عليه السلام: اذهب فليس عليك حرج، أي: يقول الله تعالى لنبي من الأنبياء أو لرسول من المرسلين: اذهب فليس عليك حرج، يعني: أنت فقط، أما أمتك فلا، ونحن أمتنا قال لها: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج:78]، وهذه واحدة، وأما الثانية: يقول الله للرسول أو للنبي: أنت شهيد على قومك، ونحن قال لنا: أنتم شهداء على الناس، فالأنبياء كانوا يشهدون على أممهم، ونحن نشهد على الأمم، والثالثة: يقول الله لنبي من الأنبياء: سل تعطه، اطلب تعطه، ونحن قال لنا: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر:60]، فمعنى هذا أنه ساوى بيننا وبين الأنبياء، وفضلنا على سائر الأمم، فأعطانا الذي أعطى للأنبياء ولم يعط أمة من الأمم مثل ما أعطانا.

فرضية الصلاة والزكاة والتمسك بالشريعة من الشكر لله تعالى

وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ، إذاً فاشكروا ربكم على هذه النعمة، فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ، اشكروا هذه النعمة الجليلة، وهذه النعمة العظيمة، فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ ، فيا ليت أننا نقول: نعم يا ربنا! فقد أجبنا، وقد ذكرت لكم غير ما مرة متى نقول: أقمنا الصلاة؟ إذا قال المؤذن: حي على الصلاة، ووقف العمل نهائياً، وأقبل المؤمنون على بيوت ربهم، إذ إنه نظام يومي في اليوم والليلة، عند ذلك نقول: قد أقمنا الصلاة، وقد تجلى هذا أيام عبد العزيز وإلى الآن بصورة مصغرة، فكان إذا نودي للصلاة وقف العمل، فيأتون المساجد يصلون ويخرجون لأعمالهم، أما الأسرة فيها خمسة أنفار لا يصلون وسادسها يصلي! والقرية فيها كذا من المساجد ولا يحضرها الناس للصلاة! فعند ذلك ما أقاموا الصلاة، فلهذا ما أقيمت الصلاة في العالم الإسلامي أبداً في هذه القرون المظلمة إلا ما كان من هذه المملكة على يد عبد العزيز تغمده الله برحمته؛ إذ كان الإمام يتلو قائماً بأهل الحي، أي: من هو الذي لم يحضر لصلاة الصبح؟

والشاهد عندنا: أن شكر الله تعالى على هذه النعم يكون بإقام الصلاة، أما إضاعتها وإهمالها والإتيان بها على غير الوجه المطلوب، وذلك أن تكون خالية من الخشوع ومن أركانها وواجباته، فإنها ما أقيمت، وإنما أهملت وأسقطت، فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ .

ثانياً: وَآتُوا الزَّكَاةَ ، فذكر دعامتين عظيمتين يشدان صلب هذه الأمة وظهرها، وذلك بعد لا إله إلا الله محمد رسول الله، وهكذا عندما يشهد العبد ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، عند ذلك يؤمر بالصلاة والزكاة، ثم بعد ذلك صيام رمضان مرة في العام.

ثالثاً: وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ ، أي: واعتصموا بحبل الله، فأين حبل الله؟ دينه وكتابه وسنة رسوله، وشريعته هو حبل الله تعالى، وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ ، أي: بحبله وبدينه، ولا تتفرقوا ولا تختلفوا، ولا تهملوا ولا تضيعوا، وإنما كل يتمسك بذاك حتى يموت.

ثم قال تعالى: هُوَ مَوْلاكُمْ ، الحمد لله، فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ [الحج:78]، هو مولاكم، ومن كان الله وليه ينهزم إذا حارب؟ ينكسر إذا قاوم؟ الجواب: لا، هُوَ مَوْلاكُمْ ، أي: وليكم، فَنِعْمَ الْمَوْلَى ، هو، وَنِعْمَ النَّصِيرُ [الحج:78]، فلن تهزموا ولن تنخذلوا، وهذا كله إذا نحن شكرنا الله على نعمة الإسلام، وذلك بأن أقمنا الصلاة وآتينا الزكاة واعتصمنا بحبل الله تعالى، وعند ذلك لا خلاف ولا فرقة ولا إضاعة ولا تشتيت، وإنما عبادة واستقامة، وهذه قد تحققت لسلفنا الصالح، ونسأل الله أن يحققها لهذه الأمة.

وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ ، ولهذا فإن أركان الإسلام أو قواعده خمس، ويضاف إليها أيضاً الجهاد، فهذا من باب ذكر العام بعد الخاص، فتلك عبادات خاصة والجهاد يشمل عبادة الله بكل أنواعها وصورها، فأولاً: جهاد النفس، وذلك بأن يحملها -وهي كارهة- على طاعة الله ورسوله، وذلك بفعل ما أمر الله ورسوله، ويحملها والاجتناب والبعد عما نهى الله عنه ورسوله، وأما جهاد الشيطان فبلعنه والبعد عنه ومخالفته وعصيانه وعدم الاستجابة له، وأما جهاد الدنيا فبترك زخارفها وزينتها، فالجهاد لفظ عام.

وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ ، أي: من أجل إرضاء الله تعالى لكم وعليكم، ويدخل فيه الجهاد الذي هو قتال الكفار والظلمة والمجرمين، وليس في ذلك خلاف في أن الأمة الإسلامية يجب عليها أن تجاهد حتى تنشر دعوة الله في الأرض، وحتى لا يعبد في الأرض إلا الله تعالى.

ويبين ذلك قوله تعالى من سورة الأنفال: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ [الأنفال:39]، وقد نهض بهذا الواجب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأولادهم وأحفادهم إلى ثلاثمائة سنة أو أكثر، وهم ينشرون الإسلام بالجهاد حتى انتهى إلى ما وراء السند ووراء الأندلس، فلما ضعفت الأمة صرفوها عن دينها وأفسدوا قلوبها وعقائدها وهبطت ولصقت بالأرض، فما أصبحت أهلاً لأن تغزو وتدعو إلى الإسلام، لكن لو أن غداً يقوم إمام المسلمين ويقول: الله أكبر! الجهاد، ويعد العدة، فهيا نرسوا سفننا على شواطئ دولة كافرة، ونقول لهم: تدخلون في الإسلام أو ندخل دياركم؟

والشاهد عندنا: أن فرضية الجهاد قائمة عند توفر أسبابها، لكن جهاد النفس والهوى والشيطان والدنيا مستمر لا ينقطع، وإلا انهزمنا وانكسرنا، ويكون الجهاد في ذات الله تعالى، ومن أجل الله تعالى، وفي سبيل مرضاته سبحانه، لا في سبيل دنيا والعياذ بالله.