خطب ومحاضرات
تفسير سورة المؤمنون (6)
الحلقة مفرغة
الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذا اليوم ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله؛ يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).
قال تعالى: فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ * فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَقُلْ رَبِّ أَنزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ [المؤمنون:27-30].
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! تقدم قول الله عز وجل على لسان نبيه ورسوله نوح أنه طلب من الله عز وجل النصر على الظالمين المشركين، فاستجاب الله عز وجل له، قَالَ رَبِّ انصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ [المؤمنون:26]، أي: بتكذيبهم إياي وخروجهم عن طاعتي، وإيذائهم لي، انصرني يا رب عليهم، فاستجاب الله له.
وما زال ولا يزال الله عز وجل يستجيب لعباده المؤمنين وبخاصة المظلومين، إذ إن دعوة المظلوم لا ترد، وليس بينها وبين الله حجاب، فلنحذر أن نظلم، ولنحذر أن يدعو علينا مظلوم، واستجابة الله لدعاء عباده المؤمنين بابها مفتوح، فما من مؤمن ولا مؤمنة يرفع كفيه إلى ربه ويسأله حاجته إلا أعطاه، فإن كان مطلوبه وحاجته خيراً له عاجلاً أو آجلاً أعطاه إياها، وإن كان لا خير فيها لا في حاله ولا في مستقبله عوضه بدلها، وذلك إما بأن يرفع عنه البلاء الذي كان قد ينزل عليه، أو يرفع درجته في الملكوت الأعلى، أو يكفر بها ذنباً من ذنوبه، ومعنى هذا: من دعا الله بصدق استجاب الله له، وهو القائل في كتابه العزيز: وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر:60]، والمحروم من أعرض عن الدعاء وهرب منه، أما من يقبل على سؤال الله ودعائه في أمور الدنيا والآخرة فهو في خير وعافية.
فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ [المؤمنون:27]، والوحي والإيحاء هو إعلام خفي بطريق خفية، فإما أن ينزل عليه ملكاً وإما أن يلقي في روعه أو في قلبه فيفهم عن الله تعالى، وكأنه يسمع كلامه، فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ [المؤمنون:27] بماذا؟ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ [المؤمنون:27] أي: بصنع الفلك، فقد أمرناه بوحينا الخاص أن يصنع فلكاً، والفلك معروف وهو السفينة، وتجمع على أفلاك، والفلك اسم جنس، وهو بناية من الخشب توضع في البحر ويركبون عليها فتسير بهم.
أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا [المؤمنون:27] أي: بمرأى ونظر منا، فأنت تصنع ونحن ننظر إليك، والملك يعلمه كيف يصنع السفينة؟ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا [المؤمنون:27] أي: بمرأى ونظر وبتعليم منا، وذلك بواسطة ملكنا: افعل كذا وافعل كذا وافعل كذا، فعلمه صنع الفلك، وفعلاً صنعها عليه السلام.
ولما فرغ من صنع الفلك، وأصبحت أهلاً لأن ينزل فيها المؤمنون ويسكنوها، حينئذٍ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا [المؤمنون:27] أي: بهلاك الظالمين وتدميرهم، أولئك الذين حاربوه ألف سنة إلا خمسين عاماً، وهو يدعوهم إلى الله وهم معرضون، بل ويستهزئون ويسخرون، بل ويدخلون أصابعهم في آذانهم ويتعجبون، فانظر كيف أمهلهم الله وأملى لهم؟!
فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا [المؤمنون:27] أي: بإهلاكهم والقضاء عليهم، وَفَارَ التَّنُّورُ [المؤمنون:27] والتنور هو المكان الذي يطبخ فيه الخبز، وهو حفرة في الأرض يوضع فيها الخشب والحطب والفحم، ويوضع عليه الخبز حتى ينضج ويطيب، فهذا التنور إذا خرج منه الماء فقد أتت الساعة المحددة، وكانت هذه آية خارقة من الله تعالى، إذ الماء لا يخرج من النار، لكنها قدرة الله تعالى.
فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا [المؤمنون:27] بإهلاك قومك يا نوح.. بإهلاك الظالمين المتمردين عليك المشركين بنا الكافرين بشرعنا.
وَفَارَ التَّنُّورُ [المؤمنون:27] ماذا تصنع؟ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ ، وقرئ: (من كلِ) بدون تنوين، والقراءتان سبعيتان، فعلى قراءة الخفض يكون المعنى: من كلِ المخلوقات اسلك، وعلى قراءة التنوين يكون المعنى: من كلٍ من المخلوقات الإنسان والحيوان.
مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ [المؤمنون:27] والمراد بالزوجين: الذكر والأنثى. ومعنى هذا: أن الأرض سيعمها الطوفان، وسيغرق ويهلك كل من فيها، وذلك من إنسان أو حيوان، بل حتى الذئاب والكلاب.
إذاً: لتحتفظ ببقية المخلوقات فخذ من كل صنف ذكراً وأنثى: بقرة وثوراً، جملاً وناقة، عنزة وتيساً، كبشاً ونعجة وهكذا مما يبيض ويرضع، أما الحشرات فستنبت من التراب فلا قيمة لها، لكن هذه الحيوانات إن فنيت انقطع وجودها، أما الذي يتكون من التراب والتعفن كالذباب والبعوض والنمل وما إلى ذلك فلا قيمة له، إذ إنه لا يفنى، لكن خذ ما هو نافع وضار في الحياة من كل صنف زوجين، أي: ذكراً وأنثى، وفعلاً عمل نوح ذلك، وليس في يوم واحد ولا في شهر ولا في عام، بل أخذ يجمع تلك الحيوانات وأسلكها في تلك السفينة سنين.
فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ [المؤمنون:27] معهم، والمراد بأهله: زوجته وأولاده، إلا أن زوجته هالكة؛ لأنها كانت والعياذ بالله تساعد الظلمة وتعينهم، وقد جاء بيان ذلك في سورة التحريم، إذ قال تعالى: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ [التحريم:10]، فإحدى نساء نوح كانت مع المشركين، فهذه لا تحملها معك فهي هالكة، ومن بنيه كنعان والعياذ بالله، فقد هلك مع الغرقى والهالكين.
فَاسْلُكْ فِيهَا [المؤمنون:27] أي: في السفينة، واسلك بمعنى: أدخل الأشياء واحداً بعد واحد بانتظام مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ [المؤمنون:27] اللهم إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ [المؤمنون:27] أي: من سبق عليه القول بإهلاكه وتدميره كـكنعان وكامرأتك فلانة؛ فلا تلتفت إليهم ولا تدخلهم في السفينة ولا تنظمهم فيها.
وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ [المؤمنون:27]، أي: بإهلاكه، فقد علمه الله ذلك وأعلمه، بل وكل من أعرض عن كلمة لا إله إلا الله فإنه يوحى إلى رسول الله بأنه هالك، فامرأته كفرت وابنه كذلك، وغيرهم ملايين من البشر.
وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ [المؤمنون:27]، أي: لا تسألني عن واحد من الظالمين، ولا تطلب له نجاة ولا خلاصاً، ولا تقول: كيف ذلك؟! والمراد بالظالمين هنا: المشركون، إذ ظلموا ربهم، فقد خلقهم ورزقهم ليعبدوه، لكن أكلوا وشربوا وعبدوا غيره، فأي ظلم أعظم من هذا الظلم؟! الذي خلقك ورزقك وخلق الكون والحياة من أجلك تعرض عنه وتلتفت إلى صنم أو حجر أو شيطان فتدعوه وتعبده وتركع وتسجد له! أي ظلم أفحش من هذا الظلم؟! ولهذا فالمشرك ظالم لأنه وضع العبادة في غير موضعها، إذ موضع العبادة الله تعالى، فهو الذي يعبد بطاعته في أمره ونهيه، ومن عصا الله وأطاع الشيطان فقد عبده، وهو ظالم.
وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ [المؤمنون:27]، أي: ولا تخاطبني في شأن الذين ظلموا، بمعنى: لا تقول: اعف عن فلان وفلان وفلان! أو لعل بعض الناس لم يعرف! أو أن بعضهم كانوا متأدبين! لا، إذ كانوا مشركين أجمعين، ولهذا نبهه على أنه لا يسأله عفوه ورحمته لهؤلاء الظالمين.
وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا [المؤمنون:27]، لماذا؟ إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ [المؤمنون:27]، أي: محكوم عليهم بالإغراق وأنهم من الهالكين.
ومن أغرقه الله من ينجيه؟ فهم غرقى هالكون فلا تسألني عنهم، فهكذا يخاطب الله عبده ورسوله نوحاً، فأي شرف أعظم من هذا الشرف؟ إن نوحاً هو أول الرسل عليه السلام، وأحد أولي العزم، ومع ذلك يخاطبه ربه ويعلمه كيف يصنع السفينة؟ فأي إنعام أكثر من هذا الإنعام؟!
وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا [المؤمنون:27] إن قلت: لماذا؟ فالجواب: إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ [المؤمنون:27]، أي: محكوم عليهم بالإغراق فلا حاجة إلى السؤال عنهم، إذ ما هي إلا أيام وهم تحت الأرض.
ثم قال تعالى: فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [المؤمنون:28].
فَإِذَا اسْتَوَيْتَ [المؤمنون:28]. استوى بمعنى: ركب وسكن فيها الجميع بنظام، وهم عليها متمكنون.
فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ [المؤمنون:28]، أي: من المؤمنين والمؤمنات، ومن سائر الحيوانات، إذ أخذ من كل صنف زوجين: ذكراً وأنثى.
فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ [المؤمنون:28]، واستوى عليها يعني: فوقها، فهم متمكنون منها تحملهم وتسير بهم في الماء.
فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [المؤمنون:28]، أي: احمد الله عز وجل وقل: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [المؤمنون:28]، أي: المشركين الذين عذبوهم واضطهدوهم ونكلوا بهم عشرات السنين، بل مئات السنين، وساعة ما إن أراد الله نجاتهم نجاهم، وعلم نوح أن يحمد الله على ذلك.
فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [المؤمنون:28]، ولذلك فإن كل من كان في بلد أهلها ظالمون ونجاه الله منها فيجب أن يذكر هذه النعمة وأن يقول: الحمد لله فقد نجاني ربي من القوم الظالمين، فهذا نوح يحمد الله ونحن لا نحمده؟! فكل من كان في فتنة أو في ظلم بين أفراد أو جماعة أو أمة ونجاه الله منها وأخرجه من فتنته إلا ويجب عليه أن يحمد الله عز وجل بهذه الكلمة: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [المؤمنون:28].
ولفظ: (الحمد لله) يعني: الشكر العظيم لله تعالى، وهو الوصف بالجميل لله لا لسواه، وهي شكر كل نعمة، فإذا أكلت وشبعت فقل: الحمد لله، أو مرضت وصححت فقل: الحمد لله، أو نسيت وذكرت فقل: الحمد لله، أو أردت أن تقول أو تتكلم فقل: الحمد لله، ولا ننسى هذه الكلمة فإنها رأس الشكر، فإذا أنعم الله على العبد بنعمة وقال: الحمد لله، إلا كان قوله: الحمد لله أعظم مما أُعطي وأخذ، وذلك مهما عظمت هذه النعمة أو كبرت.
وهذا تعليم الله عز وجل لا تعليم الناس: فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [المؤمنون:28]، أي: المشركين المعتدين.
ثم قال له تعالى أيضاً: وَقُلْ رَبِّ أَنزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ [المؤمنون:29].
وَقُلْ رَبِّ [المؤمنون:29]، أي: يا رب! وحذفت يا النداء لقرب الله تعالى، إذ الله معنا وليس ببعيد، والأصل يا رب! أي: يا خالقي! ويا رازقي! ويا مدبر أمري! ويا من إليه مرجعي! ويا إلهي الحق! ويا رب العالمين!
أَنزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا [المؤمنون:29]، والمُنزل هنا بمعنى المنزل، وهو مصدر أنزله إنزالاً ومنزلاً. أي: إنزالاً خاصاً، وهذه لا يحل للحاضرين أن يفهموها الليلة ولا يقولونها غداً، بل يقولونها بعد خروجهم من المسجد، فمن ركب دابة أو سيارة أو طائرة أو باخرة فينبغي أن يقول: ( بسم الله، الحمد لله الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين، وإنا إلى ربنا لمنقلبون).
معاشر المستمعين! هذه فرصة ذهبية أتاحها الله لنا فيجب أن نعمل بها، فإذا ركبت أو وضعت رجلك على الدابة أو على السيارة أو على الطيارة فقل: الحمد لله، سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين، وإنا إلى ربنا لمنقلبون أو راجعون، وقد كان علي عليه السلام إذا دخل منزله قال: السلام على عباد الله الصالحين، ربي! أنزلني منزلاً مباركاً وأنت خير المنزلين، فهذه لابد منها لمن دخل بيته، وذلك حتى يبارك الله لك في حجرتك التي أنت فيها.
وَقُلْ رَبِّ أَنزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ [المؤمنون:29]، فإذا أردت أن تركب سيارتك فارفع رجلك اليمنى وقل : باسم الله، سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين، وإنا إلى ربنا لمنقلبون، أي: ما كنا مطيقين له لولا الله عز وجل، إذ لولا الله لا تستطيع أن تركب الفرس أو غيره.
أَنزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ [المؤمنون:29]، وفي هذا ثناء وحمد وشكر لله عز وجل، إذ قال: وَأَنْتَ [المؤمنون:29]، لا سواك، خَيْرُ الْمُنزِلِينَ [المؤمنون:29]، وذلك لما أكرمه الله وعلمه كيف يدعو فقال: وأنت خير المنزلين.
ثم قال تعالى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ [المؤمنون:30]، أي: في ذلك المذكور، في هذه القصة العجيبة العظيمة، والتي دارت أحداثها ألف سنة إلا خمسين عاماً، وهي قصة قصها الله تعالى على رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم، فدل ذلك على أنه نبي الله ورسوله يتلقى العلم عنه، وفيه آيات لخلق الله وقدرته وعظمته وألوهيته وتدبيره في خلقه، لكن من يذكر هذه الآيات، يذكرها أعمى القلب أم بصير القلب؟ بصير القلب، أما الآيات والله لعلامات كالشمس وضحاها في الدلالة على وجود الله تعالى، على علم الله تعالى، على قدرة الله تعالى، على رحمة الله تعالى، على ألوهية الله تعالى، على أن محمداً رسول الله، على أن القرآن كلام الله وكتابه، وهي آيات لا آية واحدة ولا عشر في هذا المذكور كله.
وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ [المؤمنون:30]، أي: مختبرين وممتحنين، إذ يخبر تعالى أنه يعطي ويمنع، ويضر وينفع، ويعز ويذل، ويهدي ويضل، وذلك لحكم عالية ألا وهي الامتحان والاختبار، فمن أجاب دعوة الله واستقام على نهجه وعبد الله واتقاه أكرمه وأنزله منازل الأبرار في الجنة دار النعيم، ومن استكبر وتنكر وأعرض وآثر الدنيا وشهواتها والفسق والفجور أذله وأخزاه وأدخله النار دار البوار والعياذ بالله تعالى.
إذاً: من أفعال الله تعالى هذا الابتلاء وهذا الامتحان، فقد أرسل نوحاً يبني سفينة ليبتليهم، وأرسل محمداً صلى الله عليه وسلم إلى الناس ليبتليهم من يطيع ومن لا يطيع، من يجيب ومن لا يجيب، وليكرم من أجابه ويهين من لم يجب، وهذه حكمته سبحانه وتعالى، إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ [المؤمنون:30]، أي: مختبرين وممتحنين البشر بهذه الأحداث العظام.
يقول تعالى: فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ [المؤمنون:27] إلى من؟ إلى رسول الله.
فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ [المؤمنون:27]، بماذا؟ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا [المؤمنون:27]. ما معنى: بأعيننا؟ أي: تحت نظرنا وبصرنا، ووحينا إليك بأن تفعل كذا وكذا.
فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا [المؤمنون:27] بماذا؟ بالدمار والهلاك فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا [المؤمنون:27]، وعلامة ذلك: وَفَارَ التَّنُّورُ [المؤمنون:27]، أي: تدفق الماء من الكانون كما يقولون، فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ [المؤمنون:27]، وهي امرأته وابنه كنعان وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ [المؤمنون:27]، أي: لا تسأل عنهم أبداً.
فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ [المؤمنون:28]، ماذا تقولون؟ تغنون؟ تزغردون؟ تصفقون كما يفعل الجاهلون؟ ماذا تقولون؟
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [المؤمنون:28]. لما تمت النعمة وجلسوا على الأرائك بدل أن يذكروا الله ويكبروه ويحمدوه يغنون ويزغردون ويصفقون!
وَقُلْ رَبِّ [المؤمنون:29]، أي: يا رب! أَنزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ [المؤمنون:29]، وفي هذا ثناء على الله عز وجل، إذ من خير المنزلين سوى الله عز وجل؟!
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ [المؤمنون:30]، أي: ممتحنين ومختبرين، ونحن فعلاً ممتحنون ومختبرون في هذه الحياة الدنيا، فمن يجيب دعوة الله ومن يعرض عنها؟!
معنى الآيات
ما زال السياق الكريم ]، أي: سياق الكلام، [ في ذكر قصة نوح عليه السلام مع قومه، فقد جاء في الآيات السابقة أن نوحاً عليه السلام دعا ربه مستنصراً إياه لينصره على قومه ]، أي: طلب النصرة على قومه، [ الذين كذبوه قائلاً: رَبِّ انصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ [المؤمنون:26]، فاستجاب الله تعالى دعاءه فأوحى إليه، أي: أعلمه بطريق الوحي الخاص، أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ [المؤمنون:27]، أي: السفينة، بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا [المؤمنون:27]، أي: بمرأى منا ونظر وبتعليمنا إياك.
وجعل له علامة على بداية هلاك القوم أن يفور تنور طبخ الخبز بالماء، وأمره إذا رأى تلك العلامة أن يدخل في السفينة من كل زوج -أي: ذكر وأنثى- اثنين من سائر الحيوانات التي أمكنه ذلك منه، وأن يركب فيها أيضاً أهله من زوجة وولد إلاّ من قضى الله بهلاكه كـكنعان وزوجته، ونهاه أن يكلمه في شأن الظالمين لأنهم مغرقون قطعاً ]، أي: لا حاجة إلى أن تكلمني عنهم.
قال: [ هذا ما تضمنته الآية الأولى: فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا [المؤمنون:27]، أي: بإهلاك الظالمين المشركين، وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا [المؤمنون:27]، أي: في السفينة، مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ [المؤمنون:27]، أي: أزواجك وأولادك، إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ [المؤمنون:27]، أي: بإهلاكهم كامرأته، وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا [المؤمنون:27]، أي: لا تسألني عنهم فإني مهلكهم.
وقوله تعالى: فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ [المؤمنون:28]، أي: إذا ركبت واستقررْت على متن السفينة أنت ومن معك من المؤمنين فاحمدنا، فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [المؤمنون:28]، وادعنا ضارعاً إلينا قائلاً: رَبِّ أَنزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا [المؤمنون:29]، أي: من الأرض، واثن علينا خيراً فقل: وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ [المؤمنون:29].
وقوله تعالى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ [المؤمنون:30]، أي: المذكور من قصة نوح للدلالة على قدرة الله وعلمه ورحمته وحكمته ووجوب الإيمان به وتوحيده في عبادته.
وقوله: وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ [المؤمنون:30]، أي: مختبرين عبادنا بالخير والشر لنرى الكافر من المؤمن، والمطيع من العاصي، ويتم الجزاء حسب ذلك إظهاراً للعدالة الإلهية والرحمة الربانية ]، اللهم اجعلنا من العابدين الصالحين.
هداية الآيات
أولاً: إثبات الوحي الإلهي وتقرير النبوة المحمدية ]، من هداية هذه الآيات الأربع: تقرير النبوة المحمدية، وهي أن محمداً رسول الله حقاً وصدقاً، فنشهد أن لا إله إلا الله ونشهد أن محمداً رسول الله، فكيف عرفنا ألا معبود إلا الله؟ عرفنا ألا خالق ولا رازق ولا معطي ولا مانع ولا محيي ولا مميت إلا هو، فيكف يكون معه آله؟ والله لا إله إلا الله! وكيف عرفنا أن محمداً رسول الله؟ وكيف يكون غير رسول وينزل عليه هذا القرآن؟ كيف يعقل هذا؟! لو كان غير رسول الله حقاً فكيف ينزل عليه هذا الوحي وهذا الكتاب العظيم؟ ماذا نقول؟ إن كل ذرات الكون موجودة في السماء والأرض في هذا الكتاب العظيم، فكيف لا يكون رسول الله؟! مستحيل هذا، فلهذا نشهد عن علم أن محمداً رسول الله، بل لو كذب الناس كلهم والله ما كذبنا، إذ ما نستطيع أن نكذب، فكيف لا يكون رسول الله؟! وهذه القصة وحدها في كتابه من أخبر بها محمداً؟ هل عاش الرسول مع نوح؟ هل عاصر قومه؟ إذاً من أين جاء بهذا الكلام؟ من أين أخذه؟ إنه أمي لا يقرأ ولا يكتب، فكيف حصل على هذا العلم؟ إنه والله إلا وحي الله عز وجل.
إذاً: من هداية هذه الآيات: إثبات وتقرير النبوة المحمدية، وكذلك إثبات الوحي الإلهي، يقال: أوحى الله إلى نبيه، أي: نبأه عليه الصلاة والسلام.
[ ثانياً: تقرير حادثة الطوفان المعروفة لدى المؤرخين ]، إن مؤرخي العالم لا ينكرون حادثة الطوفان، وإن كان قد مضت عليها مئات السنين والقرون، وكل البشرية تسمع بها، وقد توارثوها فيما بينها، فالذين نزلوا من السفينة وعاشوا على الأرض حدثوا بها، بل ما يقولون كنا كذا وكذا؟ ونزلنا في كذا وكذا؟ وكذلك أولادهم يقولون: أجدادنا كانوا في السفينة، وهذه قضية مسلمة لا يردها أحد، وذلك لأنها موروثة فيما بينهم، وهي قضية مسلمة لا ينازع فيها أحد.
[ ثالثاً: بيان عاقبة الظلم وأنه هلاك الظالمين ]، كيف كان عاقبة ظلم قوم نوح؟ الإغراق عن آخرهم وإهلاكهم وإهلاك ما عندهم، وهكذا مصير كل من ظلم والعياذ بالله تعالى أن ينزل به البلاء، طال الزمان أو قصر، ولهذا نعوذ بالله أن نكون من الظالمين أو أن نقف إلى جنب الظالمين.
[ رابعاً: سنية قول: باسم الله والحمد لله، سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين، وإنا إلى ربنا لمنقلبون، وذلك عند ركوب الدابة أو السفينة ونحوها كالسيارة والطيارة ]، نعيد القول: معاشر المستمعين والمستمعات! من لم يحفظ هذه الآن فليحفظها غداً، فإذا وضعت رجلك على الدابة أو على السيارة فقل: باسم الله والحمد لله، ثم قل: سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون، ومعنى (مقرنين): مطيقين، أي: لا نطيقه، إذ من نحن حتى نطيقه؟
وهنا لطيفة وهي: إذا دخلت بيتك فقل: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، ثم قل: ربي أنزلني منزلاً مباركاً وأنت خير المنزلين، وهذا دعاء علي رضى الله عنه.
[ خامساً: استحباب الدعاء وسؤال الله تعالى ما العبد في حاجة إليه من خير الدنيا ]، استحباب الدعاء بل وجوب الدعاء بل ندب الدعاء، إذ الدعاء هو سر حياتنا، فمن ذا الذي يستغني عن الله تعالى أسألكم بالله؟! لا أحد أبداً يستغني عن الله تعالى، حتى تنفسنا هذا فنحن في حاجة إلى الله وإلا انقطع.
إذاً: فلا نلبس أبداً ولا نسكن إلا ونحمد الله دائماً وأبداً على كل آلائه وإنعامه، بل ننظر فقط إلى الجسم ونقول: الحمد لله، وننزل ونركب ونأكل ونمشي فنقول: الحمد لله، وإن سئل أحدنا: كيف حالك؟ فليقل: الحمد لله، وهذا هو شعار هذه الأمة، بل وهو شعار الأمة المحمدية في الكتب السابقة، إذ إنهم كانوا معروفين بالحمادين، وذلك في الكتب السابقة كالتوراة والإنجيل والزبور، فما معنى الحمادون؟ الذين يكثرون حمد الله تعالى، فحالهم دائماً وأبداً الحمد لله.
[ سادساً: بيان سر ذكر قصة نوح وهو ما فيها من العظات والعبر ]، بيان سر وحكمة قصة نوح لما فيها من البيان والعبر والعظات، وذلك لعل الله يهدي بها المكيين والقرشيين، وفعلاً فقد هدى الله من شاء على يديها، إذ كان لها أثر فيهم.
معاشر المؤمنين! نرفع أكفنا إلى ربنا سائلين ضارعين: اللهم يا حي يا قيوم! يا بديع السموات والأرض! يا مالك الملك! يا ذا الجلال والإكرام! هذه أكفنا قد رفعناها إليك سائلين ضارعين، اللهم احفظنا بما تحفظ به الصالحين من عبادك، اللهم احفظنا بما تحفظ به الصالحين من عبادك، اللهم ألهمنا ذكرك وشكرك وحسن عبادتك وأعنا على ذلك، ربنا أدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين، ربنا اجمعنا في دار السلام يا رب العالمين مع آبائنا وأمهاتنا وإخواننا يا حي يا قيوم، وتوفنا وأنت راض عنا يا رب العالمين.
وصل اللهم على نبينا محمد وآله وسلم.
استمع المزيد من الشيخ ابو بكر الجزائري - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
تفسير سورة المؤمنون (7) | 3893 استماع |
تفسير سورة المؤمنون (10) | 3742 استماع |
تفسير سورة الحج (11) | 3654 استماع |
تفسير سورة النور (12) | 3647 استماع |
تفسير سورة الأنبياء (9) | 3504 استماع |
تفسير سورة الأنبياء (5) | 3493 استماع |
تفسير سورة الأنبياء (14) | 3492 استماع |
تفسير سورة الأنبياء (15) | 3416 استماع |
تفسير سورة الحج (17) | 3194 استماع |
تفسير سورة المؤمنون (13) | 3123 استماع |