خطب ومحاضرات
وليمة سمك
الحلقة مفرغة
بعد صلح الحديبية أمن النبي صلى الله عليه وسلم من جانب قريش، وبدأ يرسل السرايا والبعوث إلى مناطق مختلفة حول المدينة، وذلك حتى ينتشر الإسلام، ويسمع به من لم يسمع به من قبل، وحتى يبث الرعب في قلوب الأعداء، ممن تسول لهم أنفسهم أن يمسوا المسلمين بسوء، وبذلك تصبح للإسلام شوكة وقوة وهيبة، فيدخل الناس في دين الله تعالى، وقد تم للنبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين ما أرادوا.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على آله وصحبه أجمعين.. وبعد:
فحديثنا في هذه الليلة عن قصة أخرى من القصص التي كانت لصحابة النبي صلى الله عليه وسلم في عهده عليه الصلاة والسلام، وفيها فوائد وعبر، وفيها بيان ما كان عليه الصحابة من الشدة، وكيف تحملوا في ذات الله وفي سبيل الله.
روى هذه القصة الإمام البخاري رحمه الله في عدد من المواضع من صحيحه ، ورواها كذلك الإمام مسلم رحمه الله، وروى طرفاً منها الإمام الترمذي رحمه الله، وكذلك رواها ابن إسحاق من أهل السير أيضاً.
وهذه رواية الإمام مسلم عن جابر قال: (بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر علينا
خروج السرية لتلقي عيراً لقريش
الهدف الأول: إلى هذا الحي من جهينة من المشركين.
والهدف الثاني: تلقي عير قريش، فتكون هذه السرية مزدوجة الهدف، أراد النبي عليه الصلاة والسلام أن يصيب أكثر من هدف بهذه السرية.
فانطلقت هذه السرية إلى أرض جهينة، وأرادت أن تتلقى عيراً لقريش لتقطع الطريق عليهم، ومعلوم أن أموال المحاربين حلال للمسلمين، وهذه كانت تقريباً سنة ثمان للهجرة، كما أشار ابن سعد رحمه الله، ولكن الأرجح أنها كانت سنة ست أو قبلها قبل هدنة الحديبية ، لأن هدنة الحديبية وضعت الحرب أوزارها بين المسلمين والمشركين، وإذا كانت في وقت الهدنة فيحتمل أنها كانت لتلقي العير لحفظها من جهينة، ولذلك لم يأخذوا شيئاً ولم يستولوا على شيء، أقاموا نصف شهر في مكان واحد ثم بعد ذلك رجعوا.
تأمير أبي عبيدة رضي الله عنه وفناء الزاد
وخرج بهم أبو عبيدة رضي الله تعالى عنه، ولما كانوا في أثناء الطريق فني الزاد، انتهى زاد الجيش، ومعروف أن الجيوش من أهم الأشياء فيها التموين، لأن التموين مهم لاستمرارية التحرك نحو الهدف وتحقيق الهدف والعودة، لكن انتهى الزاد، فما هو الإجراء الذي اتخذه أبو عبيدة رضي الله عنه لمواجهة انتهاء الزاد؟ أمر أبو عبيدة بأزواد الجيوش، فجمع فكان مزود تمر كما في رواية البخاري ، والمزود هو: ما يوضع فيه الزاد، فهذا المزود من التمر هو الذي كان يقيتهم أثناء الطريق، كيف كان ذلك؟ كل يوم قليلاً قليلاً حتى فني، وانتهى.
قال: فلم يكن يعطينا إلا تمرة تمرة.. كان هناك زاد عام للجيش كله، ولما انتهى الزاد العام جمع أبو عبيدة ما كان عند كل واحد بمفرده، جمعه ثم أراد أن يقسمه على الجميع للمساواة بينهم، فجعله جميعاً في مزودٍ واحد.. إذاً: الزاد العام الذي زودهم به النبي صلى الله عليه وسلم من قبل كان جراباً، فلما نفد جمع أبو عبيدة الزاد الخاص فخرج جراب أيضاً، لكن غير الأول، ثم فرق عليهم تمرةً تمرة.
فلنتصور الآن أن هؤلاء المسلمين ما معهم إلا تمرة تمرة، والتمر الذي وزع عليهم الأول كان من الجراب النبوي، ولذلك كان زاداً عاماً للجيش وفيه بركة، وبعد ذلك جمع ما تبقى لدى الأفراد لمواجهة الموقف الطارئ، فصار من نصيب الشخص تمرة واحدة، يعطي كل واحد تمرة واحدة، فإذا انتهت التمرة أعطاهم نصيبهم في المرة التي بعدها تمرة أخرى.. والذي يسمع الرواية يقول: وما تغني عنكم تمرة؟ فهذا وهب بن كيسان من التابعين -رحمه الله تعالى- يسأل جابراً ويقول: يا أبا عبد الله ! أين كانت تقع التمرة من الرجل؟ ماذا تغني عنكم تمرة؟ فقال جابر : لقد وجدنا فقدها حين فنيت.. قال: أنت الآن تقول: ما فائدة التمرة؟ لكن لما فقدنا التمرة هذه التي أنت تستهين بها وجدنا أثر فقدها، أي: أن التمرة كانت تفعل لهم شيئاً عظيماً مؤثراً.. فقلت: كيف كنتم تصنعون بها؟ قال: نمصها كما يمص الصبي الثدي، ثم نشرب عليها الماء فتكفينا يومنا إلى الليل.. إذاً: طيلة اليوم تمرة واحدة بالمص كما يمص الطفل ثدي أمه، ثم يشربون عليها الماء، هذا زاد يوم كامل، وهذا ما تحمله الصحابة في سبيل الله.
ولذلك هؤلاء هم المجاهدون حقيقةً، هؤلاء الصحابة رضوان الله عليهم الذين ضحوا من أجل هذا الدين، وعلى تمرة واحدة في اليوم يمصونها، ليس بأكل ولا مضغ ما يكفي للمضغ، وعلى الماء، مقاتلين في سبيل الله، انتهى الزاد، وانتهى التمر، حتى التمرة لم تكن موجودة.
وصولهم إلى البحر وخروج الحوت العظيم
وفي رواية: ( فوقع علينا على ساحل البحر كهيئة الكثيب الضخم، فأتيناه فإذا هو دابة تدعى العنبر )، والعنبر نوع من الحوت يمتاز بضخامته.. فألقى لنا البحر دابة يقال لها العنبر. وفي رواية: ( فهبطنا بساحل البحر فإذا نحن بأعظم حوت )، قال أهل اللغة: العنبر سمكة بحرية كبيرة يتخذ من جلودها التروس، وهذا من قوة الجلد، ويقال: إن هذا العنبر الطيب المشموم يستخرج من رجيع الحوت، سبحان الله!! رجيع الحوت هذا هو العنبر المشموم الذي يستخدم كطيب، وقيل: إن المشموم يخرج من البحر ويؤخذ من أجواف السمك الذي يبتلعه، وقال الماوردي نقلاً عن الشافعي : سمعت من يقول: رأيت العنبر نابتاً في البحر ملتوياً مثل عنق الشاة، وفي البحر دابة تأكله وهو سم لها، فيقتلها فيقذفها فيخرج العنبر من بطنها. وقال الأزهري من علماء اللغة: العنبر سمكة تكون في البحر الأعظم، يبلغ طولها خمسين ذراعاً.
وجاء في رواية عمرو بن دينار : ( فألقى لنا البحر حوتاً ميتاً..) ولما وجدوه قال أبو عبيدة : هذه ميتة، ثم فكر مرة أخرى؛ لأنهم كانوا قد أصابهم الجوع، ولما فني التمر ماذا حصل؟ كانوا يضربون ورق السلم، وهو الخبط، نوع الشجر، ويبلونها بالماء فيأكلونها، حتى تقرحت أشداقهم من أكل ورق الشجر وأصابتهم مخمصة، فلما وجدوا هذا قال أبو عبيدة : هذه ميتة، ثم تراجع بعد ذلك قائلاً: أنتم رسل رسول الله -الرسول صلى الله عليه وسلم أرسلكم- وفي سبيل الله، إذاً لا بأس أن تأكلوا، لأنهم في مخمصة، حتى ولو كانت ميتة؛ لأنه يوجد ضرورة.
قال: فأكل منه القوم ثماني عشرة ليلة، وفي رواية عمرو بن دينار : فأكلنا منه نصف شهر، وفي رواية: شهر، يأكلون من هذا الحوت، ثم أمر أبو عبيدة بضلعين من أضلاعه فنصبا، ثم أمر براحلة فرحلت -البعير الكبير وعليه الحمولة- ثم مرت تحتها فلم تصبه، وهذا يدل على ارتفاع الضلع أوقفوه على الأرض، ثم رحلت الراحلة وعليها شخص راكب وما مس رأسه الضلع.. وجاء في رواية ابن إسحاق وحسنها الشيخ الوادعي ، يقول ابن إسحاق في الرواية: ثم أمر بأجسم بعير معنا فحمل عليه أجسم رجل منا، فخرج من تحتها وما مست رأسه. وقيل إن هذا الرجل هو قيس بن سعد بن عبادة ، وكان مشهوراً بالطول.
وحصلت طرفة بين المسلمين والروم في عهد معاوية رضي الله عنه: أن الروم أخرجوا أطول رجل عندهم، والمسلمون أخرجوا أطول رجل عندهم، وأطول رجل عند المسلمين كان هذا: قيس بن سعد بن عبادة ، فـقيس بن سعد بن عبادة نزع سراويله للرومي، فكانت مثل طول الرومي؛ بحيث كان طرفها على أنفه وطرفها على الأرض.. سروال المسلم هذا جاء على طول الرومي كله، فكم سيكون طول المسلم؟ سيكن طوله ضعف طول ذاك، فكأنه يقول: غلبناكم بالدين وبالطول وبالعرض وكل الأشياء.
وجاء في رواية مسلم: ( فأخذ
فلعلها هذه القصة أو تتحد مع هذه القصة، مع أن الظاهر أنها كانت مع النبي صلى الله عليه وسلم، لكن لعل فيها محذوفاً تقديره: فبعثنا النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، فأتينا... إلى آخر الكلام.
استعملوا من هذا الحوت الدهن، لأنهم كانوا قد أصابهم هزال من الجوع، قال في رواية البخاري : وادهنا من ودكه، والودك هو: الشحم، وقال أيضاً: كنا نقطع منه الفدر كالثور، والفدر جمع فدرة، والفدرة: القطعة من اللحم.. قال: فحملنا ما شئنا من قديد وودك في الأسقية والغرائر.. أي: عبئوا من شحمها وأخذوا من اللحم.
وحصل أيضاً في هذه الغزوة أن قيس بن سعد قال لأبيه: كنت في الجيش فجاعوا، فقال: انحر، فنحر للمسلمين مرة،ً ثم الثانية ثم الثالثة، حتى أمره أبو عبيدة أن يكف، ولعل ذلك لأنه كان ينفق هذا من ماله، فأراد أبو عبيدة ألا يفنى مال هذا الرجل، فأمره أن يكف عن ذبح هذه الأنعام.
رجوعهم إلى المدينة
هذه الغزوة هي غزوة سِيف البحر، أو سرية الخبط، بعثهم الرسول صلى الله عليه وسلم إلى ساحل البحر يتلقون عيراً لقريش، وكذلك جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثهم إلى حي من جهينة من المشركين مما يلي ساحل البحر، بينهم وبين المدينة خمس ليال، وأنهم انصرفوا ولم يلقوا كيداً، أي: هؤلاء الصحابة ذهبوا ولم يجدوا حرباً، وكانت هذه السرية في رجب سنة ثمانٍ، ولا مانع أن يكون النبي عليه الصلاة والسلام بعث هذه السرية لهدفين:
الهدف الأول: إلى هذا الحي من جهينة من المشركين.
والهدف الثاني: تلقي عير قريش، فتكون هذه السرية مزدوجة الهدف، أراد النبي عليه الصلاة والسلام أن يصيب أكثر من هدف بهذه السرية.
فانطلقت هذه السرية إلى أرض جهينة، وأرادت أن تتلقى عيراً لقريش لتقطع الطريق عليهم، ومعلوم أن أموال المحاربين حلال للمسلمين، وهذه كانت تقريباً سنة ثمان للهجرة، كما أشار ابن سعد رحمه الله، ولكن الأرجح أنها كانت سنة ست أو قبلها قبل هدنة الحديبية ، لأن هدنة الحديبية وضعت الحرب أوزارها بين المسلمين والمشركين، وإذا كانت في وقت الهدنة فيحتمل أنها كانت لتلقي العير لحفظها من جهينة، ولذلك لم يأخذوا شيئاً ولم يستولوا على شيء، أقاموا نصف شهر في مكان واحد ثم بعد ذلك رجعوا.
يقول: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثاً قبل الساحل، وأمر عليهم أبا عبيدة بن الجراح .. فـأبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه بالإضافة إلى كونه أمين هذه الأمة فهو كذلك قائد عسكري مظفر، وله خبرة واسعة في القتال، ولذلك ليس بغريب أن يوليه عمر رضي الله عنه بعد خالد قيادة جيوش المسلمين، القيادة العامة لجيوش المسلمين.
وخرج بهم أبو عبيدة رضي الله تعالى عنه، ولما كانوا في أثناء الطريق فني الزاد، انتهى زاد الجيش، ومعروف أن الجيوش من أهم الأشياء فيها التموين، لأن التموين مهم لاستمرارية التحرك نحو الهدف وتحقيق الهدف والعودة، لكن انتهى الزاد، فما هو الإجراء الذي اتخذه أبو عبيدة رضي الله عنه لمواجهة انتهاء الزاد؟ أمر أبو عبيدة بأزواد الجيوش، فجمع فكان مزود تمر كما في رواية البخاري ، والمزود هو: ما يوضع فيه الزاد، فهذا المزود من التمر هو الذي كان يقيتهم أثناء الطريق، كيف كان ذلك؟ كل يوم قليلاً قليلاً حتى فني، وانتهى.
قال: فلم يكن يعطينا إلا تمرة تمرة.. كان هناك زاد عام للجيش كله، ولما انتهى الزاد العام جمع أبو عبيدة ما كان عند كل واحد بمفرده، جمعه ثم أراد أن يقسمه على الجميع للمساواة بينهم، فجعله جميعاً في مزودٍ واحد.. إذاً: الزاد العام الذي زودهم به النبي صلى الله عليه وسلم من قبل كان جراباً، فلما نفد جمع أبو عبيدة الزاد الخاص فخرج جراب أيضاً، لكن غير الأول، ثم فرق عليهم تمرةً تمرة.
فلنتصور الآن أن هؤلاء المسلمين ما معهم إلا تمرة تمرة، والتمر الذي وزع عليهم الأول كان من الجراب النبوي، ولذلك كان زاداً عاماً للجيش وفيه بركة، وبعد ذلك جمع ما تبقى لدى الأفراد لمواجهة الموقف الطارئ، فصار من نصيب الشخص تمرة واحدة، يعطي كل واحد تمرة واحدة، فإذا انتهت التمرة أعطاهم نصيبهم في المرة التي بعدها تمرة أخرى.. والذي يسمع الرواية يقول: وما تغني عنكم تمرة؟ فهذا وهب بن كيسان من التابعين -رحمه الله تعالى- يسأل جابراً ويقول: يا أبا عبد الله ! أين كانت تقع التمرة من الرجل؟ ماذا تغني عنكم تمرة؟ فقال جابر : لقد وجدنا فقدها حين فنيت.. قال: أنت الآن تقول: ما فائدة التمرة؟ لكن لما فقدنا التمرة هذه التي أنت تستهين بها وجدنا أثر فقدها، أي: أن التمرة كانت تفعل لهم شيئاً عظيماً مؤثراً.. فقلت: كيف كنتم تصنعون بها؟ قال: نمصها كما يمص الصبي الثدي، ثم نشرب عليها الماء فتكفينا يومنا إلى الليل.. إذاً: طيلة اليوم تمرة واحدة بالمص كما يمص الطفل ثدي أمه، ثم يشربون عليها الماء، هذا زاد يوم كامل، وهذا ما تحمله الصحابة في سبيل الله.
ولذلك هؤلاء هم المجاهدون حقيقةً، هؤلاء الصحابة رضوان الله عليهم الذين ضحوا من أجل هذا الدين، وعلى تمرة واحدة في اليوم يمصونها، ليس بأكل ولا مضغ ما يكفي للمضغ، وعلى الماء، مقاتلين في سبيل الله، انتهى الزاد، وانتهى التمر، حتى التمرة لم تكن موجودة.
استمع المزيد من الشيخ محمد صالح المنجد - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
اقتضاء العلم العمل | 3615 استماع |
التوسم والفراسة | 3614 استماع |
مجزرة بيت حانون | 3544 استماع |
الآثار السيئة للأحاديث الضعيفة والموضوعة [2،1] | 3500 استماع |
اليهودية والإرهابي | 3429 استماع |
إن أكرمكم عند الله أتقاكم | 3429 استماع |
حتى يستجاب لك | 3396 استماع |
المحفزات إلى عمل الخيرات | 3376 استماع |
ازدد فقهاً بفروض الشريعة | 3350 استماع |
الزينة والجمال | 3340 استماع |