تفسير سورة الأنبياء (15)


الحلقة مفرغة

الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.

أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ * لَوْ كَانَ هَؤُلاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ * لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لا يَسْمَعُونَ * إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ * لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ * يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ * وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ * إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ * وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ * قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ * إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ * وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ * قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ [الأنبياء:98-112].

معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ [الأنبياء:98]، هذا الكلام موجه إلى المشركين من قريش في ديار مكة؛ إذ السورة من أولها معهم، ولكن كل مشرك في أي زمان كان أو مكان يدخل في هذا السياق. فالله يقول لهم: إِنَّكُمْ [الأنبياء:98] أيها المشركون! وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ [الأنبياء:98] من أصنام وأوثان كلكم حَصَبُ جَهَنَّمَ [الأنبياء:98]. قرأت عائشة أم المؤمنين وقرأ علي بن أبي طالب : ( حطب جهنم)، إلا أن الحصب أعم من الحطب، فكل ما توقد به النار حصب.

وهذا الخبر الإلهي هو حكمه الذي قضى به، فقد قال: إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ [الأنبياء:98]. تردونها وتدخلون فيها وتستقرون فيها. فلهذا يجب أن نطهر عقيدتنا، ونصفيها تصفية كاملة من الالتفات إلى غير الله، فليس لنا من إله نعبده إلا الله؛ لأن الشرك شَرَك من وقع فيها أهلكه، ومعنى هذا: لا ندعو إلا الله، ولا نرهب ولا نرغب إلا في الله وما يرضاه؛ لأن حياتنا وقف على الله عز وجل

فقد قال تعالى: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الأنعام:162-163].

قال تعالى: لَوْ كَانَ هَؤُلاءِ آلِهَةً [الأنبياء:99]، أي: هؤلاء الأصنام والتماثيل التي يعبدونها من دون الله لو كانوا آلهة يحيون ويميتون .. يعزون ويذلون .. يعطون ويمنعون مَا وَرَدُوهَا [الأنبياء:99]، أي: والله ما يردون النار ولا يدخلونها، ولكنهم ليسوا بآلهة، بل أصنام وتماثيل يعبدونها. وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ [الأنبياء:99]، أي: في جهنم في النار خَالِدُونَ [الأنبياء:99]، أي: العابدون والمعبودون .. الأصنام وعابدوها .. التماثيل والصور وعابدوها الكل في جهنم، كما قال تعالى: وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ [الأنبياء:99]، أي: لا يخرجون أبداً منها؛ إذ ما هناك نجاة لأهل الشرك أبداً، بل يبقون في العذاب بلا نهاية.

قال تعالى: لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ [الأنبياء:100]، أي: لهم في النار في جهنم زفير. والزفير: صوت يخرج من الصدر مع الأنين، وهذا الزفير فوق ما تتصور هذا الصوت، فيقال له: الزفير.

وقوله: لَهُمْ فِيهَا [الأنبياء:100]، أي: في جهنم زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لا يَسْمَعُونَ [الأنبياء:100]. بل يفقدون السمع من شدة الآلام وتلوين العذاب، ويكون لهم كذلك زفير خارج من صدورهم يصمهم، ويجعلهم لا يسمعون.

قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ [الأنبياء:101].

هذه الآية نزلت بسبب، وهذا السبب: أنه لما سمعت قريش ورجالها في مكة الآيتين الأولى والثانية: إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ * لَوْ كَانَ هَؤُلاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ [الأنبياء:98-99]. اضطروا وشكوا إلى ابن الزبعرى وقالوا: تعال اسمع ما يقول محمد: قال: أنا أغلبه، فقال: لو كنت صادقاً فيما تقول فمعنى هذا: أن عيسى بن مريم في جهنم؛ لأن النصارى يعبدونه، وأن العزير في جهنم؛ أن اليهود يعبدونه، وقبيلة بني لحيان يعبدون الملائكة، فإذاً: الملائكة في جهنم. هذا قول ابن الزبعرى ، فأنزل الله تعالى على الفور: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ * لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ [الأنبياء:101-103] ... . لما جاء ابن الزبعرى وقال كلمته التي معناها: معنى هذا: أن عيسى في جهنم، والعزير والملائكة كلهم في النار، فهذا ليس معقولاً، وظن أنه غلب، فأنزل الله تعالى هذه الآية: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى [الأنبياء:101]؛ لأن الله كتب في كتاب المقادير من هم أهل الجنة، ومن هم أهل النار، وسوف يدخل النار أهلها، والجنة أهلها في كتاب المقادير، فقد سبقت لهم الجنة، وهي مكتوبة لهم، فهؤلاء لا يدخلون النار أبداً، لا عيسى ولا العزير ولا الملائكة؛ لأنه سبق أن كتب لهم الجنة. إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ [الأنبياء:101] بعداً كاملاً عن النار.

قال تعالى: لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا [الأنبياء:102]، أي: حس صوتها أبداً من بعدهم عنها. وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ [الأنبياء:102] من الطعام والشراب والنكاح وكل ما يحتاجون خَالِدُونَ [الأنبياء:102]، أي: في الجنة. فأبطل دعوة ابن الزبعرى وبطلت، وثبت أن أهل النار هم المشركون الكافرون العابدون لغير الله، وأما الأنبياء والرسل والصالحون من عباد الله فلا، بل قال تعالى عن هؤلاء: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ [الأنبياء:101-102].

قال تعالى: لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ [الأنبياء:103]. فقوله: لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ [الأنبياء:103] هذا يكون في النفخة الثانية، وهناك اثنتان أو ثلاث نفخات، النفخة الأولى: نفخة الفناء، فينفخ إسرافيل في البوق، فتتفتت الحياة كلها وتتهدم، ولا يبقى منها شيء، كما قال تعالى: الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ [القارعة:1-2]؟ ثم قال تعد ذلك: يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ [القارعة:4]. هذه النفخة الأولى.

والنفخة الثانية بعدما يخلقون في القبور، ويتم خلقهم، فينفخ إسرافيل نفخة البعث، فيبعثون.

وهنا أولياء الله وصالح عباده تتلقاهم الملائكة ترحب بهم، وهذا معنى قوله: لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ [الأنبياء:103]. لأنه فزع عظيم لما ينفخ إسرافيل تلك النفخة فتخرج البشرية كلها من قبورها وتقف في ساحة واحدة، فتكون في هول عظيم، فأهل الجنة لا يحزنهم هذا الفزع، بل وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ [الأنبياء:103] قائلة لهم: أهلاً وسهلاً، تفضلوا، هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ [الأنبياء:103]. اللهم اجعلنا منهم ووالدينا، والمؤمنين أجمعين يا رب العالمين! آمين.

فهؤلاء المؤمنين لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ [الأنبياء:103]. وقد عرفتم أن الفزع الأعظم يكون لما يقفون من قبورهم بتلك النفخة على صعيد واحد لا يعرفون مصيرهم ولا كيف هو، فيكونون في رعب شديد، وأما أهل الجنة أولياء الله وصالح العباد فلا يحزنهم هذا الفزع. وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ [الأنبياء:103] تقول لهم: هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ [الأنبياء:103].

قال تعالى: يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ [الأنبياء:104]. فيكون هذا الذي سمعتم يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ [الأنبياء:104]. مثل ما لو أردت أن تدخل كتاباً في الظرف فإنك لا تدخله كما هو، بل تطويه. فالسجل هو: الظرف الذي نجعل فيه الكتاب، فإذا أردت أن تدخل كتاباً كهذا لم يمكن، بل لابد من طيه؛ حتى يدخل. فالله عز وجل يقبض السموات ويطويها طي الكتاب، كما قال: يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ [الأنبياء:104]. فهذه الأحداث التي سمعتم كلها تتم يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ [الأنبياء:104]. ولما يعيد الله خلق البشرية يكونون كلهم كيوم ولدتهم أمهم، لم ينقص منهم حتى غلفة الذكر، فيكونون كما هم، لم ينقص منهم شيئاً، كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ [الأعراف:29]. كالبداية تكون الإعادة. كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ [الأنبياء:104]. ولا ينقص من الإنسان شيء، بل يكون كما خلق. وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ [الأنبياء:104]. ولا بد وأن يتم هذا الذي سمعتم بكامله.

معنى الآيات

قال: [ معنى الآيات ] هيا بنا نشرح الآيات لكم مرة ثانية، وتأملوا:

[ يقول تعالى للمشركين الذين بدأت السورة الكريمة بالحديث عنهم ] كما أشرت لكم [ وهم مشركو قريش، يقول لهم مُوعداً: إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ [الأنبياء:98] من أصنام وأوثان حَصَبُ جَهَنَّمَ [الأنبياء:98]، أي: ستكونون أنتم وما تعبدون من أصنام وقوداً لجهنم التي أنتم واردوها لا محالة.

وقوله تعالى: لَوْ كَانَ هَؤُلاءِ آلِهَةً [الأنبياء:99] لو كان هؤلاء التماثيل من الأحجار التي يعبدها المشركون لو كانوا آلهة حقاً ما ورد النار عابدوها؛ لأنهم يخلصونهم منها، ولما ورد النار المشركون ودخلوها. دل ذلك على أن آلهتهم كانت آلهة باطلة، لا تستحق العبادة بحال.

وقوله تعالى: وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ [الأنبياء:99]، أي: المعبودات الباطلة وعابدوها الكل في جهنم خالدون ] فالمعبودات الباطلة من الأصنام والأحجار وعابدوها من البشر أو الجن الكل في جهنم خالدون.

[ وقوله: لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لا يَسْمَعُونَ [الأنبياء:100]، يخبر تعالى أن للمشركين في النار زفيراً، وهو الأنين الشديد من شدة العذاب، وأنهم فيها لا يسمعون؛ لكثرة الأنين وشدة الأصوات وفظاعة ألوان العذاب.

[ وقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى [الأنبياء:101] ] اللهم اجعلنا منهم [ أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ [الأنبياء:101-102]. نزلت هذه الآية رداً على ابن الزبعرى عندما قال: إن كان ما يقوله محمد حقاً بأننا وآلهتنا في جهنم فإن الملائكة معنا في جهنم؛ لأننا نعبدهم، وأن عيسى والعزير في جهنم؛ لأن اليهود عبدوا العزير، والنصارى عبدوا المسيح. فأخبر تعالى أن من عبد بغير رضاه بذلك وكان يعبدنا ويتقرب إلينا بالطاعات فهو ممن سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى [الأنبياء:101] بأنهم من أهل الجنة، هؤلاء عنها، أي: عن جهنم مبعدون ] أي: عن جهنم. فعيسى لا يرضى بعبادة النصارى له، ومستحيل أن يرضى، والعزير لا يرضى بعبادة اليهود، وعبد القادر الجيلاني لا يرضى بعبادة الجهال الذين يعبدونه بالدعاء والذبح والنذر، ولكن لو رضي معبود بهذا فهو في جهنم، ولكن حاشا الملائكة والأنبياء والصالحون أن يرضوا لأنفسهم أن تعبد غير الله.

[ لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا [ الأنبياء:102]، أي: حس صوتها وهم في الجنة، ولهم فيها ما يشتهون خالدون. لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ [الأنبياء:103] عند قيامهم من قبورهم، بل هم آمنون. تَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ [الأنبياء:103] عند القيام من قبورهم بالتحية والتهنئة قائلة لهم: هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ [الأنبياء:103] ] اللهم اجعلنا منهم.

[ وقوله تعالى: يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ [الأنبياء:104] أي: يتم لهم ذلك ] هذا الترحاب والتأهيل والجنة [ يوم ] أي: يتم لهم ذلك يوم [ يطوي الجبار جل جلاله السماء بيمينه، كَطَيِّ السِّجِلِّ [الأنبياء:104]، أي: الصحيفة لِلْكُتُبِ [الأنبياء:104]. وذلك يوم القيامة حيث تبدل الأرض غير الأرض، والسماوات غير السماوات.

وقوله تعالى: كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ [الأنبياء:104]، أي: يعيد الإنسان كما بدأ خلقه، فيخرج الناس من قبورهم حفاة ] بلا نعال [ عراة ] بلا ثياب [ غرلاً ] أي: غلفة الذكر ليست مقطوعة منهم.

[ وقوله: وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ [الأنبياء:104]، أي: وعدنا بإعادة الخلق بعد فنائهم وبلاهم وعداً، إنا كنا فاعلين، فأنجزنا ما وعدنا، وإنا على ذلك لقادرون ].

واسمعوا الآيات مرة ثانية، قال تعالى: إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ * لَوْ كَانَ هَؤُلاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ * لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لا يَسْمَعُونَ * إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ * لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ [الأنبياء:98-103]، متى يتم هذا؟ يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ [الأنبياء:104].

هداية الآيات

الآن مع [ هداية الآيات ] وقبل أن نقرأها يقول أحد الصالحين: النساء يشتكين من عدم سماع هذا الدرس؛ لأن الصوت لا يصل إليهن، ونحن نشكو إلى المسئولين، ونقول للمسئولين في المسجد النبوي: أرجعوا للنساء أصوات المدرسين؛ فإن هذا واجبكم، فيجب أن تقوموا به.

قال: [ من هداية الآيات ] أي: ما تهدي إليه الآيات التي سمعناها:

[ أولاً: تقرير التوحيد والنبوة، والبعث والجزاء ] وهذه هي أركان الإيمان العظمى، وهي التوحيد، أي: لا إله إلا الله، والنبوة، أي: محمد رسول الله، والبعث الآخر والجزاء يوم القيامة. والسور المكية هذه الثلاثة مهمتها، وهي: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، والبعث الحق. ومعنى هذا: أنه يجب أن نعبد الله وحده من طريق رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن نعمل الصالحات، ونبتعد عن المفسدات؛ لأجل دخول الجنة والبعد عن النار.

[ ثانياً: من عبد من دون الله بأمره أو برضاه سيكون ومن عَبَده وقوداً لجهنم، ومن لم يأمر ولم يرض فلا يدخل النار مع من عبده، بل العابد له وحده في النار ] فمن هداية الآيات: أن من عبد مع الله من دون الله وهو غير راضٍ بتلك العبادة وعبد الله وحده كعيسى لم تضره تلك العبادة، ومن عبد وهو راضٍ بأن يعبد مع الله ولو بالدعاء ولو بالنذر ولو بذبح شاة ولو بالركوع والسجود فهو من أهل النار، وهو في جهنم.

[ ثالثاً: بيان عظمة الله وقدرته؛ إذ يطوي السماء بيمينه ] كصفحة أو كورقة [ والأرض في قبضته يوم القيامة ] والأرض تتبدل غير الأرض والسماوات. فليس هناك عظمة أكثر من هذه العظمة. وهذا هو الجبار، فهو خالق الليل والنهار، وهو الواحد القهار، والذي يجب أن نذل له وننكسر بين يديه، والذي يجيب أن يعبد. ويا ويل المشركين والكافرين!

قال المؤلف غفر الله لنا وله ولوالدينا أجمعين في النهر: [ السجل: الكاتب يكتب الصحيفة، ثم يطويها عند انتهاء كتابتها ]. وقال: [ هذا المعنى أوضح مما في التفسير ].

[ رابعاً: بعث الناس حفاة عراة غرلاً، لم ينزع منهم شيء، ولا غلفة الذكر إنجاز الله وعده في قوله: كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ [الأعراف:29]. فسبحان الواحد القهار العزيز الجبار ] فقد قررت هذه الآية والآيات أيضاً في غير هذه السورة: أن الله يعيدنا كما بدأنا، فتكون أنت كما أنت، بحيث لا ينقص منك شيء، ولا يزيد فيك شيء، وكأنما ولدنا في تلك الساعة. وهذا مظهر من مظاهر قدرة الله، وعظمته وعلمه، فهذه المخلوقات التي تعد بالبليارات كلها يخلقها في ساعة واحدة بكلمة كونوا، فيكونوا كما خلقهم من قبل. ولهذا يجب أن نحب الله، وأن نذل له، وأن ونعبده، وأن نتقرب إليه، ونتملقه ونتزلفه بذكره وعبادته.

اللهم اجعلنا من صالح عبادك وأوليائك، وأكرمنا برضاك يا رب العاملين! وأختم لنا بخاتمة الشهادة يا حي! يا قيوم!