شرح زاد المستقنع مقدمة كتاب الجنائز [1]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه وأتباعه وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد:

يقول المؤلف عليه رحمه الله: [كتاب الجنائز].

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين؛ سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

فيقول المصنف رحمه الله: [كتاب الجنائز].

الجنائز: جمع جَنازة أو جِنازة -لغتان- وقال بعض العلماء: جَنازةٌ (بالفتح) للميت نفسه، وجِنازة (بالكسر) للسرير الذي يُحمل عليه الميت. وقيل: إنها مأخوذة من جَنز الشيء إذا استتر، و(الجنائز) المراد بها: بيان الأحكام المتعلقة بالميت.

ومناسبة هذا الكتاب لما تقدم: أن للعبد حالتين: الحالة الأولى تتعلق بدنياه، والحالة الثانية تتعلق بآخرته، فبعد بيان العبادات التي تتعلق بدنياه شرع -رحمه الله- ببيان جملة من المسائل والأحكام الشرعية المتعلقة بالمكلف عند موته أو بعد موته، وذلك من عيادته، وتلقينه، وتغسيله، وتكفينه، والصلاة عليه، ودفنه.

وهذا الباب يعتني به العلماء من المحدثين والفقهاء رحمهم الله، وقد اشتمل على جملة من المسائل والأحكام الشرعية، وختم به المصنف رحمه الله كتاب الصلاة، وكأنه لما عبر بالكتاب جعله وسطاً بين الصلاة والزكاة، والسبب في ذلك: تردد حالة الإنسان في العبادات بين كونها عبادة تتعلق بالدنيا، وعبادة تتعلق بالآخرة، فناسب التقسيم من هذا الوجه، كأنه حينما قال لنا: [كتاب الجنائز] كأنه يقول لك: في هذا الموضع سأذكرُ لك جملةً من الأحكام والمسائل المتعلقة بالميت، وما ينبغي على أهله وذويه إذا نزل به الموت، وكذلك ما ينبغي على المسلمين من الصلاة عليه ودفنه والدعاء له.

يقول رحمه الله: [تُسن عيادة المريض].

هذه السنية دلت عليها النصوص المتضافرة الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم قولاً وفعلاً، وعيادة المريض من أجل القربات وأحب الطاعات إلى الله جل وعلا، والتي جمع بها بين قلوب المؤمنين والمؤمنات؛ لما تشتمل عليه من رحمةِ بعضهم ببعض؛ ولما فيها من معونة المسلم لأخيه المسلم في حالة هو أشد ما يكون إلى رؤية إخوانه، والتعزي بما نزل في جسده، وما أُصيبَ به في نفسه.

وقد فعل النبي صلى الله عليه وسلم هذه العيادة، وأمر بها أصحابه رضوان الله عليهم، وأمته من بعدهم، فكان عليه الصلاة والسلام يعود المريض، وفي الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه عاد سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وأرضاه وسلاه، وأخبره بمعجزة من معجزاته صلوات الله وسلامه عليه وهي أنه يعمر، وينتفع به أقوامٌ -وهم المسلمون- ويستضر به أقوامٌ -وهم الكافرون- وكان كما قال.

وكذلك عاد عليه الصلاة والسلام جابر بن عبد الله رضي الله عنه، وصبّ وضوءه عليه فشفي.

وكذلك ثبت عنه في الحديث الصحيح أنه عاد يهودياً.

فالسنة بفعله عليه الصلاة والسلام تدل على مشروعية هذه العبادة الجليلة، وكذلك أمر بها عليه الصلاة والسلام، وفي الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام من حديث البراء أنه أمر بعيادة المريض وإبرار المقسم، وجعلها من السبع التي أمر بها أصحابه وأمته من بعده صلوات الله وسلامه عليه إلى يوم الدين.

فضل عيادة المريض

ندب عليه الصلاة والسلام إلى عيادة المريض، وأخبر عما فيها من عظيم الأجر وجزيل الثواب عند الله سبحانه وتعالى، ففي الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (من عاد مريضاً فهو في خرفة الجنة حتى يعود، قيل: وما خرفة الجنة؟ قال: جناها) ، وللعلماء في هذا الحديث وجهان:

الوجه الأول: أن قوله: (من عاد مريضاً فهو في خرفة الجنة) أي: شبه حال الإنسان وهو خارجٌ لعيادة أخيه المسلم بحال الرجل الذي جلس أمام ثمار البستان يجني منها ما لذّ وطاب، فالذي يعود المريض يجني ثمرة عيادته من عظيم الأجر والمثوبة عند الله سبحانه وتعالى، فكما أن صاحب البستان جالسٌ أمام خير من الدنيا، فمن عاد المريض جالسٌ أمام خيرٍ من الآخرة، وهذا يدل على عظيم الفضل، كأنه يجني الثواب بدون حساب؛ من كثرة ما في ذلك من الأجر والمثوبة عند الله سبحانه وتعالى.

والوجه الثاني: أن قوله: (من عاد مريضاً فهو في خرفة الجنة حتى يعود) أي: أن الطريق الذي سلكه في عيادة أخيه المسلم حال مرضه أشبه بالطريق إلى الجنة، بمعنى: أنه سينتهي به إلى الجنة.

وهذا كله يؤكد فضل عيادة المريض، ويدل على استحبابها وتأكد هذا الاستحباب.

ويعظم حق المريض بحسب قربه؛ فإن كان من الوالدين أو من القرابات والأرحام فالأمر في حقه آكد وأشد، ولذلك كان من وصل مريضاً وله قرابةٌ به فإنه يؤجر من وجهين:

الوجه الأول: من جهة عيادته للمريض، وله أجر عيادة المريض المطلق.

والوجه الثاني: أنه يؤجر من جهة كونه وصل الرحم وبلها ببلالها، واتقى الله عز وجل فيها.

فأفضل ما تكون عيادة المرضى، إذا كانت للأقرباء ومن لهم رحمٌ بالإنسان وصلة، فإن حقهم آكد وأعظم، والتقصير في حقهم لاشك أنه أكثرُ إثماً وأعظم جرماً.

مقصد الشارع من عيادة المريض المسلم والمريض الكافر

قوله: [تسنُ عيادة المريض]

هذه العيادة تشمل المسلم، والكافر:

أما بالنسبة للمسلم فلا إشكال في ذلك، وفي عيادتك للمسلم خيرٌ كثير؛ فبها تقوى نفسه ويرتاح، خاصةً إذا كان بينك وبينه ودٌ وحب؛ فإن المريض ربما نشط برؤية أحبابه وأصحابه أكثر من نشطه بالدواء والعلاج، فرؤيته لمن يحب أنسٌ له، وبهجةٌ لنفسه وراحةٌ لها، وطمأنينة لقلبه.

وأما بالنسبة لغير المسلم فإنه إذا كان كافراً فإنك تعوده بقصد دعوته إلى الإسلام، كما ثبت في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه عاد يهودياً ثم لقنه شهادة التوحيد، فنظر إلى والديه فقالا: أطع أبا القاسم، فأطاع النبي صلى الله عليه وسلم وتشهد، فحمد النبي صلى الله عليه وسلم ربه أنه أنقذه من النار بسببه.

وفي الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه: (عاد عمه أبا طالب عند حضور الموت، فقال: يا عم! قل: لا إله إلا الله؛ كلمةً أحاج لك بها بين يدي الله) ، فهذا يدل على تأكد جواز ومشروعية عيادة المريض الكافر؛ وذلك بسبب تأليفه للإسلام.

أما المسلم فإن له حق العيادة، سواء كان براً أو فاجراً، صالحاً أو طالحاً؛ وذلك لأنه حقٌ للمسلم، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك) فكونه يقصر فيما بينه وبين الله لا يمنع من أداء حقه في الإسلام من عيادته، ولربما عاد الصالحون الفجار فذكروهم بما عند الله؛ فكان سبباً في حسن الخاتمة لهم وتوبتهم وإنابتهم إلى الله عز وجل.

وهذا مما يقصده الشرع، فإنه تكثيرٌ لسواد الأمة في الخير، وكذلك طاعةٌ للمطيع لربه، فإن المطيع إذا عاد أمثال هؤلاء وذكرهم بالله عز وجل، فإن هذا يعود بالخير عليه؛ لأنه يؤجر، وهو من الدعوة إلى الله عز وجل.

ولكن إذا كان الإنسان يغلب على ظنه أنه إذا زار الفاجر أو العاصي أنه سيتأثر وأنه سيتغير، فإنه قد يجب عليه أن يعوده؛ لأن دعوة الناس إلى الخير وهدايتهم متأكدة، فإذا غلب على الظن أنه يرجى نفعها فالأمر آكد.

آداب عيادة المريض

قوله: (تسن عيادة المريض) هذه السنية مطلقة، لا تتحدد بزمان ولا بمكان، والأمر يختلف باختلاف العوائد، ولا يحدد لها زمانٌ لا بالليل ولا بالنهار، فتعود المريض بالليل وتعوده بالنهار، على حسب ما يجري في العادة ويقتضيه العرف، وعلى حسب استعداد المريض لتقبل هذه الزيارة وارتياحه لها وحصول المقصود.

وإذا عاد المسلم أخاه المسلم، فإنه ينبغي عليه أن يحفظ الحقوق في هذه العيادة، فالسنة عن النبي صلى الله عليه وسلم والهدي عنه كان أكمل الهدي وأكمل السنة، فقد كان عليه الصلاة والسلام إذا عاد مريضاً يتوخى أفضل الأمور وأحبها إلى الله عز وجل، وهذا هو المقصود من العيادة.

ولذلك قرر العلماء كما نبه عليه جمعٌ منهم: الإمام ابن القيم رحمه الله في كتابه النفيس -الزاد- عند كلامه عن هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في عيادة المريض، أن ذلك الهدي أكمل الهدي وأحسنه وأجمله وأفضله، فكان يندب أصحابه إلى إفساح الأجل للمريض، فإذا عاد الإنسان المريض أفسح له في الأجل.

ومما يدل على مشروعية ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما عاد سعد بن أبي وقاص أفسح له في الأجل، وقال له -لما أخبره سعد أنه مريض وأنه يخشى الموت-: (لعلك أن تعمر فينتفع بك أقوامٌ ويستضر بك آخرون) وكان ما كان، فقد نفع الله به الإسلام بخروجه رضي الله عنه للجهاد في سبيل الله، وكسر الله به شوكة الكافرين، فهذا إفساحٌ في الأجل منه عليه الصلاة والسلام، وهو يشهد لحديث ابن ماجة : (من عاد مريضاً فليفسح له في الأجل).

وإفساح الأجل فيه حسن ظنٍ بالله، وفيه فألٌ حسن، وكان صلى الله عليه وسلم يحب الفأل الحسن؛ لأن الإنسان إذا أحسن ظنه بالله عز وجل قويت عقيدته وكمل يقينه، وكذلك -أيضاً- حينما تفسح له في الأجل فذلك أدعى إلى أن تطول حياته، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (خيركم من طال عمره وحسن عمله).

ندب عليه الصلاة والسلام إلى عيادة المريض، وأخبر عما فيها من عظيم الأجر وجزيل الثواب عند الله سبحانه وتعالى، ففي الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (من عاد مريضاً فهو في خرفة الجنة حتى يعود، قيل: وما خرفة الجنة؟ قال: جناها) ، وللعلماء في هذا الحديث وجهان:

الوجه الأول: أن قوله: (من عاد مريضاً فهو في خرفة الجنة) أي: شبه حال الإنسان وهو خارجٌ لعيادة أخيه المسلم بحال الرجل الذي جلس أمام ثمار البستان يجني منها ما لذّ وطاب، فالذي يعود المريض يجني ثمرة عيادته من عظيم الأجر والمثوبة عند الله سبحانه وتعالى، فكما أن صاحب البستان جالسٌ أمام خير من الدنيا، فمن عاد المريض جالسٌ أمام خيرٍ من الآخرة، وهذا يدل على عظيم الفضل، كأنه يجني الثواب بدون حساب؛ من كثرة ما في ذلك من الأجر والمثوبة عند الله سبحانه وتعالى.

والوجه الثاني: أن قوله: (من عاد مريضاً فهو في خرفة الجنة حتى يعود) أي: أن الطريق الذي سلكه في عيادة أخيه المسلم حال مرضه أشبه بالطريق إلى الجنة، بمعنى: أنه سينتهي به إلى الجنة.

وهذا كله يؤكد فضل عيادة المريض، ويدل على استحبابها وتأكد هذا الاستحباب.

ويعظم حق المريض بحسب قربه؛ فإن كان من الوالدين أو من القرابات والأرحام فالأمر في حقه آكد وأشد، ولذلك كان من وصل مريضاً وله قرابةٌ به فإنه يؤجر من وجهين:

الوجه الأول: من جهة عيادته للمريض، وله أجر عيادة المريض المطلق.

والوجه الثاني: أنه يؤجر من جهة كونه وصل الرحم وبلها ببلالها، واتقى الله عز وجل فيها.

فأفضل ما تكون عيادة المرضى، إذا كانت للأقرباء ومن لهم رحمٌ بالإنسان وصلة، فإن حقهم آكد وأعظم، والتقصير في حقهم لاشك أنه أكثرُ إثماً وأعظم جرماً.

قوله: [تسنُ عيادة المريض]

هذه العيادة تشمل المسلم، والكافر:

أما بالنسبة للمسلم فلا إشكال في ذلك، وفي عيادتك للمسلم خيرٌ كثير؛ فبها تقوى نفسه ويرتاح، خاصةً إذا كان بينك وبينه ودٌ وحب؛ فإن المريض ربما نشط برؤية أحبابه وأصحابه أكثر من نشطه بالدواء والعلاج، فرؤيته لمن يحب أنسٌ له، وبهجةٌ لنفسه وراحةٌ لها، وطمأنينة لقلبه.

وأما بالنسبة لغير المسلم فإنه إذا كان كافراً فإنك تعوده بقصد دعوته إلى الإسلام، كما ثبت في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه عاد يهودياً ثم لقنه شهادة التوحيد، فنظر إلى والديه فقالا: أطع أبا القاسم، فأطاع النبي صلى الله عليه وسلم وتشهد، فحمد النبي صلى الله عليه وسلم ربه أنه أنقذه من النار بسببه.

وفي الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه: (عاد عمه أبا طالب عند حضور الموت، فقال: يا عم! قل: لا إله إلا الله؛ كلمةً أحاج لك بها بين يدي الله) ، فهذا يدل على تأكد جواز ومشروعية عيادة المريض الكافر؛ وذلك بسبب تأليفه للإسلام.

أما المسلم فإن له حق العيادة، سواء كان براً أو فاجراً، صالحاً أو طالحاً؛ وذلك لأنه حقٌ للمسلم، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك) فكونه يقصر فيما بينه وبين الله لا يمنع من أداء حقه في الإسلام من عيادته، ولربما عاد الصالحون الفجار فذكروهم بما عند الله؛ فكان سبباً في حسن الخاتمة لهم وتوبتهم وإنابتهم إلى الله عز وجل.

وهذا مما يقصده الشرع، فإنه تكثيرٌ لسواد الأمة في الخير، وكذلك طاعةٌ للمطيع لربه، فإن المطيع إذا عاد أمثال هؤلاء وذكرهم بالله عز وجل، فإن هذا يعود بالخير عليه؛ لأنه يؤجر، وهو من الدعوة إلى الله عز وجل.

ولكن إذا كان الإنسان يغلب على ظنه أنه إذا زار الفاجر أو العاصي أنه سيتأثر وأنه سيتغير، فإنه قد يجب عليه أن يعوده؛ لأن دعوة الناس إلى الخير وهدايتهم متأكدة، فإذا غلب على الظن أنه يرجى نفعها فالأمر آكد.

قوله: (تسن عيادة المريض) هذه السنية مطلقة، لا تتحدد بزمان ولا بمكان، والأمر يختلف باختلاف العوائد، ولا يحدد لها زمانٌ لا بالليل ولا بالنهار، فتعود المريض بالليل وتعوده بالنهار، على حسب ما يجري في العادة ويقتضيه العرف، وعلى حسب استعداد المريض لتقبل هذه الزيارة وارتياحه لها وحصول المقصود.

وإذا عاد المسلم أخاه المسلم، فإنه ينبغي عليه أن يحفظ الحقوق في هذه العيادة، فالسنة عن النبي صلى الله عليه وسلم والهدي عنه كان أكمل الهدي وأكمل السنة، فقد كان عليه الصلاة والسلام إذا عاد مريضاً يتوخى أفضل الأمور وأحبها إلى الله عز وجل، وهذا هو المقصود من العيادة.

ولذلك قرر العلماء كما نبه عليه جمعٌ منهم: الإمام ابن القيم رحمه الله في كتابه النفيس -الزاد- عند كلامه عن هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في عيادة المريض، أن ذلك الهدي أكمل الهدي وأحسنه وأجمله وأفضله، فكان يندب أصحابه إلى إفساح الأجل للمريض، فإذا عاد الإنسان المريض أفسح له في الأجل.

ومما يدل على مشروعية ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما عاد سعد بن أبي وقاص أفسح له في الأجل، وقال له -لما أخبره سعد أنه مريض وأنه يخشى الموت-: (لعلك أن تعمر فينتفع بك أقوامٌ ويستضر بك آخرون) وكان ما كان، فقد نفع الله به الإسلام بخروجه رضي الله عنه للجهاد في سبيل الله، وكسر الله به شوكة الكافرين، فهذا إفساحٌ في الأجل منه عليه الصلاة والسلام، وهو يشهد لحديث ابن ماجة : (من عاد مريضاً فليفسح له في الأجل).

وإفساح الأجل فيه حسن ظنٍ بالله، وفيه فألٌ حسن، وكان صلى الله عليه وسلم يحب الفأل الحسن؛ لأن الإنسان إذا أحسن ظنه بالله عز وجل قويت عقيدته وكمل يقينه، وكذلك -أيضاً- حينما تفسح له في الأجل فذلك أدعى إلى أن تطول حياته، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (خيركم من طال عمره وحسن عمله).

وهناك حقوقٌ لله عز وجل وحقوقٌ للعباد ينبغي الإنسان أن يتوخاها عند قيامه بعيادة المريض، ولا يشق على المريض بطول الجلوس وكثرة الحديث وكثرة السؤال، وإنما ينظر إلى الأرفق والأحسن والأفضل بالنسبة لحال ذلك المريض.

قال المصنف: [وتذكيره التوبة والوصية].

فهذا من حقوق الله عز وجل التي ينبغي للمسلم أن يحفظها إذا عاد أخاه المسلم.

التذكير بالتوبة

قوله: [وتذكيره التوبة] أي: ينبغي للمسلم إذا عاد أخاه المسلم أن يذكره بالتوبة إلى الله عز وجل، وذلك أن المرض من مقدمة الموت، وقد يكون طريقاً إلى الموت، خاصةً إذا ظهرت أمارات المرض الذي لا يرجى له شفاء، فيذكره بالتوبة إلى الله عز وجل.

والسبب في ذلك: أن المرضى ربما انشغلوا بالعلاج وأخبار المرض، وما يفعلونه في مواجهة ما يعانونه من مشقة المرض، فينشغلون عما هو أهم وما هو مقصود من نزول المرض، فإن نزول المرض بالعبد إنما هو تخفيف للسيئات ورفعةٌ للدرجات واستكثار للحسنات، فينبغي للمسلم إذا زار أخاه المسلم أن يذكره التوبة والإنابة إلى الله عز وجل، والتحلل من مظالم الناس عامها وخاصها، ويذكره بحقوق الناس.

وإذا كنت تعلم أنه ظلم إنساناً ذكرته مظلمته، وقلت له: يا فلان، تب إلى الله من أذية فلان، يا فلان، إن لفلانٍ عليك حقاً فتحلل منه، إن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من كانت له عند أخيه مظلمة فليتحلله منها قبل ألا يكون دينار ولا درهم) ، فهذا من أساليب الدعوة إلى التوبة من حقوق العباد.

وأما بالنسبة لحقوق الله جل وعلا فيذكره التوبة من الذنوب كبيرها وصغيرها، وجليلها وحقيرها، ويحسن ظنه بالله عز وجل أنه الغفور الرحيم، وأنه الجواد الكريم، وأنه اللطيف الحليم، ويقوي بهذا الأمر -حسن الظن بالله عز وجل- عزمه على التوبة، فإن الإنسان إذا ذكرته بالتوبة وعطفت -مع تذكيرك بالتوبة- بذكر سعة مغفرة الله وعفوه وحلمه؛ قويت نفسه على التوبة، وقويت نفسه على الرجوع إلى الله؛ لأن المذنب ربما يأتيه الشيطان فيعظم له الذنب، وكلما فكر الإنسان في التوبة جاءه الشيطان من باب إعظام الذنب، فقال له: أنت فعلت وقلت، ولا يمكن لهذا الفعل أو القول أن يغفر، فهو فعل عظيم وقول عظيم، فلا يزال يتعاظم ذنبه على الله حتى يحجب عن التوبة والعياذ بالله!

وهذا من القنوط من رحمة الله واليأس من روح الله، فلا ينبغي للمسلم ذلك، فعلاج هذه الوساوس التي تكون في صدر الإنسان من الذنوب: أن يحسن ظنه بالله عز وجل، ولذلك وردت الآيات والأحاديث التي ترغب في التوبة، مذيلة بصفات الله التي تدل على سعة رحمته، وسعة حلمه وعفوه وكرمه وجوده، وأنه سبحانه وتعالى لا تضره معصية العاصين ولا تنفعه طاعة المطيعين، فإذا كان الإنسان أثناء بيانه للتوبة، أو دعوته للتوبة يعطف بذكر سعة رحمة الله؛ قويت النفوس على طلب هذه الرحمة، واشتاقت الأرواح إلى رحمة الله جل جلاله، وكان عندها مع هذا الشوق قوة اليقين بالله سبحانه وتعالى.

ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يندب أمته إلى حسن الظن بالله عز وجل، خاصةً في هذا الموطن العظيم التي تزل فيه القدم بعد ثبوتها.. نسأل الله السلامة والعافية.

والإنسان إذا تاب إلى الله عز وجل توبةً صادقة تاب الله عليه ولو أتى ربه بقراب الأرض خطايا، فإن الله سبحانه وتعالى إذا تاب العبد توبة نصوحاً تاب عليه، قال تعالى: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى [طه:82] ، نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الحجر:49] ، قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا [الزمر:53]، وتتلى مثل هذه الآيات التي تقوي اليقين بالله سبحانه وتعالى عند المريض.

فمن حق الله عز وجل الذي ينبغي عليك إذا عُدت المريض أن تذكره بهذا الحق، والناس قد تساهلوا في هذه الأمور، فكثير منهم عندما يزور أخاه ويجلس عنده، ينهمك في الأحاديث عن فضول الدنيا، وقل أن يذكره بالتوبة والإنابة إلى الله، بل قد تجد من قرابة المريض من يتذمر ويتسخط إذا حدثت المريض بهذه الأمور، وكأنك إذا قلت للإنسان: تُبْ إلى الله، أو إن هذا المرض ينبغي على الإنسان أن يستحضر معه التوبة، وأن ينكسر فيه لله عز وجل؛ إذا قلت له ذلك كأنما جنيت عليه جناية -نسأل الله السلامة والعافية- فهو يظن أنك تسيء الظن به، وأن هذا البلاء نزل به بسبب ذنوبه ومعاصيه، والواقع كذلك؛ فإن الله لا يظلم الناس شيئاً ولكن الناس أنفسهم يظلمون، وما علينا إلا أن نقوم بالسنة.

والأفضل للزائر أن يذكر المريض فيما بينه وبين الله بالتوبة، ولا يخاطبه أمام الناس إذا خشي إساءة الظن، فإذا دنوت إلى المريض ومسحت برأسه -إذا كان يحتمل ذلك ويحب ذلك- ثم همست في أذنه بالكلمات الطيبة مما يذكر بالتوبة إلى الله والإنابة إليه، مثل يا فلان! إنا نكثر الذنوب، فتب إلى الله، وهذه الحالة حالة طيبة تقرب الإنسان من الله، والعبد إذا نزل به الضر فإن الله يحب منه أن يقرع بابه: فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا [الأنعام:43]، فيكلمه بهذه الكلمات الطيبة، وبهذا النصح الذي يكون بينه وبينه؛ حتى لا يسيء الناس الظن بالزائر ولا يكون مدعاة لسخط قرابة المريض.

والتوبة من الذنوب مشروعة في كل حال وزمان ومكان، والله جل وعلا أمر عباده أن يتوبوا إليه، ولم يقيد ذلك بحال، لكن العلماء رحمهم الله ذكروا ذلك في مثل هذه المواطن؛ لأن الأمر أدعى، فقد يكون هذا البلاء أو المرض نزل بسبب دعوة مظلوم، أو لربما نزل بسبب أذيته لقريب، ولربما نزل بسبب ضره بالناس، فإذا ذكرته ربما تاب إلى الله عز وجل وغير من حاله، فأصبح المرض نعمةً عليه.

يقول بعض أهل العلم: إن الإنسان قد يلتبس عليه التفريق بين المرض إذا كان بلاءً، أو رفعة درجة.

والواقع أن المرض يكون بسبب الذنب، وقد يكون بلاءً يقصد منه رفع الدرجة، فيشكل على الإنسان أن يعرف هل هذا البلاء لرفعة درجة، أم بسبب بذنب.

قالوا: فينبغي على الإنسان إذا نزل به المرض أو نزل به البلاء أن يعتبر أنه بسبب الذنب؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول: وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ [النساء:79]، فالأصل أن الله لا يظلم الناس شيئاً وأن الناس أنفسهم يظلمون، وأن ما نزل من الأسقام والآلام إنما هو بسبب قليل من الذنوب، وإلا لو أخذ الله الإنسان بذنبه لكان الأمر وأشد، كما قال تعالى: وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ [فاطر:45]، فالإنسان إذا تفكر في هذا، دعاه ذلك إلى أن يصلح حاله مع الله عز وجل، فإذا تاب وأناب، وأحس أن هذا البلاء نزل بسبب الذنب، فأخذ يستغفر ويسترحم، ويعاهد الله على التوبة والإنابة إليه سبحانه وتعالى؛ فإنه رفعة درجة.

ولذلك يقولون: قد ينزل البلاء بسبب الذنب؛ فيكون طريقاً إلى الرحمة والفوز بمغفرة الله عز وجل، وصلاح العبد في دنياه وآخرته.

التذكير بالوصية

قوله: [وتذكيره التوبة والوصية]:

أي: تذكر المريض أن يوصي إذا كانت عليه حقوق، والوصية تكون واجبة، وتكون مندوبة مستحبة.

أما الوصية الواجبة: فإذا كان على الإنسان حقوق، كأن يكون عليه دين، أو يكون لإنسان عليه حق، فعليه أن يكتب هذه الحقوق كاملة لأصحابها، ويأمر بردها لأصحابها، ولا يجوز للإنسان أن يتساهل في هذا.

وكل إنسان ابتلي بالدين قليلاً كان أو كثيراً فالواجب عليه أحد أمرين:

إما أن يكتب هذا الدين ويشهد عليه ويعطي الكتاب لصاحب الدين؛ لأمر الله عز وجل بذلك في كتابه المبين: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ [البقرة:282]، فأمر بكتابة الدين.

وإما أن يكتب الوصية المشتملة على حقوق الله وحقوق العباد، فإذا كتب الدين في وصيته فقد برئت ذمته إن شاء الله تعالى.

وإذا كانت عليك حقوق لله، مثل الحج إلى بيته الحرام، إذا كان الإنسان قد قدر على الحج ولكنه قصّر فلم يحج، فعليه أن يكتب أنه لم يحج، وإذا كانت هناك كفارات واجبة عليه كتب أن عليه كفارات من أيمان أو نحو ذلك، ويكتب عددها، وما هو واجبٌ لله عز وجل في هذا، وهكذا بالنسبة لبقية الحقوق المالية لله عز وجل.

أما الوصية المندوبة، فهي أن توصي لقريب ضعيف، كأن يكون لك ابن عم، أو ابن خال، أو قريبٌ فقير ليس عنده مال، وأنت ستترك لورثتك مالاً، فتأخذ من وصيتك في حدود الثلث فتوصي لأقاربك؛ إذا لم يكونوا من أهل الإرث، أما إذا كانوا وارثين فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك، فقال: (لا وصيةَ لوارث).

وقد أعطى الله الحقوق لأصحابها في الميراث، فإذا كان القريب وارثاً فلا توص له، وإنما توصي للقريب الذي لا يرث، كابن عمٍ محجوب، أو ابن أخت أو ابن خالة أو ابن عمة، وتعلم أنه محتاج فتوصي له، فهذه وصيةٌ مندوبة مستحبة.

وقد تصدق الله عز وجل على العباد بثلث أموالهم، وذلك هو الحد الذي يوصي الإنسان به، لما ثبت في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (الثلث والثلثُ كثير) ، حينما كان سعد يريد أن يوصي بكل ماله.

فالثلث هو الذي يوصي به الإنسان، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: (لو أن الناس غضوا من الثلث). يعني: إذا أردت أن توصي فلا تصل إلى الثلث؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (والثلث كثير) ، وسيأتي إن شاء الله بيان أحكام الوصايا في كتابها وبابها.

والحاصل أن من حقوق المريض أن تأمره بالتوبة وتأمره بالوصية، وتقول له: يا فلان! إذا كانت عليك حقوق أو ديون فاكتبها، فهذا المرض الذي نزل بك يوجب عليك أن تحتاط لنفسك، وتستبرئ لذمتك، فتكتب ما عليك من الحقوق للعباد ولله.

وإن كان على الإنسان صيام أيام كتبها، أو نحو ذلك من الحقوق والواجبات التي تقضى عنه بعد موته.


استمع المزيد من الشيخ محمد بن محمد مختار الشنقيطي - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح زاد المستقنع كتاب البيع [4] 3704 استماع
شرح زاد المستقنع باب الرجعة [1] 3620 استماع
شرح زاد المستقنع باب ما يختلف به عدد الطلاق 3441 استماع
شرح زاد المستقنع باب صلاة التطوع [3] 3374 استماع
شرح زاد المستقنع واجبات الصلاة 3339 استماع
شرح زاد المستقنع باب الإجارة [10] 3320 استماع
شرح زاد المستقنع باب التيمم [1] 3273 استماع
شرح زاد المستقنع باب صوم التطوع [2] 3228 استماع
شرح زاد المستقنع باب شروط القصاص 3186 استماع
شرح زاد المستقنع باب نفقة الأقارب والمماليك [6] 3169 استماع