طغيان الفرح
مدة
قراءة المادة :
4 دقائق
.
طغيان الفرحإذا فرحتَ فلا ترخِ العِنان لفرحك، بل أمسكه حتى لا يقودك إلى حزنك.
ومتى ارتفعت هامتك بالسرور بعد أن طأطأتها الأحزان فلا تبالغ في الارتفاع فربما ارتطم رأسك بسقف قريب فيرتد السرور ألمًا.
وحين تأتيك المسرات وأنت في حرج الغم أو الهم فتبحبحتَ في السعادة يمينًا وشمالًا، فاجعل لسعادتك حدودًا لا تتجاوزها؛ لأنك لو تجاوزتَها لتحولتْ سعادتك إلى شقاءٍ.
تعلَّم دائمًا الاعتدال في الأفراح، والوقوف الحكيم عند هيجان العواطف المتقدة بجذوة السرور؛ فكم من فرِحٍ أرسل رسن فرحه حتى أوصله إلى أودية الندامة.
وتعلم دستور الفرح من يوسف الصديق عليه السلام؛ ففي قصته درس بليغ في الموقف الصحيح في هذا الانفعال النفسي الجميل؛ فيوسف عليه السلام حين جاءه طلب الإفراج من الملك ليضمه إلى حاشيته لاشك أنه غمره الفرح الكبير؛ لأنه سيتخلص به من أصفاد الجدران الأربعة التي قيدت حريته وعلاقاته ولقاءاته، ولكن هذا الفرح لم يجعله - الكريم ابن الكريم - مرسل العنان، بل عقله بالصبر والحكمة؛ فلم يسارع في الاستجابة إلى طلب الخروج، ويُعجله طول السنين في ظلام السجن لجواب الملك، بل طلب من الملك التحقيق العادل مع النسوة في تهمته الجائرة؛ حتى يتم له الفرح من جميع جوانبه، فلا يتكدر بشائبة ذلِ التهمة الباقية في أذهان الناس إذا خرج من سجنه قبل أن تنفى عنه.
فلابد إذن من إعلان البراءة وإشهار طهارة العِرض من قالة السوء قبل الخروج الشريف، وهذا ما تم فعلًا، وزاده علوًا في نفس الملك ونفوس الناس حتى كانت النتيجة: ﴿ وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ * قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ * وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [يوسف: 54 - 56].
ويوم أن جاءه إخوته وعرفهم وهم له منكرون لا ريب أنه سُرّ سرورًا كبيرًا؛ لأنه سيصل من خلالهم إلى أبيه الحبيب الذي فارقه في أشد الأحوال تعلقًا به، غير أن يوسف هنا لم يستبد به فرحه الذي ظل ينتظره سنين عددًا، بل عقله مرة أخرى؛ حيث لم يُعرِّف نفسَه لهم في أول لقاء بهم، بل أجَّله؛ حتى يتم له تحقيق غايات حميدة من خلال هذا التأجيل الحكيم.
وبعد هذا أقول: ليكن لديك - إذا استقبلت ضيف فرح نزل بك، ولو كان كبيرًا، أو حسن الأثر عليك - اعتدالٌ جم؛ فتجعل ذلك الفرح في صالة الضيوف من نفسك فلا يجاوزها إلى غيرها، ولا تبالغ بالسعادة به حتى تسرح طرفه في كل غرفة فيحصل البلاء الكبير.
فكم من إنسان لم يحكم خطوات فرحه فأخرجت المبالغة فيه أسراره التي أضره إخراجها!
وكم من إنسان قاده طغيان الفرح حتى جرح بالمزاح المفرط نفوسًا من الأقارب أو الأصدقاء كان له في قلوبها منازل من الحب والإجلال فغدت بعدوان فرحه الآبق يبابًا!
وحين يرى ضحايا عنفوان فرحه ستحضره الندامة، ويعد ملفات الاعتذار ويسارع ذليلًا إلى أبواب النفوس لتقديمها لمحو إساءات فرحه، لكن ربما تفتح له، وربما ستبقى موصدة أبد الدهر؛ فجرح بعض النفوس قد لا يندمل مهما تفنّن الآسي، وحاول طمس غبار المآسي.
وبالله التوفيق.