عنوان الفتوى : جواب إشكال حول قول الله تعالى: "يخرج من بين الصلب والترائب"
السؤال
أرجو التوضيح؛ لأن هذا يمكن أن يجعل شخصًا غير مسلم يدخل الإسلام.
لديّ سؤال بخصوص التفاسير الموجودة للآية التي تقول: إن من المفترض أن يتحدث الله عن الماء الدافق، وليس الإنسان في قوله تعالى: (يخرج من بين الصلب والترائب)، والتفسير يقول: إنها معجزة؛ لأن العلماء اكتشفوا أماكن بداية نشأة الخصيتين والمبيض عند الجنين، فهي بين الصلب والترائب، ولكن الآية تدلّ على أن الماء يخرج من هذا المكان، ولا تقول: إن بداية نشأة الماء الذي يخرج من الخصيتين اللتين كانتا بين الصلب والترائب عندما كان الشخص جنينًا، عندما تنزلان إلى موضعهما الأخير يخرج الماء.
فلا يصح مثلًا أن أقول: إن الخبز يخرج من الطين؛ لأن الطين يحتوي على النبات الذي عندما ينمو يحتوي على حبوب القمح، التي نحولها إلى خبز.
فما علاقة أن الماء يخرج من بين الصلب والترائب بأن الخصيتين كانتا بين الصلب والترائب عند مراحل تكون الجنين، قبل أن يكون فيهما ماء، وقبل أن تكون الخصيتان قادرتين على تكوين هذا الماء وإخراجه؟ فالخصيتان لا تخرجان الماء وهما بين الصلب والترائب، وهو يتحدث عن الماء، فكيف لهذا التفسير أن يكون صائبًا؟ وكيف يكتب الله كلمات، ويقصد بها كلمات أخرى بعيدة المعنى؟ أرغب في أدلة ومصادر الكلمات من المعجم.
وإن وجد تفسير لهذا الكلام، فكيف تكون كلمة: يخرج من بين شيئين، تعني تكوّن الشيئين ونزولهما، ثم تكوّن الماء ثم الخروج؟ وماذا يعني هذا في اللغة العربية؟ وهل هذا شيء من قواعد اللغة؟ وهذا التفسير غير المنطقي يجعل الكثير يعتقد أنه خطأ في القرآن الكريم، وأن الشيوخ يحاولون التبرير بكلام غير مذكور في الآية الكريمة، وغير منطقي، فأرجو التوضيح بكلام يعقل؛ لأن هذا يمكن أن يجعل غير المسلم يسلم.
ولماذا لا يكون قصد الله أن ما يخرج من بين الصلب والترائب هو الإنسان، وليس الماء؛ لأنه يقول: إنه على رجعه لقادر في الآية التي تليها؟ فهذا سيكون أكثر منطقية.
الإجابــة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فبداية: ننبه على أن ما ختمت به السائلة سؤالها، هو وجهٌ ذَكَرَهُ بالفعل بعضُ المفسرين، فقد قال ابن عطية في المحرر الوجيز: الضمير في {يَخْرُجُ} يحتمل أن يكون للإنسان، ويحتمل أن يكون للماء. اهـ. هذا أولًا.
وثانيًا: إذا كان الضمير يعود على الماء - كما هو قول جمهور المفسرين -، فإن لهذا أيضًا وجهه عندهم، قال النيسابوري في تفسيره: معنى خروجه من بين الصلب والترائب أن أكثره ينفصل من هذين الموضعين؛ لإحاطتهما بسور البدن، والذي ينفصل من اليدين ومن الدماغ يمر عليهما أيضًا. وطالما أعطي للأكثر حكم الكل. اهـ.
وقال الشوكاني في فتح القدير: قيل: إن المعنى: يخرج من جميع أجزاء البدن. ولا يخالف هذا ما في الآية؛ لأن نسبة خروجه إلى بين الصلب والترائب باعتبار أن أكثر أجزاء البدن هي الصلب، والترائب، وما يجاورها، وما فوقها مما يكون تنزله منها. اهـ.
وما أشارت إليه السائلة من إشكال قد أورده بعض المفسرين من قديم، وأجابوا عنه، قال الرازي في تفسيره: اعلم أن الملحدين طعنوا في هذه الآية، فقالوا: إن كان المراد من قوله: {يخرج من بين الصلب والترائب} أن المني إنما ينفصل من تلك المواضع، فليس الأمر كذلك ...
وإن كان المراد أن معظم أجزاء المني يتولد هناك، فهو ضعيف ...
وإن كان المراد أن مستقر المني هناك، فهو ضعيف؛ لأن مستقر المني هو أوعية المني، وهي عروق ملتف بعضها بالبعض عند البيضتين.
وإن كان المراد أن مخرج المني هناك، فهو ضعيف؛ لأن الحس يدل على أنه ليس كذلك.
الجواب: لا شك أن أعظم الأعضاء معونة في توليد المني هو الدماغ، وللدماغ خليفة، وهي النخاع، وهو في الصلب، وله شعب كثيرة نازلة إلى مقدم البدن، وهو التريبة؛ فلهذا السبب خص الله تعالى هذين العضوين بالذكر.
على أن كلامكم في كيفية تولّد المني، وكيفية تولّد الأعضاء من المني، محض الوهم والظن الضعيف، وكلام الله تعالى أولى بالقبول. اهـ.
وذكر هذا المعنى أيضًا البيضاويُّ في تفسيره، ولفظ محل الشاهد منه: وللدماغ خليفة، وهو النخاع، وهو في الصلب، وشعب كثيرة نازلة إلى الترائب، وهما أقرب إلى أوعية المني؛ فلذلك خصّا بالذكر. اهـ.
وقال الشهاب في حاشيته على تفسير البيضاوي: قوله: (خليفة) أي: قائم مقامه في كل ما يكون، كالمعونة المذكورة، والنخاع خيط أبيض في جوف عظم الرقبة، ممتد إلى الصلب، ويتشعب منه شعب كثيرة إلى الأضلاع، وينزل إلى الترائب، على ما بيّن في علم التشريح.
والصلب والترائب أقرب إلى وعاء المني في مقره، فلهما زيادة مدخل في توليدها، وقرب مقرها بالنسبة إلى سائر الأعضاء؛ ولذلك خصا بالذكر من بينها. اهـ.
وهذا كله باعتبار قدر العلم المتاح في زمانهم، قبل ما اكتشف من العلم حديثًا.
وأما بعد ذلك، فلا إشكال من إضافة معان أخرى مناسبة لسياق الآيات، ولا تخالف العربية لفظًا ولا تركيبًا؛ ولذلك قال ابن عاشور في التحرير والتنوير عند تفسير هذه الآية: هذا مخاطبة للناس بما يعرفون يومئذ بكلام مجمل، مع التنبيه على أن خلق الإنسان من ماء الرجل، وماء المرأة ... اهـ.
وقال أيضًا: أطنب في وصف هذا الماء الدافق لإدماج التعليم والعبرة بدقائق التكوين؛ ليستيقظ الجاهل الكافر، ويزداد المؤمن علمًا ويقينًا.
ووصف أنه يخرج من بين الصلب والترائب؛ لأن الناس لا يتفطنون لذلك.
والخروج مستعمل في ابتداء التنقل من مكان إلى مكان، ولو بدون بروز؛ فإن بروز هذا الماء لا يكون من بين الصلب والترائب. اهـ.
وفي الجملة الأخيرة جواب عن بقية إشكال السائلة، وراجعي الفتوى: 38118.
والله أعلم.