أرشيف المقالات

لوحات جمالية: الصلاة

مدة قراءة المادة : 11 دقائق .
لوحات جمالية
(الصلاة)


وقال صاحبي: لقد طال وقوفك أمام هذه اللوحة.
مع أنها لوحة عادية متداولة.
 
قلت: كثرة تداولها جعلنا نغفل عن الجمال الذي فيها، وكثيراً ما يذهب الإلف برواء الأشياء فينسى الذي يعايشها جمالها.
• ولكنك مكثت طويلاً!!
 
• لقد ذهب خيالي إلى اللوحات (التمهيدية) التي سبقت هذه اللوحة.
 
• وهل هناك لوحات تمهيدية؟.
 
• اللوحات ذات القيمة الفنية والجمالية، لا يخطها الفنان مباشرة بل يسبقها الإعداد الكبير.
من لوحات جزئية أو تخطيطات تجريبية يستعين بها الفنان حتى يصل إلى غاية ما يريد.
 
أما أتيح لك أن تزور ملحق متحف البرادو في مدريد؟..
هناك حيث استقرت لوحة «الجورنيكا» في القاعة الكبيرة، وفي الممر الذي يؤدي إليها وصفّت اللوحات الأولية التي كانت السبيل إلى إنتاج اللوحة.
وهل تظن أن ليوناردو دافنشي أمسك بالفرشاة لينتج «الجونكدا» مباشرة..
وقد ظل في رسمها أربع سنوات!
 
• وأين تلك التمهيديات لهذه اللوحة!
 
• إن اللوحة العظيمة لا تقتصر على حاسة البصر في مشاهدتها، بل تشارك جميع الحواس بعض الأحيان.
وهذه اللوحة تحتاج أن تعطيها كل حواسك وفكرك حتى تصل إلى بعض ما فيها، مما تشاهده من الزاوية التي تقابلك.
 
• هلا وضحت ما تقول!.
 
• أما تسمع يومياً ذلك النداء الندي، الذي ينطلق به ذلك الصوت الشجي الجميل، فإذا معاني الجمال يلتقي بعضها مع بعض، جمال الكلمة، وجمال المعنى، وجمال الصوت، فإذا بنا أمام ذلك اللحن العلوي الذي ما إن تسمه الآذان حتى تنهض لتلبية النداء.
 
• الآن أدركت معنى الحديث (فإنه أندى منك صوتاً) فجمال الصوت ضروري إذن حتى يتم التناسق والانسجام..
ولكن ما علاقة ذلك النداء بهذه اللوحة؟!.
 
• في تيار الحياة الصاخب، لا بد من وقفات على الطريق، تُلتقط فيها الأنفاس، وتستريح فيها النفوس، ولا أدعى إلى الراحة من صوت جميل، يحمل المعنى الجميل..
 
إنه لحن تمهيدي مهمته التنبيه، تنبيه المشاعر إلى ما هي مقدمة عليه، لتأخذ أهبتها..
 
• وأيه أهبة تعني؟.
 
• إنها الطهارة، الوضوء، هذا الغسل للأعضاء الظاهرة من الجسم الذي يذهب بالأدران والأوساخ، ففي أية لوحة لا بد من الابتعاد عن الأوساخ قبل التعامل مع الألوان.
 
• ولكن ما علاقة النداء بهذه الطهارة.
 
• العلاقة وثيقة جداً، هناك ارتباط ذهني في نفس كل مسلم، بين «الله أكبر..» وبين «إذا قمتم إلى الصلاة..».
 
ذلك حتى تأخذ الأعضاء راحتها، حين نتخلص مما أصابها من كد الحياة وسعيها وقد خلف هذا التعب آثاره..
فإذا الماء ينساب عليها فيكسبها راحة باعثة على النشاط والحيوية، وإذا الراحة تعم النفس والجسد وتلك هي الأهبة..
 
• الآن بدأت أفهم معنى (الطهور شطر الإيمان) إذن هو طهور حسي وآخر نفسي، فهو الشطر لأن الصلاة لا تصح إلا به، وهو الشطر أيضاً لأن الصلاة عملان في آن واحد، طرح للدنيا ونظافة منها، وإقبال على الله، ولا بد من التفريغ قبل الملء..
 
• أجل، ولذا كانت (الطهور شطر الإيمان) قاعدة كلية، فلا بد لهذا الطهور من أن يشمل الثياب التي يلبسها الإنسان بعطفه ورعايته، ولا بد من طهارة المكان..
حتى يحصل التناسق..
وعندها يبدأ خط الجمال..
 
قال صاحبي: إني لست خبيراً بقراءة اللوحات، أفلا أخذت بيدي فأوضحت ما تقول!
 
قلت: ما نسمعه عن كيفية قراءة اللوحات..
ذلك أمر يتعلق بالفن الذي قطع علاقته بالجمال، فقطع بذلك علاقته مع أكثر المشاهدين، وأصبح له جمال خاص به أطلقوا عليه اسم الجمال الفني..
الذي يحتاج بدوره إلى خبره ودربة واختصاص لأنه قد يكون جمالاً للقبح.
 
أما - هنا - فنحن أمام لوحات الفن الإسلامي، أو الجمال الإسلامي، فلا طلاسم ولا معميات، والأمر سهل ميسر، سمو في اللوحة ودنو من المشاهد.
وتلك خاصية الجمال الأصيل الذي يدرك بالفطرة..
 
مثله في ذلك، مثل ذلك الكتاب العظيم..
سمو ورفعة فهو كلام الله تعالى.
وهو قريب في متناول الفهم لكل الناس..
يتعامل معه كل مهم بحسب فهمه وعلمه..
ولكن الفهم الأولي والضروري في متناول الجميع.
 
انظر معي إلى صفاء الألوان..
إنها التفاعل مع «خذوا زينتكم» حيث يتحول الأمر إلى واقع، وذلك هو مدخل العبادة، وما العبادة إلا تنفيذ أمر أو اجتناب منهي عنه..
 
• أراك بدأت الحديث عن اللوحة، والآن أستطيع أن أتابع شرحك متتبعاً الخط واللون.
فقد آن للحديث التمهيدي أن ينتهي.
 
• صحيح ذلك، ولكنا بحاجة إلى تغيير موقعنا من اللوحة فهناك تمهيديات أخرى لا نلمحها من هذا الموقع..
 
• وكيف؟.
• تعال معي إلى هنا..
انظر ذلك الإنسان الذي خرج من بيته بعد طهوره وأخذ زينته، كيف يمشي إلى الصلاة؟ إنه يمشي مشية فيها الحيوية والجد، يخالطهما السكينة والوقار، إنها تتناسب مع ما هو ذاهب إليه، فلا رعونة ولا تماوت..
 
وذاك الذي جاء متأخراً..
إنه لم يحاول الإسراع..
لأنه يخل بالتناسق القائم بين السكينة والوقار المطلوب في القدوم إلى المسجد وبين الخشوع المطلوب في الصلاة..
وهو معنى الحديث الشريف ما أدركت فصل وما فاتك فأتم..
 
• قال صاحبي: أما آن للحديث عن اللوحة أن يبدأ؟.
 
• قلت: أما اللوحة، فإن الجمال فيها يعانق بعضه بعضاً، فما أدري من أين أبدأ.
 
انظر إلى تلك الدوائر من الصفوف وقد التفت حول البيت العتيق التفاف السوار بالمعصم، والخط الدائري هو أجمل الخطوط انسياباً، وأقواها تحملاً، وأشدها تماسكاً..
وهذه الصفات كلها عناصر جمالية رفيعة.
 
أضف إلى هذا، ذلك المعنى من المساواة في الدائرة إذ تكون جميع النقاط في مستوى واحد من حيث القوة والتحمل..
وهو معنى رفيع حرص الإسلام على إقامة النفوس عليه.
 
• ليتك توضح ما تقول، ما الفرق بين نقطة في خط مستقيم وبين نقطة في خط دائري؟.
 
• من الثابت هندسياً أن نقاط السطح أو الخط المستقيم ليست في قوتها واحدة، فلو مثلنا بسطح غرفة لقلنا إن قوة النقطة مرتبطة طردياً بقربها من الجدار وتعد نقطة الوسط هي أضعف النقاط..
وليس الأمر كذلك في السطح حينما يكون قبة.
إذ لست نقطة الذروة في القبة هي أضعف هذه النقاط..
 
والأمر يحتاج إلى تفصيل، يخرج بنا عما نحن فيه..
إذ كل نقطة في سطح لها قوتان قوة تحمل وقوة شد...
 
ونعود إلى دائرتنا حول البيت المعمور فكل الأفراد فيها يسوي بينهم الإسلام حساً ومعنى، فهم وقوف بجانب بعضهم بغض النظر عن جميع الاعتبارات من لون وصنعة ومكانة وفقر وغنى..
وتلك ذروة من ذرا الجمال الاجتماعي يحققها الإسلام في العبادة اليومية..
 
تلك صفات النقاط التي تشكل الدائرة..
 
ثم إن هذه الدوائر يلي بعضها بعضاً حتى تعم الأرض كلها.
كل واحدة أكبر من التي قبلها بدءاً من نقطة المركز التي هي الكعبة المشرفة.
 
يا له من مشهد رائع الجمال، أن تشهد «في أوقات الصلاة المتغيرة بحسب خطوط الطول، فترى في كل حين جبهة ترتفع وأخرى تخر في تموج رائع من العبادة الخاشعة التي ما تنفك تغمر أرجاء الكرة الأرضية بأسرها»[1].
 
• حقاً إنها لوحة رائعة.
بناء هندسي شديد التماسك، دوائر متتابعة، ذهب الجمال فيها كل مذهب، يبرزه خطان أوليان..
اتحاد حركي في أداء القيام والركوع والسجود..
وتتابع جميل بحسب اختلاف أوقات الصلاة تنشأ عنه حركة أخرى هي ذلك التموج العام فإذا الكل الإنساني المسلم يؤدي حركة الركوع والسجود وكأنه جسد واحد هنا قيام..
وهناك ركوع..
وهناك سجود ثم تبدأ الحركة من جديد..
لقد كان هذا العمل الجماعي على مستوى الكرة الأرضية غائباً عني..
 
• أجل: هذه الصورة الحسية في الشكل الهندسي، ليست هي كل شيء، بل هناك صورة نفسية أخرى تقابلها في هذا البناء الروحي.
 
• وكيف ذلك؟.
• أنعم النظر والفكر في القراءة التي لا بد لكل مصل من تلاوتها في صلاته..
إنه يقرأ ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ﴾ إنه دعاء يؤديه الفرد ولكنه يتكلم بلسان المجموع، إنه يقول: (نعبد..
نستعين..
اهدنا)
هكذا بصيغة الجمع إنه لا يرى نفسه منفرداً، فهو جزء من كل، ونقطة من خط متماسك مترابط..
ولذا فهو يتكلم بلسان المجموع..
 
ومع هذا فهذه الجزئية ليست مكانية محصورة بزمن معين بل هي مستمرة عبر الزمان، مرتبطة بالماضي، ممتدة إلى المستقبل..
يؤكدها الاستمرار في لفظ (نعبد ونستعين..).
 
• إذن، هذا ما يطلقون عليه: التطابق بين الشكل والمضمون!
 
• إنه ليس تطابقاً، ولكنه وحدة بينهما، أو تناسق بلغ من قوته أن أصبح وحدة، فالمصلي يؤدي صلاته مشتملة على العمل الحركي الذي يقوم به الجسم، والعمل القولي الذي يقوم به اللسان والعمل الروحي الذي يقوم به القلب..
كل ذلك في عملية واحدة..
يراعى فيها المعنى الفردي والمعنى الجماعي..
 
• ليتك توضح ذلك.
 
• انظر إلى المصلين في المسجد، كل يصلي السنة منفرداً ثم يؤدي الفرض مع الجماعة.
وفي الجماعة انضباط تام مع الإمام ومتابعة لكل حركة في حينها..
تناسق في الشكل..
وتلبية للجانب الفردي والجانب الجماعي..
 
• لقد فهمت من قولك أن هناك تناسقاً بين القول والحركة!
 
• نعم، إن المصلي يقول في ركوعه: سبحان ربي العظيم، إن عظمة الله تعالى، أوجبت عليه أن يحني ظهره، اعترافاً بها وإقراراً لها..
وعندما يسجد يقول: سبحان ربي الأعلى.
يقولها وهو في أخفض نقطة إنه تقابل وتوافق بين علو الله تعالى وانخفاض عبده الذي يصلي له..
ومع ذلك فهو في هذه الحالة أقرب ما يكون من ربه..
 
إنه لقاء بين معنى القول وبين معنى الحركة..
[وأذن المؤذن..
حي على الصلاة..
حي على الفلاح]
.
• فقال صاحبي..
الصلاة..
الصلاة.



[1] من محاضرة لـ(رجاء جارودي).

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٣