مرض الجمع والتكاثر
مدة
قراءة المادة :
6 دقائق
.
مرض الجمع والتكاثرالحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.
هناك ظاهرة وصِفة ذميمة تنتشر بين الناس في مختلف بقاع الأرض، ألا وهي التكاثر من الأمتعة، ومع الأسف هي منتشرة أيضًا بين المسلمين، لا سيَّما الأغنياء منهم، فتجد السيدة من هؤلاء تبدأ بجمع المقتنيات والألبسة والأحذية والحقائب والعطور ومستحضرات التجميل، وبعضهن مولَعٌ بجَمْع الأواني والمفروشات والتُّحَف والقِطَع النادرة وغيرها.
ومن الرجال من به هذه الصفة وربما بشكل أقل، فبعضهم يحب جمع المال والهواتف والعربات ذات الملايين وغيرها من متاع الدنيا، وهذا الجمع والتكاثر مذموم في الإسلام، فقد ذكر الله تعالى عنه أنه ألهى الناس حتى وصلوا لنهاية حياتهم وقد شغلهم جَمْع تلك الأمتعة حتى أغرقهم في ظلام الغفلة والتلهِّي عن التحضير للموت، قال تعالى: ﴿ أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ ﴾ [التكاثر: 1، 2]، وقد ذَمَّ الله تعالى الإسراف والمسرفين، في قوله: ﴿ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ﴾ [الأعراف: 31]؛ حيث إن الإسراف في أي شيء غير محمود، فالإنسان يشتري ما ينقصه ويسد حاجته بكفاية، ثم يوفر الباقي لزمن العوز ويتصَدَّق منه، وأما الشراء لمجرد الشراء والجمع لمباهج الدنيا دون حاجة إليها، واتخاذ ذلك هواية يستمتع بها، فهو يخالف تعاليم الإسلام ويُميت القلب، ويجعله متعلقًا بالدنيا ومتاعها.
ومعظم هذه العروض والأمتعة تبقى على الرفوف للشهور والسنين، حتى تغطيها الأتربة من قلة استعمالها، ولا يستفيد منها أحد، حتى الجامع نفسه، وتصير كالقيود التي تُكبِّله إلى أسفل الأرض، فيفقد معها حريته وخفة وزنه، ويصبح أسيرها وخادمها، وتلهيه عن دينه وعبادته، وتفتنه بالدنيا وزينتها، وربما انتهى الأمر بهلاكه في حمايتها، فيكون عمرُه أو نصفُه ضاع في جمعها والعناية بها، وسرقته الأيام وهو في ذلك الحال حتى أتاه مَلَك الموت، فقبضه غير مستعدٍّ له ولما بعد الموت، فيا للعنة تلك الأمتعة الزائلة إن أدَّت إلى هلاك راعيها ومُربِّيها! فهي التي جرت به لقعر جهنم وعذاب القبر، قال تعالى: ﴿ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ ﴾ [آل عمران: 14]، وقال: ﴿ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ ﴾ [التوبة: 34، 35]، وهذه الآية فيها تهديد لمن يجمع الأموال دون أن يخرج زكاتها.
ومن يدخل فيه داء الجمع يصبح صرف القرش لديه عملًا صعبًا، ويصيبه الهلع على الدنيا، عكس الفقراء والمعدومين، حيث تجدهم أكثر كرمًا وأقل تعلُّقًا بالمال رغم فاقتهم وفقرهم، وأما هؤلاء المكثرون فتجدهم عادةً من أبخل خلق الله، ولن ينفعهم يومئذٍ ذلك المتاع الزائل الذي سيتركونه وراءهم بعد موتهم، والأسوأ إن صاحَبَ غفلتَهم تلك كفرٌ أو ردةٌ أو شركٌ خفيٌّ أو تركٌ للصلاة، فيتمنَّى أحدهم يومئذٍ أن يفتدي بما جمعه ليُعتَق من النار؛ ولكن لن ينفعه ذلك حينها، قال صلى الله عليه وسلم: ((يُجاء بالكافر يومَ القيامة، فيُقال له: أرأيت لو كان لك ملء الأرض ذهبًا، أكنت تفتدي به؟ فيقول: نعم، فيقال له: قد كنت سئلت ما هو أيسر من ذلك))[1].
فيا أمة الإسلام، أوصي نفسي وإياكم بالإنفاق وتزكية ما رزقكم الله من فضله، ولنتذكر أن هناك معدومين لا يملكون قطميرًا، فلنتصَدَّق عليهم حتى يبارك الله لنا في الدنيا والآخرة، وإياكم والجمع؛ فهو مطب من مطبات الشيطان وحلفائه، واعلموا أن أي متاع يكثر منه الإنسان في الدنيا تمل منه النفس عاجلًا أو آجلًا، ويكون عليها حسرةً وضياع مالٍ وغفلة، فأعتقوا أنفسَكم ولو بشقِّ تمرة، وما تنفقون من شيء فإن الله يخلفه، قال تعالى: ﴿ قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ﴾ [سبأ: 39]، وقال صلى الله عليه وسلم: ((ما نقص مالٌ من صَدَقةٍ))[2].
ولنتذكَّر أن للصدقة فرحتين: فرحة الإنسان بتغلُّبه على بخل نفسه وتوفيق الله له لتلك الصدقة، وفرحته بالتطلُّع للأجر الذي وعده الله به، وهناك فرحة ثالثة تراها في وجوه من أنفقت عليهم فتُفرح قلبك معهم.
وللإنفاق أيضًا لذة وراحة كبيرة للنفس، يتخلَّص بها المرء من أنانيته والشعور بالذنب وضيق الحال.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا من فضله، ويجعلنا من أصحاب الأيادي العُلْيا، ولا يجعلنا من المُكثِرين المُسْرفين، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد، وعلى آله وصَحْبه وسَلَّم.
[1] البخاري 6538.
[2] صححه ابن كثير في تفسير القرآن العظيم (2/ 396).