منافقو العصر الجدد
مدة
قراءة المادة :
5 دقائق
.
{ولَتَعرِفَنّهُم في لَحْنِ القَول} [محمد من الأية: 30].
غزة: تبوك العصر
ها هي غزة تصنع اليوم ما صنعته غزوة تبوك في العام التاسع للهجرة.
فقد هتكت غزةُ أستار المنافقين كما فعلت تبوك من قبل، وأزالت عنهم ما تبقى لهم من ورق التوت.
نضجت الأمة وشبّت على الطوق وتخلصت من مرضها المزمن: القابلية للإنخداع، الذي طالما أصابها بغير قليل من الغشاوة وضعف البصيرة، وأقعدها عن الفعل الاستراتيجي.
ينشط المنافقون في مواطن الاضطراب وعند إشتداد الخطوب، فيُقَلِّبوا الأمور ويُثيروا الشُبهات ويُلَبِّسوا على المؤمنين دينهم، ويوظفون كل ما لديهم من فائض الخسة والابتذال ليَفُتّوا في عضد الامة وهي تناجز عدوها وتحمي حرماتها.
يفعلون ذلك في أشد اللحظات حرجاً وأكثرها إنهاكاً.
حدث ذلك في (أُحد)، عندما إنسحب المنافقون بثُلث الجيش، وحدث في الخندق حينما تسللوا لواذاً ثم سخروا من وعْدِ الله ورسوله {مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا} [الأحزاب من الآية:12].
ثم جاءت غزوة تبوك لتكون الفاقرة التي كسرت أعناق المنافقين ودمرت المشروع النفاقي.
وهاهي أحداث غزة في هذه اللحظة من التاريخ تستعير دور تبوك لتُعري سوءة النفاق العربي بشقيه: العلماني وذاك المتلفع بعباءة التدين.
أما النظام الرسمي العربي فقد رضع النفاق من أثداء عرّابيه الذين مهدوا له السلطة، وأما حركة الارجاف العلماني فقد برئت منها ذمة الله ورسوله والمؤمنين.
ولكن الأعجب هم أولئك الذين وضعوا أنفسهم في خانة العلماء والدعاة وطلبة العلم (زعموا) !! ففي الوقت الذي تتصدى فيه الأمة للعدوان اليهودي على غزة يمارس هؤلاء جميعاً دوراً تخذيلياً دنيئاً هو أشبه بصنيع أسلافهم من قبل: {وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} [ التوبة من الآية:47].
تلكم هي حركة النفاق في الامة اليوم بأضلاعها الثلاثة.
إليك شيئاً من إرجافاتهم، وإلاّ فالحديث في الباب يطول:
• السخرية من الإبداع العسكري والأداء الجهادي للمجاهدين الذين أبهروا الدنيا بصمودهم الأسطوري و ثباتهم الرباني وجهدهم التصنيعي الخلّاق.
وهكذا فعل أسلافهم من قبل: {فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ ۙ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [التوبة من الآية:79].
• لمز قيادة المقاومة وتحميلها مسؤولية الدماء، وهكذا قال أسلافهم من قبل: {لَّوْ كَانُوا عِندَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا} [آل عمران من الآية:156].
• الشماتة بمصائب الأمة والرقص على جراحاتها، وهكذا صنع أسلافهم من قبل: {وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا } [آل عمران من الآية: 120].
• التماهي مع مشروع الضرار والسير في ركاب الاستبداد: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَىٰ أَن تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ ۚ} [المائدة من الآية: 52].
حركة النفاق المعاصرة هي أخطر ما يهدد مشروع التمكين الإسلامي وأشد ما ينهك جهود الساعين إلى إستعادة الخيرية {هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ } [المنافقين من الآية:4].
ولفَرْطِ خطرها فقد تناولها الخطاب القرآني بكثافة لافتة وشخصها تشخيصاً دقيقاً وصنفها في خانة الأمراض النفسية، حتى قال بعض السلف: "قاتل الله المنافقين فقد كاد القرآن كلُه أن يكون فيهم".
أحسب أنه من الضرورات الفكرية أن يتسلح الدعاة والمجاهدون بالوعي القرآني كي تتمكن الأمة من تقويض المشروع النفاقي وإستئصال شأفته، وليس ذلك بيسير في ظل التحالف الأثيم بين الإستبداد والنفاق.
من فضائل معركة غزة الرمضانية ومن قبلها الربيع العربي أنهما وضعا مشروع النفاق في مواجهة مباشرة مع التاريخ فانكسرت شوكته وإستبان خبثُه وذهبت ريحه وأتى الله بنيانه من القواعد.
قل للمنافقين حيثما حلّوا وأينما ظهروا: {قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ}[التوبة من الآية:94]. لن تكون المعركة مع النفاق أهون بأساً من جهاد العدو الظاهر، بل لعلها تكون أشد وطأة وأكثر عسراً، ولكنها الاستحقاق المتعين الذي لا سبيل الى ترحيله.
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ }[التحريم من الآية:9].
عبدالله الغيلاني