شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [27]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة الطيبين، وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً، سهل علينا أمورنا، وعلمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الراحمين، اللهم زدنا علماً نافعاً، وعملاً صالحاً بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين، سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك، سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك، اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد:

فلا زال حديثنا في الصلة بيننا وبين الجن، وكما قلت في المبحث الماضي: إنه آخر مباحث الجن وهو يقوم على أربعة أمور:

أولها: استعانة الإنس بالجن.

وثانيها: التناكح بين الإنس والجن.

وثالثها: صرع الجن للإنس.

ورابعها: تحصن الإنس من الجن.

وقد انتهينا من الأمر الأول وهو: استعانة الإنس بالجن، وشرعنا في مبحث وقوع التناكح بين الإنس والجن, وقلت: إن هذا الأمر يبحث ضمن ثلاث مراحل وهي:

المرحلة الأولى وقد تقدمت: وقوع التناكح بين الجن, وقلت: هذا ثابت كوقوعه بين الإنس, وذكرت الأدلة التي تؤيد هذا وتبين أن للجن ذرية كما أن للإنس ذرية.

والأمر الثاني: إمكان التناكح والتزاوج بين الإنس والجن, وقلت أيضاً: الإمكان ممكن، والوقوع واقع، والحوادث في ذلك كثيرة تصل إلى درجة التواتر ومنكرها مكابر.

وبقيت معنا الجزئية الثالثة في الموضوع وهي: ما حكم هذا لو وقع؟ وهل يجوز للإنسي أن يتزوج جنية؟ وهل يجوز للجني أن يتزوج إنسية؟

فهذا ما سنذكره في هذا المبحث، وهذه الجزئية على وجه الخصوص, ومبحث الجن على وجه العموم قد تكون فائدته قليلة، فكثير من المسلمين لا يحتاجون إليه.

وهذا التوسع الذي حصل لأسباب منها:

أولاً: لنتعرف على هذا العالم الذي يقابل عالم الإنس.

الأمر الثاني: عندما نتعلم أحكام الإسلام في كل قضية من القضايا سواء احتجنا إليها أم لا، نكون على بينة من أمرنا في جميع أحوالنا, ونرى بعد ذلك عظمة هذه الشريعة وسعتها ودقتها، وكيف حوت حكم كل شيء في هذه الحياة؟ أما كونك ستحتاج لهذا الحكم أو لا فهذا موضوع آخر, ونحن كما ترون عندما نذكر أحكام الجن نتعرض لأحكام الإنس, ثم نستعرض الأدلة الشرعية التي تعطي الإنسان سعة نظر، وفهماً ووعياً بشريعة الله جل وعلا في القضايا التي نذكرها وفي غيرها.

وقد يدرس الإنسان قاعدة من القواعد ضمن مباحث الجن تلزمه بعد ذلك في مبحث آخر يتعلق بالإنس, وشريعة الله مترابطة ببعضها, فكن على علم بذلك.

إذاً: نحن في القضية الثالثة وهي في حكم التناكح بين الإنس والجن, وكنت قد أشرت في آخر المبحث السابق إلى أن الحكم هو المنع, ولا يجوز أن يتزوج الإنسي جنية ولا الجنى إنسية, وهذا هو المقرر عند جماهير أئمة المسلمين كـأبي حنيفة ، والشافعي ، والإمام أحمد , وقلت: إن مالكاً كرهه لاعتبار معين سيأتينا إن شاء الله, وإن كان يرى أن الأصل الجواز, والعلم عند الله جل وعلا.

وقلت: إن الذي يظهر هو القول بالمنع, وأن التحريم منه في حق كل أحد من الإنس والجن, فلا يجوز أن يقع التزاوج بينهما لسبعة أمور، سأذكرها وأشرحها بالتفصيل لترى بعد ذلك سعة هذه الشريعة وعظمتها ودقتها في تشريعها, ويزداد الإنسان بصيرةً بأن هذا الشرع شرع الحكيم الخبير سبحانه وتعالى.

وأول الأدلة التي تدل على التحريم, كتاب الله. وثانيها: حديث رسول الله عليه الصلاة والسلام. وثالثها: الآثار المنقولة عن سلفنا الكرام. ورابعها: القياس السوي الذي هو من أعلى أنواع الأقيسة لهذه المسألة ألا وهو قياس الأولى. وخامسها: التمسك بالأصل, فالأصل في الأبضاع التحريم, ولا يحل لك بضع إلا بدليل. وسادسها: اختلاف الجنس. وسابعها: عدم حصول المقصود من الزواج عند تزاوج الإنسي بجنية أو جني بإنسية؛ لأن مقصود النكاح هو السكن الذي أشار إليه ربنا في كتابه, ومن أجله يتزوج الإنسان فلن يحصل هذا المقصود؛ وبالتالي لا يجوز التناكح بين الإنس والجن.

الدليل الأول من القرآن على تحريم تناكح الإنس والجن

فأما الدليل الأول: فقد دل كتاب الله جل وعلا على تحريم التناكح بين الإنس والجن, والله قد أشار إلى هذا في آيتين من كتابه جل وعلا: فالآية الأولى في سورة النحل, وفيها يقول عز وجل: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ [النحل:72].

والآية الثانية في سورة الروم: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الروم:21].

فقول الله جل وعلا في الآيتين: جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ [النحل:72], وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ [الروم:21].

(من أنفسكم) كلمة (من) هنا إما أن تكون للجنس, والمعنى: من جنسكم ونوعكم, وعليه فـ(من) هنا ابتدائية.

وإما أن تكون للتبعيض ويراد من ذلك هنا خصوص حواء التي خلقت من خصوص أبينا آدم، فقوله: جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا [النحل:72] يعني: جعل حواء من بعض أبينا آدم أي: من جزء منه؛ لأنه خلقها من ضلعه الأيسر الأقصى.

فإن قيل: كيف جمع من أنفسكم والمراد فرد، وهي مخلوقة من نفس واحدة، وكذا قوله: أزواجاً وهي زوج؟

فهذا من باب تغليب الجمع على المفرد لأجل التعظيم؛ لأن ما حصل عظيم؛ أن تخلق أنثى من ذكر بدون اتصال بين الأنثى والذكر هذا أمر عظيم.

والله جل وعلا خلق ذكراً من غير ذكر ولا أنثى، وهو أبونا آدم, وخلق أنثى من ذكر بلا أنثى, كما خلق أمنا حواء من أبينا آدم, وخلق ذكراً من أنثى فقط وهو عيسى, وخلقنا نحن من ذكر وأنثى, فاكتمل الخلق.

يعني: من أم بلا أب, ومن أب بلا أم, ومن غير أب وأم, ومن أب وأم, فسبحان الخالق، الذي يخلق ما يشاء.

إذاً: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا [النحل:72] يعني: جعل حواء من آدم, و(من): للتبعيض, خلقها من بعضه أي: من أحد أجزائه، وصارت بعد ذلك أصل لكل أنثى, وأبونا آدم أصل لكل ذكر.

فـ(من): إما للجنس وإما للتبعيض, وهي إما ابتدائية وإما بعضية، وقد ثبت عن نبينا عليه الصلاة والسلام أن أمنا حواء مخلوقة من أبينا آدم, كما ورد هذا في كتاب الرد على الجهمية, لـابن منده صفحة خمسين, وهو غير الرد على الجهمية للدارمي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن نبينا صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله -سبحانه وتعالى- لما خلق آدم مسح ظهره وجرى من ظهره كل نسمة كائنة إلى يوم القيامة, ثم انتزع ضلعاً من أضلاعه فخلق منه حواء ) فهي مخلوقة من أحد أضلاعه, وإلى هذا أشار الله في أول سورة النساء: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ [النساء:1] يعني: آدم, وأنثت واحدة لتأنيث لفظ النفس لا للتأنيث المعنوي الحقيقي فيه, إنما للتأنيث اللفظي من نفس واحدة؛ لأن لفظ النفس مؤنث, تقول: هذه نفسي ولا تقول هذا نفسي, وتقول: هذه أنفسكم، وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا [النساء:1] يعني: أمنا حواء ، وهذا التفسير هو الذي أشار إليه نبينا عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث: ( إن الله لما خلق آدم مسح على ظهره فخرج من ظهره كل نسمة كائنة إلى يوم القيامة, وأشهدهم بعد ذلك على أنفسهم أنه ربهم فشهدوا, ثم انتزع ضلعاً من أضلاعه فخلق منه حواء ) فهي مخلوقة من شيء حي, ولذلك قيل لها: حواء ، وحواء هي أم لكل حي, وحواء خلقت من شيء حي هو أبونا آدم وهذا هو التفسير الحق, وما قاله بعض الضالين في هذه الأيام في أمريكا: إن آدم خلق من حواء ؛ لأن الله يقول: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ [النساء:1] (من نفس واحدة) قال: هي حواء ؛ لأنها مؤنث, وخلق منها زوجها وهو آدم, فقال: الزوج هو ذكر, والنفس الواحدة هي أنثى, فخلق الذكر من الأنثى, وهذا هو تفسير الأعاجم الذين يتلاعبون بكلام الله عز وجل؛ لأن الزوج يطلق على الذكر والأنثى, والأفصح إطلاق هذا اللفظ على المرأة إذا كانت زوجة, تقول لها: هذه زوجي، ولو قلت: زوجتي فإنه يصح من حيث اللغة فكلاهما صحيح فصيح, لكن الأفصح وبه نزل القرآن أن الزوج يطلق على الأنثى, قال تعالى: وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ [النساء:12] لم يقل: زوجاتكم, واستعمال الزوجة فصيح أيضاً وارد في أشعار العرب.

وعليه فقوله: وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا [النساء:1] لا يراد منه الزوج الذكر, بل المعنى: خلق منها حواء , فهي زوج لأبينا آدم.

وهذا التفسير كما هو ثابت عن نبينا عليه الصلاة والسلام، فهو منقول أيضاً عن حبر الأمة وبحرها عبد الله بن عباس رضي الله عنهما, نقل ذلك عنه ابن أبي حاتم في تفسيره, وابن المنذر في تفسيره, والبيهقي في شعب الإيمان، وإسناد الأثر إليه صحيح, والأثر في تفسير ابن كثير في الجزء الأول، صفحة ثمان وأربعين وأربعمائة, وفي الدر المنثور في الجزء الثاني، صفحة مائة وست عشرة.

يقول عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: إن الرجل خلق من الأرض فجعلت نهمته في الأرض, وإن المرأة خلقت من الرجل فجعلت نهمتها فيه, فاحبسوا نساءكم، يعني: أنها تريد أن ترجع إلى أصلها وتتعلق به، ولا تستقر المرأة إلا إذا كانت في كنف رجل, والرجل لو أعطيته نساء الدنيا فإنه يتطلع إلى تملك العقار والديار, وأما هي فإذا وجدت رجلاً، ولو لم تملك من الأرض شبراً فلا تبالي, فالرجل خلق من الأرض فجعلت نهمته في الأرض, فهو يريد أن يتملك ويبني, مع أنه حبب إليه -أيضاً- الشهوات الأخرى من النساء والبنين, لكنه يحب أن تزداد عنده المساحات والدور والعقارات فجعلت نهمته في الأرض, والمرأة خلقت من الرجل فجعلت نهمتها في الرجل.

وقوله: فاحبسوا نساءكم؛ لأن المرأة إذا خرجت فالرجل يريدها فهي محل شهوته, وهي تريده لأنها فرع منه, فالفتنة مشتركة من الجانبين.

والشاهد أنها مخلوقة من أبينا آدم -على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه- وما يوجد في الأصل من خصائص يسري إلى الفرع.

الدليل الثاني من القرآن على حرمة تناكح الإنس والجن

الله تعالى يقول: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ [النحل:72]، وتقدم معنا ضمن مباحث النبوة غالب ظني ما يتعلق بهذه الآية, وقلت: المراد بالبنين إما خصوص الأولاد الذكور, وهذا هو الظاهر, وأما حفدة فيراد منها على أحد أقوال ستة: البنات؛ لأن صفة الخدمة فيهن؛ من الحفد وهو الخدمة على وجه السرعة والنشاط وذلك فيهن أكثر من البنين, وعليه فمعنى الآية: بنين وبنات.

وقيل: الحفدة: الأولاد الذكور أيضاً, وأعيد هنا العطف مع الاختلاف في الحقيقة, فنزل تغاير الصفات منزلة تغاير الذوات كما تقدم معنا.

إذاً: بنين يعني تحبونهم وهم جنس الذكور ولهم شأن وهم يخدمونكم أيضاً, أو أن المراد الأولاد مطلقاً بنين وبنات, أو أولاد الأولاد كما تقدم معنا, أو أولاد الزوجة, أو الأصهار والأختان, أو أن المراد من الحفدة الخدم من غير هذه الزوجة.

وعليه فمعنى قوله تعالى: جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً [النحل:72] أي: جعل لكم خدماً تستعينون بهم وترتفقون بهم في هذه الحياة, والعلم عند الله.

وقد يقول قائل: ما وجه الدلالة في هاتين الآيتين أعني قوله تعالى: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا [الروم:21], وقوله: جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ [النحل:72] . على تحريم التناكح والتزاوج بين الإنس والجن؟

أئمتنا استدلوا بهاتين الآيتين على المنع, منهم: البارزي وهو هبة الله بن عبد الرحيم , توفي سنة ثمان وثلاثين وسبعمائة للهجرة, وكان قاضي القضاة في بلاد الشام في حماه في القرن الثامن للهجرة, ولما مات غلقت حماه من أجل شهود جنازته رحمة الله ورضوانه عليه, وقد سأله تلميذه الإسنوي كما سيأتينا عدة أسئلة من جملتها عن موضوع التزاوج بين الإنس والجن, فأفتى بالمنع لهاتين الآيتين.

والإمام البارزي كان إماماً راسخاً خيراً محباً للعلم ونشره, قال أئمتنا في ترجمته كما في الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة لحذامي المحدثين الحافظ ابن حجر في الجزء الرابع، صفحة واحدة وأربعمائة, يقول: صارت إليه الرحلة في زمانه يرتحل إليه طلبة العلم, قال الإسنوي فيما ينقله عنه الحافظ ابن حجر : وقف على شيء من كلامي, أي: اطلع البارزي على شيء من كلام الإسنوي , يقول فأعجب به وأرسل لي إذناً بالفتوى.

يقول: أنت تأهلت للفتيا, والإسنوي من تلاميذ البارزي, وقد توفي سنة اثنتين وسبعمائة للهجرة, يعني: عاش بعده فترة طويلة ذاك ثمان وثلاثين, وهذا اثنتين وسبعين.

قال الحافظ ابن حجر في الدرر الكامنة: قلت: كان الإسنوي قد جهز إليه أسئلة -أي للإمام البارزي- فأجابه عنها وأذن له وهي أجوبة مشهورة، ومن جملة هذه الأسئلة والإجابة عليها: التناكح بين الإنس والجن, فأفتى بالمنع لهاتين الآيتين, وسيأتينا وجه الاستدلال إن شاء الله.

وقد حكى استدلاله الشبلي في آكام المرجان, والسيوطي في لقط المرجان, والأشباه والنظائر, حكوا استدلاله بهاتين الآيتين وأقروه على تحريم التناكح بين الإنس والجن.

والبارزي كما قلت كان قاضي القضاة, وابن كثير قد ترجمه في البداية والنهاية في حوادث سنة ثمان وثلاثين وسبعمائة في الجزء الرابع عشر، صفحة اثنتين وثمانين ومائة، ترجمة عارف به؛ لأن ابن كثير أدرك البارزي وعاش معه قرابة ثلاثين سنة؛ لأن ابن كثير ولد سنة سبعمائة للهجرة, وتوفي سنة واحدة وسبعين وسبعمائة، فعاش مع البارزي ثلاثين سنة, فهو يعرفه، وكلاهما من بلاد الشام.

كما أن الذهبي قد ترجمه في معجم الشيوخ واعتبره من شيوخه في الجزء الثاني، صفحة ست وخمسين وثلاثمائة, حيث قال: شارك في الفضائل, وصنف التصانيف مع العبادة والدين والتواضع ولطف الأخلاق, وما في طباعه من الكبر ذرة, وله ترامن على الصالحين, وحسن ظن فيهم, أي: يحب الصالحين الزهاد العابدين ويحسن ظنه فيهم، رحمة الله ورضوانه عليه وعلى أئمة المسلمين أجمعين.

وهذه الكلمة أعني قوله: له ترامن على الصالحين, وحسن ظن فيهم سيأتينا شيء من التعليق عليها ضمن مبحث الصرع عند كلام الذهبي في الحراني أحد أئمة الإسلام الذي كان على صلة مع البارزي .

وأما الإسنوي الذي وجه الأسئلة فهو عبد الرحيم بن الحسن بن على الإسنوي من بلاد إسنا وهي في مصر كان بينه وبين أبي حيان صلة, وكتب إليه أبو حيان فنعته بالشيخ, وقال: ما شيخت أحداً في سنك أي: أنت أصغر مني, ومن هو في عمرك أنا ما أخاطبه بلفظ الشيخ.

والإسنوي بالكسر للهمزة وكثير من الناس يلحنون، ويقولون: الأسنوي -بالفتح-.

وترجمه الحافظ ابن حجر في الدرر الكامنة في الجزء الثاني، صفحة أربع وخمسين وثلاثمائة، فقال: كان شيخنا -يريد به العراقي حافظ الدنيا في زمنه- يجله وكان هو يحبه أي الإسنوي، ونعته بأنه حافظ عصره، يعني أن الإسنوي يقول عن العراقي : إنه حافظ عصره، والأمر كذلك.

وجه الدلالة على حرمة التناكح بين الإنس والجن من آي القرآن المذكورة

ذكرنا أن الإسنوي سأل البارزي عن موضوع التناكح بين الإنس والجن, فأفتى بالتحريم والمنع, واستدل بهاتين الآيتين, ووجه استدلاله: أن الله جل وعلا يقول: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا [النحل:72] ويقول: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا [الروم:21] وأزواجاً نكرة, والنكرة إذا جاءت في سياق نفي، أو في سياق نهي، أو في سياق شرط فإنها تفيد العموم.

وهنا لا يوجد نفي ولا نهي ولا شرط, فلا تفيد العموم وأئمتنا قالوا: المراد منها العموم, وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا [النحل:72] يعني: عموم الزوجات لا يخرجن عن كونهن من أنفسكم, ولا يمكن أن توجد زوجة من غير جنسك، والتي خلقت منك، وهي الآدمية.

وللجن يقال أيضاً: من أنفسكم أزواجاً فكما أن الجنية للجني فالإنسية للإنسي.

إذاً: هنا نكرة في سياق إثبات, والأصل أنها لا تفيد العموم, يعني: مما جعل لكم زوجات من جنسكم، ووجه الاستدلال بالآية على العموم, وقال أئمتنا: النكرة إذا كانت في سياق الإثبات وسيقت في معرض الامتنان فإنها تفيد العموم، ومنه قول الله جل وعلا: وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا [الفرقان:48] فماء نكرة في سياق إثبات للامتنان, إذاً كل ماء ينزل من السماء فهو طهور طاهر مطهر.

وهنا يقول: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا [النحل:72] لا يوجد زوجة إلا من نفسك وجنسك فالزوجة إذاً آدمية, وما خرج عن ذلك فهو محرم ومنهي عنه, فالنكرة إذا كانت في سياق امتنان وإخبار عن فضل الرحمن فإنها تفيد العموم كما هنا.

وكذلك إن كانت النكرة في سياق نفي أيضاً فتفيد العموم كما تقدم معنا، ومنه قول الله جل وعلا: مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [الأعراف:59] ، فقوله: (من إله) نكرة، و(ما لكم) نفي فتفيد العموم, أي: الآلهة كلها باطلة إلا هذا الإله الحق, وهكذا إذا وردت كما قلت في سياق شرط كقوله: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ [التوبة:6] فأحد: نكرة. في سياق شرط تفيد العموم, وهكذا إذا وقعت النكرة في سياق النهي كقوله: وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا [الإنسان:24] تفيد العموم.

وعليه؛ فالنكرة إذا كانت في سياق إثبات وهي في معرض الامتنان فهي تفيد العموم, وإذا كانت في سياق نفي أو في سياق نهي, أو في سياق شرط كذلك تفيد العموم.

وهنا نكرة في سياق إثبات لكن في معرض الامتنان, فالله يمن علينا بنعمه التي أنعم بها علينا, فلو كان هناك زوجة من غير جنسنا لما صح الامتنان بهذه الآية؛ لأنه يوجد زوجة أخرى فلماذا لم تذكر؟

فإذاً: هنا وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا [النحل:72] نكرة في سياق إثبات, لكن في معرض امتنان تفيد العموم, يعني: لا يوجد زوجة من غير هذا الصنف, فمن عدا هذا الصنف فهو محرم في شريعة الله جل وعلا.

فانحصرت الزوجات في هذا النوع، للآدمي آدمية، وللجني جنية, ولا يجوز لأحد الصنفين أن يتزوج من الآخر, والعلم عند الله عز وجل.

فهذا استدلال أئمتنا, وهو استدلال البارزي وغيره, وهو الذي وضحه شيخنا عليه رحمة الله في أضواء البيان في الجزء الثالث، صفحة عشرين وثلاثمائة.

إذاً: الدليل الأول آيتان من القرآن نصتا على أن الزوجات منحصرات في جنسنا, فلا يجوز أن نتزوج الجنيات.

وإن قال قائل: هذه نكرة في سياق إثبات ولا تفيد العموم؟

نقول: إذا وردت في معرض الامتنان فإنها تفيد العموم, فالله يخبر عن منته على عباده؛ بأنه جعل لهم زوجات من هذا الصنف, فما خرج عن هذا الصنف فلا يحل, وسورة النحل هي سورة النعم، وتقدم معنا أن الله عدد نعمه على عباده من أول السورة إلى آخرها, وذكر فيها: أصول ومتمات النعم.

وهنا قال: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا [النحل:72] فلو كان هناك زوجة من غير جنسنا ونوعنا لما حصل الامتنان الكامل بهذه الآية في الإخبار, والعلم عند الله.

فأما الدليل الأول: فقد دل كتاب الله جل وعلا على تحريم التناكح بين الإنس والجن, والله قد أشار إلى هذا في آيتين من كتابه جل وعلا: فالآية الأولى في سورة النحل, وفيها يقول عز وجل: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ [النحل:72].

والآية الثانية في سورة الروم: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الروم:21].

فقول الله جل وعلا في الآيتين: جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ [النحل:72], وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ [الروم:21].

(من أنفسكم) كلمة (من) هنا إما أن تكون للجنس, والمعنى: من جنسكم ونوعكم, وعليه فـ(من) هنا ابتدائية.

وإما أن تكون للتبعيض ويراد من ذلك هنا خصوص حواء التي خلقت من خصوص أبينا آدم، فقوله: جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا [النحل:72] يعني: جعل حواء من بعض أبينا آدم أي: من جزء منه؛ لأنه خلقها من ضلعه الأيسر الأقصى.

فإن قيل: كيف جمع من أنفسكم والمراد فرد، وهي مخلوقة من نفس واحدة، وكذا قوله: أزواجاً وهي زوج؟

فهذا من باب تغليب الجمع على المفرد لأجل التعظيم؛ لأن ما حصل عظيم؛ أن تخلق أنثى من ذكر بدون اتصال بين الأنثى والذكر هذا أمر عظيم.

والله جل وعلا خلق ذكراً من غير ذكر ولا أنثى، وهو أبونا آدم, وخلق أنثى من ذكر بلا أنثى, كما خلق أمنا حواء من أبينا آدم, وخلق ذكراً من أنثى فقط وهو عيسى, وخلقنا نحن من ذكر وأنثى, فاكتمل الخلق.

يعني: من أم بلا أب, ومن أب بلا أم, ومن غير أب وأم, ومن أب وأم, فسبحان الخالق، الذي يخلق ما يشاء.

إذاً: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا [النحل:72] يعني: جعل حواء من آدم, و(من): للتبعيض, خلقها من بعضه أي: من أحد أجزائه، وصارت بعد ذلك أصل لكل أنثى, وأبونا آدم أصل لكل ذكر.

فـ(من): إما للجنس وإما للتبعيض, وهي إما ابتدائية وإما بعضية، وقد ثبت عن نبينا عليه الصلاة والسلام أن أمنا حواء مخلوقة من أبينا آدم, كما ورد هذا في كتاب الرد على الجهمية, لـابن منده صفحة خمسين, وهو غير الرد على الجهمية للدارمي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن نبينا صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله -سبحانه وتعالى- لما خلق آدم مسح ظهره وجرى من ظهره كل نسمة كائنة إلى يوم القيامة, ثم انتزع ضلعاً من أضلاعه فخلق منه حواء ) فهي مخلوقة من أحد أضلاعه, وإلى هذا أشار الله في أول سورة النساء: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ [النساء:1] يعني: آدم, وأنثت واحدة لتأنيث لفظ النفس لا للتأنيث المعنوي الحقيقي فيه, إنما للتأنيث اللفظي من نفس واحدة؛ لأن لفظ النفس مؤنث, تقول: هذه نفسي ولا تقول هذا نفسي, وتقول: هذه أنفسكم، وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا [النساء:1] يعني: أمنا حواء ، وهذا التفسير هو الذي أشار إليه نبينا عليه الصلاة والسلام في هذا الحديث: ( إن الله لما خلق آدم مسح على ظهره فخرج من ظهره كل نسمة كائنة إلى يوم القيامة, وأشهدهم بعد ذلك على أنفسهم أنه ربهم فشهدوا, ثم انتزع ضلعاً من أضلاعه فخلق منه حواء ) فهي مخلوقة من شيء حي, ولذلك قيل لها: حواء ، وحواء هي أم لكل حي, وحواء خلقت من شيء حي هو أبونا آدم وهذا هو التفسير الحق, وما قاله بعض الضالين في هذه الأيام في أمريكا: إن آدم خلق من حواء ؛ لأن الله يقول: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ [النساء:1] (من نفس واحدة) قال: هي حواء ؛ لأنها مؤنث, وخلق منها زوجها وهو آدم, فقال: الزوج هو ذكر, والنفس الواحدة هي أنثى, فخلق الذكر من الأنثى, وهذا هو تفسير الأعاجم الذين يتلاعبون بكلام الله عز وجل؛ لأن الزوج يطلق على الذكر والأنثى, والأفصح إطلاق هذا اللفظ على المرأة إذا كانت زوجة, تقول لها: هذه زوجي، ولو قلت: زوجتي فإنه يصح من حيث اللغة فكلاهما صحيح فصيح, لكن الأفصح وبه نزل القرآن أن الزوج يطلق على الأنثى, قال تعالى: وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ [النساء:12] لم يقل: زوجاتكم, واستعمال الزوجة فصيح أيضاً وارد في أشعار العرب.

وعليه فقوله: وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا [النساء:1] لا يراد منه الزوج الذكر, بل المعنى: خلق منها حواء , فهي زوج لأبينا آدم.

وهذا التفسير كما هو ثابت عن نبينا عليه الصلاة والسلام، فهو منقول أيضاً عن حبر الأمة وبحرها عبد الله بن عباس رضي الله عنهما, نقل ذلك عنه ابن أبي حاتم في تفسيره, وابن المنذر في تفسيره, والبيهقي في شعب الإيمان، وإسناد الأثر إليه صحيح, والأثر في تفسير ابن كثير في الجزء الأول، صفحة ثمان وأربعين وأربعمائة, وفي الدر المنثور في الجزء الثاني، صفحة مائة وست عشرة.

يقول عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: إن الرجل خلق من الأرض فجعلت نهمته في الأرض, وإن المرأة خلقت من الرجل فجعلت نهمتها فيه, فاحبسوا نساءكم، يعني: أنها تريد أن ترجع إلى أصلها وتتعلق به، ولا تستقر المرأة إلا إذا كانت في كنف رجل, والرجل لو أعطيته نساء الدنيا فإنه يتطلع إلى تملك العقار والديار, وأما هي فإذا وجدت رجلاً، ولو لم تملك من الأرض شبراً فلا تبالي, فالرجل خلق من الأرض فجعلت نهمته في الأرض, فهو يريد أن يتملك ويبني, مع أنه حبب إليه -أيضاً- الشهوات الأخرى من النساء والبنين, لكنه يحب أن تزداد عنده المساحات والدور والعقارات فجعلت نهمته في الأرض, والمرأة خلقت من الرجل فجعلت نهمتها في الرجل.

وقوله: فاحبسوا نساءكم؛ لأن المرأة إذا خرجت فالرجل يريدها فهي محل شهوته, وهي تريده لأنها فرع منه, فالفتنة مشتركة من الجانبين.

والشاهد أنها مخلوقة من أبينا آدم -على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه- وما يوجد في الأصل من خصائص يسري إلى الفرع.

الله تعالى يقول: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ [النحل:72]، وتقدم معنا ضمن مباحث النبوة غالب ظني ما يتعلق بهذه الآية, وقلت: المراد بالبنين إما خصوص الأولاد الذكور, وهذا هو الظاهر, وأما حفدة فيراد منها على أحد أقوال ستة: البنات؛ لأن صفة الخدمة فيهن؛ من الحفد وهو الخدمة على وجه السرعة والنشاط وذلك فيهن أكثر من البنين, وعليه فمعنى الآية: بنين وبنات.

وقيل: الحفدة: الأولاد الذكور أيضاً, وأعيد هنا العطف مع الاختلاف في الحقيقة, فنزل تغاير الصفات منزلة تغاير الذوات كما تقدم معنا.

إذاً: بنين يعني تحبونهم وهم جنس الذكور ولهم شأن وهم يخدمونكم أيضاً, أو أن المراد الأولاد مطلقاً بنين وبنات, أو أولاد الأولاد كما تقدم معنا, أو أولاد الزوجة, أو الأصهار والأختان, أو أن المراد من الحفدة الخدم من غير هذه الزوجة.

وعليه فمعنى قوله تعالى: جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً [النحل:72] أي: جعل لكم خدماً تستعينون بهم وترتفقون بهم في هذه الحياة, والعلم عند الله.

وقد يقول قائل: ما وجه الدلالة في هاتين الآيتين أعني قوله تعالى: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا [الروم:21], وقوله: جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ [النحل:72] . على تحريم التناكح والتزاوج بين الإنس والجن؟

أئمتنا استدلوا بهاتين الآيتين على المنع, منهم: البارزي وهو هبة الله بن عبد الرحيم , توفي سنة ثمان وثلاثين وسبعمائة للهجرة, وكان قاضي القضاة في بلاد الشام في حماه في القرن الثامن للهجرة, ولما مات غلقت حماه من أجل شهود جنازته رحمة الله ورضوانه عليه, وقد سأله تلميذه الإسنوي كما سيأتينا عدة أسئلة من جملتها عن موضوع التزاوج بين الإنس والجن, فأفتى بالمنع لهاتين الآيتين.

والإمام البارزي كان إماماً راسخاً خيراً محباً للعلم ونشره, قال أئمتنا في ترجمته كما في الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة لحذامي المحدثين الحافظ ابن حجر في الجزء الرابع، صفحة واحدة وأربعمائة, يقول: صارت إليه الرحلة في زمانه يرتحل إليه طلبة العلم, قال الإسنوي فيما ينقله عنه الحافظ ابن حجر : وقف على شيء من كلامي, أي: اطلع البارزي على شيء من كلام الإسنوي , يقول فأعجب به وأرسل لي إذناً بالفتوى.

يقول: أنت تأهلت للفتيا, والإسنوي من تلاميذ البارزي, وقد توفي سنة اثنتين وسبعمائة للهجرة, يعني: عاش بعده فترة طويلة ذاك ثمان وثلاثين, وهذا اثنتين وسبعين.

قال الحافظ ابن حجر في الدرر الكامنة: قلت: كان الإسنوي قد جهز إليه أسئلة -أي للإمام البارزي- فأجابه عنها وأذن له وهي أجوبة مشهورة، ومن جملة هذه الأسئلة والإجابة عليها: التناكح بين الإنس والجن, فأفتى بالمنع لهاتين الآيتين, وسيأتينا وجه الاستدلال إن شاء الله.

وقد حكى استدلاله الشبلي في آكام المرجان, والسيوطي في لقط المرجان, والأشباه والنظائر, حكوا استدلاله بهاتين الآيتين وأقروه على تحريم التناكح بين الإنس والجن.

والبارزي كما قلت كان قاضي القضاة, وابن كثير قد ترجمه في البداية والنهاية في حوادث سنة ثمان وثلاثين وسبعمائة في الجزء الرابع عشر، صفحة اثنتين وثمانين ومائة، ترجمة عارف به؛ لأن ابن كثير أدرك البارزي وعاش معه قرابة ثلاثين سنة؛ لأن ابن كثير ولد سنة سبعمائة للهجرة, وتوفي سنة واحدة وسبعين وسبعمائة، فعاش مع البارزي ثلاثين سنة, فهو يعرفه، وكلاهما من بلاد الشام.

كما أن الذهبي قد ترجمه في معجم الشيوخ واعتبره من شيوخه في الجزء الثاني، صفحة ست وخمسين وثلاثمائة, حيث قال: شارك في الفضائل, وصنف التصانيف مع العبادة والدين والتواضع ولطف الأخلاق, وما في طباعه من الكبر ذرة, وله ترامن على الصالحين, وحسن ظن فيهم, أي: يحب الصالحين الزهاد العابدين ويحسن ظنه فيهم، رحمة الله ورضوانه عليه وعلى أئمة المسلمين أجمعين.

وهذه الكلمة أعني قوله: له ترامن على الصالحين, وحسن ظن فيهم سيأتينا شيء من التعليق عليها ضمن مبحث الصرع عند كلام الذهبي في الحراني أحد أئمة الإسلام الذي كان على صلة مع البارزي .

وأما الإسنوي الذي وجه الأسئلة فهو عبد الرحيم بن الحسن بن على الإسنوي من بلاد إسنا وهي في مصر كان بينه وبين أبي حيان صلة, وكتب إليه أبو حيان فنعته بالشيخ, وقال: ما شيخت أحداً في سنك أي: أنت أصغر مني, ومن هو في عمرك أنا ما أخاطبه بلفظ الشيخ.

والإسنوي بالكسر للهمزة وكثير من الناس يلحنون، ويقولون: الأسنوي -بالفتح-.

وترجمه الحافظ ابن حجر في الدرر الكامنة في الجزء الثاني، صفحة أربع وخمسين وثلاثمائة، فقال: كان شيخنا -يريد به العراقي حافظ الدنيا في زمنه- يجله وكان هو يحبه أي الإسنوي، ونعته بأنه حافظ عصره، يعني أن الإسنوي يقول عن العراقي : إنه حافظ عصره، والأمر كذلك.




استمع المزيد من الشيخ عبد الرحيم الطحان - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح الترمذي - باب الاستتار عند الحاجة، والاستنجاء باليمين، والاستنجاء بالحجارة [4] 4042 استماع
شرح الترمذي - باب ما جاء في فضل الطهور [6] 3974 استماع
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [9] 3903 استماع
شرح الترمذي - مقدمات [8] 3783 استماع
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [46] 3782 استماع
شرح الترمذي - باب مفتاح الصلاة الطهور [2] 3769 استماع
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [18] 3565 استماع
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [24] 3479 استماع
شرح الترمذي - باب ما يقول إذا خرج من الخلاء [10] 3462 استماع
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [59] 3411 استماع