شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [25]


الحلقة مفرغة

الحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة الطيبين وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً، سهل علينا أمورنا، وعلمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الراحمين.

اللهم زدنا علماً نافعاً، وعملاً صالحاً، بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين.

سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك، سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك.

اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:

فلا زلنا نتدارس مبحث الجن، ونحن الآن في آخر مباحث الجن ألا وهو صلتنا بهم، وصلتهم بنا، وقلت: هذا المبحث سنتدارسه ضمن أربعة أمور:

أولها: استعانة الإنس بالجن.

وثانيها: وقوع التناكح بيننا وبينهم.

وثالثها: تلبس الجني بالإنسي.

ورابعها: تحصن الإنس من الجن.

أما الأمر الأول فقد مر الكلام عليه مفصلاً في المواعظ السابقة، وقلت: إن الاستعانة بهم تنقسم إلى قسمين: قسم جائز مشروع، وقسم محرم ممنوع، وفصلت الكلام على كل قسم وعلى أنواعه وأدلة ذلك.

ختمت الكلام على القسم المحرم الممنوع بأن الجن لا يساعدون الإنسان في محرم إلا إذا فعل محرماً، ويستمتع كل منهما بصاحبه، فإذا طلبنا منهم معصية من إحضار ما نريد ونهواه عن طريق ما حرم الله، أو من إيذاء أحد من خلق الله ونحو ذلك، فإنهم في المقابل يطلبون منا أن نسجد لهم، وأن نستعين بهم، وأن نذبح لهم، وأن نحسن إليهم، وأن نرجوهم، وأن نخافهم، أو أن نسجد لشيء يأمروننا بالسجود له، وأحياناً يقع التناكح بيننا وبينهم.

الإعانة بقصد الإضلال

قد لا يقع من الإنسي طلب معونة من الجني، لكن الجني يتطوع لإحضار المطلوب للإنسي دون أن يطلب منه من أجل أن يستدرجه، ومن أجل أن يوقعه في الشرك، وهذا حصل بكثرة لكثير من أئمتنا لكن ليقظتهم وبصيرتهم وقوة إيمانهم ما راجت عليهم هذه التلبيسات.

فمن ذلك ما ذكره أئمتنا الكرام في ترجمة شيخ الإسلام الشيخ عبد القادر الجيلاني عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا، وقد توفي سنة واحدة وستين وخمسمائة للهجرة، وهو من شيوخ أهل السنة الصالحين، ومن العلماء الربانيين، يقول الإمام ابن رجب في الذيل على طبقات الحنابلة في ترجمته في الجزء الأول صفحة تسعين ومائتين إلى صفحة واحدة وثلاثمائة ترجمه في إحدى عشرة صفحة، يقول: انتصر أهل السنة لظهوره؛ لأنه كان شيخ أهل السنة في زمانه، وتقدم معنا أن الإمام ابن قدامة عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا لما ذهب إلى بغداد تتلمذ عليه وتلقى العلم منه، وكان يقول: إذا تواترت الكرامات عن أحد فتواترها عن الشيخ عبد القادر عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا، ولذلك يقول ابن رجب الحنبلي : انتصر أهل السنة بظهوره، وهو من العلماء الربانيين، وممن تأدب بآداب الشرع القويم، ومع ذلك كان إذا حصل منه شيء أحياناً يظهر له النبي عليه الصلاة والسلام في الرؤيا فيوجهه بالتي هي أكمل.

جاءه مرةً بعض طلبة العلم وألح عليه في الأسئلة بحيث اغتاظ الشيخ وغضب وقال: ليس الآن وقت أسئلة اسكت، فلما ذهب نام الشيخ، فرأى النبي عليه الصلاة والسلام يقول له: يا عبد القادر ! أنت معلم الخير، فلا ينبغي أن تغضب وإن ألح، عليك بالرفق، فاستيقظ من نومه مباشرةً وأرسل إلى هذا التلميذ وقال له: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم وعاتبني فيك، فماذا عندك؟ سلني عنه، وهذا أدب نبوي شريف، والله يقول لنبيه عليه صلوات الله وسلامه: وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران:159] ، وما كان يزيده جهل الجاهل، ولا سفاهة السفيه إلا حلماً، وقد شهد الله له بأنه على خلق عظيم، وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4] عليه صلوات الله وسلامه.

هذا الشيخ المبارك الإمام الرباني الشيخ عبد القادر الجيلاني عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا يخبر عن نفسه كما في الذيل على طبقات الحنابلة صفحة أربع وتسعين ومائتين، قال الإمام ابن رجب : وهذه قصة مشهورة عنه.

خلاصتها: أنه كان في سفر مع بعض أصحابه فاشتد عليه العطش، وكان الوقت حاراً، فأظلتهم سحابة، ثم نزل منها ما يشبه الندى والرطوبة حتى ارتووا، ثم خرج من تلك السحابة نور تبعه دخان وفيه صوت ينادي: يا عبد القادر ! أنت عبدي وأنا ربك، وقد أحللت لك المحرمات، فقال الشيخ عبد القادر عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا: اخسأ يا لعين، فقال له من معه: كيف عرفت أنه اللعين وأنه الشيطان الرجيم؟ قال: من قوله: أحللت لك المحرمات، كيف يحل الله ما حرم على عباده؟ وما حرم علينا إلا لما فيه من ضرر، فكيف إذاً يحل لي؟ ثم سمع صوتاً آخر يناديه من هذه السحابة التي خرج منها نور وتبعه دخان يقول: يا عبد القادر ! لقد أضللت كثيراً من العباد بمثل هذا الفعل، لكن ما استطعت أن أضلك ليقظتك ولعلمك، قال: هذا بفضل الله لا بعلمي يا لعين، والله هو الذي منّ علي بهذا وهو خير الحافظين، ونسأله ألا يكلنا إلى أنفسنا طرفة عين، فمن وكل إلى نفسه هلك، ومن وكل إلى الخلق ضاع، ومن وكل إلى الله فهو في حفظ عظيم.

وهنا لم يطلب الشيخ عبد القادر عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا معونةً من الجن، وما اتصل به جني وقال: أريد أن تحضر لي قربةً من الماء، وإنما الشياطين فعلوا هذا من أجل إضلال هذا الشيخ وإضلال الناس به.

تشكل الجن بصور الصالحين كابن تيمية وغيره بقصد الإحسان

وهذا يفعله الجن أحياناً مع كثير من العباد، بل يفعلون مثل هذا مع الكفار ليزيدوهم كفراً على كفرهم، والشيخ ابن تيمية عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا كان يخبر عن نفسه أنه كثيراً ما كانت تتشكل الجن بصورته، أحياناً للمؤمنين وأحياناً للكافرين، أما المؤمنون فمن أجل أن يساعدوا أصحاب الإمام ابن تيمية، وأما الكافرون فمن أجل أن يحصل بذلك إضلال وفتنة لهذا الشيخ الإمام، وفي مجموع الفتاوى في عدة أماكن في الجزء الحادي عشر صفحة تسع وثلاثمائة ذكر حوادث لتشكل الجن بصورته وهو غائب في مكان فيتشكلون في مكان آخر ويقضون حاجة بعض الناس هناك على أن الفاعل هو الشيخ ابن تيمية وهو في مكان آخر، فهو في بلاد مصر ويتشكل الجني بصورته في بلاد الشام، ويقضي حاجة بعض عباد الرحمن، وذكر هذا في الجزء التاسع عشر صفحة سبع وأربعين، وذكره في الجزء الثالث عشر صفحة اثنتين وتسعين.

يقول عليه وعلى أئمتنا رحمة رب العالمين: وكثيراً ما يستغيث الرجل بشيخه الحي أو الميت، فيأتونه في صورة ذلك الشيخ، وأحياناً لا يوجد استغاثة كما ستسمعون، وقد يخلصونه مما يكره، فلا يشك أن الشيخ نفسه جاء، أو أن ملكاً تصور بصورته وجاءه، ولا يعلم أن ذلك الذي تمثل له إنما هو الشيطان، وأنه لما أشرك بالله أضلته الشياطين، والملائكة لا تطلب منه أن يشرك، وعندما استغاث بميت ولجأ إليه وقال: يا شيخ عبد القادر : فرج كربي، يا رسول الله -عليه الصلاة والسلام- أغثني، يا أبا بكر اكشف عني ضري، رضي الله عن أبي بكر وعن الصحابة أجمعين، فعندما فعل هذا واستغاث هذه الاستغاثة الشركية جاءه الشيطان مباشرةً وقضى له حاجته يريد أن يضله وأن يثبته على هذا الشرك، وإذا نزل به ضر لجأ إلى المخلوق مرةً ثانية، في البداية لا بد من طعم يطعمه من أجل أن يخرجه من دين الله، فإذا استحكم بعد ذلك منه أنه مشرك فإنه لا يقضي حاجاته بعد ذلك؛ لأنه قبض عليه وأدخله القفص.

وذكرت في بعض المواعظ أن بعض الناس في بلاد الشام ذكر لي مرةً قصة من القصص وله شأن من حيث المكانة والشهادات في هذه الأيام، وقال لي: أنتم لا تؤمنون بكرامات الأولياء، قلت: للأولياء كرامات ويوجد تخريف ففرق بين الأمرين، فقال: أنا أحكي لك قصة هل تؤمن بها؟ قلت: اذكر، يقول: كان بعض الناس يقود سيارةً من الأتوبيسات الباصات الكبيرة التي تسع ستين فما يزيد من سيارات الأجرة، يقول: كان وهو في طريق النزول من اللاذقية إلى حلب وهي طريق كلها مرتفعات جبال ووديان، يقول: فلما علوا جبلاً ونزل في الوادي وهو مزفت ولم يبق فرامل في السيارة، يضع رجله على الكابح والسيارة لا تقف، وبدأت تهوي كأنها الريح، قال: فبدأ ينادي: يا ألله يا ألله يا ألله! فما أحد أجابه ولا وقفت السيارة، فالتفت إلى الشيخ عبد القادر وقال: يا شيخ عبد القادر ! أنا في جوارك، أنا في حماك، أغثني.. تداركني قال: فما شعر إلا بالسيارة وقفت، وسمع صوتاً يناديه: أما تستحي أتعبتني من بغداد إلى بلاد الشام، وعندك في بلاد الشام في حلب واللاذقية ودمشق أولياء كثر لم لم تستنجد بواحد منهم وتلجأ إليه؟ يريد الشيطان أن يضله بهؤلاء وبأولئك، قال لي: هذه تؤمن بها أم لا؟ قلت: لها عندي حالتان:

الحالة الأولى: الغالب أنها مكذوبة، والناس يتناقلون كثيراً من الأخبار الشركية التي لا حقيقة لها، ولو تتبعت السند لوجدت أنه ما وقع ولا حصل شيء من ذلك، وهذا يقع بكثرة، ثم يأتي الشيطان فينشر بين الناس كذباً ويحكي أكذوبة فيتناقلها الناس ولا حقيقة لها.

قلت: وعلى التنزل والتسليم أنها وقعت، فلعل الجن هم الذين أمسكوا الأتوبيس، ولهم قوى عظيمة كما أخبرنا ربنا جل وعلا عنهم، وفعلوا ذلك من أجل أن يفتنوا هذا الإنسان وهؤلاء الستين راكباً ليخبروا الأمة بعد ذلك بأنه إذا وقع فيك ضر فالجأ إلى الشيخ عبد القادر ولا تلجأ إلى الله القوي القادر سبحانه وتعالى.

ثم قلت: أنا أعجب من عقلك وأنت تحكي هذه القصة، أنت تقول: استغاث بالله فما أجابه، واستغاث بالشيخ عبد القادر فأجابه، فهل صار الشيخ عبد القادر أرأف وأرحم وألطف وأبر بالعباد من رب العالمين سبحانه وتعالى؟ قال: لا، الله هو أرحم لكن كل شيء له باب وله مفتاح، فمفتاح رب العالمين أولياؤه فنلجأ إليهم من دونه، وهم بعد ذلك واسطة بيننا وبين الله جل وعلا.

وهذا قول المشركين قبل بعثة نبينا الأمين عليه صلوات الله وسلامه، حيث كانوا يلجئون إلى هذه الوسائط من أجل أن يقربوهم إلى الله زلفى، فهنا استغاث وحصل له كما يقول الشيخ ابن تيمية شيطان من أجل أن يضله.

قال الشيخ ابن تيمية عليه رحمة الله: وتارةً يأتون إلى من هو خال في البرية، وقد يكون ملكاً أو أميراً كبيراً، ويكون كافراً وقد انقطع عن أصحابه وعطش وخاف الموت، فيأتيه في صورة إنسي، فيسقيه ويدعوه إلى الإسلام، فيسلم على يديه، ثم يدله على الطريق، فيقول له: من أنت؟ فيقول: أنا فلان، ويكون من مؤمني الجن، أحياناً هذا يقع، يراه بعض مؤمني الجن منقطعاً في فلاة، فيتصلون به وقد يكون على معصية فينصحونه، ثم يقول له: من أنت؟ فيقول: أنا فلان، باسم بعض الشيوخ الصالحين من الإنس، وحتماً هو في هذا الإخبار مخطئ وأخبر بخلاف الحقيقة كما سيأتينا، فهي معصية جرت منه مع المعونة التي قدمها.

قد لا يقع من الإنسي طلب معونة من الجني، لكن الجني يتطوع لإحضار المطلوب للإنسي دون أن يطلب منه من أجل أن يستدرجه، ومن أجل أن يوقعه في الشرك، وهذا حصل بكثرة لكثير من أئمتنا لكن ليقظتهم وبصيرتهم وقوة إيمانهم ما راجت عليهم هذه التلبيسات.

فمن ذلك ما ذكره أئمتنا الكرام في ترجمة شيخ الإسلام الشيخ عبد القادر الجيلاني عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا، وقد توفي سنة واحدة وستين وخمسمائة للهجرة، وهو من شيوخ أهل السنة الصالحين، ومن العلماء الربانيين، يقول الإمام ابن رجب في الذيل على طبقات الحنابلة في ترجمته في الجزء الأول صفحة تسعين ومائتين إلى صفحة واحدة وثلاثمائة ترجمه في إحدى عشرة صفحة، يقول: انتصر أهل السنة لظهوره؛ لأنه كان شيخ أهل السنة في زمانه، وتقدم معنا أن الإمام ابن قدامة عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا لما ذهب إلى بغداد تتلمذ عليه وتلقى العلم منه، وكان يقول: إذا تواترت الكرامات عن أحد فتواترها عن الشيخ عبد القادر عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا، ولذلك يقول ابن رجب الحنبلي : انتصر أهل السنة بظهوره، وهو من العلماء الربانيين، وممن تأدب بآداب الشرع القويم، ومع ذلك كان إذا حصل منه شيء أحياناً يظهر له النبي عليه الصلاة والسلام في الرؤيا فيوجهه بالتي هي أكمل.

جاءه مرةً بعض طلبة العلم وألح عليه في الأسئلة بحيث اغتاظ الشيخ وغضب وقال: ليس الآن وقت أسئلة اسكت، فلما ذهب نام الشيخ، فرأى النبي عليه الصلاة والسلام يقول له: يا عبد القادر ! أنت معلم الخير، فلا ينبغي أن تغضب وإن ألح، عليك بالرفق، فاستيقظ من نومه مباشرةً وأرسل إلى هذا التلميذ وقال له: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم وعاتبني فيك، فماذا عندك؟ سلني عنه، وهذا أدب نبوي شريف، والله يقول لنبيه عليه صلوات الله وسلامه: وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران:159] ، وما كان يزيده جهل الجاهل، ولا سفاهة السفيه إلا حلماً، وقد شهد الله له بأنه على خلق عظيم، وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم:4] عليه صلوات الله وسلامه.

هذا الشيخ المبارك الإمام الرباني الشيخ عبد القادر الجيلاني عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا يخبر عن نفسه كما في الذيل على طبقات الحنابلة صفحة أربع وتسعين ومائتين، قال الإمام ابن رجب : وهذه قصة مشهورة عنه.

خلاصتها: أنه كان في سفر مع بعض أصحابه فاشتد عليه العطش، وكان الوقت حاراً، فأظلتهم سحابة، ثم نزل منها ما يشبه الندى والرطوبة حتى ارتووا، ثم خرج من تلك السحابة نور تبعه دخان وفيه صوت ينادي: يا عبد القادر ! أنت عبدي وأنا ربك، وقد أحللت لك المحرمات، فقال الشيخ عبد القادر عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا: اخسأ يا لعين، فقال له من معه: كيف عرفت أنه اللعين وأنه الشيطان الرجيم؟ قال: من قوله: أحللت لك المحرمات، كيف يحل الله ما حرم على عباده؟ وما حرم علينا إلا لما فيه من ضرر، فكيف إذاً يحل لي؟ ثم سمع صوتاً آخر يناديه من هذه السحابة التي خرج منها نور وتبعه دخان يقول: يا عبد القادر ! لقد أضللت كثيراً من العباد بمثل هذا الفعل، لكن ما استطعت أن أضلك ليقظتك ولعلمك، قال: هذا بفضل الله لا بعلمي يا لعين، والله هو الذي منّ علي بهذا وهو خير الحافظين، ونسأله ألا يكلنا إلى أنفسنا طرفة عين، فمن وكل إلى نفسه هلك، ومن وكل إلى الخلق ضاع، ومن وكل إلى الله فهو في حفظ عظيم.

وهنا لم يطلب الشيخ عبد القادر عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا معونةً من الجن، وما اتصل به جني وقال: أريد أن تحضر لي قربةً من الماء، وإنما الشياطين فعلوا هذا من أجل إضلال هذا الشيخ وإضلال الناس به.

وهذا يفعله الجن أحياناً مع كثير من العباد، بل يفعلون مثل هذا مع الكفار ليزيدوهم كفراً على كفرهم، والشيخ ابن تيمية عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا كان يخبر عن نفسه أنه كثيراً ما كانت تتشكل الجن بصورته، أحياناً للمؤمنين وأحياناً للكافرين، أما المؤمنون فمن أجل أن يساعدوا أصحاب الإمام ابن تيمية، وأما الكافرون فمن أجل أن يحصل بذلك إضلال وفتنة لهذا الشيخ الإمام، وفي مجموع الفتاوى في عدة أماكن في الجزء الحادي عشر صفحة تسع وثلاثمائة ذكر حوادث لتشكل الجن بصورته وهو غائب في مكان فيتشكلون في مكان آخر ويقضون حاجة بعض الناس هناك على أن الفاعل هو الشيخ ابن تيمية وهو في مكان آخر، فهو في بلاد مصر ويتشكل الجني بصورته في بلاد الشام، ويقضي حاجة بعض عباد الرحمن، وذكر هذا في الجزء التاسع عشر صفحة سبع وأربعين، وذكره في الجزء الثالث عشر صفحة اثنتين وتسعين.

يقول عليه وعلى أئمتنا رحمة رب العالمين: وكثيراً ما يستغيث الرجل بشيخه الحي أو الميت، فيأتونه في صورة ذلك الشيخ، وأحياناً لا يوجد استغاثة كما ستسمعون، وقد يخلصونه مما يكره، فلا يشك أن الشيخ نفسه جاء، أو أن ملكاً تصور بصورته وجاءه، ولا يعلم أن ذلك الذي تمثل له إنما هو الشيطان، وأنه لما أشرك بالله أضلته الشياطين، والملائكة لا تطلب منه أن يشرك، وعندما استغاث بميت ولجأ إليه وقال: يا شيخ عبد القادر : فرج كربي، يا رسول الله -عليه الصلاة والسلام- أغثني، يا أبا بكر اكشف عني ضري، رضي الله عن أبي بكر وعن الصحابة أجمعين، فعندما فعل هذا واستغاث هذه الاستغاثة الشركية جاءه الشيطان مباشرةً وقضى له حاجته يريد أن يضله وأن يثبته على هذا الشرك، وإذا نزل به ضر لجأ إلى المخلوق مرةً ثانية، في البداية لا بد من طعم يطعمه من أجل أن يخرجه من دين الله، فإذا استحكم بعد ذلك منه أنه مشرك فإنه لا يقضي حاجاته بعد ذلك؛ لأنه قبض عليه وأدخله القفص.

وذكرت في بعض المواعظ أن بعض الناس في بلاد الشام ذكر لي مرةً قصة من القصص وله شأن من حيث المكانة والشهادات في هذه الأيام، وقال لي: أنتم لا تؤمنون بكرامات الأولياء، قلت: للأولياء كرامات ويوجد تخريف ففرق بين الأمرين، فقال: أنا أحكي لك قصة هل تؤمن بها؟ قلت: اذكر، يقول: كان بعض الناس يقود سيارةً من الأتوبيسات الباصات الكبيرة التي تسع ستين فما يزيد من سيارات الأجرة، يقول: كان وهو في طريق النزول من اللاذقية إلى حلب وهي طريق كلها مرتفعات جبال ووديان، يقول: فلما علوا جبلاً ونزل في الوادي وهو مزفت ولم يبق فرامل في السيارة، يضع رجله على الكابح والسيارة لا تقف، وبدأت تهوي كأنها الريح، قال: فبدأ ينادي: يا ألله يا ألله يا ألله! فما أحد أجابه ولا وقفت السيارة، فالتفت إلى الشيخ عبد القادر وقال: يا شيخ عبد القادر ! أنا في جوارك، أنا في حماك، أغثني.. تداركني قال: فما شعر إلا بالسيارة وقفت، وسمع صوتاً يناديه: أما تستحي أتعبتني من بغداد إلى بلاد الشام، وعندك في بلاد الشام في حلب واللاذقية ودمشق أولياء كثر لم لم تستنجد بواحد منهم وتلجأ إليه؟ يريد الشيطان أن يضله بهؤلاء وبأولئك، قال لي: هذه تؤمن بها أم لا؟ قلت: لها عندي حالتان:

الحالة الأولى: الغالب أنها مكذوبة، والناس يتناقلون كثيراً من الأخبار الشركية التي لا حقيقة لها، ولو تتبعت السند لوجدت أنه ما وقع ولا حصل شيء من ذلك، وهذا يقع بكثرة، ثم يأتي الشيطان فينشر بين الناس كذباً ويحكي أكذوبة فيتناقلها الناس ولا حقيقة لها.

قلت: وعلى التنزل والتسليم أنها وقعت، فلعل الجن هم الذين أمسكوا الأتوبيس، ولهم قوى عظيمة كما أخبرنا ربنا جل وعلا عنهم، وفعلوا ذلك من أجل أن يفتنوا هذا الإنسان وهؤلاء الستين راكباً ليخبروا الأمة بعد ذلك بأنه إذا وقع فيك ضر فالجأ إلى الشيخ عبد القادر ولا تلجأ إلى الله القوي القادر سبحانه وتعالى.

ثم قلت: أنا أعجب من عقلك وأنت تحكي هذه القصة، أنت تقول: استغاث بالله فما أجابه، واستغاث بالشيخ عبد القادر فأجابه، فهل صار الشيخ عبد القادر أرأف وأرحم وألطف وأبر بالعباد من رب العالمين سبحانه وتعالى؟ قال: لا، الله هو أرحم لكن كل شيء له باب وله مفتاح، فمفتاح رب العالمين أولياؤه فنلجأ إليهم من دونه، وهم بعد ذلك واسطة بيننا وبين الله جل وعلا.

وهذا قول المشركين قبل بعثة نبينا الأمين عليه صلوات الله وسلامه، حيث كانوا يلجئون إلى هذه الوسائط من أجل أن يقربوهم إلى الله زلفى، فهنا استغاث وحصل له كما يقول الشيخ ابن تيمية شيطان من أجل أن يضله.

قال الشيخ ابن تيمية عليه رحمة الله: وتارةً يأتون إلى من هو خال في البرية، وقد يكون ملكاً أو أميراً كبيراً، ويكون كافراً وقد انقطع عن أصحابه وعطش وخاف الموت، فيأتيه في صورة إنسي، فيسقيه ويدعوه إلى الإسلام، فيسلم على يديه، ثم يدله على الطريق، فيقول له: من أنت؟ فيقول: أنا فلان، ويكون من مؤمني الجن، أحياناً هذا يقع، يراه بعض مؤمني الجن منقطعاً في فلاة، فيتصلون به وقد يكون على معصية فينصحونه، ثم يقول له: من أنت؟ فيقول: أنا فلان، باسم بعض الشيوخ الصالحين من الإنس، وحتماً هو في هذا الإخبار مخطئ وأخبر بخلاف الحقيقة كما سيأتينا، فهي معصية جرت منه مع المعونة التي قدمها.

يقول الإمام ابن تيمية : كما جرى مثل هذا لي، كنت في مصر في قلعتها، وجرى مثل هذا عند كثير من الناس من ناحية المشرق وكان في بلاد الشام، قال له ذلك الشخص: أنا ابن تيمية ، فلم يشك ذلك الأمير أني أنا هو، وأخبر بذلك ملك ناربين، قال له: ظهر علي الإمام ابن تيمية وقضى حاجتي وأنا في برية والإمام ابن تيمية في مصر، وأرسل ملك ناربين بذلك إلى مصر رسولاً، وكنت في الحبس فاستعظموا ذلك، وأنا لم أخرج من الحبس، ولكن كان هذا جنياً يحبنا، فيصنع بالتتار مثلما كنت أصنع بهم -لما جاء إلى دمشق يقول: كنت أدعوهم إلى الإسلام، فإذا نطق أحدهم بالشهادتين أطعمته ما تيسر- فعمل هذا الجني مثل ما كنت أعمل، فلما خرجت من بلاد الشام بدأ يتصور الجني بصورتي ويدعوهم إلى الإسلام، فإذا آمنوا أطعمهم وأحسن إليهم، فهم يقولون: اهتدينا على يد الإمام ابن تيمية وأطعمنا الإمام ابن تيمية ، ولما فعلوا هذا مع بعض أمراء التتار، نقل هذا لملك ناربين فاتصل بأمير مصر وحاكمها وقال: تقولون ابن تيمية عندكم في السجن وهو في بلاد الشام يتصل بأمراء التتار ويصوبهم ويطعمهم ويحسن إليهم؟! يقول: وأراد الجني بذلك إكرامي ليظن ذاك أني أنا الذي فعلت ذلك.

قال لي طائفة من الناس -وما زال الكلام للإمام ابن تيمية- : فلم لا يجوز أن يكون ملكاً من الملائكة؟ قلت: لا، إن الملك لا يكذب، لو نزل ملك وأعان لا يقول: أنا ابن تيمية وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ [المدثر:31] يقول: أنا من جنود الذي يجيب المضطر إذا دعاه، أما أن يقول: أنا ابن تيمية فلا يمكن، وهذا قد قال: أنا ابن تيمية وهو يعلم أنه كاذب في ذلك.

يقول: وكثير من الناس من قال: رأيت الخضر وإنما رأى جنياً، ثم ذكر أن الناس انقسموا إلى قسمين: من يقول: إنه يرى الخضر ، وفريق يكذب، قال: هؤلاء يكذبون، الخضر مات من زمن، وفريق صدقوه وقالوا: إن الخضر حي، يقول: وكلا الفريقين على خطأ، والواقع أن جنياً تشكل بصورة الخضر وأخبر من ظهر عليه أنه هو الخضر .

يقول الإمام ابن تيمية : والقصص في ذلك متواترة، وهذا منقول عن الصالحين بكثرة أنهم اجتمعوا مع الخضر والاجتماع إنما كان في الحقيقة مع جني، قال: أنا الخضر ، فهم ظنوا أن الخضر حيٌ وأنهم اجتمعوا به، وهم واهمون في ظنهم، ومن كذبهم أيضاً واهم في تكذيبه، إنما الحقيقة أنه ظهر جني وأخبر أنه هو الخضر واجتمع مع هؤلاء، فظنوا أن الاجتماع حصل بـالخضر وليس كذلك.

والمعتمد وهو أظهر القولين: أن الخضر نبي من أنبياء الله على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه، وقيل: إنه كان من مؤمني الجن، وقيل: إنه ملك.

يقول الحافظ ابن حجر عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا في الزهر النضر في أخبار الخضر : ولو ثبت أنه ملك لارتفع كل إشكال حوله، والذي يظهر أنه نبي؛ لأنه يقول: وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي [الكهف:82]، وقال الله في حقه: فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا [الكهف:65] ، وهذا عن طريق ما أوحى الله به إليه كما يوحي إلى أنبيائه ورسله على نبينا وعليهم جميعاً صلوات الله وسلامه.

فأقوى الأقوال: أن الخضر نبي، وقد مات بعد أن عاش فترةً في الزمن الخالي، وما يحكى بعد ذلك من بقائه في هذه الأمة، وقصصه التي جنسها متواتر من إخبار كثير من الناس أنهم اجتمعوا معه لو ثبت ذلك فهو محمول على أنهم اجتمعوا بجني قال: إنه هو الخضر .

ولا يعين الجني الكافر إنساناً إلا إذا كان يعصي الله، أو طمع الجني الكافر بمعصية ذلك الإنسان.

تقدم معنا أن التكليف مشترك بين الإنس والجن، ونبينا عليه الصلاة والسلام هو رسول إلى الإنس والجن، وهم مكلفون بالإيمان وبشرائع الإسلام كما كلفنا؛ ولذلك يحضر أحياناً من مؤمني الجن دروس الوعظ وحلق العلم أكثر مما يحضر من الإنس، وهذا ثابت في العصور الماضية وهو باق في العصور المتأخرة، والسبب أن الإمكانيات التي عند الإنس من ناحية الاطلاع على شريعة الله تكون مذللةً أكثر مما هو عند الجن، فهم يتعلمون بواسطة الإنس، ولذلك إذا تعلم جني يعلم، لكن أصل العلم في الإنس.

يذكر الإمام غندر وهو محمد بن جعفر وكان محدث بخارى، وتوفي غندر سنة اثنتي عشرة وأربعمائة للهجرة، وله ترجمة في سير أعلام النبلاء في الجزء السابع عشر صفحة أربع وثلاثمائة يذكر في تاريخه في ترجمة العبد الصالح محمد بن سلام البخاري البيكندي ، محمد بن سلام بالتخفيف وقيل: بالتثقيل، والأصح كما قال أئمتنا: بالتخفيف محمد بن سلام ، وهو من رجال الكتب الستة، ثقة إمام عدل رضا مخرج له في الكتب الستة، توفي سنة خمس وعشرين ومائتين للهجرة، وترجمه الإمام البخاري في التاريخ الكبير في الجزء الأول صفحة عشر ومائة.

وقال الحافظ في ترجمته في التقريب: ثقة ثبت، يقول غندر : كان مرةً في بيته فطرق عليه شخص الباب ففتح فإذا بشيخ كبير وقور، قال له: أنا من الجن، وقد أرسلني ملك الجن إليك، وهو يسلم عليك ويقول لك: لا يكون لك مجلس إلا ويكون منا في مجلسك أكثر من الإنس، فلا تفتر عما أنت فيه وعليه، وهذه القصة كما قال عنها أئمتنا: حكاية مستفيضة مشهورة، انظروها في سير أعلام النبلاء في الجزء العاشر صفحة تسع وعشرين وستمائة، وانظروا ترجمة محمد بن سلام أيضاً في تهذيب التهذيب في الجزء التاسع صفحة ثلاث عشرة ومائتين.

إذاً الجن يستوون معنا في التكليف، فإذا كان كذلك فالمناكحة فيما بينهم ثابتة واقعة قطعاً وجزماً كالمناكحة فيما بيننا، ثم إن المناكحة بيننا وبينهم أيضاً ممكنة، بل وواقعة، لكن ما حكمها في الشرع؟ هذه ثلاثة أمور سنبحثها.

وقوع التناكح بين الإنس والجن عن طريق الحلال أو الحرام كالزنا أو اللواط كل هذا ممكن، ثم ما حكم الحلال من ذلك في شريعة الله؟ إذا قلنا: إن التناكح بيننا وبينهم جائز فهل يصح أن يتزوج الإنسي جنية والعكس؟ ذهب إلى الجواز بعض أئمة الإسلام كما سيأتينا، وأبين الراجح في هذه المسألة بعون الله جل وعلا.




استمع المزيد من الشيخ عبد الرحيم الطحان - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح الترمذي - باب الاستتار عند الحاجة، والاستنجاء باليمين، والاستنجاء بالحجارة [4] 4042 استماع
شرح الترمذي - باب ما جاء في فضل الطهور [6] 3975 استماع
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [9] 3904 استماع
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [46] 3785 استماع
شرح الترمذي - مقدمات [8] 3784 استماع
شرح الترمذي - باب مفتاح الصلاة الطهور [2] 3769 استماع
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [18] 3565 استماع
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [24] 3481 استماع
شرح الترمذي - باب ما يقول إذا خرج من الخلاء [10] 3462 استماع
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [59] 3413 استماع