شرح الترمذي - باب الاستنجاء بالحجرين [9]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وعلى آله وصحابته أجمعين، أما بعد:

لا زلنا نقتطف الفائدة من أقوال ابن مسعود رضي الله عنه وحكمه، ومن ذلك ما رواه الإمام أحمد في مسنده عن عمرو بن وابصة الأسدي عن أبيه قال: (إني لبالكوفة في داري إذ سمعت على باب الدار: السلام عليكم، أألج؟ قلت: عليكم السلام. فلج. قال: فلما دخل فإذا هو عبد الله بن مسعود قلت: يا أبا عبد الرحمن ! أية ساعة زيارة هذه، وذلك في نحر الظهيرة. فقال عبد الله رضي الله عنه وأرضاه: طال علي النهار فتذكرت من أحدثه ويحدثني -أي: بأمور الخير نتناصح- فجئت إليك تحدثني وأحدثك نأوي إلى بعضنا، وإذا طال النهار على واحد منا فيتحمله صاحبه ويلجأ إليه. قال وابصة: فجعل يحدثني عن النبي عليه الصلاة والسلام وأحدثه، حتى قال -يعني عبد الله بن مسعود رضي لله عنه وأرضاه- : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: تكون فتنة النائم فيها خير من المضطجع، والمضطجع فيها خير من القاعد، والقاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الراكب، قتلاها كلها في النار). نسأل الله العافية.

فتنة تقع في الأمة كما قال نبينا عليه الصلاة والسلام: النائم فيها خير من المضطجع؛ لأنه في غفلة عما يقع، والمضطجع الذي هو متمدد على جنبه أو على ظهره، هذا أحسن من القاعد؛ لأنه بعيد عنها، ولا زال بينه وبينها فترة، ( والقاعد خير من القائم، والقائم خير من الماشي، والماشي خير من الراكب )؛ لأن ذلك أقرب إليها.

(قتلاها كلها) قتلى كل الفتنة في النار.

( قلت: يا رسول الله! ومتى ذلك؟) القائل هو عبد الله بن مسعود عندما تقع هذه الفتنة وقتلاها كلها في النار، كل من يقتل يقذف في النار فمتى ذلك؟ قال: ( أيام الهرج ) أي: الفتن والاختلاط والفساد. (قلت: ومتى أيام الهرج؟) متى تقع؟ قال: ( حين لا يأمن الرجل جليسه ). سبحان ربي العظيم!

فوالله كأنه ينظر إلى زماننا.

(لا يأمن الرجل جليسه) كل فتنة تقع بين المسلمين القاتل والمقتول إلى سجين حين لا يأمن الرجل فيها جليسه، وصل الأمر في بعض البلاد الإسلامية أن الأب لا يأمن ابنه، والزوج لا يأمن زوجه، والأخ لا يأمن أخاه، والناس في رعب وخوف لا يعلمه إلا الله.

ففي إحصائية الدول عدد أفراد المخابرات أكثر من عدد أفراد الجيش الذي يحمي البلاد على تعبيرهم.

المخابرات على من؟ على عباد الله، تبحث عنهم، ماذا يتكلمون؟ وماذا يقولون؟ ( لا يأمن الرجل جليسه).

وأقول لكم: يعلم الله الذي لا تخفى عليه خافية، عندما استدعيت إلى بعض الأماكن وحقق معي في بعض الأمور، أحياناً أتكلم بكلام مع بعض الناس ثالثنا رب الناس فقط، كيف وصل هنا؟ لا أدري.

وفي آخر المواقف: بعض الناس من الدعاة تبين أنه يكتب تقارير يتقرب بها إلى الشيطان الرجيم، ولما اكتشف في بعض القضايا الظاهرة، قال: هم يطلبون مني الحقيقة وأنا لست في هذا المسلك. قلت: يا عبد الله! بالنسبة للقصة التي جرت وفيها كذا وكذا وفيها كشف للحال، صحيحة؟ قال: صحيحة لكني خدعت وعملت هذا وكتبته لا من باب قصد الشر. قلت: يا عبد الله! أما أنا فوقع قدر الله بالفراق لكن أنت إن اعتديت عليه فقط فأنا المتهم، لكن إذا كان هذا الاعتداء على دين الله، وأنت تكذب فيما تقول فبقي موقف أمام العزيز الغفور سبحانه، أما أنك الآن تعتذر وتقول: خدعت، وتريد أن أسامحك. فلن أسامحك وإذا خدعت فالواقع لعله خلاف هذا.

وإذا رأيت صورته والله تقول: إنه بشر الحافي أو سفيان الثوري وهو يكتب تقارير؛ من أجل دريهمات يتقرب بها إلى الشيطان الرجيم.

تقارير عمن؟ عن عباد الله في بيوت الله، هؤلاء فقط، وأنه ذهب إلى هنا وجاء إلى هنا، وتكلم هنا كلمة.

وقد ثبت في صحيح مسلم وغيره من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (والذي نفسي بيده ليأتين على الناس زمان لا يدري القاتل فيم قتل ولا المقتول فيم قتل). أول الهرج فتنة، القاتل لا يدري لم قتل. يقول: أمر.

تريق دماء المسلمين على أنك أمرت! وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ [التوبة:62] هذه أحوالنا، (القاتل والمقتول في النار).

( قتلاها كلها في النار). متى ذلك؟ أيام الهرج، ومتى أيام الهرج؟ قال: (حين لا يأمن الرجل جليسه). فبعض من يسلك مسلك طلبة العلم يتحقق فيه هذا الوصف على وجه التمام، فيتأكد هل جاء لرفع التقارير أم جاء زيارة لله الجليل. حقيقة أنت لا تعرف الحقيقة.

صار في منتهى الالتباس. لا تسيء الظن بأحد، لكن مع ذلك تبقى محترساً، ما قصده بالزيارة؟

(لا يأمن الرجل جليسه) والذي يسيطر على الناس الخيانة، والغدر، والكيد، والمكر إلا ما رحم ربك.

وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم لابن مسعود إذا أدرك الفتن

قال عبد الله بن مسعود لنبينا المحمود على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه حينما حدثه بحديث الفتنة: (فماذا تأمرني يا رسول الله إن أدركت ذلك) أي: أيام الهرج حين لا يأمن الرجل جليسه، قال: (اكفف نفسك ويدك)، لا تشارك في هذه الفتنة لا مع هذا ولا مع هذا، ( واسكن في دارك. قلت: يا رسول الله! أرأيت إن دخل علي داري؟) دخل إلى ساحة الدار، إلى عرصتها قال: ( فادخل بيتك) أي: الحجرة الداخلية واترك له الدار.

( قلت: يا رسول الله! فإن دخل بيتي قال: فادخل مسجدك)، والمسجد المراد منه مكان مخصص للصلاة، بعض الحجر، وكأنك تقول: أنا الآن في مسجد آمن لا أريد أن أقاتل، ولا أريد أن أدخل في مشكلة.

اترك له البيت، واذهب إلى المسجد الذي تصلي فيه حتى تنجو (قلت: يا رسول الله! فإن دخل علي مسجدي) يطاردني، هربت إلى البيت فتبعني، تركت البيت إلى المسجد فتبعني، فقال عليه الصلاة والسلام: (فاصنع هكذا، وقبض بيمينه على الكوع)، يعني حالته كحالة المصلي: (اصنع هكذا) كأنك مقيد لا تستطيع أن تحرك نفسك (اصنع هكذا -وقبض بيمينه على كوعه- وقل: ربي الله حتى تموت على ذلك). فإذا كانت فتن فإياك أن تشارك في الفتنة! وإذا كان لابد من قتلك فأن تموت وأنت مظلوم أحسن من أن تشارك في فتنة تكون فيها إمعة، فكم تقتل من أولياء الله وعباد الله، وإماء الله وأنت لا تدري؟ من أجل تكريس كرسي فلان وعرش فلان، سبحان الله! تبيع دينك بدنيا غيرك؟

موقف الحسن البصري في فتنة القراء

رضي الله عن الحسن البصري عندما وقعت الفتنة والخروج على بني أمية في عهده عندما خرج على عبد الملك بن مروان ، وفتنة القراء الذين خرجوا على الحجاج وكان في مسجد البصرة يحدث، فقام رجل من غوغاء أهل الشام يريد فتنة، وهذه عادة أكثر السائلين إلا ما رحم ربك، فقال: أبا سعيد مع من نكون؟ قال: لا تكن مع هؤلاء ولا مع هؤلاء. إنما هي فتن، يقتتلون على الدنيا.

فهذا الغوغائي رفع صوته من أجل أن يمسك إدانة على الحسن البصري فتقطع رقبته، قال: ولا نكون مع أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان الخليفة. فصاح بأعلى صوته: ولا مع أمير المؤمنين. لا تكن مع أحد يا عبد الله، لا تبع دينك بدنيا غيرك، لا مع هؤلاء ولا مع هؤلاء واكفف نفسك ويدك وادخل دارك، فإن دخل إلى دارك فادخل إلى بيتك، فإن دخل إلى بيتك فاذهب إلى مسجدك، فإن تبعك فضع يمينك على كوعك وقل: ربي الله حتى تموت وأنت على ذلك.

نسأل الله أن يثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة.

أهمية الوصية النبوية لابن مسعود في هذا الزمن

ومثل هذه التوجيهات لابد من وعيها في هذا الزمن الذي هو زمن الهرج، كما قال عبد الله بن مسعود فيما نقله عن نبينا المحمود عليه الصلاة والسلام، وهذا الزمن الذي تحقق فيه معنى الإمعة على وجه التمام والكمال، إمعة كيفما سار الناس يسير معهم.

يا عبد الله! وطن نفسك.. دينك دينك!! هذا أغلى شيء عندك في حياتك، فإذا قطعت الرقبة وسلم الدين فهنيئاً لك، لكن إذا ضاع الدين وسلمت الرقبة فشقاء لك .. الموت لابد منه، سواء مت بقطع الرقبة، أو مت على الفراش، مت الآن أو بعد مائة سنة لابد منه: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ [آل عمران:185].

من قريب لعله من قرابة شهر أو نحوه، عات من عتاة أمريكا الذي كان رئيس الولايات المتحدة الأمريكية انتقل إلى سخط الله وغضبه ولعنته، أذيع هذا في الأخبار فقلت: سبحانك ربي، سبحانك، أنت قهار العباد وقاهرهم، أعتى طاغوت على وجه الأرض يقود ويتصرف الآن في العالم كما يتصرف الإنسان بخاتمه الذي في يده، يأتيه ملك الموت يهزه هزة فيصبح جثة هامدة كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ [القمر:20]، انتهى وما بقي أحد يستطيع أن يزيد في حياته لحظة واحدة، سبحانك ربي ما أعظمك! إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ [مريم:40]، كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ [آل عمران:185] ، كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ [الرحمن:26] فإذا قطعت الرقبة وسلم الدين فهنيئاً لك، لكن إذا عكس الأمر فشقاءً لك، إذا سلمت الرقبة وضاع الدين فهذا هو الخسران المبين: قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ [الزمر:15] .

فانتبه لهذا! (القاتل والمقتول في النار) والقاتل لا يدري فيم قَتل والمقتول لا يدري فيم قُتل، وهذا حالنا.

والحديث الذي ذكرته في صحيح مسلم من رواية أبي هريرة وكذا في المسند والمستدرك وسنن أبي داود ومعجم الطبراني الكبير من رواية عبد الله بن مسعود ، وقد أخبرنا نبينا صلى الله عليه وسلم عن مثل هذا في أيام الفتن، وأن الناس يستفتون في إراقة الدماء، وليتهم إذا قتلوا تابوا، إنما يزين لهم سوء عملهم فيقتلون ويضربون ويفرحون ويتلذذون ويفتخرون بأنهم ضربوا وقتلوا وعادت -كما يقال- إلى القواعد سالمة.

أخبرنا نبينا عليه الصلاة والسلام عن مثل هذا الأمر كما في سنن أبي داود ومستدرك الحاكم من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من قتل مؤمناً فاغتبط بقتله لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً )، فاغتبط بالغين المعجمة. أي: فرح. وضبط بالعين المهملة اعتبط. أي: قتله اعتباطاً بغير حق، والضبطان مرادان فاجمع بينهما، قتله بغير حق ثم فرح بقتله.

قال يحيى الغساني أحد رواة الحديث: هذا كما يكون في الفتن التي تقع بين المسلمين يقتل بعضهم بعضاً ولا يتوبون.

ولو أنه قتله كما يقع في الخصومة بين اثنين على أرض أو على مال أو على امرأة، لقال: أنا أجرمت وقتلت، لكن هنا يزين لهم سوء عملهم فيقتل بعضهم بعضاً ولا يتوبون ( من قتل مؤمناً فاعتبط بقتله لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً )، أي: فريضة ولا نافلة، والحديث في سنن أبي داود ومستدرك الحاكم ، وإسناده صحيح كالشمس وضوحاً، من رواية عبادة بن الصامت رضي الله عنهم وأرضاهم.

قال عبد الله بن مسعود لنبينا المحمود على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه حينما حدثه بحديث الفتنة: (فماذا تأمرني يا رسول الله إن أدركت ذلك) أي: أيام الهرج حين لا يأمن الرجل جليسه، قال: (اكفف نفسك ويدك)، لا تشارك في هذه الفتنة لا مع هذا ولا مع هذا، ( واسكن في دارك. قلت: يا رسول الله! أرأيت إن دخل علي داري؟) دخل إلى ساحة الدار، إلى عرصتها قال: ( فادخل بيتك) أي: الحجرة الداخلية واترك له الدار.

( قلت: يا رسول الله! فإن دخل بيتي قال: فادخل مسجدك)، والمسجد المراد منه مكان مخصص للصلاة، بعض الحجر، وكأنك تقول: أنا الآن في مسجد آمن لا أريد أن أقاتل، ولا أريد أن أدخل في مشكلة.

اترك له البيت، واذهب إلى المسجد الذي تصلي فيه حتى تنجو (قلت: يا رسول الله! فإن دخل علي مسجدي) يطاردني، هربت إلى البيت فتبعني، تركت البيت إلى المسجد فتبعني، فقال عليه الصلاة والسلام: (فاصنع هكذا، وقبض بيمينه على الكوع)، يعني حالته كحالة المصلي: (اصنع هكذا) كأنك مقيد لا تستطيع أن تحرك نفسك (اصنع هكذا -وقبض بيمينه على كوعه- وقل: ربي الله حتى تموت على ذلك). فإذا كانت فتن فإياك أن تشارك في الفتنة! وإذا كان لابد من قتلك فأن تموت وأنت مظلوم أحسن من أن تشارك في فتنة تكون فيها إمعة، فكم تقتل من أولياء الله وعباد الله، وإماء الله وأنت لا تدري؟ من أجل تكريس كرسي فلان وعرش فلان، سبحان الله! تبيع دينك بدنيا غيرك؟