شرح الترمذي - باب الاستنجاء بالحجرين [8]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى جميع الأنبياء والمرسلين, ورضي الله عن الصحابة الطيبين, وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً، سهّل علينا أمورنا، وعلمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الراحمين.

اللهم زدنا علماً نافعاً، وعملاً صالحاً بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين.

سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك، سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك.

اللهم صلِّ على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:

إخوتي الكرام! لا زلنا نتدارس ترجمة سيدنا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه، وتقدم معنا أن ترجمته الطيبة المباركة ستدور حول ثلاثة أمور:

أولها: فيما يتعلق بنسبه وصلته بنبينا على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه.

وثانيها: في منزلة عبد الله بن مسعود العلمية, وقد تقدم الكلام على هذين الأمرين.

والأمر الثالث: شرعنا في مدارسته وما أكملناه, ولعلنا ننتهي منه في هذه الموعظة المباركة بإذن الله, وبذلك نكون قد انتهينا من ترجمة هذا الصحابي الجليل المبارك.

الجانب الثالث كما قلت: لمحة لأقواله المحكمة الحكيمة وإرشاداته القيمة القويمة, وقد طالت ترجمته كما تقدمت معنا، ويعلم الله ما كان في نيتي أن تكون هكذا، وكنت أتوقع أن ننتهي منه في موعظة واحدة، ولكن قدّر الله وما شاء فعل. وعلى كل حال نحن ما زلنا في ترجمته, وقد تقدم معنا منزلته في الإسلام.

والأمر وإن طال فهو كثير قليل في حق هذا الصحابي الجليل, رضي الله عنه وعن الصحابة أجمعين.

وكنت قدّمت في ترجمته وفي ترجمة غيره من أصحاب نبينا على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه, أن مدارسة أخبار الصحابة دين نتقرب به إلى رب العالمين.

واسمعوا إلى هذه القصة الطريفة التي يذكرها الإمام الذهبي , ويرويها عن حبرين عالمين صالحين من علماء التابعين، ألا وهما: صالح بن كيسان , والثاني: محمد بن شهاب الزهري عليهم جميعاً رحمة الله.

والقصة أوردها الإمام الذهبي في ترجمة صالح بن كيسان في الجزء الخامس صفحة 455 من سير أعلام النبلاء، وعند ذكر هذا الكتاب, كتب لي بعض الإخوة في الليلة الماضية من بعض البلاد, وقال: حدثنا عن هذا الكتاب لكثرة ما أنقل عنه، فنسأل الله جل وعلا أن يرحم أئمتنا, وأن يجزيهم عنا خيراً.

والقصة أوردها الذهبي في هذا المكان -كما قلت- في الجزء الخامس صفحة 455 في ترجمة صالح بن كيسان : وهو ثقة ثبت عدل رضا، حديثه مخرجٌ في الكتب الستة، وكان شديد الصلة بالخليفة الراشد الخامس عمر بن عبد العزيز رضي الله عنهم أجمعين، وقد كان عمر يعهد إليه بتأديب أولاده وتربيتهم, رضي الله عنهم أجمعين.

وكان يقول له: ليكن أول ما يعتقدون من أدبك بغض الغناء, الذي بدايته من الشيطان, وعاقبته سخط الرحمن.

وكان صالح بن كيسان رضي الله عنه من شيوخ المسلمين، وقد رأى عبد الله بن عمر فهو من التابعين رضوان الله عليهم أجمعين، وقد توفي سنة 130هـ، وقيل: 140هـ.

وأما ابن شهاب الزهري فهو محمد بن مسلم بن شهاب الزهري أمير المؤمنين في الحديث، وتقدم معنا أنه توفي سنة 125هـ أو قبلها بسنتين 123هـ.

اجتمع هذان التابعيان الجليلان الفاضلان، فاتفقا كما يقول صالح بن كيسان على أن يكتبا جميع حديث النبي عليه الصلاة والسلام، ممن كان حياً من الصحابة الكرام, ومن التابعين الذين تلقوا الأحاديث عن الصحابة عن نبينا الأمين, على نبينا وآله وصحبه جميعاً صلوات الله وسلامه.

يقول: فكتبنا كل حديث النبي عليه الصلاة والسلام، وهما ذلك الوقت في مكانهما حسب وسعهما.

فبعد أن فرغنا من ذلك قال لي محمد بن شهاب الزهري : هلم لنكتب آثار الصحابة الكرام، فقلت له: إن آثار الصحابة ليست سنة، قال: بلى إنها سنة.

قال صالح بن كيسان : فكتب محمد بن شهاب آثار الصحابة وأخبارهم ولم أكتبها، إنما اكتفيت بكتابة الحديث المرفوع إلى نبينا عليه صلوات الله وسلامه.

فأنجح محمد بن شهاب وأفلح، ووصل الأمر بـصالح بن كيسان في نهاية أمره أن تتلمذ على محمد بن شهاب الزهري من أجل معرفة آثار الصحابة ومعرفة أحكام الشريعة. وصالح بن كيسان أكبر سناً من محمد بن شهاب , عليهم جميعاً رحمة الله.

فتعلم -كما قلت إخوتي الكرام-! أخبار الصحابة, ومعرفة آثارهم هذا دين، نتقرب به إلى رب العالمين.

وكنت ذكرت مراراً في مباحث النبوة, وهي من الأمور التي يُعرف بها صدق الرسول, على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه النظر إلى حال أصحابه، هذا واحد من الأمور الأربعة؛ لأن التلاميذ صورة شيخهم، والصحابة أيضاً صورة من نبينا على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه.

فقد تقدم معنا ما في ترجمة عبد الله بن مسعود من الخير والبركة والنور والفضيلة, تقدم معنا ونكمل ترجمته إن شاء الله.

إخوتي الكرام! آخر شيء ذكرته في ترجمته, ونسبت القول إلى من خرّجه عنه أنه قال: من أحب الفاني أضر بالباقي، ومن أحب الباقي أضر بالفاني، فقال: أضروا بالفاني من أجل الباقي.

موافقة كلام ابن مسعود للكلام النبوي

وقلت: هذا الكلام كلام محكم لا يخلو من مشكاة النبوة، وقد قال نبينا عليه الصلاة والسلام نظيره، وما تلقى هذا المعنى عبد الله بن مسعود إلا من نبينا المحمود, على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه.

وقلت: ورد معنى هذا مرفوعاً عن نبينا عليه الصلاة والسلام، وكنت ذكرت الحديث أيضاً فيما مضى.

وقلت إخوتي الكرام: إن الحديث رواه الإمام أحمد في مسنده، والبزار أيضاً في مسنده، والطبراني في معجمه الكبير، وقال الإمام الهيثمي : رجاله ثقات، ورواه ابن حبان في صحيحه ، والحاكم في مستدركه، وابن أبي عاصم في كتاب الزهد، والبغوي في شرح السنة.

ورواه البيهقي كما تقدم معنا في السنن وفي شعب الإيمان وفي كتاب الزهد وفي كتاب الآداب.. في أربعة من كتبه عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من أحب دنياه أضر بآخرته، ومن أحب آخرته أضر بدنياه؛ فآثروا ما يبقى على ما يفنى ) . وقلت: نقل نظير هذا عن عمروعن غيره رضي الله عنهم أجمعين.

معنى إيثار الآخرة على الدنيا

وختمت الكلام في الموعظة الماضية إخوتي الكرام! بأمر ينبغي أن نعيه أيضاً في بداية هذه الموعظة، وهو أن معنى حب الآخرة وإيثارها على الدنيا أن نؤثر طاعة الله جل وعلا على هذه الحياة، كما أن معنى حب الدنيا وإيثارها على الآخرة أن نركن إليها, وأن نغفل عن الآخرة.

وليس معنى ذلك أن نتجرد من الدنيا، لا ثم لا، إنما نسأل الله أن يجعلها في أيدينا لا في قلوبنا، فإذا جاءت لا نفرح بها، وإذا ضلّت لا نحزن عليها، ونحمد الله جل وعلا على الحالتين، ونعم المال الصالح للرجل الصالح.

فليس معنى حب الآخرة وإيثارها على الدنيا أن نبتعد عنها، وأن لا يكون لنا مسكن ولا ملبس ولا زوجة ولا تجارة ولا ولا. لا، إنما يكون لنا هذه الأشياء، لكن لا نتصرف فيها إلا على حسب شريعتنا الغراء.

ولذلك اتفق أئمتنا الأتقياء على أن معنى قول العبد الصالح أبي سليمان الداراني : إذا أراد الله بعبد خيراً لم يشغله بمال وزوجة وولد. قالوا: ليس معنى هذا ألا يكون له هذه الأشياء، يعني: ليس عنده مال ولا زوجة ولا ولد، ولكن المعنى أن عنده مال وزوجة وأولاد، لكن لا يشغلونه عن طاعة رب العباد.

فالزوجة تعينه على الآخرة، والولد كذلك ينتفع به ويربيه ويحصّل من ورائه أجراً كثيراً، والمال يستعمله في طاعة الله, ويجعله مركباً إلى رضوان الله.

لكن من أحب الدنيا وآثارها على الآخرة فإنه سيترك المأمورات, ويرتكب المحظورات؛ من أجل أن يصل إلى الغاية الرديئة التي تطلع إليها, وهي: إيثار الدنيا على الآخرة.

كما قلت: هذا الكلام ينبغي أن نعيه تمام الوعي في معرفة حب الدنيا وحب الآخرة، وليس معنى حب الآخرة أن نتجرد من الدنيا، إنما معناه أن نؤثرها -كما قلت- على هذه الحياة.

وقلت: هذا الكلام كلام محكم لا يخلو من مشكاة النبوة، وقد قال نبينا عليه الصلاة والسلام نظيره، وما تلقى هذا المعنى عبد الله بن مسعود إلا من نبينا المحمود, على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه.

وقلت: ورد معنى هذا مرفوعاً عن نبينا عليه الصلاة والسلام، وكنت ذكرت الحديث أيضاً فيما مضى.

وقلت إخوتي الكرام: إن الحديث رواه الإمام أحمد في مسنده، والبزار أيضاً في مسنده، والطبراني في معجمه الكبير، وقال الإمام الهيثمي : رجاله ثقات، ورواه ابن حبان في صحيحه ، والحاكم في مستدركه، وابن أبي عاصم في كتاب الزهد، والبغوي في شرح السنة.

ورواه البيهقي كما تقدم معنا في السنن وفي شعب الإيمان وفي كتاب الزهد وفي كتاب الآداب.. في أربعة من كتبه عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من أحب دنياه أضر بآخرته، ومن أحب آخرته أضر بدنياه؛ فآثروا ما يبقى على ما يفنى ) . وقلت: نقل نظير هذا عن عمروعن غيره رضي الله عنهم أجمعين.

وختمت الكلام في الموعظة الماضية إخوتي الكرام! بأمر ينبغي أن نعيه أيضاً في بداية هذه الموعظة، وهو أن معنى حب الآخرة وإيثارها على الدنيا أن نؤثر طاعة الله جل وعلا على هذه الحياة، كما أن معنى حب الدنيا وإيثارها على الآخرة أن نركن إليها, وأن نغفل عن الآخرة.

وليس معنى ذلك أن نتجرد من الدنيا، لا ثم لا، إنما نسأل الله أن يجعلها في أيدينا لا في قلوبنا، فإذا جاءت لا نفرح بها، وإذا ضلّت لا نحزن عليها، ونحمد الله جل وعلا على الحالتين، ونعم المال الصالح للرجل الصالح.

فليس معنى حب الآخرة وإيثارها على الدنيا أن نبتعد عنها، وأن لا يكون لنا مسكن ولا ملبس ولا زوجة ولا تجارة ولا ولا. لا، إنما يكون لنا هذه الأشياء، لكن لا نتصرف فيها إلا على حسب شريعتنا الغراء.

ولذلك اتفق أئمتنا الأتقياء على أن معنى قول العبد الصالح أبي سليمان الداراني : إذا أراد الله بعبد خيراً لم يشغله بمال وزوجة وولد. قالوا: ليس معنى هذا ألا يكون له هذه الأشياء، يعني: ليس عنده مال ولا زوجة ولا ولد، ولكن المعنى أن عنده مال وزوجة وأولاد، لكن لا يشغلونه عن طاعة رب العباد.

فالزوجة تعينه على الآخرة، والولد كذلك ينتفع به ويربيه ويحصّل من ورائه أجراً كثيراً، والمال يستعمله في طاعة الله, ويجعله مركباً إلى رضوان الله.

لكن من أحب الدنيا وآثارها على الآخرة فإنه سيترك المأمورات, ويرتكب المحظورات؛ من أجل أن يصل إلى الغاية الرديئة التي تطلع إليها, وهي: إيثار الدنيا على الآخرة.

كما قلت: هذا الكلام ينبغي أن نعيه تمام الوعي في معرفة حب الدنيا وحب الآخرة، وليس معنى حب الآخرة أن نتجرد من الدنيا، إنما معناه أن نؤثرها -كما قلت- على هذه الحياة.

من أقوال عبد الله بن مسعود المحكمة الحكيمة القيّمة القويمة، أنه كان رضي الله عنه يحذّر من البطالة, وما أكثر البطّالين في هذا الحين، فترى بعضهم لا يشغل نفسه لا بأمر الدنيا ولا الدين؛ بطّال.. لا يعمل فيما ينفعه في دنياه ولا فيما ينفعه في آخرته، يضيّع الأوقات ويقتلها بلا فائدة، هذه البطالة.

فكان يحذّر من هذا ويقول كما في حلية الأولياء في الجزء الأول صفحة 130، وكتاب الزهد للإمام أحمد صفحة 159, قال هذا العبد الصالح عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه: إني لأكره أن أرى الرجل فارغاً لا في عمل الآخرة ولا في عمل الدنيا.

ليس عنده حرفة ولا مهنة يقوم بها، ولا يشغل نفسه أيضاً بطاعة يتقرب بها إلى الله جل وعز ؛ بطّال، ما عنده إلا أن يدور هنا وهناك، وأن يشغل الناس بعد أن ضيّع نفسه، فهؤلاء الذين يزاحمون الناس في الأسواق، ويتسببون في حصول الغلاء ليس منهم فائدة، هؤلاء البطّالون، لا يعملون في أمر دنيا ولا في آخرة.. لا يشغلون أنفسهم بشيء.

يا عبد الله! اتخذ مهنة تقوم بها؛ فأنت تتقرب بها إلى الله، أو تفرغ لعبادة الله جل وعلا، ولا تجلس بدون شيء يعني إما نوم وإما أن تدور هنا وهناك، حقيقةً هذا من البلاء الذي أصيب به الناس في هذه الأيام.

ومن مستسمعات الأخبار والقصص التي سمعتها من الأشخاص، مرة في بعض الدوائر في مراجعتي قضية من القضايا، وبعض الناس يعرك عينيه، وهكذا يتنطع ويتفاءل كالبقر، ولعله لا يشتغل في اليوم بمقدار درهمين، ثم بعد كل هذا يقول: ياليت أنه بنت، يعني: يستريح من هذه الحياة, أنه جالس يعمل، وماذا يعمل؟ يصيح في هذا ويصرخ في هذا, ولا يقدّم جهداً ولا عملاً، مع ذلك يتمنى لو كان بنية حتى ينام في البيت، وكأن البنية لا تشتغل بهذه الحياة. هذه هي البطالة التي كان يحذر منها هذا العبد الصالح رضي الله عنه وأرضاه: إني لأكره أن أرى الرجل فارغاً لا في عمل الدنيا ولا في عمل الآخرة، لا يشغل نفسه بشيء.

إخوتي الكرام! الفراغ حقيقة إذا أصيب به الإنسان، وما اغتنم وقته في هذه الحياة فهو من علامة خذلانه وغضب الله عليه.

أعظم ما يورثه الإنسان في حياته وقته، وكما كان يقول من قبلنا: الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك، هو سيمر عليك ويأكل عمرك شئت أم أبيت، وما تمر عليك ثانية ليس دقيقة إلا وأخذت من حياتك جزءاً، وإذا ذهبت لم تعد، فطوبى لمن شغل الأوقات بطاعة رب الأرض والسماوات، وشقاءً لمن ضيعها بالبطالة والجهالة.

وقد كان أئمتنا الكرام يعتبرون أكبر علامة في العبد تدل على إذلاله ومقت الله له تضييع وقته، ألا وهي البطالة، ولذلك كانوا يقولون: تضييع الوقت من المقت، إذا مقت الله عبداً وغضب عليه جعله يضيع الأوقات بلا فائدة تعود إليه.

وقد أشار نبينا صلى الله عليه وسلم إلى هذا المعنى، وأخبرنا أن أكثر الناس يغبنون نحو وقتهم، ونحو صحتهم.. فيعطى أحدهم صحة وعافية فلا يغتنمها, يُغبن نحوها.

وقت وفراغ لا يغتنمه فيشغل نفسه فيه بما يعود عليه بفائدة، يُغبن فيه، كما ثبت هذا عن نبينا عليه الصلاة والسلام في مسند الإمام أحمد وصحيح البخاري وسنن الترمذي وابن ماجه ، والحديث رواه الإمام البيهقي في الزهد من رواية عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، ورواه البزار في مسنده, والطبراني في معجمه الأوسط بسند صحيح عن أنس .

وأما الرواية الأولى فتقدم معنا في البخاري ، فلا داعي للتنصيص على صحتها كما يفعل بعض أهل السقط في هذه الأيام فيقول: في البخاري قلت: وهو صحيح.. لا داعي لهذا. واضح هذا؟ في البخاري انتهى، وأما بعد ذلك: في البزار وفي معجم الطبراني الأوسط نعم، بسند صحيح كما قال الإمام الهيثمي.

ولفظ الحديث من رواية عبد الله بن عباس وأنس بن مالك رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ ) . والغبن هو: الخسران، وضياع رأس المال.

أي: يغبنون ويخسرون، والناس نحو نعمة الوقت إما أن يُغبنوا وإما أن يُغبطوا، فنسأل الله أن يجعلنا من المغبوطين؛ بحيث يتمنى العقلاء الكيسون مثل حالنا، وألا يجعلنا من المغبونين، إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.

وكما كان يحذّر رضي الله عنه وأرضاه من البطالة، فكان يحذّر أيضاً من الجهالة، ومن خوض اللسان في الرذالة. والأمران مقترنان، فإذا كان الإنسان بطّالاً يضيع الأوقات سيجهل مع الجاهلين, ويطلق لسانه بما يندم عليه أمام رب العالمين.

فإذاً: لا بطالة ولا جهالة، وما ينبغي أن يخوض الإنسان كما قلت في الرذالة، ولذلك أكثر الأشياء بحاجة إلى ضبط ومسك وسجن هي أصغر الأعضاء فيك، ألا وهي اللسان، الذي هو صغير الجرم لكنه كبير الجرم.. صغير جِرْمُهُ حجمه صغير، لكن كبير جُرْمه، إثمه ووزره وخطره، نعوذ بالله منه.

فكان هذا العبد الصالح يقول كما في الحلية أيضاً في الجزء الأول صفحة 134: والله الذي لا إله إلا هو ما على ظهر الأرض شيء أحوج إلى طول سجن من لسان.

لا يوجد شيء على وجه الأرض بحاجة إلى طول سجن -سجن مؤبد- يعني: ليس مؤقتاً تفرج عنه ليرتع بعد ذلك لا، هذا لا بد من أن تضبطه على الدوام.

والله الذي لا إله إلا هو ما على ظهر الأرض شيء أحوج إلى طول سجن من لسان، وهذا الأثر رواه عنه الإمام الطبراني في معجمه الكبير بسند صحيح.

كما نص على ذلك الإمام المنذري في الترغيب والترهيب في الجزء الثالث صفحة 526، والإمام الهيثمي في المجمع في الجزء العاشر صفحة 303، وقال الإمام الهيثمي : رجاله ثقات. وقد روى الأثر عنه أيضاً الإمام أحمد في كتاب الزهد. وعليه، فهو في الحلية ومعجم الطبراني الكبير، والزهد للإمام أحمد : ما على ظهر الأرض شيء أحوج إلى طول سجن من لسان.

زاد الإمام أحمد في كتاب الزهد: عن عبد الله بن مسعود أنه قال: والبلاء موكلٌ بالمنطق. وهذه من الحكم التي يتناقلها الناس, وهي من قول هذا العبد الصالح رضي الله عنه وأرضاه، ويعزى أيضاً إلى الحكيم الصالح الذي أثنى الله عليه في كتابه بسورة سماها باسمه, ألا وهي لقمان عليه وعلى سائر الصديقين الرحمة والرضوان, قال: البلاء موكلٌ بالمنطق.

وإذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب.

إن كان يعجبك السكوت فإنه قد كان يعجب قبلك الأخيارا

ولئن ندمت على سكوتٍ مرةً فلقد ندمت على الكلام مرارا

إن السكوت سلامة ولربما زرع الكلام عداوة وضرارا

حال اللسان إما أن يقول خيراً فيغنم, وإما أن يسكت عن شر فيسلم، فينبغي أن تسجنه، وإلا فاللسان حاله كحال الكلب العقور، والكلب العقور ينبغي أن يضبط دائماً، وحاله كحال الثعبان, والثعبان يحذر منه على الدوام.. فهكذا حال اللسان.

احفظ لسانك أيها الإنسان لا يلدغنك إنه ثعبان

كم في المقابر من قتيل لسانه كانت تهاب لقاءه الأقران

أي: كم من شجاع مات بسبب زلة لسانه، ولذلك كان أئمتنا يقولون: زلة اللسان تزيل الهام، وزلة الرجل تكسر الرجل فقط، يعني: الإنسان إذا زل برجله تضرر في رجله فقط، أما زلة اللسان هذا تقطع الرقبة، فليس شيءٌ على وجه الأرض أحوج إلى طول سجن من لسان، والبلاء موكل بالمنطق.

احفظ لسانك لا تقول فتبتلى إن البلاء موكل بالمنطق

وأئمتنا يذكرون على لسان الحيوانات قصة طريفة عند هذه القضية ألا وهي: أن البلاء موكلٌ بالمنطق. طائران يطيران فرأتهما السلحفاة, وتعجبت من طيرانهما, وقالت: يا ليتني أطير مثلهما، قالا: الأمر سهل, ستطيرين وسترين عجائب خلق الله، بشرط نأخذ عليك عهداً ألا تتكلمي، قالت: لا أتكلم. فأحضرا عوداً وقالا: أنت تعضينه بفمك من الوسط، ونحن نحملك على العود لترتفعي في الجو وترين مثلنا وإن لم يكن لك أجنحة، فتعاونا على ذلك كي ترى عجائب خلق الله.

قالت: لكما هذا العهد، قالا: إياكِ أن تتكلمي، فأحضرا عوداً, وكل طائر أمسك من جهة, والسلحفاة من الوسط فطارا، فلما رأت نفسها في الجو والعلو فرحت، وبدأت تصيح -يعني: لمعاشر السلحفاة من أشكالها وأمثالها-: أنا فوقكن، فلما فتحت فاها صارت ميتة، البلاء موكل بالمنطق.

احفظ لسانك لا تقول فتبتلى إن البلاء موكل بالمنطق

يقول العبد الصالح عبد الله بن مسعود كما في الحلية وغيره: والله لو سخرت من كلب لخشيت أن أكون مثله.

الزم هذه المراقبة، كلب إذا سخرت منه أخشى أن أكون مثله، هذا اللسان لا بد له من ضبط.

قصة الكسائي واليزيدي حول حفظ اللسان

وقد اجتمع الإمامان -وذكرت لكم القصة سابقاً- الكسائي واليزيدي ، والكسائي من القراء السبعة، وأما اليزيدي قراءته شاذة لا يقرأ بها, وهو من القراء الأربعة عشر.. ما زادوا على العشرة, ما زاد على العشرة فشاذ، اجتمعا في مجلس هارون الرشيد , فتقدم هارون , فلما حانت الصلاة قدّم هارون الكسائي ، فقرأ الفاتحة وبعدها سورة الكافرون فأخطأ في الكافرون.

فاعترض عليه اليزيدي وقال: إمام العراق أرتج في سورة من قصار المفصّل.. سورة الكافرون تخطئ فيها! ولو سكت لما أخطأ، فلما حانت العشاء قدّم هارون الكسائي قال: لا أتقدم، يتقدّم اليزيدي , فتقدم اليزيدي فأخطأ في سورة الفاتحة، بدأ يقرأها, وارتج عليه وأخطأ، فلما سلّموا قال الكسائي لليزيدي :

احفظ لسانك لا تقول فتبتلى إن البلاء موكل بالمنطق

وهو كذلك، هذا العبد الصالح يقول: البلاء موكلٌ بالمنطق، فلا بد إذاً من ضبط هذا اللسان.

تبيين ابن مسعود منزلة اللسان في الخير وفي الشر

وقد كان هذا العبد الصالح يخاطب لسانه ليبيّن للمسلمين منزلته في الخير وفي الشر، يخاطب لسانه في أعظم المواقف, وعند أفضل الشعائر ألا وهو في فريضة الحج, عندما يكون على الصفا، كان إذا رقى الصفا عند أداء النسك يقول هذا الكلام, والناس حوله؛ من أجل أن تُنقل عنه هذه الحكمة.

والأثر مرويٌ في معجم الطبراني الكبير بسند رجاله رجال الصحيح كما في المجمع في الجزء العاشر صفحة 300، ورواها أبو الشيخ في كتاب الثواب، والبيهقي بسند حسن كما في الترغيب والترهيب في الجزء الثالث صفحة 534، ورواه ابن أبي الدنيا في كتاب الصمت في صفحة 41.

ولفظ الأثر عن عبد الله بن مسعود أنه رقى على الصفا فأمسك بلسانه وقال: يا لسان قل خيراً تغنم، واسكت عن شرٍ تسلم. فقال له الحاضرون: هذا شيءٌ تقوله من نفسك, أو سمعته من النبي عليه الصلاة والسلام؟

قال: سمعت النبي عليه الصلاة والسلام يقول: ( أكثر خطايا بني آدم في ألسنتهم ) .

ولذلك خذ هذه الحكمة في هذه الشعيرة: يا لسان قل خيراً تغنم، واسكت عن شرٍ تسلم.

وهذا الكلام أيضاً أُثر عن عدد من الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين، منهم العبد الصالح حبر الأمة وبحرها عبد الله بن عباس رضي الله عنهما, كما في الحلية في ترجمته في الجزء الأول صفحة 328، وهكذا في كتاب الصمت لـابن أبي الدنيا في صفحة 49 عن ابن عباس رضي الله عنهما, أنه قال نظير ما قال عبد الله بن مسعود : يا لسان قل خيراً تغنم, واسكت عن شرٍ تسلم.

ذكر ما يؤيد كلام ابن مسعود من مشكاة النبوة في حفظ اللسان

إخوتي الكرام! هذا الهدي الذي كان عليه الصحابة الكرام، والذي هو خلق الإسلام تعلمه من عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، وهذا المعنى مأخوذٌ من مشكاة النبوة، ومن كلام نبينا على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه، وقد تركت معاني النبوة وأحاديث النبي عليه الصلاة والسلام أثراً في الصحابة، فكانوا إذا تكلموا يقولون كلاماً لكنه في الحقيقة حديث عن نبينا عليه الصلاة والسلام.

فهذا الكلام الذي يقوله عبد الله بن مسعود كما قلت مأخوذ من مشكاة النبوة، وقد ثبت في المسند والصحيحين من حديث أبي شريح الخزاعي وأبي هريرة رضي الله عنهم أجمعين: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذي جاره ) .

إذاً: ( فليقل خيراً أو ليصمت ). بمعنى أثر عبد الله بن مسعود : قل خيراً تغنم، أو اسكت عن شرٍ تسلم.

نعم إخوتي الكرام! لا بد من ضبط اللسان، ولذلك جعل نبينا عليه الصلاة والسلام عنوان الإسلام أن يسلم أهل الإسلام من لسانك ويدك، وقدّم اللسان على اليد لشناعة ضره، فاللسان يتناول الخالق والمخلوق، ويتناول الحبيب والغريب، ويتناول البعيد والقريب، ويتناول المكلَّفين وغيرهم.

يعني: حتى الجماد ما يسلم من لسانك، لو لعنته يسألك أمام الله: لم تلعنه؟ ولو لعنت هذه الشاة وهي مأمورة: لم تلعنها؟ وحتى الحيوانات، يعني: هذا اللسان ما سلم من ضره أحد من خالق ومخلوق، باختلاف أشكال المخلوقات.. وحقيقة إذا كان كذلك لا بد من ضبطه.

ولذلك ثبت في المسند والصحيحين والسنن من رواية عدة من الصحابة الكرام.. من رواية جابر بن عبد الله وعبد الله بن عمرو وواثلة بن الأسقع رضي الله عنهم أجمعين: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده ) .

وكما قلت: قدّم اللسان لشناعة ضره, وقبح أثره، وسعة دائرته؛ فهو أوسع دائرة من اليد، تتناول الحاضر والغائب، الخالق والمخلوق، ولذلك ( من سلم المسلمون من لسانه ويده ) هذا المعنى كان يسري في ذرات الصحابة وفي دمائهم، وفي كل موطن ينبهون عليه: يا لسان قل خيراً تغنم، اسكت عن شر تسلم. ويتلقى الناس هذه المعاني عن هذا العبد الصالح رضي الله عنه وأرضاه.

وقد اجتمع الإمامان -وذكرت لكم القصة سابقاً- الكسائي واليزيدي ، والكسائي من القراء السبعة، وأما اليزيدي قراءته شاذة لا يقرأ بها, وهو من القراء الأربعة عشر.. ما زادوا على العشرة, ما زاد على العشرة فشاذ، اجتمعا في مجلس هارون الرشيد , فتقدم هارون , فلما حانت الصلاة قدّم هارون الكسائي ، فقرأ الفاتحة وبعدها سورة الكافرون فأخطأ في الكافرون.

فاعترض عليه اليزيدي وقال: إمام العراق أرتج في سورة من قصار المفصّل.. سورة الكافرون تخطئ فيها! ولو سكت لما أخطأ، فلما حانت العشاء قدّم هارون الكسائي قال: لا أتقدم، يتقدّم اليزيدي , فتقدم اليزيدي فأخطأ في سورة الفاتحة، بدأ يقرأها, وارتج عليه وأخطأ، فلما سلّموا قال الكسائي لليزيدي :

احفظ لسانك لا تقول فتبتلى إن البلاء موكل بالمنطق

وهو كذلك، هذا العبد الصالح يقول: البلاء موكلٌ بالمنطق، فلا بد إذاً من ضبط هذا اللسان.

وقد كان هذا العبد الصالح يخاطب لسانه ليبيّن للمسلمين منزلته في الخير وفي الشر، يخاطب لسانه في أعظم المواقف, وعند أفضل الشعائر ألا وهو في فريضة الحج, عندما يكون على الصفا، كان إذا رقى الصفا عند أداء النسك يقول هذا الكلام, والناس حوله؛ من أجل أن تُنقل عنه هذه الحكمة.

والأثر مرويٌ في معجم الطبراني الكبير بسند رجاله رجال الصحيح كما في المجمع في الجزء العاشر صفحة 300، ورواها أبو الشيخ في كتاب الثواب، والبيهقي بسند حسن كما في الترغيب والترهيب في الجزء الثالث صفحة 534، ورواه ابن أبي الدنيا في كتاب الصمت في صفحة 41.

ولفظ الأثر عن عبد الله بن مسعود أنه رقى على الصفا فأمسك بلسانه وقال: يا لسان قل خيراً تغنم، واسكت عن شرٍ تسلم. فقال له الحاضرون: هذا شيءٌ تقوله من نفسك, أو سمعته من النبي عليه الصلاة والسلام؟

قال: سمعت النبي عليه الصلاة والسلام يقول: ( أكثر خطايا بني آدم في ألسنتهم ) .

ولذلك خذ هذه الحكمة في هذه الشعيرة: يا لسان قل خيراً تغنم، واسكت عن شرٍ تسلم.

وهذا الكلام أيضاً أُثر عن عدد من الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين، منهم العبد الصالح حبر الأمة وبحرها عبد الله بن عباس رضي الله عنهما, كما في الحلية في ترجمته في الجزء الأول صفحة 328، وهكذا في كتاب الصمت لـابن أبي الدنيا في صفحة 49 عن ابن عباس رضي الله عنهما, أنه قال نظير ما قال عبد الله بن مسعود : يا لسان قل خيراً تغنم, واسكت عن شرٍ تسلم.

إخوتي الكرام! هذا الهدي الذي كان عليه الصحابة الكرام، والذي هو خلق الإسلام تعلمه من عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، وهذا المعنى مأخوذٌ من مشكاة النبوة، ومن كلام نبينا على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه، وقد تركت معاني النبوة وأحاديث النبي عليه الصلاة والسلام أثراً في الصحابة، فكانوا إذا تكلموا يقولون كلاماً لكنه في الحقيقة حديث عن نبينا عليه الصلاة والسلام.

فهذا الكلام الذي يقوله عبد الله بن مسعود كما قلت مأخوذ من مشكاة النبوة، وقد ثبت في المسند والصحيحين من حديث أبي شريح الخزاعي وأبي هريرة رضي الله عنهم أجمعين: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذي جاره ) .

إذاً: ( فليقل خيراً أو ليصمت ). بمعنى أثر عبد الله بن مسعود : قل خيراً تغنم، أو اسكت عن شرٍ تسلم.

نعم إخوتي الكرام! لا بد من ضبط اللسان، ولذلك جعل نبينا عليه الصلاة والسلام عنوان الإسلام أن يسلم أهل الإسلام من لسانك ويدك، وقدّم اللسان على اليد لشناعة ضره، فاللسان يتناول الخالق والمخلوق، ويتناول الحبيب والغريب، ويتناول البعيد والقريب، ويتناول المكلَّفين وغيرهم.

يعني: حتى الجماد ما يسلم من لسانك، لو لعنته يسألك أمام الله: لم تلعنه؟ ولو لعنت هذه الشاة وهي مأمورة: لم تلعنها؟ وحتى الحيوانات، يعني: هذا اللسان ما سلم من ضره أحد من خالق ومخلوق، باختلاف أشكال المخلوقات.. وحقيقة إذا كان كذلك لا بد من ضبطه.

ولذلك ثبت في المسند والصحيحين والسنن من رواية عدة من الصحابة الكرام.. من رواية جابر بن عبد الله وعبد الله بن عمرو وواثلة بن الأسقع رضي الله عنهم أجمعين: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده ) .

وكما قلت: قدّم اللسان لشناعة ضره, وقبح أثره، وسعة دائرته؛ فهو أوسع دائرة من اليد، تتناول الحاضر والغائب، الخالق والمخلوق، ولذلك ( من سلم المسلمون من لسانه ويده ) هذا المعنى كان يسري في ذرات الصحابة وفي دمائهم، وفي كل موطن ينبهون عليه: يا لسان قل خيراً تغنم، اسكت عن شر تسلم. ويتلقى الناس هذه المعاني عن هذا العبد الصالح رضي الله عنه وأرضاه.

إخوتي الكرام! يستعين الإنسان على طرد البطالة عنه, وعلى منع نفسه من الجهالة, وخوض اللسان في الرذالة، يستعين الإنسان على هذا الأمر بالخلوة والخشية، فيخلو بنفسه، ولا يكثر من لقاء الناس؛ لأن كثرة لقاء الناس في غير أمور الخير مضيعة للوقت، وعندما تلتقي بهم ستثرثر بلسانك.

يعني: لو سلمت من المحرمات من الغيبة والنميمة والكذب والبهتان والقذف، فلن تسلم من الكلام الفارغ الذي قال النبي عليه الصلاة والسلام فيه: ( فليقل خيراً أو ليصمت ) .

إذاً: لا بد من خلوة، والتقي الحازم الكيّس الذي يأخذ بحظه من الخلوة، فلا يخاطب الناس إلا في أمر الخير, ويفارقهم بعد ذلك.

والآن كما قال الحميدي شيخ الإمام البخاري عليهم جميعاً رحمة الله:

لقاء الناس ليس يفيد شيئاً سوى الهذيان من قيل وقال

فأقلل من لقاء الناس إلا لأخذ علم أو إصلاح حال

فانظر لهذا التحذير من عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عندما حذرنا من البطالة والجهالة وخوض اللسان في الرذالة، بين لنا الذي يعيننا على ذلك ويساعدنا على أنفسنا, فقال كما في الحلية في المكان المتقدم صفحة 135 في الجزء الأول، والأثر رواه شيخ الإسلام الإمام عبد الله بن المبارك في كتاب الزهد والرقائق صفحة 42: أن رجلاً قال لـعبد الله بن مسعود رضي الله عنه: أوصني.

فحذره من البطالة والجهالة والرذالة، وأرشده إلى الدواء الذي يحصل به البعد عن تلك الأمور، وإلى الحصن والملجأ منها.

فقال: ليسعك بيتك، واكفف لسانك، وابك من ذكر خطيئتك. تريد وصية من خلق الإسلام، وممن صحب النبي عليه الصلاة والسلام على الدوام في الخلوة والجلوة والسفر والحضر، استمع إلى وصيته.

ليسعك بيتك. هذا البيت الضيّق, وقد يكون عندك أوسع من الدنيا وما فيها، وأنت إذا دخلت إليه فأنت في روضة، فحذاري حذاري من أن يضيق صدرك من بيتك.

ووصلنا إلى زمن نعوذ بالله من حالنا فيه، فالنساء الآن ما عادت تسعها بيوتها، فوجد بعض النساء ممن تقضي عملها من الصباح إلى قبيل العصر خارج بيتها في العمل، في تدريس أو غيره، ثم إذا صار بعد العصر تقول: إذا ما خرجت يضيق صدري! يعني: متى تستقرين في بيتك؟!

ليسعك بيتك. نعم صومعة الرجل بيته، فالبيت ينبغي أن تلازمه، وتجعل رباطك فيه إلا أن تخرج منه لمصلحة شرعية.

ليسعك بيتك، ومع ذلك اكفف لسانك، وابك على خطيئتك.

حقيقة إذا استعنت بالخلوة والخشية ستبتعد عن البطالة، وعن الجهالة، وعن خوض اللسان في الرذالة. وجربوا هذا الدواء.

إنسان يلازم البيت فلا يخرج إلى هنا وهناك، فاللسان يضبطه، ثم يكثر البكاء على خطيئته. فحقيقة ما عنده بعد ذلك وقت يقضي به أيامه في بطالة وجهالة ورذالة.. ليسعك بيتك، واكفف عليك لسانك، وابك على خطيئتك.

وقد ثبت -إخوتي الكرام- في معجم الطبراني الكبير بسند رجاله رجال الصحيح كما قال الهيثمي في المجمع في الجزء العاشر صفحة 299، والأثر في كتاب الزهد للإمام أحمد صفحة 156: أن رجلاً قال لـعبد الله بن مسعود أيضاً: أوصني، قال: أوصيك بثلاث. وفي رواية أنه أوصى ابنه بثلاث فقال: أوصيك بتقوى الله عز وجل، وفي رواية الزهد للإمام أحمد : قال: أمسك لسانك.

أوصيك بتقوى الله عز وجل، وليسعك بيتك، وابك على خطيئتك. بمعنى الأثر المتقدم.

ثبوت ما يؤيد قول ابن مسعود من السنة حول علاج البطالة والجهالة

وهذا الكلام أيضاً من هذا العبد الصالح عبد الله بن مسعود -كما قلت- مأخوذٌ من مشكاة النبوة، وكما ترون كل قول من أقواله أحاول أن أرده إلى كلام النبي عليه الصلاة والسلام.

ولذلك تقدم معنا أنه كان يمر عليه الحول، والحولان وهو يقول: قال رسول الله عليه الصلاة والسلام، لكن يعبّر عن الأحاديث بكلام من عنده, حقيقة كله حكم، فهذا الكلام الذي أوصى به عبد الله بن مسعود ولده والمسلمين، هذا الكلام منقولٌ عن نبينا عليه الصلاة والسلام.

روى الإمام أحمد في كتاب الزهد والمسند، والأثر رواه الترمذي في سننه، وعبد الله بن المبارك في كتاب الزهد والرقائق، ورواه البيهقي في ثلاثة كتب من كتبه في الزهد وفي شعب الإيمان وفي كتاب الآداب، ورواه ابن أبي عاصم في الزهد، والإمام أبو سليمان الخطابي في العزلة، وابن أبي الدنيا في الصمت والعزلة، ورواه الطبراني في معجمه الكبير، والبغوي في شرح السنة، والخطيب البغدادي في تاريخ بغداد.

والحديث إسناده حسن عن نبينا المكرم عليه صلوات الله وسلامه، من رواية عقبة بن عامر رضي الله عنه وأرضاه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول عندما سأله سائل فقال: (ما النجاة يا رسول الله؟ فقال النبي عليه الصلاة والسلام: أمسك عليك لسانك، وليسعك بيتك، وابك على خطيئتك ) نفس كلام عبد الله بن مسعود .

ولذلك كما تقدم معنا لا يضيف الكلام إلى نبينا عليه الصلاة والسلام، لكن يقول على أنه كلامٌ حق, وهو في الحقيقة من كلام النبي عليه الصلاة والسلام، والسنة تمشي في ذراته وفي دمه.. ( أمسك عليك لسانك، وليسعك بيتك، وابك على خطيئتك ) .

بل روي هذا الحديث أيضاً مرفوعاً إلى نبينا عليه الصلاة والسلام من طريق عبد الله بن مسعود ، فأحياناً يصرح برفعه, وأحياناً يقوله على أنه كلامٌ من عنده حق له أن يعيه الناس.

ثبت ذلك في معجم الطبراني الأوسط ومعجم الطبراني الكبير، كما في المجمع في المكان المتقدم صفحة 299 من المجلد العاشر: عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ليسعك بيتك، وابك على خطيئتك، وأملك عليك لسانك ) . هذه الأمور كما تقدم معنا من كلام عبد الله بن مسعود .

وهذا الحديث -إخوتي الكرام- كان نبينا عليه الصلاة والسلام يوصي به كثيراً من الصحابة الكرام إذا استنصحوه, وطلبوا منه وصية؛ ففي معجم الطبراني الأوسط، والمعجم الصغير للإمام الطبراني أيضاً، والحديث رواه الإمام الخطابي في العزلة, وإسناده حسن, عن ثوبان مولى نبينا عليه الصلاة والسلام عن نبينا صلوات الله وسلامه عليه أنه قال: ( طوبى لمن ملك لسانه، ووسعه بيته، وبكى على خطيئته ).

ذكر بعض ما جاء في الصمت وحفظ اللسان ومظان ذلك

والأحاديث التي تقرر هذا المعنى كثيرة وفيرة, انظروها -إخوتي الكرام- في ست صفحات من مجمع الزوائد من صفحة 297 إلى صفحة 303 في المجلد العاشر في باب ما جاء في الصمت وحفظ اللسان، وانظروها في ثلاث صفحات في الترغيب والترهيب في الجزء الثالث صفحة 521 وما بعدها, الترغيب في الصمت إلا عن خمس، وفي غير المسانيد آثار عن عبد الله بن مسعود انظروا قيمة إسنادها في المكانين المشار إليهما, ممكن كما في معجم الطبراني الكبير عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه, موقوفاً عليه من كلامه أنه كان يقول: أنذركم فضول الكلام، بحسب أحدكم أن يبلغ حاجته. أي: تكلم بمقدار الحاجة.

التقي عليه لجام لا يكثر من الكلام.. أنذركم فضول الكلام، بحسب أحدكم أن يبلغ حاجته.

حقيقة كان أئمتنا يقولون: من ضبط اللفظات واللحظات والخطوات والخطرات فهو صدّيق، إذاً هذه الأربع إذا ضبطها الإنسان فهذا صدّيق: لفظات: كلام، وبعدها لحظات وبعدها خطوات مشي، وخطرات في القلب.

والله جل وعلا أشار إلى هذه الأمور الأربعة فقال: يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ [غافر:19] هذا أشار إلى أمرين: إلى الخطرات واللحظات، خائنة الأعين لحظة، وما تخفي الصدور خطرة.

وقال جل وعلا في وصف عباد الرحمن في سورة الفرقان: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا [الفرقان:63]. يمشون هذه خطوات، وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا [الفرقان:63] لفظات، هذه الأمور أربعة.

قال أئمتنا: لا يضبطها إلا صدّيق، أعظمها خطراً هذا اللسان، الذي هو ترجمان الجنان، ويترتب عليه بعد ذلك الأحكام في هذه الحياة؛ فإنه لو لم تتكلم فهما دار في قلبك فهو لا يزال، يعني: إذا لم يصل إلى درجة العزم والتسليم معفواً عنه، لكن إذا تكلم فرتبت الأحكام على الكلام.

ولذلك اضبط لسانك، فقد قال ابن مسعود : أنذركم فضول القول، بحسب أحدكم أن يبلغ حاجته.

وكان يقول كما في معجم الطبراني الكبير: إياكم وصعاب القول. أي: احذروا القول الصعب الشديد الفظ الغليظ.