خطب ومحاضرات
شرح الترمذي - باب الاستنجاء بالحجرين [5]
الحلقة مفرغة
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة الطيبين وعن من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً، سهل علينا أمورنا، وعلمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الراحمين.
اللهم زدنا علماً نافعاً، وعملاً صالحاً بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين، سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك، سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك، اللهم صل على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فكنا نتدارس ترجمة الصحابي الزاهد القانت العابد عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وعن الصحابة أجمعين، ومما ينبغي أن نعلمه في بداية هذا المبحث عند تكملة ترجمته رضي الله عنه أن مدارسة حياة الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين دين نتقرب به إلى رب العالمين، وليس هذا من باب سرد وقائع وأحداث مضت وانقضت، أو من باب الاطلاع على التاريخ، لا، فمعرفة حياة الصحابة وسيرتهم دين، ومن أقوالهم وأفعالهم نستنبط أحكاماً شرعية ونتقرب بها إلى رب البرية سبحانه وتعالى.
قلت: وسنتدارس ترجمته الطيبة العطرة المباركة ضمن ثلاثة أمور:
أولها: كما تقدم معنا في نسبه وإسلامه وصلته بنبينا على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه، وقد مضى الكلام على هذا الجانب الأول، وبينت أن هذا الصحابي له شأن عظيم في الإسلام، فيكفيه فخراً أنه سادس من أسلم بنبينا عليه الصلاة والسلام، وكان له شأن عظيم، عن طريق الصلة الوثيقة المحكمة بنبينا الكريم صلوات الله وسلامه عليه، فما فارقه حضراً ولا سفراً، وكان يباشر أموره الخاصة ويتعهدها ويقدمها إلى النبي عليه الصلاة والسلام.
الأمر الثاني من ترجمته العطرة الطيبة: في بيان منزلته العلمية ومكانته في ذلك.
الأمر الثالث: نبذة من أقواله المحكمة الحكيمة وآرائه القيمة القويمة، وقد كنا تدارسنا الأمر الثاني من هذه الأمور الثلاثة، وآخر ما تحدثت عنه في بيان منزلته العلمية، أنه كان من أقرأ الصحابة لكلام الله جل وعلا، ولذلك كان نبينا عليه الصلاة والسلام يطلب منه أحياناً كثيرة أن يقرأ عليه القرآن؛ لأنه كان يقرأ القرآن غضاً رطباً كما أنزله ذو الجلال والإكرام.
وآخر شيء تقدم معنا فيما يتعلق بهذا الأمر الحديث الذي ثبت في مسند الإمام أحمد والكتب الستة إلا سنن ابن ماجه، ورواه جم غفير من أئمتنا الكرام كـابن أبي شيبة في مصنفه، وعمرو بن كليب في مسنده، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في دلائل النبوة، وفي السنن الكبرى، عن عبد الله بن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: ( اقرأ عليّ القرآن فقلت: يا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أقرأ عليك، وعليك أنزل؟! ) يعني: أنت تقرأه ونحن نتعلمه منك، والله أنزل عليك هذا القرآن بواسطة أمين السماء جبريل فكيف أقرؤه عليك؟ ( أقرأ عليك وعليك أنزل؟! قال: إني أحب أن أسمعه من غيري )، وفي هذا تشريع من نبينا الكريم صلوات الله وسلامه عليه إلى الاستماع إلى تلاوة القرآن، وأن نطلب هذا من المقرأين، وقد كانت هذه عادة سلفنا الكرام، وكانوا إذا اجتمعوا يقول عمر رضي الله تعالى عنه لـأبي بن كعب : ذكرنا يا أبي بربنا! فيقرأ القرآن، وكانوا يجتمعون على هذا، ولا يخلو اجتماع من اجتماعاتهم من تلاوة كلام الله عز وجل، ثم إذا كان لهم حديث يتحدثون به، ثم تغيرت الأمور، فصارت اجتماعات الناس على القيل والقال، وفرقة أخرى يسمون أنفسهم بالصوفية بدأوا يجتمعون على الغناء وعلى البلاء باسم الله جل وعلا، فإذا اجتمعوا يحضرون القوال بدلاً من التالي لكلام ذي العزة والجلال، ويغني (يا ويل) على تعبيرهم، وهم يتواجدون، وما يتواجدون إلا للشيطان لا لذي الجلال والإكرام.
وتقدم معنا أن هذا السماع أعني سماع الغناء محدث في الإسلام، ولا سيما إذا زعم الإنسان أنه قربة يتقرب به إلى ذي الجلال والإكرام.
(فشرع
شواهد لقراءة ابن مسعود القرآن على الرسول صلى الله عليه وآله وسلم
وهذه الأمور الثلاثة من رضي بها ذاق طعم الإيمان وحلاوة الإسلام: ( ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ) والحديث في المسند، وصحيح مسلم وغيرهما من رواية العباس رضي الله عنه عن نبينا صلوات الله وسلامه عليه، ورضي بالشيء إذا قنع به ولم يطلب سواه، فلا بد من تحقيق القناعة والرضا لتذوق للإيمان حلاوة وبهجة، فتتضاءل وتحتقر بجانبها كل لذة وحلاوة حسية.
الأمر الأول: أن تقنع بالله رباً، أي: أن لا تعبد غيره سبحانه وتعالى، وأن تجعل جميع أعمالك لله جل وعلا: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام:162]، أما أن تتخذ أرباباً متعددة تعبدها من دون الله، ويجمعها هواك فأنت كما قال الله: أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا [الفرقان:43]، ولن تذوق حلاوة الإيمان.
والثانية: أن ترضى بالإسلام ديناً، فلا تحتكم إلى غيره، وتحكمه في جميع شؤون حياتك.
والثالثة: أن ترضى بالنبي عليه الصلاة والسلام إماماً، ونسأل الله أن يجعله إمامنا في دنيانا وفي آخرتنا، وأن لا نأتم بغيره بفضل الله ورحمته، يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ [الإسراء:71]، فليس لنا إمام متبع، وليس لنا مسموع إلا هذا النبي الهادي الذي لا ينطق عن الهوى عليه صلوات الله وسلامه، وهو الإمام المسموع بحق، وهو المتبع بصدق.
إذا قنعت بهذه الأمور الثلاثة ولم تطلب سواها، الله ربك والإسلام دينك، ومحمد عليه الصلاة والسلام نبيك، تذق للإسلام حلاوة، فإذا قرأت القرآن تبكي، والقلب يوجل ويخاف، والجلد يقشعر ثم يلين، لكن إذا كانت الأرباب متعددة، والمناهل الفاسدة كثيرة والأئمة تنازع إمامك النبي عليه الصلاة والسلام، فكيف تذوق حلاوة الإسلام؟! نسأل الله أن يجعل هوانا تبعاً لشرع نبينا عليه الصلاة والسلام إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.
إذاً: (وأنا رضيت لكم ما رضي لكم
الرواية الثالثة: رواها الطبراني في معجمه الكبير بسند رجاله ثقات، كما قال الهيثمي في المجمع في الجزء السابع، صفحة أربعين، وقال السيوطي في الدر: إسناد الأثر حسن في الجزء الثاني، صفحة ثلاث وستين ومائة، والأثر رواه ابن أبي حاتم في تفسيره، والطبري في معجم الصحابة، عن محمد بن فضالة الأنصاري وهذا صحابي ثالث، قال: (أتانا النبي صلى الله عليه وسلم) أي: إلى بيوتهم وفي ديارهم رضي الله عنهم، (ومعه
(فأمر قارئاً أن يقرأ، فقرأ سورة النساء حتى أتى على هذه الآية: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا [النساء:41]، فبكى نبينا صلى الله عليه وسلم حتى اضطرب لحياه وجنبه)، اضطرب أي: تحرك، ولحياه: فكاه الأعلى والأسفل، من كثرة بكائه كما هو حال من يبكي، يتحرك ويختلج فكاه الأعلى والأسفل، وتحرك أيضاً جنباه عليه صلوات الله وسلامه من بكائه، وبدأ جسمه يعتريه القشعريرة، فالجسم ينقبض ويهتز.
ثم قال عليه الصلاة والسلام: ( شهدت على من أنا بين ظهرانيه فكيف بمن لم أره؟! )؛ لأن الله يقول في الآية: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا [النساء:41] على هذه الأمة من أولها إلى آخرها شهيداً، قال: (شهدت على من أنا بين ظهرانيه)، أي: رأيته وأعلم ما جرى منهم، (فكيف بمن لم أره)، مع أن الله سبحانه وتعالى سيطلعه.
وتقدم معنا في حديث عند مباحث النبوة، والحديث في مسند البزار وغيره، وقلت: لا ينزل عن درجة الحسن أن حياة نبينا عليه الصلاة والسلام خير لنا، كما أن مماته خير لنا، ففي حياته نحدث ويحدث لنا، من أحكام فينزل الوحي بشأن ذلك، وفي مماته عليه الصلاة والسلام تعرض عليه أعمالنا.
إذاً سيشهد علينا على حسب ما عرض عليه، فكأنه ينظر إلينا ويرانا على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه، وتقدم معنا أن أعمال الإنسان تعرض على أقاربه من الموتى، وأعمال هذه الأمة تعرض على نبيها صلوات الله وسلامه عليه، بعد موته، فما رأى من خير وحسن حمد الله عليه، وما رأى من دون ذلك استغفر لنا صلوات الله وسلامه عليه، وإذا حرمنا من التمتع أو من النظر إلى نور وجهه في الحياة، فينبغي أن يسلي الله هذه الأمة بشيء ينالهم من نبيهم، فمن يأتي بعده تعرض أعماله على هذا النبي الرحيم الكريم، ويستغفر له، وهذا بشارة عظيمة، وتقدم معنا أن هذا الحديث بوب عليه أئمتنا باب بركة النبي عليه الصلاة والسلام حياً وميتاً، عليه صلوات الله وسلامه، تقدم معنا الحديث وتفصيل الكلام عليه، وأنه قد صححه ستة من الحفاظ الأئمة النقاد رحمهم الله.
ما يحصل للإنسان عند قراءة القرآن
ثبت في مستدرك الحاكم بسند صحيح وهو في حلية الأولياء، وكتاب الزهد للإمام أحمد : أن زرارة بن أوفى صلى في مسجد بني قشير فقرأ في صلاة الفجر سورة المدثر، فلما وصل إلى قول الله عز وجل: فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ [المدثر:8] ما أكمل السورة وخر في مكانه ميتاً.
هذا الذي حصل في زمن التابعين، من الصعق والموت عند سماع القرآن، هذا ما حكمه؟ أولاً: نقول: هذا يدل على نقص؛ لأن الكمال أن يتفاعل مع القرآن دون أن يعتريه شيء من النقصان، لا من غيبوبة ولا من موت، وهذا هو حال الكمل من نبينا عليه الصلاة والسلام وصحبه، فيدل على نقص قطعاً وجزماً، لكن هذا النقص هو فيه معذور، وعليه مأجور بإذن العزيز الغفور، ولذلك قال ابن الجوزي في تلبيس إبليس في صفحة سبع وخمسين ومائتين، وابن تيمية في مجموع الفتاوى في الجزء الحادي عشر، صفحة تسعين وخمسمائة، قال: السبب إذا لم يكن محظوراً كان صاحبه فيما تولد عنه معذوراً، يعني: سماع القرآن ليس بمحظور ولا، بل هو ممنوع قربى، فصاحبه فيما تولد عنه معذور، فلو أن إنساناً سمع القرآن ثم جاءت بعد ذلك آيات لو أنزلت على الجبال لفتتها كما قال الله: لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ [الحشر:21]، فما تحمل فصاح ومات، وهذا وقع في التابعين بكثرة، لماذا؟ لضعفهم، وكثرة خشوعهم، وقوة تعظيمهم لكلام ربهم، أما الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين فكانوا يتحملون، فتقشعر الجلود، وتدمع الأعين، وتخاف وتوجل القلوب، لكن لا يحصل لهم صعق، ولا يحصل الموت، وهذا حال الكمال، وما حصل، وفي زمن التابعين بكثرة فيعذرون عليه ويؤجرون؛ لأنهم لم يتكلفوا ذلك، وما تعرضوا له، إنما سمع القرآن وهو مأمور بسماعه، فإذا كان السبب ليس محظوراً يكون صاحبه فيما تولد عنه معذوراً، لكن لا يدل هذا على كمال، فالكمال ما كان عليه نبينا عليه الصلاة والسلام وصحبه الكرام الكاملون المكملون عليهم جميعاً رضوان الحي القيوم.
أخذ القرآن من أربعة من الصحابة منهم ابن مسعود
وقد أمرنا خير البرية أن نستقرئ القرآن، وأن نأخذه، وأن نتعلمه من أربعة من الصحابة الكرام على رأسهم وفي مقدمتهم ابن أم عبد ، والحديث رواه الإمام أحمد في المسند، والشيخان في الصحيحين، والترمذي في السنن، وابن سعد في الطبقات، وأبو نعيم في الحلية، والحاكم في المستدرك مع كونه -كما قلت- في الصحيحين، من رواية مسروق قال: أتينا عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه، فذكرنا عنده عبد الله بن مسعود، فقال عبد الله بن عمرو بن العاص: ذكرتم رجلاً لا أزال أحبه منذ أن سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (خذوا القرآن من أربعة:
عبد الله بن عمرو يقول: أنا لا أزال أحبك، وكيف لا نحب من كان النبي عليه الصلاة والسلام يحبه! لكن -كما قلت- ليبين لنا أن الأمور ينبغي أن توضع في مواضعها قال: أنتم ذكرتم رجلاً القلب يتعلق به، منذ أن سمعت النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (خذوا القرآن من أربعة:
ثبت في المستدرك في الجزء الثالث، صفحة خمس وعشرين ومائتين، من رواية علقمة ، وتقدم معنا أن علقمة هو ألصق الناس بشيخه حبر الأمة وإمامها عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( خذوا القرآن من أربعة:
عبد الله بن مسعود من حملة العلم
إذاً خذوا العلم من هؤلاء الأربعة، الشاهد معنا عبد الله بن مسعود ، ومعه عويمر أبو الدرداء ، وسلمان الفارسي ، وعبد الله بن سلام رضي الله عنهم أجمعين.
قبل أن ننتقل إلى الأمر الثالث لا زلنا في الأمر الثاني وهو في بيان مكانته العلمية، ومنزلته في ذلك بين الصحابة الكرام، إذا كانت منزلة عبد الله بن مسعود كما تقدم معنا رضي الله عنه، وهو أقرأ الناس بكلام الله عز وجل، وله تلك المنزلة العظيمة بين الصحابة الكرام، فيحق له أن يقول ما سنذكره عنه، وهذا من باب التحدث بنعمة الله عليه، لا من باب الفخر، كما قال ربنا: وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ [الضحى:11]، يقول كما في الصحيحين، وسنن النسائي ، والأثر رواه الخطيب البغدادي في كتاب الرحلة في طلب الحديث -وكنت ذكرت هذا الكتاب في مباحث سابقة، وقلت إنه يقصد من هذا الكتاب من رحل من أئمتنا في حديث واحد، لا في طلب الحديث مطلقاً، فأولئك لا يحصون، بل يحتاج عدهم إلى كتب، لكن من رحل من المسلمين من الصحابة فمن بعدهم في طلب حديث واحد، يعني: يشد رحله من المدينة المنورة إلى مكة ليلتقي بـعقبة بن عامر ويتلقى عنه حديثاً، والكتاب ما أجمله وأظرفه في قرابة مائة وثمانين صفحة الرحلة في طلب الحديث، في صفحة خمس وعشرين أو ست وعشرين- وفي طبقات ابن سعد ، ورواه الفسوي في المعرفة والتاريخ، والطبري في أول تفسيره في الجزء الأول، صفحة ثمانين في الطبعة المحققة، ورواه ابن أبي داود في المصاحف، في صفحة أربع وعشرين، وهو ابن أبي داود صاحب السنن، وهو إمام ثقة عدل رضا، وإن تكلم والده فيه، وكل منهما إمام، بل بعض أئمتنا قدمه على والده، لكن في الحقيقة تقديم الوالد ينبغي أن يكون هو المعتبر، لكن تكلم والده فيه، ومع ذلك فهو ثقة عدل إمام رضا من أحبار زمانه، عن مسروق قال: (سمعت
ذكر هناك: أين، وهنا: فيم، يعني: في أي شيء؟ وما موضوعها؟ وماذا تعالج؟ وما أحكامها؟ يعني: أعلم المكان وأعلم المعنى والتفسير، وأين نزلت السور، وماذا يراد بكل آية أعلمه، فانظر لهذه المكانة، فيحق له أن يقول هذا إذا كانت له تلك المكانة كما تقدم معنا.
ثم قال تكملة الأثر: ولو أعلم أن أحداً أعلم مني بكتاب الله تبلغه الإبل لرحلت إليه.
الخطيب البغدادي يورد هذا في الرحلة في طلب العلم والحديث، ويقول: هذا عبد الله بن مسعود، يقول: لو كان يعلم أحداً على وجه الأرض أعلم منه بكتاب الله عز وجل، والإبل تصل إليه لركب ورحل إليه، من أجل أن يتلقى عنه مكان نزول الآية أو معنى الآية، وهل هناك علم بعد هذا العلم؟ لا يوجد سورة إلا ويعلم أين نزلت، ولا يوجد آية من كتاب الله إلا ويعلم فيم أنزلت، ولو يعلم أن أحداً أعلم منه بكتاب الله تبلغه الإبل لرحل إليه، وفي بعض الروايات وهي ثابتة في الصحيحين، قال: (لقد قرأت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعاً وسبعين سورة، ولقد علم أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام)، والمعنى: هم يعلمون، وأنا أقول هذا، واسألوهم هل أحد ينكر عليّ؟ ولقد علم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أني أعلمهم بكتاب الله عز وجل، وما أنا بخيرهم، يعني: لما ذكر ما ذكر، قد يقال: أنت تزكي نفسك وتقدم نفسك على الصحابة، فكأنه يقول: انتبهوا العلم حصلته، لكن الخيرية هذه متروكة لرب البرية، وما أنا بخيرهم، ونحن نقول: من أقرأ القرآن وأقرأه فهو من خير الصحابة قطعاً وجزماً، وأنت من أقرأهم، فأنت أيضاً من خيرهم رضي الله عنهم أجمعين.
ثم قال: (ولو أعلم أن أحداً أعلم مني بكتاب الله تبلغه الإبل لرحلت إليه).
إذاً: أخذ
الحديث له طرق أخرى رواه الإمام الحاكم في مستدركه في الجزء الثالث، صفحة تسع عشرة وثلاثمائة بسند صحيح أقره عليه الذهبي ، عن ابن حريب ، عن أبيه حريب ، قال: أمر النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن مسعود أن يقرأ، فقرأ عبد الله بن مسعود رضي الله عنه سورة النساء وهذا في مناسبة أخرى، (فاستعبر النبي صلى الله عليه وسلم)، أي: أخذته العبرة وهي الخشوع والإثارة، فبدأ يبكي عليه صلوات الله وسلامه، فكف عبد الله بن مسعود عن القراءة، -وفي الرواية السابقة: قال له حسبك- ثم تكلم فحمد الله، في أول كلامه، وأثنى عليه، وصلى على نبيه على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه، وشهد شهادة حق وقال: رضينا بالله رباً وبالإسلام ديناً، كأنه يريد أن يفعل هذا من أجل أن يسلي النبي عليه الصلاة والسلام، وأن يخبره بأننا نؤمن به عليه صلوات الله وسلامه، فعلق نبينا عليه الصلاة والسلام على هذا الكلام الذي جرى من عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فقال عليه الصلاة والسلام: ( وأنا رضيت لكم ما رضي لكم
وهذه الأمور الثلاثة من رضي بها ذاق طعم الإيمان وحلاوة الإسلام: ( ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ) والحديث في المسند، وصحيح مسلم وغيرهما من رواية العباس رضي الله عنه عن نبينا صلوات الله وسلامه عليه، ورضي بالشيء إذا قنع به ولم يطلب سواه، فلا بد من تحقيق القناعة والرضا لتذوق للإيمان حلاوة وبهجة، فتتضاءل وتحتقر بجانبها كل لذة وحلاوة حسية.
الأمر الأول: أن تقنع بالله رباً، أي: أن لا تعبد غيره سبحانه وتعالى، وأن تجعل جميع أعمالك لله جل وعلا: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام:162]، أما أن تتخذ أرباباً متعددة تعبدها من دون الله، ويجمعها هواك فأنت كما قال الله: أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا [الفرقان:43]، ولن تذوق حلاوة الإيمان.
والثانية: أن ترضى بالإسلام ديناً، فلا تحتكم إلى غيره، وتحكمه في جميع شؤون حياتك.
والثالثة: أن ترضى بالنبي عليه الصلاة والسلام إماماً، ونسأل الله أن يجعله إمامنا في دنيانا وفي آخرتنا، وأن لا نأتم بغيره بفضل الله ورحمته، يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ [الإسراء:71]، فليس لنا إمام متبع، وليس لنا مسموع إلا هذا النبي الهادي الذي لا ينطق عن الهوى عليه صلوات الله وسلامه، وهو الإمام المسموع بحق، وهو المتبع بصدق.
إذا قنعت بهذه الأمور الثلاثة ولم تطلب سواها، الله ربك والإسلام دينك، ومحمد عليه الصلاة والسلام نبيك، تذق للإسلام حلاوة، فإذا قرأت القرآن تبكي، والقلب يوجل ويخاف، والجلد يقشعر ثم يلين، لكن إذا كانت الأرباب متعددة، والمناهل الفاسدة كثيرة والأئمة تنازع إمامك النبي عليه الصلاة والسلام، فكيف تذوق حلاوة الإسلام؟! نسأل الله أن يجعل هوانا تبعاً لشرع نبينا عليه الصلاة والسلام إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.
إذاً: (وأنا رضيت لكم ما رضي لكم
الرواية الثالثة: رواها الطبراني في معجمه الكبير بسند رجاله ثقات، كما قال الهيثمي في المجمع في الجزء السابع، صفحة أربعين، وقال السيوطي في الدر: إسناد الأثر حسن في الجزء الثاني، صفحة ثلاث وستين ومائة، والأثر رواه ابن أبي حاتم في تفسيره، والطبري في معجم الصحابة، عن محمد بن فضالة الأنصاري وهذا صحابي ثالث، قال: (أتانا النبي صلى الله عليه وسلم) أي: إلى بيوتهم وفي ديارهم رضي الله عنهم، (ومعه
(فأمر قارئاً أن يقرأ، فقرأ سورة النساء حتى أتى على هذه الآية: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا [النساء:41]، فبكى نبينا صلى الله عليه وسلم حتى اضطرب لحياه وجنبه)، اضطرب أي: تحرك، ولحياه: فكاه الأعلى والأسفل، من كثرة بكائه كما هو حال من يبكي، يتحرك ويختلج فكاه الأعلى والأسفل، وتحرك أيضاً جنباه عليه صلوات الله وسلامه من بكائه، وبدأ جسمه يعتريه القشعريرة، فالجسم ينقبض ويهتز.
ثم قال عليه الصلاة والسلام: ( شهدت على من أنا بين ظهرانيه فكيف بمن لم أره؟! )؛ لأن الله يقول في الآية: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا [النساء:41] على هذه الأمة من أولها إلى آخرها شهيداً، قال: (شهدت على من أنا بين ظهرانيه)، أي: رأيته وأعلم ما جرى منهم، (فكيف بمن لم أره)، مع أن الله سبحانه وتعالى سيطلعه.
وتقدم معنا في حديث عند مباحث النبوة، والحديث في مسند البزار وغيره، وقلت: لا ينزل عن درجة الحسن أن حياة نبينا عليه الصلاة والسلام خير لنا، كما أن مماته خير لنا، ففي حياته نحدث ويحدث لنا، من أحكام فينزل الوحي بشأن ذلك، وفي مماته عليه الصلاة والسلام تعرض عليه أعمالنا.
إذاً سيشهد علينا على حسب ما عرض عليه، فكأنه ينظر إلينا ويرانا على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه، وتقدم معنا أن أعمال الإنسان تعرض على أقاربه من الموتى، وأعمال هذه الأمة تعرض على نبيها صلوات الله وسلامه عليه، بعد موته، فما رأى من خير وحسن حمد الله عليه، وما رأى من دون ذلك استغفر لنا صلوات الله وسلامه عليه، وإذا حرمنا من التمتع أو من النظر إلى نور وجهه في الحياة، فينبغي أن يسلي الله هذه الأمة بشيء ينالهم من نبيهم، فمن يأتي بعده تعرض أعماله على هذا النبي الرحيم الكريم، ويستغفر له، وهذا بشارة عظيمة، وتقدم معنا أن هذا الحديث بوب عليه أئمتنا باب بركة النبي عليه الصلاة والسلام حياً وميتاً، عليه صلوات الله وسلامه، تقدم معنا الحديث وتفصيل الكلام عليه، وأنه قد صححه ستة من الحفاظ الأئمة النقاد رحمهم الله.
إن ما حصل من نبينا عليه الصلاة والسلام من بكاء واضطراب لحييه، وتحرك جنبيه هذا كله يدل على الخشوع، بكاء العين، ووجل القلب وخشوعه، وقشعريرة الجلد واضطرابه، وما زاد على ذلك من صعق يعتري الإنسان، أو من موت يصيبه عند سماع كلام الرحمن، ما زاد على هذا له حالتان: الحالة الأولى: إن حصل بتكلف واستدعاء من الإنسان، فعليه في ذلك إثم ومعصية عند الرحمن، الحالة الثانية: إن لم يحصل بتكلف، إنما كون عليه ضارب عند سماع كلام الله عز وجل، فما تحمل لضعفه فصعق، واعتراه الغشي والغيبوبة، ثم استيقظ بعد ساعة أو ساعات أو مات، كما حصل هذا في التابعين الطيبين الطاهرين، كـزرارة بن أوفى كان قاضي بلاد الكوفة، توفي سنة ثلاث وتسعين للهجرة، وحديثه عندكم في الكتب الستة، وترجمته في تقريب التهذيب، يقول الحافظ في ترجمته: ثقة عابد.
ثبت في مستدرك الحاكم بسند صحيح وهو في حلية الأولياء، وكتاب الزهد للإمام أحمد : أن زرارة بن أوفى صلى في مسجد بني قشير فقرأ في صلاة الفجر سورة المدثر، فلما وصل إلى قول الله عز وجل: فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ [المدثر:8] ما أكمل السورة وخر في مكانه ميتاً.
هذا الذي حصل في زمن التابعين، من الصعق والموت عند سماع القرآن، هذا ما حكمه؟ أولاً: نقول: هذا يدل على نقص؛ لأن الكمال أن يتفاعل مع القرآن دون أن يعتريه شيء من النقصان، لا من غيبوبة ولا من موت، وهذا هو حال الكمل من نبينا عليه الصلاة والسلام وصحبه، فيدل على نقص قطعاً وجزماً، لكن هذا النقص هو فيه معذور، وعليه مأجور بإذن العزيز الغفور، ولذلك قال ابن الجوزي في تلبيس إبليس في صفحة سبع وخمسين ومائتين، وابن تيمية في مجموع الفتاوى في الجزء الحادي عشر، صفحة تسعين وخمسمائة، قال: السبب إذا لم يكن محظوراً كان صاحبه فيما تولد عنه معذوراً، يعني: سماع القرآن ليس بمحظور ولا، بل هو ممنوع قربى، فصاحبه فيما تولد عنه معذور، فلو أن إنساناً سمع القرآن ثم جاءت بعد ذلك آيات لو أنزلت على الجبال لفتتها كما قال الله: لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ [الحشر:21]، فما تحمل فصاح ومات، وهذا وقع في التابعين بكثرة، لماذا؟ لضعفهم، وكثرة خشوعهم، وقوة تعظيمهم لكلام ربهم، أما الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين فكانوا يتحملون، فتقشعر الجلود، وتدمع الأعين، وتخاف وتوجل القلوب، لكن لا يحصل لهم صعق، ولا يحصل الموت، وهذا حال الكمال، وما حصل، وفي زمن التابعين بكثرة فيعذرون عليه ويؤجرون؛ لأنهم لم يتكلفوا ذلك، وما تعرضوا له، إنما سمع القرآن وهو مأمور بسماعه، فإذا كان السبب ليس محظوراً يكون صاحبه فيما تولد عنه معذوراً، لكن لا يدل هذا على كمال، فالكمال ما كان عليه نبينا عليه الصلاة والسلام وصحبه الكرام الكاملون المكملون عليهم جميعاً رضوان الحي القيوم.
كان عبد الله بن مسعود يقرأ القرآن غضاً رطباً كما أنزل، ولا زلنا في مكانته العلمية رضي الله عنه.
وقد أمرنا خير البرية أن نستقرئ القرآن، وأن نأخذه، وأن نتعلمه من أربعة من الصحابة الكرام على رأسهم وفي مقدمتهم ابن أم عبد ، والحديث رواه الإمام أحمد في المسند، والشيخان في الصحيحين، والترمذي في السنن، وابن سعد في الطبقات، وأبو نعيم في الحلية، والحاكم في المستدرك مع كونه -كما قلت- في الصحيحين، من رواية مسروق قال: أتينا عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه، فذكرنا عنده عبد الله بن مسعود، فقال عبد الله بن عمرو بن العاص: ذكرتم رجلاً لا أزال أحبه منذ أن سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (خذوا القرآن من أربعة:
عبد الله بن عمرو يقول: أنا لا أزال أحبك، وكيف لا نحب من كان النبي عليه الصلاة والسلام يحبه! لكن -كما قلت- ليبين لنا أن الأمور ينبغي أن توضع في مواضعها قال: أنتم ذكرتم رجلاً القلب يتعلق به، منذ أن سمعت النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (خذوا القرآن من أربعة:
ثبت في المستدرك في الجزء الثالث، صفحة خمس وعشرين ومائتين، من رواية علقمة ، وتقدم معنا أن علقمة هو ألصق الناس بشيخه حبر الأمة وإمامها عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( خذوا القرآن من أربعة:
لقد روي ما يدل على مكانة عبد الله بن مسعود في العلم عن جمع غفير من الصحابة، وأنهم كانوا يوصون بأن يتلقى العلم عنه، وأن يؤخذ القرآن منه، من ذلك ما رواه الترمذي وقال: حسن غريب صحيح، من رواية يزيد بن عميرة قال: (لما احتضر
إذاً خذوا العلم من هؤلاء الأربعة، الشاهد معنا عبد الله بن مسعود ، ومعه عويمر أبو الدرداء ، وسلمان الفارسي ، وعبد الله بن سلام رضي الله عنهم أجمعين.
قبل أن ننتقل إلى الأمر الثالث لا زلنا في الأمر الثاني وهو في بيان مكانته العلمية، ومنزلته في ذلك بين الصحابة الكرام، إذا كانت منزلة عبد الله بن مسعود كما تقدم معنا رضي الله عنه، وهو أقرأ الناس بكلام الله عز وجل، وله تلك المنزلة العظيمة بين الصحابة الكرام، فيحق له أن يقول ما سنذكره عنه، وهذا من باب التحدث بنعمة الله عليه، لا من باب الفخر، كما قال ربنا: وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ [الضحى:11]، يقول كما في الصحيحين، وسنن النسائي ، والأثر رواه الخطيب البغدادي في كتاب الرحلة في طلب الحديث -وكنت ذكرت هذا الكتاب في مباحث سابقة، وقلت إنه يقصد من هذا الكتاب من رحل من أئمتنا في حديث واحد، لا في طلب الحديث مطلقاً، فأولئك لا يحصون، بل يحتاج عدهم إلى كتب، لكن من رحل من المسلمين من الصحابة فمن بعدهم في طلب حديث واحد، يعني: يشد رحله من المدينة المنورة إلى مكة ليلتقي بـعقبة بن عامر ويتلقى عنه حديثاً، والكتاب ما أجمله وأظرفه في قرابة مائة وثمانين صفحة الرحلة في طلب الحديث، في صفحة خمس وعشرين أو ست وعشرين- وفي طبقات ابن سعد ، ورواه الفسوي في المعرفة والتاريخ، والطبري في أول تفسيره في الجزء الأول، صفحة ثمانين في الطبعة المحققة، ورواه ابن أبي داود في المصاحف، في صفحة أربع وعشرين، وهو ابن أبي داود صاحب السنن، وهو إمام ثقة عدل رضا، وإن تكلم والده فيه، وكل منهما إمام، بل بعض أئمتنا قدمه على والده، لكن في الحقيقة تقديم الوالد ينبغي أن يكون هو المعتبر، لكن تكلم والده فيه، ومع ذلك فهو ثقة عدل إمام رضا من أحبار زمانه، عن مسروق قال: (سمعت
ذكر هناك: أين، وهنا: فيم، يعني: في أي شيء؟ وما موضوعها؟ وماذا تعالج؟ وما أحكامها؟ يعني: أعلم المكان وأعلم المعنى والتفسير، وأين نزلت السور، وماذا يراد بكل آية أعلمه، فانظر لهذه المكانة، فيحق له أن يقول هذا إذا كانت له تلك المكانة كما تقدم معنا.
ثم قال تكملة الأثر: ولو أعلم أن أحداً أعلم مني بكتاب الله تبلغه الإبل لرحلت إليه.
الخطيب البغدادي يورد هذا في الرحلة في طلب العلم والحديث، ويقول: هذا عبد الله بن مسعود، يقول: لو كان يعلم أحداً على وجه الأرض أعلم منه بكتاب الله عز وجل، والإبل تصل إليه لركب ورحل إليه، من أجل أن يتلقى عنه مكان نزول الآية أو معنى الآية، وهل هناك علم بعد هذا العلم؟ لا يوجد سورة إلا ويعلم أين نزلت، ولا يوجد آية من كتاب الله إلا ويعلم فيم أنزلت، ولو يعلم أن أحداً أعلم منه بكتاب الله تبلغه الإبل لرحل إليه، وفي بعض الروايات وهي ثابتة في الصحيحين، قال: (لقد قرأت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعاً وسبعين سورة، ولقد علم أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام)، والمعنى: هم يعلمون، وأنا أقول هذا، واسألوهم هل أحد ينكر عليّ؟ ولقد علم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أني أعلمهم بكتاب الله عز وجل، وما أنا بخيرهم، يعني: لما ذكر ما ذكر، قد يقال: أنت تزكي نفسك وتقدم نفسك على الصحابة، فكأنه يقول: انتبهوا العلم حصلته، لكن الخيرية هذه متروكة لرب البرية، وما أنا بخيرهم، ونحن نقول: من أقرأ القرآن وأقرأه فهو من خير الصحابة قطعاً وجزماً، وأنت من أقرأهم، فأنت أيضاً من خيرهم رضي الله عنهم أجمعين.
ثم قال: (ولو أعلم أن أحداً أعلم مني بكتاب الله تبلغه الإبل لرحلت إليه).
إذاً: أخذ من النبي عليه الصلاة والسلام من فمه مباشرة دون أن يتلقى هذا من واسطة بضعاً وسبعين سورة، والصحابة لا ينكرون هذا.
هذا الكلام عند الصحابة الكرام، وهل يسلمون بها؟
قال أبو وائل شقيق بن سلمة : فجلست في الحلق أدور على مجالس الصحابة، ومجالس العلم عندما تحدث عبد الله بن مسعود بما تحدث، هل ينقضونه وينكرون عليه، فجلست في الحلق أسمع ما يقولون، فما سمعت راداً يقول غير ذلك، ولا يعارضه، بل كلهم موافقون على أنه من أعلمهم بكتاب الله عز وجل، ويقولون: هو من أعلمنا لا نعيب ذلك عليه ولا نرد قوله، ونحن نسلم له بذلك، هذا يقوله -كما قلت- أبو وائل شقيق من باب أن يبين لنا أن هذا القول قيل، لكنه أقر، وحتى لا يأتي إنسان يقول هو يقول، لكن الله عليم بحال الصحابة هل يسلمون أم لا؟ يقول: أنا كنت أدور على الحلق، وأتفقد مجالس العلم، بعد أن قال عبد الله بن مسعود ما قال، فما رأيت أحداً يرد هذا ولا يعيبه.
إذا كانت منزلته كما تقدم يحق له أن يقول هذا، وهو فيما قال صادق، وفيما أقسم بار غير حانث.
استمع المزيد من الشيخ عبد الرحيم الطحان - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
شرح الترمذي - باب الاستتار عند الحاجة، والاستنجاء باليمين، والاستنجاء بالحجارة [4] | 4045 استماع |
شرح الترمذي - باب ما جاء في فضل الطهور [6] | 3979 استماع |
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [9] | 3906 استماع |
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [46] | 3793 استماع |
شرح الترمذي - مقدمات [8] | 3787 استماع |
شرح الترمذي - باب مفتاح الصلاة الطهور [2] | 3771 استماع |
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [18] | 3570 استماع |
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [24] | 3486 استماع |
شرح الترمذي - باب ما يقول إذا خرج من الخلاء [10] | 3465 استماع |
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [6] | 3417 استماع |