شرح الترمذي - باب الاستنجاء بالحجرين [4]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه، أما بعد:

تحدثنا سابقاً عن ابن مسعود وعن إسلامه وما يدور حول هذا من صلته بالنبي عليه الصلاة والسلام.

المبحث الثاني: في ترجمته الزكية العطرة الطيبة الندية، قلت: هو من أعلم الصحابة بكتاب الله، وأقرئهم له.

في صحيح مسلم ، وكتاب المعرفة والتاريخ للإمام الفسوي ، ومستدرك الحاكم ، والحديث في صحيح مسلم فهو صحيح صحيح، من رواية أبي مسعود عقبة بن عمرو الأنصاري البدري رضي الله عنهم أجمعين، قال: (ما أعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك أحداً أعلم بكتاب الله من هذا القائم لـعبد الله بن مسعود ) وكان قائماً.

وقد شهد له بذلك الصحابة الكرام والخلفاء الراشدون المهتدون عليهم جميعاً رحمة الله ورضوانه.

ثبت في مسند الإمام أحمد ومستدرك الحاكم في الجزء الثاني صفحة سبع وعشرين ومائتين، والحديث رواه أبو نعيم في الحلية، والفسوي في المعرفة والتاريخ، وهو في مسند أبي يعلى كما في مجمع الزوائد في الجزء التاسع صفحة سبع وثمانين ومائتين.

والحديث رواه البزار والطبراني في معجمه الكبير، وابن حبان في صحيحه، والضياء المقدسي في الأحاديث الجياد المختارة، وإسناد الحديث رجاله رجال الصحيح غير قيس بن مروان ، وهو ثقة كما قال الإمام الهيثمي في المجمع، عن قيس بن مروان وهو من التابعين الكرام، قال: أتى عمر بن الخطاب رضي الله عنه رجل، وجاءه من بلاد الكوفة إلى المدينة المنورة -على منورها صلوات الله وسلامه- فقال له: يا أمير المؤمنين ! جئت من الكوفة وتركت بها رجلاً يملي المصاحف عن ظهر قلب، يجلس طلبة العلم فيملي عليهم فيكتبون هذا المصحف، وكل واحد يصبح عنده نسخة، لا يحتاج أن يمسك مصحفاً بين يديه، قال: ففزع عمر بن الخطاب وغضب غضباً شديداً، وقال: ويحك! انظر ما تقول، قال: أتيت من الكوفة وفيها رجل يملي المصاحف عن ظهر قلب، قال: ومن هو ويحك؟ قال: عبد الله بن مسعود ، قال: فما زال عمر يطفئ غضبه ويتسرى عنه حتى عاد إلى حاله، يعني: يهدأ نفسه، وهذا الانفعال الذي أصابه، ثم قال: أما إذ قلت ذاك، فإني لا أعلم فيمن بقي من الناس أحد أحق بذلك منه، وسأحدثك، (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يزال يسمر مع أبي بكر رضي الله عنه في مصالح المسلمين)، يذهب نبينا عليه الصلاة والسلام إلى بيت أبي بكر ويسمران في شؤون الأمة ورعايتها وتدبيرها.

ونبينا عليه صلوات الله وسلامه فيه صفتان: رسول الله، وأيضاً أمير المؤمنين؛ لأنه هو الحاكم عليه صلوات الله وسلامه، فهو رسول وإمام عليه صلوات الله وسلامه، يبحث في تدبير شؤون الأمة مع وزيره الصادق الأمين أبي بكر رضي الله عنه.

كان نبينا عليه الصلاة والسلام من عادته دائماً أن يسمر بعد العشاء مع أبي بكر في بيته في مصالح المسلمين وشؤون الأمة، قال عمر رضي الله عنه: (فكنت ليلة معهما في السمر وهما يتحدثان في شؤون الأمة وأنا أشاركهما، يقول: فلما خرجنا مررنا على المسجد)، وخرج عمر وأبو بكر مع النبي عليه الصلاة والسلام ليوصلاه إلى بيته إكراماً له بعد السمر، ثم يعود كل منهما إلى بيته رضي الله عنهم أجمعين، قال: (وإذا عبد الله بن مسعود في المسجد يصلي ويقرأ القرآن، فأنصت النبي صلى الله عليه وسلم إليه ثم قال: من سره أن يقرأ القرآن رطباً كما أنزل فليقرأه على قراءة ابن أم عبد)، فقوله: (من سره أن يقرأ القرآن رطباً كما أنزل)، أي: ليس فيه كلفة، كالشيء الرطب الذي تستلذه وتستسخنه، فمثلاً: الخبز إذا كان يابساً يصعب عليك تحتاج أن تذوبه بالماء، وإذا كان فيه النداوة والليونة تأكله بسهولة، وهكذا غيره، وهنا قرآن رطب، أي: لا كلفة فيه، يقرأه دون تصنع ودون تكلف ودون مراءاة. فيه السكينة فيه الوقار، فيه الخشوع، فيه الاستحضار والتدبر.

ثم قال النبي عليه الصلاة والسلام: (يا عبد الله ! سل تعطه)، لم يسمعه عبد الله بن مسعود ، إنما نبينا عليه الصلاة والسلام يقول: أنا سأكافئك والله يكرمني وهو أكرم الأكرمين، أنت الآن في هذا المقام سل والله سيعطيك سؤلك، سل تعطه، وسيأتينا في الرواية الأخرى ما الذي سأله عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، ذهب النبي عليه الصلاة والسلام بعد ذلك إلى بيته وعاد أبو بكر إلى بيته، ولم يعلم عبد الله بن مسعود بما حصل، لا بكلام النبي عليه الصلاة والسلام ولا بالبشارة.

يقول عمر رضي الله عنه: (فلما أصبحنا غدوت على عبد الله لأبشره فقال لي: سبقك أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه)، وما استبق الصحابة إلى خير قط إلا سبقهم إليه أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه كما سيأتينا، يقول عمر : (وما سابقته إلى خير إلا سبقني).

روى الإمام أحمد أيضاً في المسند، والبزار أيضاً، والطبراني في معجمه الكبير، وأبو نعيم في الحلية بسند حسن، ورواه ابن سعد في الطبقات عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه (أنه كان يصلي أيضاً في المسجد بعد العشاء الآخرة، قال: فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم بين أبي بكر وعمر)، أيضاً كان النبي عليه الصلاة والسلام يسمر في بيت أبي بكر ومعه عمر رضي الله عنهم أجمعين، فأتوا عبد الله بن مسعود وهو يصلي، يقول عمر رضي الله عنه: (فافتتح عبد الله بن مسعود سورة النساء فسحلها) بالحاء المهملة، وضبط بالجيم فسجلها، وهما بمعنى واحد، قال الإمام ابن الأثير في النهاية في غريب الحديث: سحلها من السح، والسح من السحل، والسحل والسحُ معناهما: الصب، أي: قرأها قراءة متصلة كأنه ماء يصب لا ينقطع، فسحلها، يعني: قرأها متصلة من أولها إلى آخرها في ركعة واحدة، فسجلها: من السجل، وهو: الصب أيضاً، أي: قرأها بكثافة، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (من أحب أن يقرأ القرآن غضاً)، هناك: (رطباً كما أنزل، فليقرأه بقراءة ابن أم عبد ، ثم قال: يا عبد الله ! سل تعطه، فقال عبد الله بن مسعود -بعد أن انتهى- : اللهم إني أسألك إيماناً لا يرتد، ونعيماً لا ينفد، وقرة عين لا تنقطع، وأسألك مرافقة نبيك عليه الصلاة والسلام في جنانك جنان الخلد)، وهي دعوته ما تركت خيراً إلا سألته، (إيماناً لا يرتد) يثبت عليه، وقد ثبت ولقي الله به ورجله أثقل من جبل أحد.

(نعيماً لا ينفد)، وهذا نعيم الجنة، (قرة عين)، سرور متواصل، ولذة وبهجة، بهجة الإيمان وانشراح الصدر لذكر الرحمن ومحبة النبي عليه الصلاة والسلام لا تنقطع، ولتكتمل بعد ذلك، وهذه أعظم الدعوات، في جنانك جنان الخلد، سأل هذه الأمور الأربعة رضي الله عنه وأرضاه.

(فجاءه أبو بكر رضي الله عنه وسأله عن الدعوات التي يدعو بها، فقال: من دعائي الذي لا أكاد أدعه هذه الأدعية: اللهم إني أسألك إيماناً لا يرتد، ونعيماً لا ينفد، وقرة عين لا تنقطع، ومرافقة نبيك في جنانك جنان الخلد).

وفي بعض الروايات قال له: (من دعائي الذي لا أكاد أدعه: اللهم إني أسألك إيماناً لا يبيد)، بمعنى: لا يرتد لا يفنى ولا ينقطع، إيماناً يلازمني حتى ألقى به ربي.

(إيماناً لا يبيد، وقرة عين لا تنفد -أي: لا تنقطع ولا تزول- وأسألك مرافقة نبيك في جنانك جنان الخلد) على نبينا وصحبه وآله صلوات الله وسلامه.

تقارب دعاء ابن مسعود مع دعاء النبي صلى الله عليه وسلم

هذه الأدعية التي كان يدعو بها عبد الله بن مسعود ثبت أن نبينا عليه الصلاة والسلام الطيب المحمود كان يدعو بها أيضاً، وعمار بن ياسر وهو أحد القرينين والشقيقين لـعبد الله بن مسعود في محبة نبينا عليه الصلاة والسلام لهما ومات وهو عنهما راض، كما تقدم معنا في حديث المسند، كان عمار بن ياسر يدعو بهذه الدعوات في آخر صلاته.

ثبت الحديث بذلك في مسند الإمام أحمد ، وسنن النسائي ، وصحيح ابن خزيمة ، ومستدرك الحاكم ، والحديث رواه البيهقي لكن في الأسماء والصفات، ورواه الدارقطني في السنن، ورواه الإمام الدارمي في الرد على الجهمية، والحديث إسناده صحيح كالشمس من رواية عمار بن ياسر رضي الله عنه، (أنه صلى صلاة فأوجز فيها)، أي: في القعود الأخير، ولم يطل ليتمكن من وراءه من كثرة الدعاء والالتجاء إلى رب الأرض والسماء، فقالوا: (لقد خففت يا أبا اليقظان ! فقال: لقد دعوت بدعاء كان يدعو به رسول الله صلى الله عليه وسلم)، يعني: من الدعاء المحكم، (فتبعه بعض الناس فقال: وما هو الدعاء الذي كان يدعو به رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر صلاته قبل سلامه؟ قال: قلت: الدعاء هو: اللهم بعلمك الغيب، وقدرتك على الخلق، احييني ما علمت الحياة خيراً لي، وتوفني ما علمت الوفاة خيراً لي، اللهم إني أسألك خشيتك في السر والعلن، وكلمة الحق في الرضا والغضب، والقصد في الغنى والفقر، وأسألك نعيماً لا ينفد، وقرة عين لا تنقطع، وأسألك الرضا بعد القضاء، وبرد العيش بعد الموت، وأسألك الشوق إلى لقائك، ولذة النظر إلى وجهك الكريم في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة، اللهم زينا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين)، ومع كل هذا الدعاء يقولون له: أوجزت وخففت، ويريدون أن يدعو أكثر، وقد جمع في دعائه الخيرات من أولها إلى آخرها، ولو أن إنساناً دعا بهذا الدعاء في هذه الأيام لقالوا له: نفرت، هناك قصرت وهنا نفرت، فكم حصل تفاوت بيننا وبينهم رضي الله عنهم وعنا معهم بفضله ورحمته.

(وأسألك نعيماً لا ينفد) هذا هو محل الشاهد، ولهذا أوردت هذا الحديث، (وأسألك الشوق إلى لقائك ولذة النظر إلى وجهك الكريم في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة)، أي: يحصل لي هذا بغير امتحان ولا مناقشة حساب، ولا إرهاق ولا تعب، (في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة).

يذكرون في ترجمة ابن عقيل الحنبلي وهو من أئمة الحنابلة الكرام، لكن كان أحياناً عنده شيء من الخلل؛ لأنه صاحب المعتزلة، فحصل في اعتقاده لوثة كما قال أئمتنا، والحنابلة استتابوه فتاب وأقلع، لكن بقي فيه بقايا كما قال أئمتنا في الغزالي عليه رحمة الله، يقول تلميذه أبو بكر بن العربي : شيخنا أبو حامد ابتلع الفلسفة وأراد أن يتقيأها فما استطاع، يعني: بقي فيه نزعة ونزغة من نزعاتها ونزغاتها، وقد ألف كتابه (تهافت الفلاسفة) وقضى عليهم وكفرهم في ثلاثة أمور وبدعهم في سبع عشرة خصلة، ومع ذلك يقول: تقيأها فما استطاع أن يخرج ما علق منها بقلبه على وجه التمام والكمال.

وهكذا ابن عقيل رأى مرة بعض الناس يدعو فقال: اللهم إني أسألك الشوق إلى لقائك، ولذة النظر إلى وجهك الكريم، وعلى مذهب المعتزلة الضالين: ليس لله وجه يتصف به، ومن باب أولى ليس عندهم إيمان بالرؤية تحصل من المؤمنين له، فقال: يا هذا! هب أن له وجهاً أتلتذ برؤيته أيضاً؟ قال الإمام ابن تيمية عليه رحمة الله: وما أنكره ابن عقيل هو الثابت عن نبينا الجليل عليه الصلاة والسلام، وليس له داعي، هذا كلام النبي عليه الصلاة والسلام: أسألك الشوق إلى لقائك، ولذة النظر إلى وجهك الكريم.

وما المانع من أن نتمتع بجمال الله وجلاله بكرمه وفضله سبحانه وتعالى، فنحن لا نستحق إلا النار وغضب الجبار، ولكن فضل الله واسع، فلا نراه إلا بفضله وكرمه ونعمته، وهو الذي تجلى لأوليائه سبحانه وتعالى لرضوانه عليهم، كما احتجب عن أعدائه لسخطه عليهم.

ويتجلى لنا ربنا -كما ثبت هذا عن نبينا عليه الصلاة والسلام ضاحكاً- ومن ضحك الله إليه فلا حساب عليه.

والإمام النسائي أورده في سننه في كتاب الصلاة ما يقال بعد التشهد، قال: باب دعاء آخر، يعني: أدعية أخرى غير ما ورد عن النبي عليه الصلاة والسلام، وأنه كان يستعيذ بالله من أربع، أيضاً كان يدعو بهذا الدعاء، فهذا الدعاء كان يدعو به عمار ، قلت: وهو منقول عن نبينا المختار عليه وعلى آله وصحبه صلوات الله وسلامه، وجه الشاهد فيه: (نعيماً لا ينفد، وقرة عين لا تنقطع)، أما عبد الله بن مسعود فيقول: (إيماناً لا يرتد، ونعيماً لا ينفد، وقرة عين لا تنقطع، وأسألك مرافقة نبيك صلى الله عليه وسلم في جنانك جنان الخلد)، وهذه الدعوات الأربع لو لهجنا لعل الله أن يتكرم علينا بفضله ورحمته إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.

الإشادة بقراءة ابن مسعود من عدة طرق

وقد ورد الحديث بالإشادة بقراءة عبد الله بن مسعود بالمعنى المتقدم من غير طريق عمر ، وطريق عبد الله بن مسعود ، رواه الحاكم في المستدرك في الجزء الثاني صفحة ثمان وعشرين ومائتين من رواية عمار بن ياسر رضي الله عنه وأرضاه، قال: (مر النبي صلى الله عليه وسلم على عبد الله بن مسعود وهو يقرأ حرفاً حرفاً)، أي: قراءة مفسرة مبينة محكمة لا هذرمة فيها ولا بعثرة، فقال: (من سره أن يقرأ القرآن كما أنزل فليقرأه على قراءة ابن أم عبد )، وهناك: رطباً وغضاً.

وقد ثبت الحديث من رواية رابعة عن علي رضي الله عنهم أجمعين، روى ذلك الحاكم في المستدرك في الجزء الثالث صفحة سبع عشرة وثلاثمائة، وقال: صحيح وأقره عليه الذهبي .

عن علي رضي الله عنه وأرضاه قال: (كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر) بدلاً عن عمر علي ، وهؤلاء الأربعة: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي لهم مجالسة خاصة مع النبي عليه الصلاة والسلام بالإضافة إلى هذا الخادم المبارك الطيب الطاهر وهو عبد الله بن مسعود رضي الله عنهم أجمعين، قال: (كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر ومن شاء الله من أصحابه، فمررنا على المسجد -أيضاً- في الليل، وعبد الله بن مسعود يقرأ القرآن، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: إن عبد الله بن مسعود يقرأ القرآن غضاً)، والرواية بمعنى الرواية الثانية (إن عبد الله بن مسعود يقرأ القرآن غضاً كما أنزل)، في الروايات المتقدمة: (من سره)، وهنا هو يقرأ غضاً كما أنزل، قال علي رضي الله عنه: (فوقف النبي عليه الصلاة والسلام ووقف الصحابة الكرام، فأثنى عبد الله بن مسعود على ربه بعد أن انتهى من صلاته)، وهو الآن لا يشعر بما حوله ومشغول بعبادة ربه، (وحمده فأحسن في حمده، ثم سأله فأجمل سؤله)، أي: سأل بالدعاء الجامع: ما قل لفظه وكثر معناه وهي الدعوات الأربع التي كان لا يدعها في دعائه، (وسأله فأحسن مسألته، فقال: اللهم إني أسألك إيماناً لا يرتد، ونعيماً لا ينفد)، اقتصر على هذين الأمرين في رواية علي، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: (سل تعطه يا عبد الله ! سل تعطه، سل تعطه)، قال علي رضي الله عنه: (فغدوت على عبد الله بن مسعود لأبشره بما قال النبي المحمود عليه الصلاة والسلام، فوجدت أبا بكر قد سبقني) كما سبق عمر فلا أنت ولا عمر ولا عثمان ولا الصحابة الكرام كلهم رضي الله عنهم يسبقون أبا بكر ، ولو وضعتم في كفة ووضع أبو بكر في كفة لرجحت كفته على كفتكم رضي الله عنكم أجمعين، وأنتم ذهب خالص وعسل مصفى، لكن بعض القطع الذهبية قيمتها أثمن من بعض فقط من جهة ثقل وزنها وكبر حجمها وما شاكل هذا، هم ذهب لا شك في ذلك، ولا نقص في واحد منهم رضي الله عنهم، لكنهم يتفاوتون في المنزلة.

قال علي : (وكان أبو بكر سباقاً بالخير، فما استبق الصحابة إلى خير إلا سبقهم أبو بكر ).

هذه الأدعية التي كان يدعو بها عبد الله بن مسعود ثبت أن نبينا عليه الصلاة والسلام الطيب المحمود كان يدعو بها أيضاً، وعمار بن ياسر وهو أحد القرينين والشقيقين لـعبد الله بن مسعود في محبة نبينا عليه الصلاة والسلام لهما ومات وهو عنهما راض، كما تقدم معنا في حديث المسند، كان عمار بن ياسر يدعو بهذه الدعوات في آخر صلاته.

ثبت الحديث بذلك في مسند الإمام أحمد ، وسنن النسائي ، وصحيح ابن خزيمة ، ومستدرك الحاكم ، والحديث رواه البيهقي لكن في الأسماء والصفات، ورواه الدارقطني في السنن، ورواه الإمام الدارمي في الرد على الجهمية، والحديث إسناده صحيح كالشمس من رواية عمار بن ياسر رضي الله عنه، (أنه صلى صلاة فأوجز فيها)، أي: في القعود الأخير، ولم يطل ليتمكن من وراءه من كثرة الدعاء والالتجاء إلى رب الأرض والسماء، فقالوا: (لقد خففت يا أبا اليقظان ! فقال: لقد دعوت بدعاء كان يدعو به رسول الله صلى الله عليه وسلم)، يعني: من الدعاء المحكم، (فتبعه بعض الناس فقال: وما هو الدعاء الذي كان يدعو به رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر صلاته قبل سلامه؟ قال: قلت: الدعاء هو: اللهم بعلمك الغيب، وقدرتك على الخلق، احييني ما علمت الحياة خيراً لي، وتوفني ما علمت الوفاة خيراً لي، اللهم إني أسألك خشيتك في السر والعلن، وكلمة الحق في الرضا والغضب، والقصد في الغنى والفقر، وأسألك نعيماً لا ينفد، وقرة عين لا تنقطع، وأسألك الرضا بعد القضاء، وبرد العيش بعد الموت، وأسألك الشوق إلى لقائك، ولذة النظر إلى وجهك الكريم في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة، اللهم زينا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين)، ومع كل هذا الدعاء يقولون له: أوجزت وخففت، ويريدون أن يدعو أكثر، وقد جمع في دعائه الخيرات من أولها إلى آخرها، ولو أن إنساناً دعا بهذا الدعاء في هذه الأيام لقالوا له: نفرت، هناك قصرت وهنا نفرت، فكم حصل تفاوت بيننا وبينهم رضي الله عنهم وعنا معهم بفضله ورحمته.

(وأسألك نعيماً لا ينفد) هذا هو محل الشاهد، ولهذا أوردت هذا الحديث، (وأسألك الشوق إلى لقائك ولذة النظر إلى وجهك الكريم في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة)، أي: يحصل لي هذا بغير امتحان ولا مناقشة حساب، ولا إرهاق ولا تعب، (في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة).

يذكرون في ترجمة ابن عقيل الحنبلي وهو من أئمة الحنابلة الكرام، لكن كان أحياناً عنده شيء من الخلل؛ لأنه صاحب المعتزلة، فحصل في اعتقاده لوثة كما قال أئمتنا، والحنابلة استتابوه فتاب وأقلع، لكن بقي فيه بقايا كما قال أئمتنا في الغزالي عليه رحمة الله، يقول تلميذه أبو بكر بن العربي : شيخنا أبو حامد ابتلع الفلسفة وأراد أن يتقيأها فما استطاع، يعني: بقي فيه نزعة ونزغة من نزعاتها ونزغاتها، وقد ألف كتابه (تهافت الفلاسفة) وقضى عليهم وكفرهم في ثلاثة أمور وبدعهم في سبع عشرة خصلة، ومع ذلك يقول: تقيأها فما استطاع أن يخرج ما علق منها بقلبه على وجه التمام والكمال.

وهكذا ابن عقيل رأى مرة بعض الناس يدعو فقال: اللهم إني أسألك الشوق إلى لقائك، ولذة النظر إلى وجهك الكريم، وعلى مذهب المعتزلة الضالين: ليس لله وجه يتصف به، ومن باب أولى ليس عندهم إيمان بالرؤية تحصل من المؤمنين له، فقال: يا هذا! هب أن له وجهاً أتلتذ برؤيته أيضاً؟ قال الإمام ابن تيمية عليه رحمة الله: وما أنكره ابن عقيل هو الثابت عن نبينا الجليل عليه الصلاة والسلام، وليس له داعي، هذا كلام النبي عليه الصلاة والسلام: أسألك الشوق إلى لقائك، ولذة النظر إلى وجهك الكريم.

وما المانع من أن نتمتع بجمال الله وجلاله بكرمه وفضله سبحانه وتعالى، فنحن لا نستحق إلا النار وغضب الجبار، ولكن فضل الله واسع، فلا نراه إلا بفضله وكرمه ونعمته، وهو الذي تجلى لأوليائه سبحانه وتعالى لرضوانه عليهم، كما احتجب عن أعدائه لسخطه عليهم.

ويتجلى لنا ربنا -كما ثبت هذا عن نبينا عليه الصلاة والسلام ضاحكاً- ومن ضحك الله إليه فلا حساب عليه.

والإمام النسائي أورده في سننه في كتاب الصلاة ما يقال بعد التشهد، قال: باب دعاء آخر، يعني: أدعية أخرى غير ما ورد عن النبي عليه الصلاة والسلام، وأنه كان يستعيذ بالله من أربع، أيضاً كان يدعو بهذا الدعاء، فهذا الدعاء كان يدعو به عمار ، قلت: وهو منقول عن نبينا المختار عليه وعلى آله وصحبه صلوات الله وسلامه، وجه الشاهد فيه: (نعيماً لا ينفد، وقرة عين لا تنقطع)، أما عبد الله بن مسعود فيقول: (إيماناً لا يرتد، ونعيماً لا ينفد، وقرة عين لا تنقطع، وأسألك مرافقة نبيك صلى الله عليه وسلم في جنانك جنان الخلد)، وهذه الدعوات الأربع لو لهجنا لعل الله أن يتكرم علينا بفضله ورحمته إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.

وقد ورد الحديث بالإشادة بقراءة عبد الله بن مسعود بالمعنى المتقدم من غير طريق عمر ، وطريق عبد الله بن مسعود ، رواه الحاكم في المستدرك في الجزء الثاني صفحة ثمان وعشرين ومائتين من رواية عمار بن ياسر رضي الله عنه وأرضاه، قال: (مر النبي صلى الله عليه وسلم على عبد الله بن مسعود وهو يقرأ حرفاً حرفاً)، أي: قراءة مفسرة مبينة محكمة لا هذرمة فيها ولا بعثرة، فقال: (من سره أن يقرأ القرآن كما أنزل فليقرأه على قراءة ابن أم عبد )، وهناك: رطباً وغضاً.

وقد ثبت الحديث من رواية رابعة عن علي رضي الله عنهم أجمعين، روى ذلك الحاكم في المستدرك في الجزء الثالث صفحة سبع عشرة وثلاثمائة، وقال: صحيح وأقره عليه الذهبي .

عن علي رضي الله عنه وأرضاه قال: (كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر) بدلاً عن عمر علي ، وهؤلاء الأربعة: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي لهم مجالسة خاصة مع النبي عليه الصلاة والسلام بالإضافة إلى هذا الخادم المبارك الطيب الطاهر وهو عبد الله بن مسعود رضي الله عنهم أجمعين، قال: (كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر ومن شاء الله من أصحابه، فمررنا على المسجد -أيضاً- في الليل، وعبد الله بن مسعود يقرأ القرآن، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: إن عبد الله بن مسعود يقرأ القرآن غضاً)، والرواية بمعنى الرواية الثانية (إن عبد الله بن مسعود يقرأ القرآن غضاً كما أنزل)، في الروايات المتقدمة: (من سره)، وهنا هو يقرأ غضاً كما أنزل، قال علي رضي الله عنه: (فوقف النبي عليه الصلاة والسلام ووقف الصحابة الكرام، فأثنى عبد الله بن مسعود على ربه بعد أن انتهى من صلاته)، وهو الآن لا يشعر بما حوله ومشغول بعبادة ربه، (وحمده فأحسن في حمده، ثم سأله فأجمل سؤله)، أي: سأل بالدعاء الجامع: ما قل لفظه وكثر معناه وهي الدعوات الأربع التي كان لا يدعها في دعائه، (وسأله فأحسن مسألته، فقال: اللهم إني أسألك إيماناً لا يرتد، ونعيماً لا ينفد)، اقتصر على هذين الأمرين في رواية علي، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: (سل تعطه يا عبد الله ! سل تعطه، سل تعطه)، قال علي رضي الله عنه: (فغدوت على عبد الله بن مسعود لأبشره بما قال النبي المحمود عليه الصلاة والسلام، فوجدت أبا بكر قد سبقني) كما سبق عمر فلا أنت ولا عمر ولا عثمان ولا الصحابة الكرام كلهم رضي الله عنهم يسبقون أبا بكر ، ولو وضعتم في كفة ووضع أبو بكر في كفة لرجحت كفته على كفتكم رضي الله عنكم أجمعين، وأنتم ذهب خالص وعسل مصفى، لكن بعض القطع الذهبية قيمتها أثمن من بعض فقط من جهة ثقل وزنها وكبر حجمها وما شاكل هذا، هم ذهب لا شك في ذلك، ولا نقص في واحد منهم رضي الله عنهم، لكنهم يتفاوتون في المنزلة.

قال علي : (وكان أبو بكر سباقاً بالخير، فما استبق الصحابة إلى خير إلا سبقهم أبو بكر ).

وكما هي عادتنا في أن نستطرد في تعطير المجلس، سأذكر حديثاً في بيان سبق أبي بكر ، وما يتعلق الآن معنا بترجمة عبد الله بن مسعود.

يوطن أبو بكر نفسه على المنافسة كما تقدم معنا ولا علم له بأنه سينافسه أحد، ومع ذلك فطبيعته العفوية الطبيعية تسبق من ينافس، فكيف إذا لم ينافسوه! يعني: في حال منافستهم وسباقهم واستحضارهم يسبقهم دون مبالاة بهم، وكيف إذا لم يسابقوه، فكيف إذا سابقهم رضي الله عنهم أجمعين!

ثبت في سنن أبي داود والترمذي ، ومسند الإمام الدارمي ، والحديث إسناده صحيح عن عمر رضي الله عنه قال: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتصدق، فاغتنم عمر هذا وقال: وافق ذلك مني مالاً)، أي: هذا الأمر وافق وجود مال عندي، (فقلت: اليوم أسبق أبا بكر فإن سبقته يوماً من الدهر فسأسبقه هذا اليوم)، لم؟ عندي مال، والنبي عليه الصلاة والسلام أمر بالصدقة، فأبذل ما في وسعي وسنرى النتيجة، قال: (فذهبت فأتيت بنصف مالي إلى النبي عليه الصلاة والسلام فوجدت أبا بكر عنده، فعلم النبي عليه الصلاة والسلام ما بوجه عمر )، إذا كان هو سيد المحدثين فنبينا عليه الصلاة والسلام هو المحدث الأول من خلق الله أجمعين عليه وعلى آله وصحبه صلوات الله وسلامه، فقال: (يا عمر ! ما أبقيت لأهلك؟ قلت: مثله)، قسمته قسمين نصف صدقة ونصف في أهلي، (فالتفت إلى أبي بكر وقال: يا أبا بكر! ما أبقيت لأهلك؟ قلت: الله ورسوله فقال عمر رضي الله عنه: والله لا أسبقك أبداً)، ما دام الأمر كذلك، يعني: سأعرف حدي وأقف عنده.

وفي رواية في المسند قال عمر : ما استبقنا خيراً قط إلا سبقنا إليه أبو بكر .

إخوتي الكرام! المنافسة في الخير محمودة بلا شك، لكن مع كونها محمودة فهي تدل على نقص في الخير، لا أنها مذمومة، والذي لا ينافس أعلى درجة من الذي ينافس، ولذلك عمر كان ينافس في الخير -وهذا محمود- في استباق الخيرات، فليتنافس المتنافسون، لكن هذا دون من لم ينافس، فـعمر رضي الله عنه مثاله مثال نبي الله موسى على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه، كيف كان ينافس نبينا عليه الصلاة والسلام؟ ولما عرج بنبينا عليه الصلاة والسلام فوقه، يقول: فضلته أكرمته، وقال: هذا غلام بعث من بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر ما يدخل الجنة من أمتي، ولما سمع نبينا عليه الصلاة والسلام، وسيأتينا في الحديث في الصحيحين، وبعد ذلك بعض الزيادات في معجم الطبراني وغيره، قال نبينا عليه الصلاة والسلام لجبريل : (من هذا؟ قال: هذا نبي الله موسى أخوك، قال: وعلى من تذمره)، يتذمر على من، ويرفع صوته؟ قال: على ربه، قال: يرفع صوته على الله؟ قال: علم الله شدته فتحمل ذلك منه.

قال الإمام ابن تيمية عليه رحمة الله عند هذا الحديث في مجموع الفتاوى: وهذا من باب عدم ضياع الجميل لهذا النبي الجليل، فليس حاله كحال غيره من أنبياء الله ورسله، فنبي الله يونس على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه عندما جرى منه ما جرى، وحصل له ما حصل التقمه الحوت وهو مليم، فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِين * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [الصافات:143-144].

ونبي الله موسى حصل منه في هذه الحياة وفي عالم البرزخ ما حصل والله يتحمل منه، ويكافئه على مواقفه السابقة، ملك الموت -كما في الصحيحين- يضربه نبي الله موسى فيقلع عينيه، فما يغضب الله ولا يعاقب موسى ولا يعاتبه على ذلك، إنما يقول له: قل له: الحياة تريد؟ نحن نعطيك ما تريد، ضع يدك على متن ثور فلك بكل شعرة تغطيها يدك سنة، قال: ثم ماذا؟ قال: ثم الموت، فالموت لكل حي قال: فالموت إذاً.

وهنا في حادثة الإسراء والمعراج يجري منه ما يجري، ونبينا الله هارون أخوه ما عمل شيئاً يأخذ موسى بلحيته وبرأسه، فيقول: يَبْنَؤُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي [طه:94]، أي: ماذا عملت؟ إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي [طه:94]، ويلقي الألواح فتتكسر، وفيها كلام الله وهي التوراة، ويتحمل الله منه؛ لأنه بذل من الجد والاجتهاد والتغيير في دعوة الله ما لم يبلغه أحد ولا يفوقه في ذلك إلا نبينا عليه صلوات الله وسلامه، وقابل أعتى أهل الأرض في زمنه وهو العاتي فرعون، فتلك الجهود ينبغي أن تشكر.

وإذا الحبيب أتى بذنب واحد جادت محاسنه بألف شفيع

فموسى عليه السلام منافس، لكن درجته دون درجة نبينا عليه صلوات الله وسلامه قطعاً وجزماً، ونبينا لا ينافس أحداً، هو يمشي عفواً ويغلب غيره.

من لي بمثل سيرك المدلل تمشي رويداً وتجي في الأول

قال الإمام ابن تيمية : وأما أبو بكر فحاله كحال خير البرية عليه صلوات الله وسلامه، ما سابق أحداً، لكن هو السباق دائماً للصحاب، وهذا يقرره الإمام ابن تيمية في الجزء العاشر صفحة مائة وسبع عشرة من مجموع الفتاوى عند بحث المنافسة: وأنها مع كونها محمودة في أمور الخير، لكنها تدل على نقص في الكمال، وإذا كمل الإنسان فلا يبالي بغيره، ما دام أنه يمشي في طريقه ويعبد ربه فما له ولغيره، سبق أنه سبقكم من البداية ولازم ما في استطاعته، والمسابق يخفض عند المسابقة، ولذلك عمر يريد أن ينافس أتى بنصف المال ولعله لو لم يوجد منافسة لأتى بالربع، وأبو بكر بدون منافسة أتى بالمال كله، فشتان شتان.

وإذا أردت أن تعرف منزلة أبي بكر من النبي عليه الصلاة والسلام حياً وميتاً فانظر إلى منزلته في حياته وبعد مماته، فهو بديعه وألطف الناس به، ولا يمكن لبشر أن يتقدم أبا بكر بالقرب من النبي على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه،

ولذلك يقول الإمام ابن تيمية : نبي الله موسى ، وهكذا نوح، وهكذا عمر ، وهكذا خالد بن الوليد ، وهكذا، هؤلاء مظهر للجمال الإلهي، ونبي الله عيسى ، وهكذا خليل الرحمن إبراهيم مظهر للجمال الإلهي، ونحوهم الصديق عثمان رضي الله عنه وأرضاه، وأما نبينا عليه صلوات الله وسلامه هذا مظهر للجمال الإلهي، جمع الجلال والجمال، قال: ومن هذا الصنف أبو بكر ، فهذا رضي الله عنه وأرضاه مظهر للكمال يضع كل شيء في موضعه، إذا جاءت الشدة فلا أشد منه، وإذا جاءت الليونة فلا ألين منه رضي الله عنه وأرضاه.

ولذلك في كثير من المناسبات جوابي لا يختلف عن جواب خير البريات عليه وعلى آله وصحبه صلوات الله وسلامه ففي صلح الحديبية التي حصل فيها ما حصل، وكل الصحابة كان في رأيهم معارضة، وعمر رضي الله عنه يصول ويجول: ألسنا على الحق؟ أليسوا على الباطل؟ علام نعطي الدنية في ديننا؟ والنبي عليه الصلاة والسلام يجيبه بكلمة قف عند حدك: (أنا رسول الله ولن يضيعني الله)، يذهب إلى أبي بكر لعله يتوسط عند النبي عليه الصلاة والسلام، فماذا كان الجواب؟ يا عمر ! إنه رسول الله ولن يضيعه الله، الجواب هو هو، فقط غيروا الضمائر، يا عمر ! أنت تدري من تكلم، ما تعرف قدرك رضي الله عنه وأرضاه وعن الصحابة أجمعين، هذا رسول الله عليه الصلاة والسلام، ونحن نتكلم بين يديه لن يضيعه الله، وسمي ذاك الصلح فتحاً ترتب عليه فتح مكة بعد سنتين.

وهكذا في مناسبات كثيرة أبو بكر صورة طبق الأصل، لكن فقط ما حصل له نزول الوحي، أما الطينة والعريكة والطبيعة فواحدة لا خلاف بينهما على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه.

وتقدم معنا أن من أسباب نزول الوحي في فراش أمنا عائشة رضي الله عنها أنه صار سر أبيها إليها، فكان الوحي ينزل عليها في فراشها وضجاعها مع النبي عليه الصلاة والسلام لمنزلة أبيها، وإكراماً لأبيها، فلا يقولن قائل: إكراماً لزوجها عليه الصلاة والسلام على العين والرأس، لكن بقية الزوجات الأخريات ما كان ينزل الوحي في لحافهن، فبما أنها بضعة لذلك الذي هو صورة طبق الأصل لنبينا عليه الصلاة والسلام، فينزل الوحي حتى في لحافها وفراشها على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه.