شرح الترمذي - باب الاستنجاء بالحجرين [3]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة الطيبين وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً، سهل علينا أمورنا، وعلمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الراحمين، اللهم زدنا علماً نافعاً، وعملاً صالحاً بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين، سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك، سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك، اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد:

إخوتي الكرام! انتهينا من مدارسة الباب الثالث عشر من أبواب الطهارة من جامع الإمام أبي عيسى الترمذي عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا، وبقي علينا فقط ترجمة راوي حديث الباب، ألا وهو السيد الجليل الصحابي الفاضل المبارك عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه.

وهذا الرجل المبارك له منزلة عظيمة عند الله، ويحبه رسول الله عليه الصلاة والسلام، ومات نبينا عليه صلوات الله وسلامه وهو عنه راض، فسأقرر هذين الأمرين لبيان منزلته عند الله على وجه الإيجاز، ثم أتبع ذلك ببيان حب نبينا عليه الصلاة والسلام ورضاه عن هذا العبد الصالح عبد الله بن مسعود وعن الصحابة أجمعين، ثم أنتقل إلى تسطير الكلام على ترجمته المباركة ضمن ثلاثة أمور:

أولها: فيما يتعلق بنسبه ونشأته وصلته بنبينا صلى الله عليه وسلم.

وثانيها: في منزلته العلمية ومكانته.

وثالث الأمور: في بيان شيء من أقواله وحكمته لنسترشد بأقواله المباركة الطيبة النافعة.

إخوتي الكرام! أما منزلته عند الله فهي عظيمة، وقد أشار نبينا صلى الله عليه وسلم إلى هذا بعبارة موجزة بليغة، فأخبرنا أن رجل عبد الله بن مسعود عند ربنا المعبود أثقل في الميزان من جبل أحد، فكم لهذا الصحابي من وزن كبير عظيم، مع أنه سيأتينا في ترجمته رضي الله عنه وأرضاه أنه كان قصيراً ونحيفاً بحيث لو مشى والصحابة جلوس ربما زاد بعضهم طولاً على طوله! ومع ذلك فهذه الرجل النحيفة الصغيرة لها هذا المقدار عند العزيز القهار سبحانه وتعالى.

ثبت في مسند أبي يعلى ومعجم الطبراني الكبير، والحديث رواه أبو نعيم في حلية الأولياء، وابن سعد في الطبقات، ورواه الإمام الفسوي في المعرفة والتاريخ، وإسناد الحديث حسن نص على ذلك الهيثمي في المجمع، والحافظ ابن حجر في الإصابة من رواية سيدنا علي أمير المؤمنين رضي الله عنه وعن الصحابة أجمعين أنه قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن مسعود فصعد شجرة، وسيأتينا في بيان ماهية هذه الشجرة ونوعها، وأنها شجر الأراك ليجني هذا الصحابي من ثمرها لنبينا صلى الله عليه وسلم، فلما صعد الشجرة بدت ساقاه، وظهرت نحافة جسمه، فضحك الصحابة الكرام رضوان الله عنهم أجمعين من حموشة ساقيه، أي: من دقتهما ونحافتهما، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما تضحكون؟! لرجل عبد الله بن مسعود أثقل في الميزان عند الله من جبل أحد)، تضحكون من حموشة ساقيه ونحافة جسمه؟! هذه الرجل النحيفة الصغيرة أثقل عند الله جل وعلا من جبل أحد.

وهذا الحديث صحيح، وقد روي من غير طريق أمير المؤمنين علي رضي الله عنه وعن الصحابة أجمعين، فرواه معاوية بن قرة عن أبيه، وهو قرة بن إياس ، وهو من الصحابة الكرام الأسياد رضوان الله عنهم أجمعين، وقد توفي قرة بن إياس سنة أربع وستين من هجرة نبينا الأمين عليه صلوات الله وسلامه، وهو جد إياس بن معاوية القاضي المشهور الذي يضرب بذكائه المثل.

إذاً: عن معاوية بن قرة ، عن أبيه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للصحابة الكرام عندما ضحكوا من حموشة ساقي عبد الله بن مسعود رضي الله عنهم أجمعين، قال في هذه الرواية: (لهما)، وهناك: (لرجل)، (لهما أثقل في الميزان عند الله من جبل أحد).

والحديث من رواية معاوية بن قرة عن أبيه رواه الحاكم في المستدرك في الجزء الثاني في صفحة سبع عشرة وثلاثمائة، وقد صحح الإمام الحاكم الحديث وأقره عليه الإمام الذهبي ، ورواه أيضاً البزار والطبراني في معجمه الكبير كما في المجمع في الجزء التاسع صفحة تسع وثمانين ومائتين، ورواه أيضاً الإمام يعقوب الفسوي في كتابه المعرفة والتاريخ.

وروي الحديث أيضاً من رواية عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، هو ينقل هذا الكلام عن نبينا عليه الصلاة والسلام، وأنه قيل فيه: قال: (كنت أجتني للنبي صلى الله عليه وسلم من ثمر الأراك، فضحك الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين من حموشة ساقيه)، من نحافتهما وضعفهما كما تقدم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لساقا عبد الله بن مسعود أثقل عند الله من جبل أحد)، والحديث من رواية عبد الله بن مسعود ثابت في المسند، ومعجم الطبراني الكبير، ورواه أبو يعلى والبزار ، وهو في طبقات ابن سعد ، وحلية الأولياء، ورواه أيضاً الإمام الفسوي في كتاب المعرفة والتاريخ، وإسناده أيضاً حسن.

هذه منزلة هذا العبد الصالح عند الله جل وعلا، رجله أثقل من جبل أحد، ويستحق هذه المنزلة كما سيأتينا في ترجمته ومكانته، وسيرته العطرة المباركة رضي الله عنه وأرضاه.

إخوتي الكرام! تقدم معنا سابقاً ضمن مباحث الحديث أن الذي يوزن عند الله جل وعلا ثلاثة أمور: الأعمال، وصحف الأعمال، والعمال، الأعمال وإن كانت أعراضاً يزنها الله ويجسدها بكيفية يعلمها ولا نعلمها، وتقدم معنا مراراً أن أمور الغيب لا ندخل عقولنا فيها، نقرها ونمرها ونفوض العلم بكيفيتها إلى الله جل وعلا، كما هو الحال في إيماننا بصفات ربنا وبسائر المغيبات التي لا يقف عليها حسنا، وهنا الأعمال توزن، يعني: الصلاة توزن والصوم يوزن والتسبيح يوزن، وقلنا: هذا ثابت عن نبينا عليه صلوات الله وسلامه في أحاديث كثيرة، منها: ما في المسند والصحيحين وسنن الترمذي وابن ماجه ، وقلت: إن هذا الحديث هو آخر حديث في صحيح البخاري من رواية أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم).

الشاهد: (ثقيلتان في الميزان)، أي: لهما وزن كبير، وتقدم معنا عند مبحث الطهارة ومنزلتها ومكانتها حديث أبي مالك الأشعري رضي الله عنه وأرضاه، وقلت: إنه في مسند الإمام أحمد وصحيح مسلم والسنن الأربع إلا سنن أبي داود ، ورواه الإمام الدارمي أيضاً، ولفظ الحديث عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال: (الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن أو تملأ ما بين السماء والأرض)، إلى آخر الحديث.

إذاً: الحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم ثقيلتان في الميزان، فالأعمال توزن بكيفية يعلمها الله ولا نعلمها، كما توزن صحف الأعمال، وتقدم معنا حديث البطاقة من رواية عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، وقلت: إن الحديث صحيح ثابت كالشمس وضوحاً في المسند وسنن الترمذي وابن ماجه ومستدرك الحاكم ، والحديث رواه عبد بن حميد في مسنده، ولفظه كما تقدم معنا عن نبينا عليه صلوات الله وسلامه أنه قال: (يصاح برجل من أمتي يوم القيامة فينشر له تسعة وتسعون سجلاً من الخطايا كل سجل كمد البصر، فيقال له: أتنكر هذا؟ فيقول: لا رب! فيقول الله له: أظلمتك الملائكة وكتبت عليك ما لم تعمل؟ فيقول: لا رب! هذا عملته وأنا معترف به، فيقول الله له: أعندك حسنة؟ فيحتقر الإنسان نفسه وعمله فيقول: لا رب! ويرى نفسه أنه قد هلك، فيقول الله له: بلى إن لك عندنا حسنة ولن تظلم، فيخرج الله له بطاقة)، والبطاقة أصغر من حجم الكف، كبطاقة التعريف التي تكتب على الثوب لبيان سعره ونمرته، كم نمرة؟ وكم سعر؟ بطاقة صغيرة للتعريف، فيها لا إله إلا الله محمد رسول الله عليه الصلاة والسلام، (فيقول: رب! وما تغني هذه البطاقة مع هذه السجلات تسعاً وتسعين، وكل واحد كمد البصر؟ فيقول الله له: احضر وزنك ولن تظلم وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ [الأنبياء:47]، ثم قال وهنا الشاهد: (فتوضع البطاقة في الكفة، والسجلات في الكفة الأخرى، فتطيش السجلات وتتلاشى ولا يثقل شيء مع اسم الله جل وعلا).

فالذي وزن هنا صحف الأعمال، ويوزن العمال ومنه هذا الحديث الذي معنا: (رجل عبد الله بن مسعود أثقل عند الله يوم القيامة من جبل أحد)، وتقدم معنا حديث في الصحيحين أيضاً وغيرهما من رواية أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يؤتى بالرجل العظيم السمين يوم القيامة فلا يزن عند الله جناح بعوضة، واقرءوا إن شئتم: فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا [الكهف:105])، فهذا نحيف الجسم ورجله أثقل من جبل أحد، وذاك عظيم سمين لا يزن عند الله جناح بعوضة.

إخوتي الكرام! المرء بأصغريه: بقلبه، ولسانه، وهذا العبد الصالح عنده جنان طاهر، ولسان ذكي فاضل، فينبغي أن يثقل وزنه عند الله القاهر سبحانه وتعالى، وأما ما عدا هذا فما بقي إلا لحم ودم، وتستوي فيهما مع الحيوانات البهيمية، لكن أنت فضلك الله بلسانك الذي يعبر عما في جنانك وبالجنان الطاهر، ولا يوجد شيء أطيب منهما إذا طابا، كما أنه لا يوجد شيء أخبث منهما إذا خبثا، أخبث ما في الإنسان إذا خبث قلبه ولسانه، واللسان ترجمان القلب، وأطيب ما في الإنسان إذا طاب قلبه ولسانه، وإذا صلح القلب صلح الجسد كله، (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب)، فلا عبرة بعد ذلك بالصورة الظاهرة، ولا وزن لها ولا اعتبار عند العزيز القهار سبحانه وتعالى.

فهذه هي منزلة هذا الصحابي، وهذا هو ابن مسعود عند الله يوم القيامة، رجله أثقل من جبل أحد ليست كجبل أحد، بل أثقل، وهذا كما قال الله: فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ [الحاقة:20-21]، فهذا الذي ستثقل موازينه نسأل الله أن يثقل موازيننا بفضله ورحمته، إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.

إذاً: هذا هو العبد الصالح الذي سنتدارس ترجمته المباركة، وسيرته العطرة الفاضلة، هذا له وزن كبير عند الله، فينبغي أن نتعرف على خبره.

حب رسول الله صلى الله عليه وسلم لابن مسعود

كان عبد الله بن مسعود رضي الله عنه محبوباً عند نبينا عليه الصلاة والسلام، وشهد الصحابة أن النبي صلى الله عليه وسلم توفي وهو له محب وعنه راض، وإذا كان كذلك، فينبغي أن نعطر المجالس بأخبارهم الطيبة المباركة، والصحابة الكرام هم صورة لنبينا عليه الصلاة والسلام، ونحن عندما نتدارس سيرتهم وأخبارهم كأننا نتدارس حياة نبينا صلى الله عليه وسلم، فهو الذي رباهم وعلى هديه نشأوا على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه.

أما محبة نبينا عليه الصلاة والسلام رضي الله عنه له، فقد ثبت الحديث بذلك في مسند الإمام أحمد بسند رجاله رجال الصحيح من طرق متعددة كما في المجمع في الجزء التاسع صفحة تسعين ومائتين صفحة ثلاث وخمسين وثلاثمائة، فأورد الإمام الهيثمي هذا الحديث من طرق في ترجمة عبد الله بن مسعود ، كما أورده في ترجمة عمرو بن العاص رضي الله عنهم أجمعين.

قال الحسن البصري عليهم جميعاً رحمة الله: قال رجل أي من التابعين لـعمرو بن العاص : أرأيت رجلاً مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يحبه، أليس رجلاً صالحاً؟ قال: بلى. وهذا السائل يريد بالمحبوب والرجل الصالح عمرو بن العاص رضي الله عنهما. قال: بلى. فقال هذا السائل لـعمرو بن العاص : قد مات النبي صلى الله عليه وسلم وهو يحبك. فأبشر إذاً فأنت من الصالحين، دلل على محبته كما سيأتينا بأن النبي عليه الصلاة والسلام كان يستعمل عمرو بن العاص أميراً على الغزوات والسرايا التي يذهب فيها، ولا يستعمل إلا من كان محبوباً مقرباً، فانظر لـعمرو بن العاص ، ولاحتقاره لنفسه، ولوضع الأمر في موضعه رضي الله عنه وأرضاه.

قال عمرو بن العاص : أجل قد استعملني رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن والله ما أدري استعملني حباً لي، أي: أنه يحبني فاستعملني، أو استعانة بي؛ لأن عندي حنكة وذكاء ودهاء رضي الله عنه وأرضاه.

وفي بعض الروايات في المسند: أو تألفاً يتألفني. يقول: أنا ما عندي بينة، ولا أعرف هل استعملني النبي عليه الصلاة والسلام لأنه يحبني؟ أو استعملني من أجل أن يستعين بما عندي من ذكاء؟ أو يتألفني عليه صلوات الله وسلامه؟ وعليه لا تستدل باستعمال النبي عليه الصلاة والسلام لي على ما استنبطت منه، ولكن أشهد على رجلين أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحبهما وماتا وهو عنهما راض، أما أنا فليس فيّ تصريح بذلك، فقيل له: منهما؟ قال: عبد الله بن مسعود ، وعمار بن ياسر رضي الله عنهم أجمعين.

وفي بعض روايات المسند: ابن أم عبد وابن سمية رضي الله عنهم أجمعين.أي: عمار بن ياسر الذي أمه سمية ، وعبد الله بن مسعود الذي ينسب كما سيأتينا، فيقال: ابن أم عبد رضي الله عنهم أجمعين.

فهذه مقدمة لترجمة هذا العبد الصالح في بيان منزلته عند الله، وفي بيان حب رسول الله صلى الله عليه وسلم له ورضاه عنه.

وأما الترجمة التفصيلية فتدور على ثلاثة أمور:

نسبه، ونشأته، وعلمه ومنزلته، ونذكر بعد ذلك طرفاً ونبذة من أقواله وحكمته نستضيء بها ونسترشد بها في حياتنا رضي الله عنه وأرضاه.

حال عبد الله بن مسعود مع رسول الله

وعبد الله بن مسعود رضي الله عنه له شأن في الإسلام، فهو سادس من أسلم، ولم يسبقه في الإسلام إلا خمسة من الصحابة الكرام، فهو في الإسلام كالخميرة في العجين، وكالأساس للبنيان المحكم المتين، وأسلم قبل دخول نبينا عليه الصلاة والسلام دار الأرقم بن أبي الأرقم ، فله شأن ومنزلة، فانتبهوا لأخباره وأحواله رضي الله عنه وأرضاه.

قال الإمام الذهبي في ترجمته في السير في الجزء الأول صفحة واحد وستين وأربعمائة: هو الإمام الحبر فقيه الأمة من السابقين ومن النجباء العاملين، كان معدوداً في أذكياء العلماء، ونبلاء الفقهاء، وسادة القراء، رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين.

أسلم قبل عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فإسلام عمر كان بعد أن سبقه تسعة وثلاثون، وهو المسلم الأربعون، رضي الله عنهم أجمعين.

أسلم قبل عمر ، وقبل دخول النبي صلى الله عليه وسلم دار الأرقم بن أبي الأرقم ، كما ثبت ذلك في مستدرك الحاكم في الجزء الثالث صفحة اثنتي عشرة وثلاثمائة، وقد شهد عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه جميع المشاهد مع نبينا صلى الله عليه وسلم بدراً وأحداً والخندق وما بعدها، ولم يتخلف عن مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهاجر الهجرتين إلى الحبشة، ثم أكمل بالهجرة الثالثة إلى المدينة المنورة على نبينا صلوات الله وسلامه.

وكان صاحب سر رسول الله عليه الصلاة والسلام، ولا يزاحمه في ذلك أحد، وأما حذيفة فكان صاحب سر رسول الله عليه الصلاة والسلام في أمر خاص وهو في المنافقين فقط، أما هذا فهو أمين السر في كل شيء، وكان صاحب سواكه، سواك النبي عليه صلوات الله وسلامه يحمله عبد الله بن مسعود ويتبرك به، وكان صاحب سِواده، وسُوادُه بضم السين المهملة وكسرها وهو السرار، أي: النجوى والحديث السري الذي لا يطلع عليه أحد، وكان صاحب نعله وطهوره، يحمل نعل النبي عليه الصلاة والسلام كما يأتينا، وكان يتزين بهما إذا جلس نبينا عليه الصلاة والسلام فيجعل نعليه في ذراعيه، فإذا قام النبي عليه الصلاة والسلام قدم له النعلين، ونزعهما من ذراعيه رضي الله عنه وأرضاه.

ويحمل العصا للنبي عليه الصلاة والسلام كما سيأتينا، فإذا جلس النبي عليه الصلاة والسلام أعطاه العصا ليتوكأ عليها، فإذا قام النبي عليه الصلاة والسلام وضع له النعلين وأخذ منه العصا حتى إذا لبس النعلين قدم له العصا، وكان يمشي بين يدي النبي عليه الصلاة والسلام من أجل أن يهيئ له المكان، فإذا أراد النبي عليه الصلاة والسلام أن يدخل الحجرة يسبقه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه.

هذه مكانته وهذه حالته مع نبينا عليه الصلاة والسلام، ولذلك سيأتينا أنه كان أشبه الصحابة سمتاً ودلاً وهدياً بنبينا عليه صلوات الله وسلامه، فانطبقت صورة النبي عليه الصلاة والسلام في هذا العبد الصالح عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه، وهذه الأخبار التي ذكرتها ستأتينا الأدلة عليها مخرجة منسوبة إلى أصحابها من أهل الكتب المصنفة بإذن الله وعونه وتوفيقه.

تكنية رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن مسعود

إخوتي الكرام! عبد الله بن مسعود من المهاجرين، وهو سادس من أسلم، وكان يعرف أيضاً بأمه، فيقال له: عبد الله بن مسعود وابن أم عبد ، ورد هذا في أحاديث كثيرة، وقد كناه النبي عليه الصلاة والسلام بـأبي عبد الرحمن قبل أن يولد له ولد، ثبت ذلك في المستدرك بسند صحيح في الجزء الثالث صفحة ثلاثة عشرة وثلاثمائة، قال: (كناني رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا عبد الرحمن ولم يولد لي). ما ولد له في ذاك الوقت ولد، وجاءه أولاد بعد ذلك، كما سيأتينا في حاله وبيان أسرته رضي الله عنه وأرضاه، وفي ذلك دليل على جواز تكنية الإنسان قبل أن يولد له ولد، وعبد الله بن مسعود فعل هذا مع بعض التابعين فكناه قبل أن يولد له ولد اقتداءً بنبينا الأمين عليه الصلاة والسلام.

زففي كتاب الأدب المفرد للإمام البخاري وبوب عليه باب التكنية قبل أن يولد الولد، قال علقمة وهو أوثق الناس بـعبد الله بن مسعود كما سيأتينا، وتقدم معنا أنه أشبه الناس أيضاً بـعبد الله بن مسعود ، كما أن عبد الله بن مسعود هو أشبه الناس بنبينا عليه الصلاة والسلام، قال علقمة رضي الله عنه: كناني عبد الله ، يعني: عبد الله بن مسعود قبل أن يولد لي، كناني أبا شبل ، والشبل هو ولد الأسد.

كان عبد الله بن مسعود رضي الله عنه محبوباً عند نبينا عليه الصلاة والسلام، وشهد الصحابة أن النبي صلى الله عليه وسلم توفي وهو له محب وعنه راض، وإذا كان كذلك، فينبغي أن نعطر المجالس بأخبارهم الطيبة المباركة، والصحابة الكرام هم صورة لنبينا عليه الصلاة والسلام، ونحن عندما نتدارس سيرتهم وأخبارهم كأننا نتدارس حياة نبينا صلى الله عليه وسلم، فهو الذي رباهم وعلى هديه نشأوا على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه.

أما محبة نبينا عليه الصلاة والسلام رضي الله عنه له، فقد ثبت الحديث بذلك في مسند الإمام أحمد بسند رجاله رجال الصحيح من طرق متعددة كما في المجمع في الجزء التاسع صفحة تسعين ومائتين صفحة ثلاث وخمسين وثلاثمائة، فأورد الإمام الهيثمي هذا الحديث من طرق في ترجمة عبد الله بن مسعود ، كما أورده في ترجمة عمرو بن العاص رضي الله عنهم أجمعين.

قال الحسن البصري عليهم جميعاً رحمة الله: قال رجل أي من التابعين لـعمرو بن العاص : أرأيت رجلاً مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يحبه، أليس رجلاً صالحاً؟ قال: بلى. وهذا السائل يريد بالمحبوب والرجل الصالح عمرو بن العاص رضي الله عنهما. قال: بلى. فقال هذا السائل لـعمرو بن العاص : قد مات النبي صلى الله عليه وسلم وهو يحبك. فأبشر إذاً فأنت من الصالحين، دلل على محبته كما سيأتينا بأن النبي عليه الصلاة والسلام كان يستعمل عمرو بن العاص أميراً على الغزوات والسرايا التي يذهب فيها، ولا يستعمل إلا من كان محبوباً مقرباً، فانظر لـعمرو بن العاص ، ولاحتقاره لنفسه، ولوضع الأمر في موضعه رضي الله عنه وأرضاه.

قال عمرو بن العاص : أجل قد استعملني رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن والله ما أدري استعملني حباً لي، أي: أنه يحبني فاستعملني، أو استعانة بي؛ لأن عندي حنكة وذكاء ودهاء رضي الله عنه وأرضاه.

وفي بعض الروايات في المسند: أو تألفاً يتألفني. يقول: أنا ما عندي بينة، ولا أعرف هل استعملني النبي عليه الصلاة والسلام لأنه يحبني؟ أو استعملني من أجل أن يستعين بما عندي من ذكاء؟ أو يتألفني عليه صلوات الله وسلامه؟ وعليه لا تستدل باستعمال النبي عليه الصلاة والسلام لي على ما استنبطت منه، ولكن أشهد على رجلين أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحبهما وماتا وهو عنهما راض، أما أنا فليس فيّ تصريح بذلك، فقيل له: منهما؟ قال: عبد الله بن مسعود ، وعمار بن ياسر رضي الله عنهم أجمعين.

وفي بعض روايات المسند: ابن أم عبد وابن سمية رضي الله عنهم أجمعين.أي: عمار بن ياسر الذي أمه سمية ، وعبد الله بن مسعود الذي ينسب كما سيأتينا، فيقال: ابن أم عبد رضي الله عنهم أجمعين.

فهذه مقدمة لترجمة هذا العبد الصالح في بيان منزلته عند الله، وفي بيان حب رسول الله صلى الله عليه وسلم له ورضاه عنه.

وأما الترجمة التفصيلية فتدور على ثلاثة أمور:

نسبه، ونشأته، وعلمه ومنزلته، ونذكر بعد ذلك طرفاً ونبذة من أقواله وحكمته نستضيء بها ونسترشد بها في حياتنا رضي الله عنه وأرضاه.

وعبد الله بن مسعود رضي الله عنه له شأن في الإسلام، فهو سادس من أسلم، ولم يسبقه في الإسلام إلا خمسة من الصحابة الكرام، فهو في الإسلام كالخميرة في العجين، وكالأساس للبنيان المحكم المتين، وأسلم قبل دخول نبينا عليه الصلاة والسلام دار الأرقم بن أبي الأرقم ، فله شأن ومنزلة، فانتبهوا لأخباره وأحواله رضي الله عنه وأرضاه.

قال الإمام الذهبي في ترجمته في السير في الجزء الأول صفحة واحد وستين وأربعمائة: هو الإمام الحبر فقيه الأمة من السابقين ومن النجباء العاملين، كان معدوداً في أذكياء العلماء، ونبلاء الفقهاء، وسادة القراء، رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين.

أسلم قبل عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فإسلام عمر كان بعد أن سبقه تسعة وثلاثون، وهو المسلم الأربعون، رضي الله عنهم أجمعين.

أسلم قبل عمر ، وقبل دخول النبي صلى الله عليه وسلم دار الأرقم بن أبي الأرقم ، كما ثبت ذلك في مستدرك الحاكم في الجزء الثالث صفحة اثنتي عشرة وثلاثمائة، وقد شهد عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه جميع المشاهد مع نبينا صلى الله عليه وسلم بدراً وأحداً والخندق وما بعدها، ولم يتخلف عن مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهاجر الهجرتين إلى الحبشة، ثم أكمل بالهجرة الثالثة إلى المدينة المنورة على نبينا صلوات الله وسلامه.

وكان صاحب سر رسول الله عليه الصلاة والسلام، ولا يزاحمه في ذلك أحد، وأما حذيفة فكان صاحب سر رسول الله عليه الصلاة والسلام في أمر خاص وهو في المنافقين فقط، أما هذا فهو أمين السر في كل شيء، وكان صاحب سواكه، سواك النبي عليه صلوات الله وسلامه يحمله عبد الله بن مسعود ويتبرك به، وكان صاحب سِواده، وسُوادُه بضم السين المهملة وكسرها وهو السرار، أي: النجوى والحديث السري الذي لا يطلع عليه أحد، وكان صاحب نعله وطهوره، يحمل نعل النبي عليه الصلاة والسلام كما يأتينا، وكان يتزين بهما إذا جلس نبينا عليه الصلاة والسلام فيجعل نعليه في ذراعيه، فإذا قام النبي عليه الصلاة والسلام قدم له النعلين، ونزعهما من ذراعيه رضي الله عنه وأرضاه.

ويحمل العصا للنبي عليه الصلاة والسلام كما سيأتينا، فإذا جلس النبي عليه الصلاة والسلام أعطاه العصا ليتوكأ عليها، فإذا قام النبي عليه الصلاة والسلام وضع له النعلين وأخذ منه العصا حتى إذا لبس النعلين قدم له العصا، وكان يمشي بين يدي النبي عليه الصلاة والسلام من أجل أن يهيئ له المكان، فإذا أراد النبي عليه الصلاة والسلام أن يدخل الحجرة يسبقه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه.

هذه مكانته وهذه حالته مع نبينا عليه الصلاة والسلام، ولذلك سيأتينا أنه كان أشبه الصحابة سمتاً ودلاً وهدياً بنبينا عليه صلوات الله وسلامه، فانطبقت صورة النبي عليه الصلاة والسلام في هذا العبد الصالح عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه، وهذه الأخبار التي ذكرتها ستأتينا الأدلة عليها مخرجة منسوبة إلى أصحابها من أهل الكتب المصنفة بإذن الله وعونه وتوفيقه.

إخوتي الكرام! عبد الله بن مسعود من المهاجرين، وهو سادس من أسلم، وكان يعرف أيضاً بأمه، فيقال له: عبد الله بن مسعود وابن أم عبد ، ورد هذا في أحاديث كثيرة، وقد كناه النبي عليه الصلاة والسلام بـأبي عبد الرحمن قبل أن يولد له ولد، ثبت ذلك في المستدرك بسند صحيح في الجزء الثالث صفحة ثلاثة عشرة وثلاثمائة، قال: (كناني رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا عبد الرحمن ولم يولد لي). ما ولد له في ذاك الوقت ولد، وجاءه أولاد بعد ذلك، كما سيأتينا في حاله وبيان أسرته رضي الله عنه وأرضاه، وفي ذلك دليل على جواز تكنية الإنسان قبل أن يولد له ولد، وعبد الله بن مسعود فعل هذا مع بعض التابعين فكناه قبل أن يولد له ولد اقتداءً بنبينا الأمين عليه الصلاة والسلام.

زففي كتاب الأدب المفرد للإمام البخاري وبوب عليه باب التكنية قبل أن يولد الولد، قال علقمة وهو أوثق الناس بـعبد الله بن مسعود كما سيأتينا، وتقدم معنا أنه أشبه الناس أيضاً بـعبد الله بن مسعود ، كما أن عبد الله بن مسعود هو أشبه الناس بنبينا عليه الصلاة والسلام، قال علقمة رضي الله عنه: كناني عبد الله ، يعني: عبد الله بن مسعود قبل أن يولد لي، كناني أبا شبل ، والشبل هو ولد الأسد.