تسلية المؤمنين بقصص الصابرين
مدة
قراءة المادة :
44 دقائق
.
تسلية المؤمنين بقصص الصابرينمقدمة:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه، أرسله الله تعالى شاهدًا ومبشرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، بلغ رسالة ربه فأوذي إيذاء شديدًا، فصبر صبرًا جميلًا، فكان حليفه نصرًا عزيزًا، فحمد ربه وشكر كثيرًا، أما بعد:
فإن المسلم يبتلى بأمراض ومصائب وأحزان، فيحتاج إلى ما يذكره ويصبره، وقد رأيت أن المسلمين عامة - ونحن الفلسطينيين خاصة - قد وقع علينا من الابتلاءات والمصائب والأحزان والمحن الشيء الكثير، من ذلك: الجوع والفقر، والحصار والقتل والدمار، والأَسْر والتعذيب والحرمان، والاعتداءات على الممتلكات والمقدسات، وغيرها مما لا يحصيه إلا الله، فأحببت أن أذكر كل مبتلى ببعض القصص لمن حسن إسلامه وذاق حلاوة الإيمان، ممن ابتلي فصبر، وتأدب مع ربه وشكر، وهذه القصص فيها عبر وعظات لكل مريض ومحزون، ومهموم ومكروب ومغموم، لهم فيها تسلية وتثبيت وتذكير، سائلًا المولى سبحانه تفريج الكرب، وجلاء الحزن، وذهاب الهم والغم، والشفاء من كل داء لكل محزون.
يحيى نعيم خلة
تذكر يا مبتلى:
يا من أصابه هم وحزن وغم، إلى كل مريض ومبتلى في نفسه أو في أهله أو في ماله، يا فاقد عزيزٍ وصديق...، تذكر قول الله تعالى: ﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ﴾ [البقرة: 155]، وقوله تعالى: ﴿ الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ﴾ [العنكبوت: 1 - 3]، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن السعيد لمن جُنِّب الفتن، إن السعيد لمن جنب الفتن، إن السعيد لمن جنب الفتن، ولمن ابتلي فصبر فواهًا)؛ [سنن أبي داود، وصححه الألباني، وقوله: فواهًا؛ أي: ما أحسنَ فعله!]، وعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما يصيب المسلم من نصبٍ ولا وَصَبٍ ولا هم ولا حزنٍ (حزنٍ) ولا أذًى ولا غم، حتى الشوكة يشاكها، إلا كفَّر الله بها من خطاياه)؛ [صحيح البخاري]، وقوله صلى الله عليه وسلم: (يقول الله تعالى: ما لعبدي المؤمن عندي جزاءٌ إذا قبضت صفيه من أهل الدنيا ثم احتسبه، إلا الجنة)؛ [صحيح البخاري]، وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يتمنين أحدكم الموت لضرٍّ أصابه، فإن كان لا بد فاعلًا، فليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرًا لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرًا لي)؛ [متفق عليه].
فلا تحزن على ما أصابك؛ فإنما يبتلي الله من يحب، والله تعالى ما ابتلاك إلا لأنه أراد الخير لك في دنياك وآخرتك، فيغفر به ذنبك، أو يرفع قدرك؛ فصبرٌ جميلٌ، والله المستعان.
ارْضَ بحكم الله:
اعلم أيها المبتلى والمحزون: أن من عقيدة المسلم الراسخة الإيمان بالقضاء والقدر، خيره وشره؛ فرضاك بقضاء الله وقدره دليل على الإيمان؛ ذكر ابن أبي الدنيا بإسناده، قال: قال إبراهيم بن داود: (قال بعض الحكماء: إن لله عبادًا يستقبلون المصائب بالبِشْرِ)، قال: (فقال: أولئك الذين صفت من الدنيا قلوبهم)، ثم قال: قال وهب بن منبه: (وجدت في زبور داود: يقول الله تعالى: (يا داود، هل تدري من أسرع الناس ممرًّا على الصراط؟ الذين يرضَوْن بحكمي، وألسنتهم رطبة من ذكري).
ورحم الله ابن نصر الدين الدمشقي القائل:
سبحان من يبتلي أناسًا
أحَبَّهم، والبلا عطاءُ
فاصبر لبلوى وكن رضيًّا
فإن هذا هو الدواءُ
سلِّمْ إلى الله ما قضاه
ويفعل الله ما يشاءُ
ولله در القائل:
الصبرُ مثل اسمه مرٌّ مذاقتُه ♦♦♦ لكِنْ عواقبُه أحلى مِن العسلِ
مع إمام الصابرين:
قال الله تعالى: ﴿ فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ ﴾ [الأحقاف: 35].
قال السعدي رحمه الله: [ثم أمر تعالى رسوله أن يصبر على أذية المكذبين المعادين له، وألا يزال داعيًا لهم إلى الله، وأن يقتدي بصبر أولي العزم من المرسلين، سادات الخلق، أولي العزائم والهمم العالية، الذين عظُم صبرهم، وتم يقينهم؛ فهم أحق الخلق بالأسوة بهم، والقفو لآثارهم، والاهتداء بمنارهم.
فامتثل صلى الله عليه وسلم لأمر ربه؛ فصبر صبرًا لم يصبره نبي قبله، حتى رماه المعادون له عن قوس واحدة، وقاموا جميعًا بصده عن الدعوة إلى الله، وفعلوا ما يمكنهم من المعاداة والمحاربة، وهو صلى الله عليه وسلم لم يزل صادعًا بأمر الله، مقيمًا على جهاد أعداء الله، صابرًا على ما يناله من الأذى، حتى مكن الله له في الأرض، وأظهر دينه على سائر الأديان، وأمته على الأمم، فصلى الله عليه وسلم تسليمًا.
وقوله: ﴿ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ ﴾ [الأحقاف: 35]؛ أي: لهؤلاء المكذبين المستعجلين للعذاب؛ فإن هذا من جهلهم وحمقهم، فلا يستخِفُّنَّك بجهلهم، ولا يحملك ما ترى من استعجالهم على أن تدعو الله عليهم بذلك؛ فإن كل ما هو آتٍ قريب]؛ [تفسير السعدي].
فنبينا الكريم صلى الله عليه وسلم يبتليه الله سبحانه وتعالى فيصبر كما صبر إخوانه من الرسل والأنبياء، ولو تتبعنا سيرته الشريفة لوجدناه قد لقي الكثير من المحن والشدائد والصعاب والأحزان، ما بين تعذيب قومه له ولأصحابه، وموت أحبابه، واستشهاد بعض أنصاره، والكثير الكثير؛ فعن عروة: أن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم حدثته أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: (هل أتى عليك يومٌ كان أشد من يوم أحدٍ؟)، قال: (لقد لقيت من قومك ما لقيت، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة؛ إذ عرضت نفسي على ابن عبدياليل بن عبدكلالٍ، فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهمومٌ على وجهي، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب [السيل]، فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابةٍ قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل، فناداني فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك، وما ردوا عليك، وقد بعث الله إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، فناداني ملك الجبال، فسلم علي، ثم قال: يا محمد، إن الله قد سمع قول قومك لك، وأنا ملك الجبال، وقد بعثني ربك إليك لتأمرني بأمرك فيما شئت، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين [جبلان بمكة]، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبدالله وحده لا يشرك به شيئًا)؛ [متفق عليه].
فصبر على ما لقي منهم، ورحمهم، وهو الرحمة المهداة.
المشركون يستهزئون بالنبي صلى الله عليه وسلم:
عن عبدالله بن مسعودٍ رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي عند البيت، وأبو جهلٍ وأصحاب له جلوس، إذ قال بعضهم لبعضٍ: أيكم يجيء بسلا جزور بني فلانٍ فيضعه على ظهر محمدٍ إذا سجد، فانبعث أشقى القوم، فجاء به، فنظر حتى سجد النبي صلى الله عليه وسلم وضعه على ظهره بين كتفيه، وأنا أنظر لا أغير شيئًا، لو كان لي منعة، قال: فجعلوا يضحكون ويحيل بعضهم على بعضٍ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ساجد لا يرفع رأسه، حتى جاءته فاطمة، فطرحت عن ظهره، فرفع رأسه، ثم قال: (اللهم عليك بقريشٍ) ثلاث مراتٍ، فشق عليهم إذ دعا عليهم، قال: وكانوا يرون أن الدعوة في ذلك البلد مستجابة، ثم سمى: (اللهم عليك بأبي جهلٍ، وعليك بعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة، وأمية بن خلفٍ، وعقبة بن أبي معيطٍ)، وعد السابع فلم يحفظه، قال: (فوالذي نفسي بيده، لقد رأيت الذين عَدَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم صرعى في القليب، قليب بدرٍ)؛ [صحيح البخاري].
النبي صلى الله عليه وسلم طريد:
قد طرده المشركون من بلده حقدًا وحسدًا؛ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: وقف النبي صلى الله عليه وسلم على الحزورة [عند باب الحناطين في سوق مكة] فقال: (علمت أنك خير أرض الله، وأحب الأرض إلى الله، ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت)؛ [مسند أحمد، وصححه الألباني].
فصبر على ما أصابه وأصحابه وإخوانه؛ فكان النصر والعز والتمكين، ولقد ذاق شعبنا الفلسطيني ويلات الطرد والتشريد، فصبر جميل، والصبر يعقبه النصر، ﴿ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا ﴾ [الإسراء: 51].
ابتلاء نبي الله أيوب عليه السلام:
فقد لبث به بلاؤه ثمان عشرة سنة، فرفضه القريب والبعيد، إلا رجلين من إخوانه كانا يغدوان إليه ويروحان، فقال أحدهما لصاحبه ذات يوم: (تعلم والله لقد أذنب أيوب ذنبًا ما أذنبه أحد من العالمين)، فقال له صاحبه: (وما ذاك)؟ قال: (منذ ثمان عشرة سنة لم يرحمه الله فيكشف ما به)، فلما راحا إلى أيوب لم يصبر الرجل حتى ذكر ذلك له، فقال أيوب: (لا أدري ما تقولان، غير أن الله تعالى يعلم أني كنت أمر بالرجلين يتنازعان، فيذكران الله، فأرجع إلى بيتي فأكفر عنهما؛ كراهية أن يذكر الله إلا في حق)، قال: وكان يخرج إلى حاجته، فإذا قضى حاجته أمسكت امرأته بيده حتى يبلغ، فلما كان ذات يوم أبطأ عليها، وأوحي إلى أيوب أن ﴿ ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ ﴾ [ص: 42]، فاستبطأته، فتلقته تنظر وقد أقبل عليها قد أذهب الله ما به من البلاء، وهو أحسن ما كان، فلما رأته قالت: (أي بارك الله فيك، هل رأيت نبي الله هذا المبتلى؟ والله على ذلك ما رأيت أحدًا كان أشبه به منك إذ كان صحيحًا)، فقال: (فإني أنا هو)، وكان له أندران؛ [أي: بيدران، أندر للقمح، وأندر للشعير]، فبعث الله سحابتين، فلما كانت إحداهما على أندر القمح، أفرغت فيه الذهب حتى فاض، وأفرغت الأخرى في أندر الشعير الورق [الفضة] حتى فاض؛[صحيح ابن حبان، وصححه الألباني].
أبو طلحة الأنصاري وأم سليم:
عن أنسٍ رضي الله عنه قال: اشتكى ابن لأبي طلحة، فخرج أبو طلحة إلى المسجد، فتوفي الغلام، فهيأت أم سليمٍ الميت، وقالت لأهلها: لا يخبرن أحد منكم أبا طلحة بوفاة ابنه، فرجع إلى أهله ومعه ناس من أهل المسجد من أصحابه، قال: ما فعل الغلام؟ قالت: خير مما كان، فقربت إليهم عشاءهم، فتعشوا، وخرج القوم، وقامت المرأة إلى ما تقوم إليه المرأة، فلما كان آخر الليل، قالت: يا أبا طلحة، ألم تر إلى آل فلانٍ، استعاروا عاريةً فتمتعوا بها، فلما طلبت كأنهم كرهوا ذاك، قال: ما أنصفوا، قالت: فإن ابنك كان عاريةً من الله تبارك وتعالى، وإن الله قبضه، فاسترجع وحمد الله، فلما أصبح غدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رآه قال: (بارك الله لكما في ليلتكما)، فحملت بعبدالله، فولدته ليلًا، وكرهَتْ أن تحنكه حتى يحنكه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحملتُه غدوةً ومعي تمرات عجوةٍ، فوجدته يهنأ أباعر له [يعالج البعير من الجرب]، أو يَسِمها، فقلت: يا رسول الله، إن أم سليمٍ ولدت الليلة، فكرهت أن تحنكه حتى يحنكه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (أمعك شيء؟)، قلت: تمرات عجوةٍ، فأخذ بعضهن فمضغهن، ثم جمع بزاقه، فأوجره إياه، فجعل يتلمظ [يدير لسانه في فيه ويحركه يتتبع أثر التمر]، فقال: (حِبُّ الأنصار: التمرُ)، قال: قلت: يا رسول الله، سمِّه، قال: (هو عبدالله)، فقال رجل من الأنصار: (فرأيت لهما تسعة أولاد، كلهم قد قرأ القرآن)؛ [مسند أحمد، وأصله في البخاري].
فانظري رحمك الله يا أخيتي المسلمة، كيف صبرت المرأة الصالحة على مصابها، وقد عوضها ربنا جل وعلا تسعة من حفظة القرآن، هذا في الدنيا، فكيف بالجزاء الأخروي؟!
امرأة من أهل الجنة تمشي على الأرض:
عن عطاء بن أبي رباحٍ، قال: قال لي ابن عباسٍ: (ألا أريك امرأةً من أهل الجنة؟!) قلت: (بلى)، قال: (هذه المرأة السوداء، أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إني أُصرَع، وإني أتكشف، فادع الله لي)، قال: (إن شئت صبرت ولك الجنة، وإن شئت دعوت الله أن يعافيك)، فقالت: (أصبر، وإني أتكشف، فادع الله ألا أتكشف)، (فدعا لها)؛ [متفق عليه].
امرأة تصبر على مرضها من أجل جنة عرضها السموات والأرض، ولا تريد أن ينظر الناس إلى عورتها، فتطلب الدعاء من النبي صلى الله عليه وسلم ألا تتكشف حال صرعها، فما بال نساء اليوم إلا ما رحم ربي تخرج من بيتها كاسية عارية متطيبة؟! نسأل الله الهداية.
قصة عجيبة:
عن عبدالله بن محمدٍ قال: (خرجت إلى ساحل البحر مرابطًا، وكان رابطنا يومئذٍ عريش مصر)، قال: (فلما انتهيت إلى الساحل، فإذا أنا ببطيحةٍ، وفي البطيحة خيمة فيها رجل قد ذهب يداه ورجلاه، وثقل سمعه وبصره، وما له من جارحة تنفعه إلا لسانه)، وهو يقول: (اللهم أوزعني أن أحمدك حمدًا أكافئ به شكر نعمتك التي أنعمت بها عليَّ، وفضلتني على كثيرٍ ممن خلقت تفضيلًا)، قال عبدالله: قلت: (والله لآتين هذا الرجل ولأسألنه أنَّى له هذا الكلام، فهمٌ أم علم أم إلهام ألهم؟ فأتيت الرجل، فسلمت عليه، فقلت: سمعتك وأنت تقول: (اللهم أوزعني أن أحمدك حمدًا أكافئ به شكر نعمتك التي أنعمت بها عليَّ، وفضلتني على كثيرٍ ممن خلقت تفضيلًا)، فأي نعمةٍ من نعم الله عليك تحمده عليها؟ وأي فضيلةٍ تفضل بها عليك تشكره عليها؟).
قال: (وما ترى ما صنع ربي؟! والله لو أرسل السماء علي نارًا فأحرقتني، وأمر الجبال فدمرتني، وأمر البحار فغرقتني، وأمر الأرض فبلعتني، ما ازددت لربي إلا شكرًا؛ لما أنعم علي من لساني هذا، ولكن يا عبدالله إذ أتيتني لي إليك حاجة، قد تراني على أي حالةٍ أنا، أنا لست أقدر لنفسي على ضرٍّ ولا نفعٍ، ولقد كان معي بني لي يتعاهدني في وقت صلاتي فيوضيني، وإذا جعت أطعمني، وإذا عطشت سقاني، ولقد فقدته منذ ثلاثة أيامٍ، فتحسسه لي رحمك الله)، فقلت: (والله ما مشى خلق في حاجة خلقٍ كان أعظم عند الله أجرًا ممن يمشي في حاجة مثلك، فمضيت في طلب الغلام، فما مضيت غير بعيدٍ حتى صرت بين كثبانٍ من الرمل، فإذا أنا بالغلام قد افترسه سبع وأكل لحمه، فاسترجعت، وقلت: أنَّى لي وجه رقيق آتي به الرجل؟! فبينما أنا مقبل نحوه إذ خطر على قلبي ذكر أيوب النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أتيته سلمت عليه، فرد علي السلام فقال: (ألست بصاحبي؟)، قلت: (بلى)، قال: (ما فعلت في حاجتي؟)، فقلت: (أنت أكرم على الله أم أيوب النبي؟) قال: (بل أيوب النبي)، قلت: (هل علمت ما صنع به ربه؟ أليس قد ابتلاه بماله وآله وولده؟) قال: (بلى)، قلت: (فكيف وجده؟)، قال: (وجده صابرًا شاكرًا حامدًا)، قلت: (لم يرضَ منه ذلك حتى أوحش من أقربائه وأحبائه؟)، قال: (نعم)، قلت: (فكيف وجده ربه؟)، قال: (وجده صابرًا شاكرًا حامدًا)، قلت: (فلم يرضَ منه بذلك حتى صيره عرضًا لمارِّ الطريق، هل علمت؟) قال: (نعم)، قلت: (فكيف وجده ربه؟)، قال: (صابرًا شاكرًا حامدًا، أوجز رحمك الله)، قلت له: (إن الغلام الذي أرسلتني في طلبه وجدته بين كثبان الرمل وقد افترسه سبع فأكل لحمه، فأعظم الله لك الأجر، وألهمك الصبر)، فقال المبتلى: (الحمد لله الذي لم يخلق من ذريتي خلقًا يعصيه فيعذبه بالنار)، ثم استرجع وشهق شهقةً فمات، فقلت: (إنا لله وإنا إليه راجعون، عظمت مصيبتي، رجل مثل هذا إن تركته أكلته السباع، وإن قعدت لم أقدر على ضرٍّ ولا نفعٍ)، فسجيته بشملةٍ كانت عليه، وقعدت عند رأسه باكيًا، فبينما أنا قاعد إذ تهجم علي أربعة رجالٍ، فقالوا: (يا عبدالله، ما حالك؟ وما قصتك؟)، فقصصت عليهم قصتي وقصته، فقالوا لي: (اكشف لنا عن وجهه، فعسى أن نعرفه)، فكشفت عن وجهه، فانكب القوم عليه يقبلون عينيه مرةً، ويديه أخرى، ويقولون: (بأبي عين طالما غضت عن محارم الله، وبأبي وجسمه طالما كنت ساجدًا والناس نيام)، فقلت: (من هذا يرحمكم الله؟)، فقالوا: (هذا أبو قلابة الجرمي، صاحب ابن عباسٍ، لقد كان شديد الحب لله وللنبي صلى الله عليه وسلم)، فغسلناه وكفناه بأثوابٍ كانت معنا، وصلينا عليه ودفناه، فانصرف القوم، وانصرفت إلى رباطي، فلما أن جن علي الليل وضعت رأسي، فرأيته فيما يرى النائم في روضةٍ من رياض الجنة وعليه حلتان من حلل الجنة، وهو يتلو الوحي: ﴿ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ ﴾ [الرعد: 24]، فقلت: (ألست بصاحبي؟)، قال: )بلى)، قلت: (أنَّى لك هذا؟)، قال: (إن لله درجاتٍ لا تنال إلا بالصبر عند البلاء، والشكر عند الرخاء، مع خشية الله عز وجل في السر والعلانية)؛ [ابن حبان/ الثقات].
رحم الله أبا قلابة، لا يد ولا رِجل، ولا سمع ولا بصر، ثم تأكل السباع ولده الذي كان يخدمه، فيصبر ويحمد الله على نعمه؛ فعوضه الله روضة من رياض الجنة، فيا لها من كرامة!
قصة عقيب العالم العابد:
عن الحسن: أن رجلًا كان يقال له: عقيب، كان يعبد الله تعالى على جبل، وكان في ذلك الزمان رجل يعذب الناس بالمثلات [العقوبة والتنكيل]، وكان جبارًا، فقال عقيب: (لو نزلت إلى هذا فأمرته بتقوى الله، كان أوجب علي).
فنزل من الجبل، فقال له: (يا هذا، اتق الله)!
فقال له الجبار: (يا كلب، مثلك يأمرني بتقوى الله؟! لأعذبنك عذابًا لم يعذب به أحد من العالمين!)، قال: فأمر به أن يسلخ من قدمه إلى رأسه وهو حي! فسلخ، فلما بلغ بطنه أنَّ أنَّةً، فأوحى الله إليه: (عقيب، اصبر أخرجك من دار الحزن إلى دار الفرح، ومن دار الضيق إلى دار السعة).
فلما بلغ السلخ إلى وجهه، صاحَ، فأوحى الله إليه: (عقيب، أبكيت أهل سمائي وأهل أرضي، وأذهلت ملائكتي عن تسبيحي، لئن صحت الثالثة، لأصبن عليهم العذاب صبًّا)، فصبر حتى سلخ وجهه؛ مخافة أن يأخذ قومه العذاب؛ [ابن أبي الدنيا/ الصبر].
يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فيسلخ كسلخ الشاة، ومع ذلك فهو صابر محتسب.
صبر أم عقيل على موت ولدها:
ذكر أبو الفرج بن الجوزي في عيون الحكايات: قال الأصمعي: خرجت أنا وصديق لي إلى البادية، فضللنا الطريق، فإذا نحن بخيمة عن يمين الطريق، فقصدناها، فسلمنا، فإذا امرأة ترد علينا السلام، قالت: (ما أنتم؟)، قلنا: (قوم ضالون عن الطريق، أتيناكم فأنسنا بكم)، فقالت: (يا هؤلاء، ولُّوا وجوهكم عني، حتى أقضي من حقكم ما أنتم له أهل)، ففعلنا، فألقت لنا مسحًا، فقالت: (اجلسوا عليه إلى أن يأتي ابني)، ثم جعلت ترفع طرف الخيمة وتردها، إلى أن رفعتها، فقالت: (أسأل الله بركة المقبل، أما البعير فبعير ابني، وأما الراكب فليس بابني)، فوقف الراكب عليها، فقال: (يا أم عقيل، أعظم الله أجرك في عقيل)، قالت: (ويحك! مات ابني؟)، قال: (نعم)، قالت: (وما سبب موته؟)، قال: (ازدحمت عليه الإبل، فرمت به في البئر)، فقالت: (انزل فاقضِ ذمام القوم)، ودفعت إليه كبشًا، فذبحه وأصلحه، وقرب إلينا الطعام، فجعلنا نأكل ونتعجب من صبرها، فلما فرغنا، خرجت إلينا وقد تكورت، فقالت: (يا هؤلاء، هل فيكم من أحد يحسن من كتاب الله شيئًا؟)، قلت: (نعم)، قالت: (اقرأ من كتاب الله آيات أتعزى بها)، قلت: يقول الله عز وجل في كتابه: ﴿ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ﴾ [البقرة: 155 - 157]، قالت: (آلله، إنها لفي كتاب الله هكذا؟)، قلت: (آلله، إنها لفي كتاب الله هكذا!)، قالت: (السلام عليكم)، ثم صفَّت قدميها، وصلت ركعات، ثم قالت: (إنا لله وإنا إليه راجعون، عند الله أحتسب عقيلًا)، تقول ذلك ثلاثًا، (اللهم إني فعلت ما أمرتني به، فأنجز لي ما وعدتني)؛ [اليافعي/ مرآة الجنان].
صبر واحتساب ودعاء، أين نحن من هذه المرأة؟!
صبر مطرف رحمه الله:
عن ثابت قال: مات عبدالله بن مطرف، فخرج أبوه مطرف على قومه في ثياب حسنة وقد ادهن، فغضبوا، فقالوا: (يموت عبدالله وتخرج في مثل هذه مدهنًا؟) قال: (أفأستكين لها [هل أخضع للمصيبة؟] وقد وعدني ربي تبارك وتعالى عليها خصالًا، كل خصلة منها أحب إلي من الدنيا كلها؟! قال تعالى: ﴿ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ﴾ [البقرة: 156، 157]، فأستكين لها بعد ذلك؟! فوالله لو أن الدنيا وما فيها لي وأخذها الله مني ووعدني عليها شربة ماء غدًا، ما رأيتها لتلك الشربة أهلًا، فكيف بالصلوات والهدى والرحمة؟!) [ابن الجوزي/ صفة الصفوة؛ ابن عساكر/ تاريخ دمشق].
الربيع وفتنة المرأة:
ذكر ابن الجوزي عن سعدان قال: (أمر قوم امرأةً ذات جمال بارع أن تتعرض للربيع بن خثيم رحمه الله تعالى، فلعلها تفتنه، وجعلوا لها إن فعلت ذلك ألف درهم)، فلبست أحسن ما قدرت عليه من الثياب، وتطيبت بأطيب ما قدرت عليه، ثم تعرضت له حين خرج من مسجده، فنظر إليها، فراعه أمرها، فأقبلت عليه وهي سافرة، فقال لها الربيع: (كيف بك لو قد نزلت الحمى بجسمك فغيرت ما أرى من لونك وبهجتك؟ أم كيف بك لو قد نزل بك ملَك الموت فقطع منك حبل الوتين؟ أم كيف بك لو قد ساءلك منكر ونكير؟)، فصرخت صرخة فسقطت مغشيًّا عليها، (فوالله، لقد أفاقت وبلغت من عبادة ربها أنها كانت يوم ماتت كأنها جذع محترق)؛ [ابن الجوزي/ صفة الصفوة].
وهكذا يحاول فساق كل زمان فتنة المؤمنين والمؤمنات عن دينهم؛ فالصبر الصبر عباد الله، فما اتقى اللهَ عبدٌ إلا جعل له بعد كل ضيق وعسر فرَجًا ويسرًا.
لا تحزن واحمد الله:
عن عطاء بن يسار: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا مرض العبد، بعث الله إليه ملكين، فيقول: انظرا ما يقول لعواده؟ فإن هو إذ جاؤوه حمد الله، وأثنى عليه، رفعا ذلك إلى الله عز وجل وهو أعلم، فيقول: لعبدي علي إن توفيته أن أدخله الجنة، وإن أنا شفيته أن أبدله لحمًا خيرًا من لحمه، ودمًا خيرًا من دمِه، وأن أُكفِّرَ عنه سيئاته)؛ [صحيح الترغيب].
فاحمَدِ الله وأَثْنِ عليه خيرًا، يغفر لك ويدخلك الجنة.
عروة بن الزبير والوليد بن عبدالملك:
إليكم قصة عروة بن الزبير رحمه الله، أحد علماء وعباد التابعين؛ فقد طلب منه الخليفة الوليد بن عبدالملك زيارته في دمشق مقر الخلافة الأموية، فأخذ عروة معه أحب أبنائه السبعة إليه، فلما كان في الطريق إلى الشام، أصيب في الطريق بمرض الآكلة في رِجله [وهي ما يسمى في عصرنا الغرغرينا]، حتى قرر الأطباء بتر رجله من الساق،فلما اجتمع الأطباء عليه، قالوا: (اشرب كأسًا من الخمر؛ حتى تفقد شعورك)، فأبى عروة، وقال: (كيف أشربها وقد حرمها الله في كتابه؟)، قالوا: (فكيف نفعل بك إذًا؟)، قال: (دعوني أصلي، فإذا أنا قمت للصلاة، فشأنكم وما تريدون)، فقام يصلي، فلما سجد، كشفوا عن ساقه، وأعملوا مشارطهم في اللحم حتى وصلوا العظم، ثم أخذوا المنشار فنشروا العظم حتى بتروا ساقه، وفصلوها عن جسده، وهو ساجد لا يحرك ساكنًا، ثم أحضروا الزيت المغلي وسكبوه على ساقه؛ ليوقف نزيف الدم، فلم يحتمل حرارة الزيت؛ فأغمي عليه.
وفي هذه الأثناء، أتى الخبر من خارج القصر أن ابن عروة كان يشاهد خيول الخليفة، فرفسه أحد الخيول فقضى عليه ومات.
فلما أفاق عروة اقترب إليه الخليفة وقال: (أحسن الله عزاءك في رجلك)، فقال عروة: (اللهم لك الحمد، وإنا لله وإنا إليه راجعون)، قال الخليفة: (وأحسن الله عزاءك في ابنك)، فقال عروة: (اللهم لك الحمد، وإنا لله وإنا إليه راجعون، أعطاني سبعة وأخذ واحدًا، وأعطاني أربعة أطراف وأخذ واحدًا، إن ابتلى فطالما عافى، وإن أخذ فطالما أعطى، وإني أسأل الله أن يجمعني بهما في الجنة)، ثم قدموا له طستًا فيه ساقه وقدمه المبتورة، فأخذ يقلبها ويقول: (إن الله يعلم أني ما مشيت بك إلى معصيةٍ قط، وأنا أعلم).
ومضت الأيام، وكان الخليفة الوليد يجلس في مجلسه، فدخل عليه شيخ طاعن في السن، مهشم الوجه، أعمى البصر، فسأله عن قصته، فقال الشيخ: (إني بتُّ ذات ليلةٍ في وادٍ، وليس في ذلك الوادي أغنى مني، ولا أكثر مني مالًا وحلالًا وعيالًا، فأتانا السيل بالليل، فأخذ عيالي ومالي وحلالي، وطلعت الشمس وأنا لا أملك إلا طفلًا صغيرًا وبعيرًا واحدًا، فهرب البعير، فأردت اللحاق به، فلم أبتعد كثيرًا حتى سمعت خلفي صراخ الطفل، فالتفت فإذا برأس الطفل في فم الذئب، فانطلقت لإنقاذه فلم أقدر على ذلك؛ فقد مزقه الذئب بأنيابه، فعدت لألحق بالبعير، فضربني بخفه على وجهي، فهشم وجهي وأعمى بصري، فأصبحت لا مال لي، ولا أهل، ولا ولد، ولا بصر)، قال: (وما تقول يا شيخ بعد هذا؟)، فقال الشيخ: أقول: (الحمد لله الذي ترك لي قلبًا عامرًا، ولسانًا ذاكرًا).
فقال الوليد لما سمع قصته: (انطلقوا به إلى عروة؛ ليعلم أن في الناس من هو أعظم منه بلاءً)،[ابن عساكر/ تاريخ دمشق، ابن سعد/ الطبقات الكبرى].
لله در سارة ما أصبرها!
عن وهب بن منبه قال: سأله بعض أهل الطرار فقال: (يا أبا عبدالله، هل سمعت ببلاء أو عذاب أشد مما نحن فيه؟)، قال: (أنتم لو نظرتم إلى ما أنتم فيه وإلى ما خلا، لكأن ما أنتم فيه مثل الدخان عند النار!)، ثم قال: (أتي بامرأة من بني إسرائيل، يقال لها: سارة، وسبعة بنين لها، إلى ملك كان يفتن الناس على أكل لحم الخنازير، فدعا أكبرهم، فقرب إليه لحم الخنزير فقال: (كُلْ)، فقال: (ما كنت لآكل شيئًا حرمه الله علي أبدًا!)، فأمر به فقطعت يداه ورجلاه، وقطعه عضوًا عضوًا حتى قتله، ثم دعا بالذي يليه فقال: (كل)، فقال: (ما كنت لآكل شيئًا حرمه الله علي)، فأمر بقِدر من نحاس، فملئت زفتًا، ثم أغليت، حتى إذا غلت ألقاه فيها، ثم دعا بالذي يليه، فقال: (كل)، فقال: (أنت أذل وأقل وأهون على الله من أن آكل شيئًا حرمه الله علي)، فضحك الملك، ثم قال: (أتدرون ما أراد بشتمه إياي؟ أراد أن يغضبني فأعجل في قتله، وليخطئنه ذلك)، فأمر به فحز جلد عنقه، ثم أمر به أن يسلخ جلد رأسه ووجهه، فسلخ سلخًا.
فلم يزل يقتل كل واحد منهم بلون من العذاب غير قتل أخيه، حتى بقي أصغرهم، فالتفت إليه وإلى أمه، فقال لها: (لقد أويت لك مما رأيت، فانطلقي بابنك هذا فاخلي به، وأريديه على أن يأكل لقمة واحدة، فيعيش لك)، قالت: (نعم)، فخلت به، فقالت: (أي بني، اعلم أنه كان لي على كل رجلٍ من إخوتك حق، ولي عليك حقان؛ وذلك أني أرضعت كل رجلٍ منهم حولين حولين، فمات أبوك وأنت حبل، فنفست بك، فأرضعتك لضعفك ورحمتي إياك أربعة أحوال، فلي عليك حقان، فأسألك بالله وحقي عليك، لما صبرت ولم تأكل شيئًا مما حرم الله عليك، ولا ألفين إخوتك يوم القيامة ولست معهم)، فقال: (الحمد لله الذي أسمعني هذا منك؛ فإنما كنت أخاف أن تريديني على أن آكل ما حرم الله علي)، ثم جاءت به إلى الملك فقالت: (ها هو ذا قد أردته وعزمت عليه)، فأمره الملك أن يأكل، فقال: (ما كنت لآكل شيئًا حرمه الله تعالى علي)، فقتله وألحقه بإخوته، وقال لأمهم: (إني لأجدني أربى لك مما رأيت اليوم، ويحك! فكلي لقمة، ثم أصنع بك ما شئت، وأعطيك ما أحببت تعيشي به)، فقالت: (أجمع ثكل ولدي ومعصية الله، فلو حييت بعدهم ما أردت ذلك، وما كنت لآكل شيئًا مما حرمه الله علي أبدًا)، فقتلها وألحقها ببنيها؛ [ابن أبي الدنيا/ الصبر].
تجود بنفسها وبأولادها السبعة في سبيل الدين، أي محنة وأي صبر؟! إنه صبر من هم أشد الناس بعد الأنبياء دينًا وتقوى.
الشافعي يعزي مبتلى:
ذكر أن بعض الصالحين مات له ابن فجزع عليه جزعًا شديدًا، حتى امتنع من الطعام والشراب، فبلغ ذلك الإمام الشافعي رحمه الله، فكتب إليه، ومما كتب إليه:
إني مُعزِّيك لا أني على ثقةٍ
من الحياة، ولكن سنَّة الدينِ
فما المُعزَّى بباقٍ بعد ميِّته
ولا المُعزِّي ولو عاشا إلى حينِ
امرأة وفقيه:
عن القاسم بن محمد قال: هلكت امرأة لي، وأتاني محمد بن كعب القرظي يعزيني بها، فقال: (إنه كان في بني إسرائيل رجل فقيه عابد عالم مجتهد، وكانت له امرأة، وكان بها معجبًا، فماتت، فوجد - حزن - عليها وَجْدًا شديدًا، حتى خلا في بيت، وأغلق على نفسه، واحتجب عن الناس، فلم يكن يدخل عليه أحد، ثم إن امرأة من بني إسرائيل سمعت به، فجاءته، فقالت: (إن لي إليه حاجة أستفتيه فيها، ليس يجزيني إلا أن أشافهه بها)، فذهب الناس، ولزمت الباب، فأخبر، فأذن لها؟ فقالت: (أستفتيك في أمر)، قال: (وما هو؟)، قالت: (إني استعرت من جارة لي حليًّا، فكنت ألبسه وأعيره زمانًا، ثم إنهم أرسلوا إلي فيه، أفأرده إليهم؟)، قال: (نعم والله)، قالت: (إنه قد مكث عندي زمانًا؟)، فقال: (ذلك أحق لردك إياه)، فقالت له: (يرحمك الله، أفتأسف على ما أعارك الله ثم أخذه منك، وهو أحق به منك؟)، فأبصر ما كان فيه، ونفعه الله بقولها)؛ [موطأ مالك].
اصبر على الفقر:
رأى رجل الحسن بن حبيب في النوم بعدما مات، فقال: ما فعل الله بك؟ قال: (غفر لي بصبري على الفقر في الدنيا)؛ [ابن أبي الدنيا/ الصبر].
أيها الفقراء، هنيئًا للصابرين منكم؛ فبصبركم يغفر الله لكم، ومن يغفر الله له يدخله الجنة.
اجعل الدعاء سلاحك:
قال الله تعالى: ﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ﴾ [البقرة: 186]، أضاف العباد إليه، ورد عليهم بنفسه، لم يقل: فقل لهم: إني قريب، ولم يقل: أسمع الدعاء، إنما: ﴿ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ﴾ [البقرة: 186]، وعن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلةٍ إلى السماء الدنيا، حين يبقى ثلث الليل الآخر، يقول: من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له)؛ [صحيح البخاري].
فادعُ الله كثيرًا ولا تيأسن؛ فإن الله لا يمل حتى تملوا، وانتظر الفرج.
قصة:
عن أنس بن مالك قال: كان رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يكنى أبا معلق، وكان تاجرًا يتجر بمال له ولغيره، وكان له نسك وورع، فخرج مرة فلقيه لص متقنع في السلاح، فقال: (ضع متاعك؛ فإني قاتلك)، قال: (شأنك بالمال)، قال: (لست أريد إلا دمك)، قال: (فذرني أصلِّ)، قال: (صلِّ ما بدا لك)، فتوضأ ثم صلى، فكان من دعائه: (يا ودود، يا ذا العرش المجيد، يا فعالًا لما يريد، أسألك بعزتك التي لا ترام، وملكك الذي لا يضام، وبنورك الذي ملأ أركان عرشك، أن تكفيني شر هذا اللص، يا مغيث أغثني)، قالها ثلاثًا، فإذا هو بفارس بيده حربة رافعها بين أذني فرسه، فطعن اللص فقتله، ثم أقبل على التاجر، فقال: (من أنت فقد أغاثني الله بك؟)، قال: (إني ملك من أهل السماء الرابعة، لما دعوت، سمعت لأبواب السماء قعقعة، ثم دعوت ثانيًا، فسمعت لأهل السماء ضجة، ثم دعوت ثالثًا، فقيل: دعاء مكروب، فسألت الله أن يوليني قتله)، ثم قال: (أبشر واعلم أنه من توضأ وصلى أربع ركعات ودعا بهذا الدعاء، استجيب له، مكروبًا كان أو غير مكروب)؛ [ابن حجر/ الإصابة].
الدعاء سلاح المؤمن؛ فالجندي الذي لا يحمل سلاحه، كيف يدافع عن نفسه؟ والمسلم الذي لا يدعو الله، كيف ينجو ويزول همه وحزنه؟!
استغفر الله:
قال ابن صبيح: (شكا رجل إلى الحسن الجدوبة)، فقال له: (استغفر الله)، وشكا آخر إليه الفقر، فقال له: (استغفر الله)، وقال له آخر: (ادعُ الله أن يرزقني ولدًا)، فقال له: (استغفر الله)، وشكا إليه آخر جفاف بستانه، فقال له: (استغفر الله)، فقلنا له في ذلك؟ فقال: (ما قلت من عندي شيئًا؛ إن الله تعالى يقول في سورة نوح: ﴿ فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا * مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا ﴾ [نوح: 10 - 13].
فيا صاحب الهم والحزن والمرض، يا من اشتهى المال والزواج والولد والوظيفة، يا باغي الخير أيًّا كان، أكثِرْ من الاستغفار، فسترى العجب العجاب.
قل هذا الدعاء:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما أصاب أحدًا قط هم ولا حزن، فقال: اللهم إني عبدك وابن عبدك وابن أَمَتك، ناصيتي بيدك، ماضٍ فيَّ حكمك، عدل في قضاؤك، أسألك بكل اسمٍ هو لك، سميت به نفسك، أو علمته أحدًا من خلقك، أو أنزلته في كتابك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك: أن تجعل القرآن ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همي، إلا أذهب الله همه وحزنه، وأبدله مكانه فرجًا)، قال: فقيل: يا رسول الله، ألا نتعلمها؟ فقال: (بلى، ينبغي لمن سمعها أن يتعلمها)؛ [مسند أحمد، وصححه الألباني].
وعن أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كربه أمر [نزل به هم أو غم]، يقول: (يا حي يا قيوم، برحمتك أستغيث)؛ [سنن الترمذي، وحسنه الألباني].
الصلاة الصلاة:
عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا حزبه [إذا نزل به مهم، أو أصابه غم]، أمرٌ، صلَّى؛ [سنن أبي داود، وحسنه الألباني]، وعن سالم بن أبي الجعد قال: قال رجل - قال مسعر: أراه من خزاعة -: ليتني صليت فاسترحت، فكأنهم عابوا عليه ذلك، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يا بلال، أقم الصلاة أرحنا بها)؛ [سنن أبي داود، وصححه الألباني].
وقال ابن كثير في تفسير قوله تعالى: ﴿ وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ ﴾ [البقرة: 45]: (وأما قوله: ﴿ وَالصَّلَاةِ ﴾ [البقرة: 45]؛ فإن الصلاة من أكبر العون على الثبات في الأمر؛ كما قال تعالى: ﴿ اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ ﴾ [العنكبوت: 45].
ثم ذكر عن ابن عباس رضي الله عنهما: أنه نُعِيَ إليه أخوه وهو في سفر، فاسترجع، ثم تنحى عن الطريق، فأناخ، فصلى ركعتين أطال فيهما الجلوس، ثم قام يمشي إلى راحلته وهو يقول: ﴿ وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ ﴾ [البقرة: 45]) [تفسير ابن كثير].
استعينوا بالصبر والصلاة عباد الله، يرحمكم الله، ويفرج همكم وغمكم، ويبدل حزنكم فرحًا، وضيقكم فرجًا، وفقركم غنًى، وذُلَّكم عزًّا.
إليك البشرى:
عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما من عبد تصيبه مصيبة فيقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرني في مصيبتي، وأخلف لي خيرًا منها، إلا آجره الله تعالى في مصيبته، وأخلف له خيرًا منها)، قالت: (فلما توفي أبو سلمة قلت كما أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخلف الله لي خيرًا منه، رسول الله صلى الله عليه وسلم)؛[صحيح مسلم].
قال بعض المكيين: رأيت سعيد بن سالم القداح في النوم فقلت: (من أفضل من في هذه المقبرة؟!)، فقال: (صاحب هذا القبر)، قلت: (بم فضلكم؟)، قال: (إنه ابتُلِي فصبر)؛ [ابن عساكر/ تاريخ دمشق].
إنا لله وإنا إليه راجعون، يخلف الله قائلها خيرًا مما فقد؛ فلا تنسوا ذلك عند المصيبة، صبرنا الله وإياكم.
﴿ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ ﴾ [الرعد: 24].
أيها الفقراء، المعدمون، الضعفاء، الملائكة تسلم عليكم بصبركم في الدنيا؛ عن عبدالله بن عمرو بن العاص، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (هل تدرون أول من يدخل الجنة من خلق الله؟)، قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: (أول من يدخل الجنة من خلق الله: الفقراء والمهاجرون، الذين تسد بهم الثغور، ويتقى بهم المكاره، ويموت أحدهم وحاجته في صدره لا يستطيع لها قضاءً، فيقول الله عز وجل لمن يشاء من ملائكته: ائتوهم فحيُّوهم، فتقول الملائكة: نحن سكان سمائك وخيرتك من خلقك، أفتأمرنا أن نأتي هؤلاء فنسلم عليهم؟ قال: إنهم كانوا عبادًا يعبدوني لا يشركون بي شيئًا، وتسد بهم الثغور، ويتقى بهم المكاره، ويموت أحدهم وحاجته في صدره لا يستطيع لها قضاءً، قال: فتأتيهم الملائكة عند ذلك، فيدخلون عليهم من كل بابٍ: ﴿ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ ﴾ [الرعد: 24]؛ [مسند أحمد، وصححه الألباني].
نصيحة:
عن أبي بردة بن أبي موسى رضي الله عنه قال: وجع أبو موسى وجعًا شديدًا، فغشي عليه ورأسه في حجر امرأةٍ من أهله، فلم يستطع أن يرد عليها شيئًا، فلما أفاق قال: أنا بريء ممن برئ منه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم برئ من الصالقة [التي ترفع صوتها بالنياحة والندب]، والحالقة [التي تحلق رأسها عند المصيبة]، والشاقة [التي تشق ثوبها])؛ [صحيح مسلم].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس منا من ضرب الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية)؛ [صحيح مسلم].
فاحذروا من النياحة، والندب، والصراخ، وشق الثوب، وضرب الخد؛فإنها من سنة الجاهلية، ولا ترد قضاء الله وقدره، الصبر والدعاء خير لك.
فائدة:
سأل رجل الإمام الشافعي رحمه الله فقال: (يا أبا عبدالله، أيهما أفضل للرجل، أن يمكن فيشكر الله عز وجل، أو يبتلى بالشر فيصبر؟).
فقال الشافعي: (لا يمكن حتى يبتلى؛ فإن الله ابتلى نوحًا وإبراهيم ومحمدًا صلوات الله عليهم أجمعين فلما صبروا مكنهم، فلا يظن أحد أن يخلص من الألم البتة)؛ [ابن القيم/ الفوائد].
وأخيرًا:
قد اجتمع علينا الكثير من المصائب؛ خوف، وجوع، ونقص من الأموال والأنفس والثمرات، قتل وسجن وتشريد، حصار وتعذيب، دمار وتخريب، تخلَّف عنا القريب والبعيد، فما علينا إلا الصبر والدعاء، فرج الله عنا، وأخلف علينا خيرًا، وأعاننا، إنه نعم المولى ونعم النصير.
وقد كان محمد بن شبرمة رحمه الله إذا نزل به بلاء يقول: (سحابة صيف ثم تنقشع)؛ [عدة الصابرين].
فالفرج قريب...قريب...فعليكم بالصبر، والله الموفق.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
قيل في الصبر:
سيُفتحُ باب إذا سُدَّ بابُ
نعمْ، وتهون الأمور الصعابُ
ويتسع الحال من بعدما
تَضِيق المذاهب فيها الرحابُ
مع الهم يُسران هوِّن عليك
فلا الهم يجدي ولا الإكتئابُ
فكم ضِقتَ ذرعًا بما هِبتَه
فلم يرَ من ذاك قدر يهابُ
وكم برَدٍ خفتَه من سحابٍ
فعوفيت وانجاب عنك السحابُ
ورزقٍ أتاك ولم تأته
ولا أرَّق العين منه الطلابُ
وناءٍ عن الأهل ذي غربةٍ
أتيح له بعد يأسٍ إيابُ
وناجٍ من البحر من بعدما
علاه من الموج طامٍ عبابُ
إذا احتجب الناس عن سائلٍ
فما دون سائلِ ربي حجابُ
ينسب للإمام الشافعي رحمه الله
[بهجة المجالس/ ابن عبدالبر]