أرشيف المقالات

أبلغ مواعظ التواصل الاجتماعي

مدة قراءة المادة : 17 دقائق .
أبلغ مواعظ التواصل الاجتماعي
 
من أعظم العظات في زماننا هذا ما تلمسه من أخ أو صديق يوادك ويقوم بمراسلتك دون كلل أو ملل ورسالته اليومية لك ضمن قائمته الجماعية تأتيك على موعدها قرأتها أم أهملتها ثم فجأة توقّفت رسائله للأبد!!!
 
ما الذي أوقفها؟
أين حروفه المتوهجة ما الذي أخمدها؟
أين ضجيجه من أصمته؟
أين نشاطه، كيف اختفى ومن أخفاه؟
 
لقد كنا نلتقي سويا ونتحدث ويجمعنا الود والوئام ثم فجأة نزل أمر الله الذي لا بد منه وحق الحق وسلم الروح وانتهى أمد حياته وبقيت ذكرياته حيّة بين يديك!!
 
تتصفح رسائله، تسمع صوته غضا طريا كما أنه لو أنه يحدثك الآن!!
 
ثم تتساءل أحقا مات؟
كيف وهذه رسائله يخاطبني بها؟
كيف وهذا صوته يتردد على مسمعي؟
 
تعود على رسائله التي ما قرأتها فتقف عند كل رسالة وتشعر بأنه يخاطبك، وتقف عند حديثكما لكأنه الساعة!!
 
يا لله ما أقصر الحياة!!
تكاد أن تتمزق أسى لشعورك بمصيره الذي يواجهه الآن..
 
ثم يقطع تفكيرك صوت بداخلك له ضجيج يقول لك: " وأنت على الأثر".
 
تشعر بعد رحيله بفراغ في قلبك، تمكث أياما لا يغيب عن ذاكرتك، يزورك في كل حين وتزورك معه ذكرياته الإخاء وجلسات النقاء، وتتخيل شخصه من خلف السطور حيا ماثلا أمامك بقامته السامقة، تعود مرات وكرات حتى تفتش في رسائله لتتذكر تلك اللحظات التي عشتها معه..
 
تود لو أن عاد حتى ولو للحظات، لتسأله عن آخر اللحظات وكيف زاره الموت وكيف كان شعوره حينما وهو يرزح تحت وطأة الموت التي سيمر بها كل إنسان خلق في هذه الحياة..






ثمانية لا بدَّ منها على الفتى
ولا بدَّ أن تجري عليه الثمانية


سرورٌ وهمٌّ واجتماع وفرقة
وعُسر ويُسر ثم سقم وعافية







 
إنه الموت الذي يجعلك تفارق من تعلَّقَتْ رُوحك به، وعشت معه لحظات غالية لا تنسى أبد الدهر بل ربما شاركك في كثير من الأحداث التي غيرت مجرى حياتك، والقرارات ذات الشأن في مستقبلك، بل من كان يمثل لك الشيء الجميل المنعش في حياتك، وما كنت تتخيل أبدا هجوم الموت عليه وتفريقه بينكما في لحظة خاطفة وعلى غرة وكأنك بعده من وحشة تردد قول الشاعر:






ذهب الذين أحبَّهم
فعليك يا دنيا السلام











إنه قطار الحياة المستمر في سرعته الذي لا يتوقف أبدا حيث ينقل أناسًا إلى محطتهم الفاصلة بين الدنيا والآخرة، ويُبقي آخرين بأمرٍ من رب العالمين حتى يكر عليهم مرة أخرى في الموعد المحدد لهم بدقة.
 
إنه الموت الحقيقة الحاضرة الغائبة الوحش الذي يتربص بنا وحتما سنسقط بين مخالبه ولن ينجو أحد منه مهما كان شأنه في هذه الدنيا، إنه الزائر الأخير الذي يقبل علينا ويصطحبنا معه في رحلة أخيرة إلى العالم الآخر..
 
إن ملك الموت الذي وكِّل بك لم يزل يخلّفك ويتخطى إلى غيرك منذ أن ولدتك أمك، وسيأتي اليوم الذي يتخطى فيه غيرك إليك ويقف على بابك مخبرا إياك أن الموعد قد حان فما أنت فاعل حينها إن لم تكن أعددت في دنياك صالحًا..






إذا أنت لم ترحلْ بزادٍ من التُّقى
ولاقيتَ بعد الموتِ من قد تزوّدا


ندِمتَ على ألا تكون كمثلهِ
وأنّك لم تَرصد كما كانَ أرصدا






 
إنك مهما ركضت في هذه الحياة فلن ينتهي جدول أعمالك، ومهما أسرعت لن تنقضي أشغالك، ومهما كسبت وحققت فلن تبلغ آمالك، وإن النفوس تموت بأناتها وحسراتها وقد أوصى المحدث الرحال أبو محمد جعفر بن محمد العباس الذي توفي في عام (598هـ) أن يكتب على قبره: "حوائج لم تقض، وآمالٌ لم تنل، وأنفسٌ ماتت بحسراتها'.
 
كل مشروع يقطعه الموت، وكل أمل ينهيه الأجل، والأماني صريعة المنون والمحسن كالغائب يقدم على أهله، والعاصي كالآبق يقدم على مولاه..
 
بعد رحلة الحج دخل سليمان بن عبدالملك المدينة، فقال: هل بها رجل أدرك عدَّة من الصحابة؟ قالوا: نعم، أبو حازم، فأرسل إليه، فلما أتاه قال: يا أبا حازم ما هذا الجفاء؟ قال: وأي جفاء رأيت مني يا أمير المؤمنين؟ قال: وجوه الناس أتوني ولم تأتني، قال: والله ما عرفتني قبل هذا، ولا أنا رأيتك فأي جفاء رأيت مني؟ فالتفت سليمان إلى الزهري فقال: أصاب الشيخ وأخطأت أنا، فقال: يا أبا حازم، ما لنا نكره الموت؟ فقال: عمرتم الدنيا وخربتم الآخرة، فتكرهون الخروج من العمران إلى الخراب، قال: صدقت، فقال: يا أبا حازم ليت شعري، ما لنا عند الله تعالى غدًا؟ قال: اعرض عملك على كتاب الله عز وجل، قال: وأين أجده من كتاب الله تعالى؟ قال: قال الله تعالى: ﴿ إِنَّ الأبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ ﴾ [الانفطار: 13، 14]، قال سليمان: فأين رحمة الله؟ قال أبو حازم: قريب من المحسنين، قال سليمان: ليت شعري كيف العرض على الله غدًا؟ قال أبو حازم: أما المحسن كالغائب يقدَم على أهله، وأما المسيء كالآبق يُقدَم به على مولاه، فبكى سليمان حتى علا نحيبه واشتدَّ بكاؤه، فقال سليمان: أوصني، فقال: أُوصيك وأُوجز، عظِّم ربك ونزِّهه أن يراك حيث نهاك، أو يفقدك حيث أمرك).
 
إنها أعظم موعظة تقدمها لنا وسائل التواصل الاجتماعي حيث فجأة لا نرى من كان يواصلنا كل حين، نفيق من سباتنا ونستيقظ من غفلتنا ونصحو من سكرتنا ثم ما هي إلا أيام حتى نعود لسبات عميق فليت شعري متى نتّعظ قبل أن نعض أصابع الندم ولات حين مندم..
 
احتضر سيبويه فوَضَع رأسه في حِجر أخيه، فقطرتْ قطرةٌ من دموع أخيه على خدِّه، فأفاق من غشيته وقال:






أُخَيَّيْنِ كُنَّا فَرَّقَ الدَّهْرُ بَيْنَنَا
إِلَى الْأَمَدِ الْأَقْصَى وَمَنْ يَأْمنُ الدَّهْرَا











إن الموت حتم لازم وقضاء نازل ووعد قادم لن ينجو منه أحد حتى الموت نفسه سيموت ويُذبح بين الجنة والنار، فيقال: يا أهل الجنة، خلود فلا موت، ويا أهل النار، خلود فلا موت؛ قال الله تعالى: ﴿ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُون ﴾ [القصص: 88]، وقال تعالى: ﴿ كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ ﴾ [الرحمن: 26،27 ]، وقال سبحانه: ﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ...
[آل عمران: 185]، وما نجا منه حتى خيرُ البشر وأزكى الخليقة محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الله له: ﴿ إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَيِّتُونَ ﴾ [الزمر: 30]، وقال الله له: ﴿ وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ ﴾ [الأنبياء: 34].
 
وله موعد ووقت، هناك حيث يطوى العمر وتنتهي الأنفاس والله تعالى قد جعل لكل مخلوق أجل وعمر لا يزيد ولا ينقص، وهذه الآجال عنده في اللوح المحفوظ مكتوبة مرصودة من قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، فإذا جاء الموعد وحان الرحيل وجاءت ساعة النهاية، فلن يفلت منها أحدٌ مهما فعل من أسباب البقاء، ولا يستطيع أحد ردها مهما كان عنده من أسباب القوة، ﴿ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا..
[آل عمران:145]، وقال تعالى: ﴿ أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِككمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ..
[النساء:78]، وقال تعالى: ﴿ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ ﴾ [الأعراف:34].
 
لقد قالَتْ أُمُّ حَبِيبَةَ رضي الله عنها يوما: اللَّهُمَّ مَتِّعْنِي بزَوْجِي رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، وَبِأَبِي أَبِي سُفْيَانَ، وَبِأَخِي مُعَاوِيَةَ، فَقالَ لَهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: (إنَّكِ سَأَلْتِ اللَّهَ لِآجَالٍ مَضْرُوبَةٍ، وَآثَارٍ مَوْطُوءَةٍ، وَأَرْزَاقٍ مَقْسُومَةٍ، لا يُعَجِّلُ شيئًا منها قَبْلَ حِلِّهِ، وَلَا يُؤَخِّرُ منها شيئًا بَعْدَ حِلِّهِ، ولو سَأَلْتِ اللَّهَ أَنْ يُعَافِيَكِ مِن عَذَابٍ في النَّارِ، وَعَذَابٍ في القَبْرِ، لَكانَ خَيْرًا لَكِ...
الحديث)؛ صحيح مسلم، فلو سأل العبد ربه أن يزيد في عمره سنة أو شهرا أو يوما أو ساعة، لَما حصل له ذلك لأنه في كتاب صادق حق..
 
كثير من الناس يطمع في البقاء بل جلهم وهذه غريزة مركوزة في النفس البشرية لكن في الحقيقة نحن بضاعة الموت ومعرّضون حتما للفناء شئنا أم أبينا، سخطنا أم رضينا.






لا شَيْءَ مِمَّا تَرَى تَبْقَى بَشَاشَتُهُ
يَبْقَى الإِلَهُ وَيَفْنَى الْمَالُ وَالْوَلَدُ


لَمْ تُغْنِ عَنْ هُرْمُزَ يَوْمًا خَزَائِنُهُ
وَالْخُلْدُ قَدْ حَاوَلَتْ عَادٌ فَمَا خَلَدُوا


وَلا سُلَيْمَانُ إِذْ تَجْرِي الرِّيَاحُ لَهُ
وَالإِنْسُ وَالْجِنُّ فِيمَا بَيْنَهُا تَرِدُ..!


حَوْضًا هُنَالِكَ مَوْرُودٌ بِلا كَذِبٍ
لا بُدَّ مِنْ وِرْدِهِ يَوْمًا كَمَا وَرَدُوا






 
كيف الحديث عن لحظات وساعات وأوقات ما عشناها وما مرينا عليها ولا جرَّبناها وما أتت علينا، لحظات عاشها من مات وقضى نحبه وعاصرها مَن فات ولقي ربه، نذكرها للذكرى: ﴿ وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الذاريات: 55]، والمقصود منها أنا نرى في كل يوم وفي كل صباح وفي كل مساء، من يحين أجله ويتصرم عمره من الأقارب والأباعد، والأصاغر والأماجد، والأقوياء والضعفاء، والأغنياء والفقراء، والملوك والوزراء، ولن يسلم منها أحدٌ، ولن ينجو منها هارب، ولن يحيد عنها معتصم، ولن يختفي منها شارد.
 
ترى صديقك اليوم في عنفوان شبابه وزهرة عمره وكمال صحته وتسأل عنه غدا فيُقال لك فارق الحياة!!
 
كيف ذلك وقد كان يواصلني؟
ما الذي أصابه؟
 
لقد ذكرتُ بهذا ما ورد من أن إعرابيا كان يسير على جمل له فخرّ الجمل ميّتا فنزل الأعرابي عنه وجعل يطوف به ويتفكر فيه ويقول: مالك لا تقوم؟ مالك لا تنبعث هذه أعضاؤك كاملة وجوارحك سالمة ما شأنك؟ ما الذي كان يحملك؟ ما الذي كان يبعثك؟ ما الذي صرعك؟ ما الذي عن الحركة منعك؟ ثم تركه وانصرف متفكرًا في شأنه متعجبا من أمره!!
 
وهكذا هو الموت يأخذك بغتة دون سابق إنذار فتودع هذه الحياة رغم حبك لها وتعلقك بها وهيامك فيها..
 
لقد دعاني لكتابة هذا الموضوع ذاك الأستاذ السوداني عبدالرحيم خليفة صاحب الأدب الجم والخلق النبيل لقد كان جاري عندما أقمتُ في السودان عدة سنوات لتحضير الماجستير والدكتوراة وكان قبل كل صلاة بنصف ساعة يفتح المسجد وما رأيت في حياتي رجلا يحرص على تكبيرة الإحرام مثله بل كان في مرات كثيرة يسألني بلهف وخوفٍ عن شروعي أحيانا في القراءة قبل أن يكبّر وكان يترجّاني أن أتمهّل في القراءة بعد أن أكبّر، هذا وهو الموجود في الصف من قبل الأذان..
 
عجبا!!
كنتُ أطمأنه كثيرا بأن تكبيرة الإحرام ما فاتته ورغم ذلك يسألني كلما سبقته وكان من أكثر الناس خشوعًا وما صليت يومًا بآيات وعد ووعيد إلا رأيته يخرج مناديله بعد الصلاة ويمسح بها، وعلى وجهه آثار الخشوع..
وإذا غاب المؤذن أذن بنا وينتحب عند حي على الصلاة حي على الفلاح كلما أذّن للصلاة..
 
لله ما أحلى صوته وأنداه وأزكاه!!
لقد كان مؤثرًا للغاية وكأنه نابع من قلبه، وما ندمتُ على تسجيل أذان ندمي على عدمِ تسجيل أذانه لأني ما ظننت أن الموت هكذا يختطف الأحبة..
 
عنده حلقة قرآنية بعد صلاة المغرب لتعليم كبار السن النطق الصحيح لا يتركها مهما كلّفه الأمر، وإن غاب يتّصل بي مرة وثانية وثالثة ويترجّاني أن أغطي بدله فأعجب من حرصه وهمته..
 
لقد أخبرني أنه درّس في اليمن ما يقرب من عشرين سنة وكان مثالا للأستاذ الداعية والمربي الفاضل وبلغ حبه لليمن أن سمّى أحفاده بأسماء أصدقاء له يمنيين وكان يصنع الطعام ويرسله لنا كرما وفضلا فتأبى زوجتي إلا أن ترد لهم الصحون وعليها أصناف الحلويات والأطباق الصنعانية..
 
كان الأستاذ عبدالرحيم لا زال قويا فهو في بداية الستينات من عمره يتمتع بالنشاط والصحة ليس به بأس..
 
فجأة سافرت الى دولة إفريقية بعد إنهاء دراستي وانقطعت عني رسائله فجأة فقلتُ في نفسي لعله غير رقمه أو حصل له عارض وانشغلتُ بالتدريس وانقطعتُ عن أحبتي في السودان ثمّ اتصلتُ بأحدهم وسلمت عليه وقلتُ له أوصل سلامي للأستاذ عبدالرحيم وقل له أنا مشتاق إليه في غاية الشوق..
 
فرد عليّ: عبدالرحيم لقد مات!!!
• كيف مات..؟
 
وانخلع قلبي، وجعلت أفكر لعلّ شخصا آخر في الحي بنفس هذا الاسم لكنه أكد لي الأمر وأنه مرض وأسعف إلى مصر ومات والأمر منذ أكثر من شهر..!!!
 
يا لله..
منذ أكثر من شهر!!
ما أقساك يا قلبي!!
ألم تسأل عنه منذ غاب عنك؟
كيف قسوت بهذا الشكل؟
ما الذي أنساك؟
كيف تهجر أحبتك؟
 
وقمت أفتّش رسائله وأقف عند آخر رسالة أرسلها..
 
أمضي أفتّش في رسائله وكأنه يخاطبني، ووالله لقد كاد ينخلع قلبي وهو يرسل لي برسالة قبل وفاته بفترة وجيزة عن نعيم القبر وعذابه!!
 
رسائل كثيرة ما كنت أنتبه لها أصبحَت اليوم دروسا حيّة لي لا أنساها ما حييت..
 
ما أقسى الفراق وأشده..!!
لقد بقيتُ يوما كاملا واجما لا أنبس ببنت شفة.!!
 
لقد كتبتُ مختيّلا فراقه المباغت ورحيله المفاجئ:






وكم أسمعتني وعظا نديّا
وأنتَ اليوم أوعظ منك حيًّا


كم أتحَفتَني بوفاءِ خلٍ
وكنتَ بِصحبتي دوما حفيًّا


فيا للهِ كم سِرنا وجئنا
وأعمَلنا الرواحلَ والمطيّا


وكم بَسَمت لنا غرُّ الليالي
وكان زماننا صُبحا مُضِيّا


وكان الودّ سلسالا مَعينا
وزهر الحبِّ نقطفهُ شهيّا


وكم من ذكرياتٍ فاض منها
حنينُ الشوق يسعى اليوم سعيَا


يشاطرُ ذكرَكم حزنٌ عميقٌ
فيجري الدّمعُ مدرارا سخيّا


وذكركَ يستجدّ بكل يومٍ
فلستُ لذكركم أبدا نسيّا






 
لقد مضى وبقيت رسائله حية على جهازي هو من خطها وحبّرها، لقد قرأت رسالة له قبل حلول رمضان وكنتُ مسافرا يقول فيها: تعال إلينا لقد اشتقنا إليك وإلى صوتك نريدك أن تصلي بنا التراويح...الخ..
 
فلما أن جئتُ في رمضان فرح فرحا شديدا لكن لم ألبث إلا بضعة أشهر حتى غادرت السودان مرة أخرى وبقيت ذكراه تجول معي وفي كل مرة يسألني بلهف وشوق وكان حزينا على فراقي للسودان غاية الحزن..
 
سلام على حي الفيحاء في الخرطوم حيث مكثت فيه سنوات عدة وجدت الصفاء والنقاء والحب..
 
سلام على شيخ الحيّ وعالمه البروفيسر عبد الله الزبير أستاذي في مسيرة الدكتوراة أطال الله في عمره ونفع به الإسلام والمسلمين..
 
سلام على الراحل مالك منير العابد القانت المحب لكتاب الله التالي له بكرة وعشيا..
 
سلام على عبدالرحيم خليفة حمامة مسجد التوبة الذي رحل وبقيت رسائله بين يدي يخاطبني بها كل ما ذكرت اسمه وفتّشتُ عنه..
 
سلام عليك بكرة وعشيا مدى الدهور، سلام عليك من يومنا هذا إلى يوم البعث والنشور..
 
تلك هي موعظة وسائل التواصل وحقيقة إنها موعظة بليغة صامتة تأخذ بالألباب وتحرك المشاعر، وأنت أيها القارئ ألم يحصل لك ما حصل لي؟
 
لا شك أنه حصل لك مع قريب أو صديق وقمتَ تفتّش رسائله بعد رحيله وتضرب كفا بكف على فراقه بل لربما كتبت له رسالة عند سماعك خبر وفاته لظنك أنه لم يفارق الحياة؟
 
ألم تُمعن النظر في حروف رسائله وتقف عند كلمة غير مصدّق لرحيله؟
 
ألم تتردّد كثيرا في مسح رقمه بعد رحيله بل لربما تركته ليبقى الوفاء وتتذكر أوقات الصفاء وأيام النقاء؟
 
إنها موعظة حُقّ لنا أن نقف عندها قبل أن يداهمنا الرحيل..
 
لا أقصد أحدًا غيرك نعم أنت أيها القارئ اللبيب وأقصد معك نفسي العائمة في بحور الأمل..
 
لا بد أن نتّعظ قبل أن يُتّعظ بنا..

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٢