فاقض ما أنت قاض
مدة
قراءة المادة :
11 دقائق
.
فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍالحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا، أما بعد:
روى الحاكم في المستدرك بسند قال فيه على شرط الصحيح ووافقه الذهبي عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « لما أسري بي مرت بي رائحة طيبة، فقلت: ما هذه الرائحة؟ » فقالوا: هذه رائحة ماشطة ابنة فرعون وأولادها كانت تمشطها فوقع المشط من يدها، فقالت: بسم الله.
فقالت ابنته: أبي؟ فقالت: لا، بل ربي وربك ورب أبيك.
فقالت: أخبر بذلك أبي، قالت: نعم.
فأخبرته فدعا بها وبولدها فقالت: لي إليك حاجة.
فقال: ما هي؟ قالت: تجمع عظامي وعظام ولدي فتدفنه جميعا.
فقال: ذلك لك علينا من الحق.
فأتى بأولادها فألقى واحدا واحدا حتى إذا كان آخر ولدها وكان صبيا مرضعا، فقال: اصبري يا أماه فإنك على الحق، ثم ألقيت مع ولدها.
يا فرعون "اقض ما أنت قاض"..
إنما تقضي هذه الحياة الدنيا مؤمنة تشتاق إلى جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر، فلا يهمها قضاء ظالم ولا جبار متسلط ولا جنود مسيرة بأمر الطاغية...
ولسان حالها يقول "اقض ما أنت قاض".
ويستمر فرعون في نكاله لمخالفيه لكن هذه المرة مع زوجته (آسية بنت مزاحم) التي قالت في يوم ما عن موسى عليه السلام حين كان رضيعا ﴿ وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ﴾ [القصص: 9] وهي تنظر بعينها إلى جريمته في حق الماشطة المؤمنة التي آثرت الباقية على الفانية والدائمة على المنقطعة والخالدة على الزائلة، فقامت على فرعون وهي تقول: ما أجرأك على الله!!
ليرد فرعون قائلا: أوَ لك رب سواي؟ لأعذبنك كما عذبت الماشطة حتى تعودي إلى رشدك، فوضع لها الأوتاد على الأرض وربط كل طرف من تلك الأوتاد بعضو من أعضائها ليسحبها ويمزق جسدها وهي تقول بلسانها: ﴿ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴾ [التحريم: 11] وتقول بلسان حالها: "اقض ما أنت قاض"، فيكشف الله لها الحجاب لترى ملائكة الرحمن وهي تبني لها في الجنة ذلك البيت الموعود لبنة لبنة وهي بجوار ملك الملوك، فتضحك وتتبسم، وفرعون على رأسها يخاطب جنده وأعوانه يقول: انظروا إلى هذه المجنونة نعذبها وهي تضحك!
رغم أنها عاشت في بحبوحة القصر ورغد العيش وسعة الرزق إلا أنها أيقنت أن الدنيا مهما عظم نعيمها فهي إلى زوال وأن ما عند الله هو خير مما عند فرعون.
وتستمر قصة الطاغية لكن هذه المرة أمام الملأ والحشد في "يوم الزينة" وما أدراك ما يوم الزينة يوم الطاعة والولاء والذل والخضوع لفرعون وزبانيته، فيصدم بإيمان السحرة ويتفاجئ بإصرارهم على إعلان هذا الإيمان في ذلك المحفل العظيم: ﴿ قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى * فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى * قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى * فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى * قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى * فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى * قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى * قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى * فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى * قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى * وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى * فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى * قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى * قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ﴾ [طه: 59 - 73].
يا فرعون "اقض ما أنت قاض"...
تأمل كيف تفنن فرعون في محاسبة خصومه، فالماشطة يحمى لها قدر من نحاس وزوجته تقطع أوصالها بالأوتاد والسحرة يقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف.
سل الغلام والراهب والوزير في قصة أصحاب الأخدود فسيجيبون بصوت يُشق له عنان السماء...
يا جلاد "اقض ما أنت قاض"
اقرأ في سورة يوسف يوم أن قال للظالم "اقض ما أنت قاض"..
حين هددوه بالسجن فقال: ﴿ قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ ﴾ [يوسف: 33]
هكذا يغتر بعض الطغاة والفراعنة والمجرمين بما يملكون من سطوة سلطة أو نفوذ في قضاء أو قوة في الجند بأنهم قادرون على إسكات صوت الحق وإخماد شعلة الإيمان، وغفلوا أنهم حتى وإن تمكنوا في ساعة ضعف من أهل الإيمان فإن الحساب غدا عند الملك الديان: ﴿ يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ﴾ [غافر: 16].
يقول ابن كثير في السيرة النبوية عن عثمان بن مظعون رضي الله عنه يوم أن نزل بجوار الوليد بن المغيرة فقال: لما رأى عثمان بن مظعون ما فيه أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من البلاء وهو يروح ويغدو في أمان من الوليد بن المغيرة قال: والله إن غدوي ورواحي في جوار رجل من أهل الشرك، وأصحابي وأهل ديني يلقون من البلاء والأذى في الله ما لا يصيبني لنقص كثير في نفسي! فمشى إلى الوليد بن المغيرة فقال له: يا أبا عبد شمس، وفت ذمتك، وقد رددت إليك جوارك.
قال: لم يا بن أخي؟ لعله آذاك أحد من قومي؟ قال: لا، ولكني أرضى بجوار الله عز وجل، ولا أريد أن أستجير بغيره.
قال: فانطلق إلى المسجد فاردد على جواري علانية كما أجرتك علانية.
قال: فانطلقا، فخرجا حتى أتيا المسجد، فقال الوليد بن المغيرة: هذا عثمان قد جاء يرد علي جواري.
قال: صدق، قد وجدته وفيا كريم الجوار، ولكني قد أحببت ألا أستجير بغير الله، فقد رددت عليه جواره ثم انصرف عثمان رضي الله عنه، ولبيد بن ربيعة بن مالك بن جعفر في مجلس من قريش ينشدهم، فجلس معهم عثمان فقال لبيد: * ألا كل شيء ما خلا الله باطل * فقال عثمان: صدقت.
فقال لبيد: * وكل نعيم لا محالة زائل * فقال عثمان: كذبت، نعيم الجنة لا يزول.
فقال لبيد: يا معشر قريش، والله ما كان يؤذى جليسكم، فمتى حدث هذا فيكم؟ فقال رجل من القوم: إن هذا سفيه في سفهاء معه، قد فارقوا ديننا، فلا تجدن في نفسك من قوله.
فرد عليه عثمان حتى شرى أمرهما، فقام إليه ذلك الرجل ولطم عينه فخضرها، والوليد بن المغيرة قريب يرى ما بلغ من عثمان، فقال: أما والله يا بن أخي إن كانت عينك عما أصابها لغنية، ولقد كنت في ذمة منيعة قال: يقول عثمان: بل والله إن عيني الصحيحة لفقيرة إلى مثل ما أصاب أختها في الله! وإني لفي جوار من هو أعز منك وأقدر يا أبا عبد شمس.
وكأنه يقول..
لكفار قريش "اقض ما أنت قاض"
يقول ابن الأثير في الكامل وهو يروي قصة مقتل عبدالله بن الزبير فيذكر وصية أمه أسماء بنت أبي بكر فيقول: يا أماه قد خذلني الناس حتى ولدي وأهلي ولم يبق معي إلا اليسير ومن ليس عنده أكثر من صبر ساعة، والقوم يعطونني ما أردت من الدنيا، فما رأيك؟ فقالت: أنت أعلم بنفسك، إن كنت تعلم أنك على حق وإليه تدعو فامض له فقد قتل عليه أصحابك ولا تمكن من رقبتك يتلعب بها غلمان بني أمية، وإن كنت إنما أردت الدنيا فبئس العبد أنت أهلكت نفسك ومن قتل معك، وإن قلت كنت على حق فلما وهن أصحابي ضعفت فهذا ليس فعل الأحرار ولا أهل الدين، كم خلودك في الدنيا؟ القتل أحسن! فقال: يا أماه أخاف إن قتلني أهل الشام أن يمثلوا بي ويصلبوني.
قالت: يا بني إن الشاة لا تتألم بالسلخ إذا ذبحت، فامض على بصيرتك واستعن بالله.
فقبل رأسها وقال: هذا رأيي والذي قمت به داعياً إلى يومي هذا ما ركنت إلى الدنيا ولا أحببت الحياة فيها، وما دعاني إلى الخروج إلا الغضب لله وأن تستحل حرماته، ولكني أحببت أن أعلم رأيك، فقد زدتني بصيرة، فانظري يا أماه فإني مقتول في يومي هذا فلا يشتد حزنك وسلمي الأمر إلى الله.
وكأنه يقول للحجاج....
يا حجاج "اقض ما أنت قاض" إنما تقضي هذه الحياة الدنيا، إنها سير الأولين من المؤمنين الصالحين، وطريق كل من سار على دربهم واهتدى بسنتهم واستقى من منهلهم.
أيها المبتلى بجور ظالم وتسلط مجرم وقيد جلاء..
سر على بركة الله وآمن بقضائه سبحانه وليلهج لسانك بما لهجت به ألسنة الفائزين "اقض ما أنت قاض"
والله أعلم وأحكم..
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا.