أرشيف المقالات

عقوبة التعزير بأخذ المال

مدة قراءة المادة : 23 دقائق .
عقوبة التعزير بأخذ المال

أولاً: تصوير المسألة:
يوجد في الإسلام ثلاثة أنواع من الجرائم والعقوبات[1]؛ وهي:
أ- جرائم الحدود، وهي جرائم جسيمة، لا تختلف باختلاف الزمان والمكان، ومقدرة شرعًا، حقًّا لله تعالى، ولا مجال للاجتهاد فيها، ولا تسقط بالإسقاط؛ لتعلُّقها بالصالح العام، ولا يَملك الحاكم المسلم فيها، إلا إيقاع العقوبة المنصوص عليها صراحة على الجاني، إذا تم ثبوت الجريمة لديه، بوسائل الإثبات المعتمدة شرعًا، وهذه الجرائم، هي: جرائم السرقة، والزنا، والردة، والحرابة أو قطع الطريق، والقذف، وشرب الخمر.

ب- جرائم القصاص، وهي الجرائم التي تقع على النفس بالقتل، وعلى ما دون النفس، كبتر عضو من أعضاء جسم الإنسان أو جرحه، والعقوبة في هذه الجرائم، مقدرة شرعًا، حقًا للعبد، وبما أن الحق فيها للعبد، فهي تسقط بالعفو والإسقاط، والأصل فيها المماثلة بين الجريمة والعقوبة.

جـ- جرائم التعزير، وهي المعاصي والمحظورات الشرعية، التي لم يرد فيها حد أو قصاص، وترك أمر تحديد العقوبة فيها، نوعًا ومقدارًا للحاكم المسلم أو من يقوم مقامه، والسلطة التقديرية الممنوحة شرعًا، للحاكم المسلم في هذه الجرائم، مقيَّدة بالمصلحة؛ لأن تصرُّف الحاكم منوط بالمصلحة، وحيثما تحقَّقت المصلحة المعتبرة شرعًا، فثم شرع الله ودينه، وهذا يعني أن العقوبات في هذه الجرائم، قائمة على الاجتهاد، وتشمل العقوبات التعزيرية، عقوبة الحبس وعقوبة النفي، وعقوبة التغريم بالمال؛ ولكن هذه العقوبة الأخيرة، اختلفت أنظار العلماء فيها، بمعنى هل يجوز للحاكم المسلم، أن يَعتمدها كعقوبة، أم لا يجوز؟ هذه هي صورة المسألة مدار البحث.
 
ثانيًا: تحرير محل النزاع[2]:
1- اتفق الفقهاء على حرمة مال المسلم، ولا يجوز المسُّ به، أو الأخذ منه إلا بسبب مشروع، ومن الأسباب المشروعة التعويض أو الضمان بالمثل أو القيمة، في حالة الإتلاف أو الاعتداء على مال الغير، ومنها أخذ مال الإنسان رغمًا عنه إذا امتنع عن أداء حق مالي مقرر في ذمته، كوفاء دين، حل أجله، وامتنع عن الأداء باختياره، يؤخذ المال أو الحق رغمًا عنه بقوة السلطان أو القانون.

2- اختلف الفقهاء في اعتبار المعصية أو المحظور الذي يرتكبه الإنسان، سببًا يجيز أخذ مال العاصي، عقوبةً له على ارتكابه للمعصية أو المحظور، كمخالفة السير أو أنظمة المرور؛ بحيث يتمُّ أخذ المال رغمًا عن الإنسان، وعقوبة له، لمصلحة الدولة، أو البلدية، أو لشخص ما.
 
ثالثًا: منشأ الخلاف في عقوبة التعزير بأخذ المال:
يرجع الخلاف في هذه المسألة بين الفقهاء إلى الأسباب التالية:
أ- الأدلة الواردة في هذه المسألة أدلة ظنية، يتطرق إليها الاحتمال، وتتسع للرأي، والرأي الآخر، وفيها مجال واسع للاجتهاد بالرأي.

ب- تعارض الأدلة الواردة في هذه المسألة، واختلاف أنظار الفقهاء في كيفية الجمع والتوفيق بينها.

جـ- الاختلاف في مدى تطبيق قاعدة الذرائع؛ لأن أصل القاعدة متفق عليه بين العلماء، ولكن الاختلاف في مدى تطبيق القاعدة؛ فمَن رأى أن القول بالتعزير المالي، فيه تَسليط للظلمة من الحكام على أموال الناس، وإغراء لهم على مصادرة الأموال بغير حق، وهذه ذريعة، يجب سدها، قال بمنع عقوبة التعزير بأخذ المال، ومن رأى أن هذا التسليط، لا يكون إلا نادرًا وقليلاً لا أثر له؛ لعدالة الحكام، وإناطة تصرفاتهم بالمصلحة المُعتبرَة شرعًا، قال بجواز التعزير بأخذ المال.
 
رابعًا: آراء الفقهاء في عقوبة التعزير بأخذ المال:
اختلف الفقهاء في هذه المسألة إلى فريقين:
الأول: ويرى أن العقوبة بأخذ المال على المعاصي التي لا تستوجب حدًّا ولا كفارة غير مَشروعة، وينسب هذا الرأي إلى جماهير العلماء، ومنهم الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة والزيدية[3]، واستدلُّوا على رأيهم هذا، بما يلي:
أ - قال تعالى: ﴿ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 188].

وقال أيضا: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ ﴾ [النساء: 29].
 
وجه الاستدلال بالآيات الكريمات:
تشيرُ الآيات بوضوح، إلى أنه لا يَجوز الأخذ من مال الإنسان بغير سبب مشروع، وعقوبة التعزير بأخذ المال، لا تستند إلى سبب مشروع؛ ولهذا يكون أخذ المال من الإنسان كعقوبة له، أكلاً للمال بغير حق، وهو باطل ومحرَّم بالنص.
 
ب- قال صلى الله عليه وسلم: ((إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم؛ كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا))[4].

وجه الاستدلال بالحديث:
يفيد الحديث حُرمة أخذ مال المسلم قهرًا أو اعتداءً، ومن ذلك عقوبة التعزير بأخذ المال؛ لأنها لا تستند إلى سبب مشروع.

جـ- قال صلى الله عليه وسلم: ((ليس في المال حق سوى الزكاة))[5]، والحديث يشمل بعمومه عقوبة التعزير بأخذ المال.

د- إجماع الصحابة؛ حيث حارب أبو بكر رضي الله عنه مانِعي الزكاة، وكان ذلك بحضرة الصحابة رضوان الله عليهم وموافَقتِهم ومُشاركتهم دون نكير من أحد، ولم يَثبت أنه أخذ من مانعي الزكاة، أموالهم عقوبة لهم، فدلَّ هذا الإجماع العملي على حُرمة التعزير بأخذ المال.
 
هـ- المعقول، ويتمثل بما يلي:
1- إن القول بالتعزير المالي فيه تسليط للظلمة من الحكام على أموال الناس[6]، وإغراء لهم على مصادرة أموال الناس بغير حق، وهذه ذريعة يَجب سدُّها؛ لأنَّ ما يؤدي إلى الباطل يكون باطلاً بالبداهة، وعملاً بقاعدة سد الذرائع.
 
2- عقوبة التعزير بأخذ المال، قاصرة عن تحقيق غايتها؛ لأنها عقوبة غير رادعة بالنسبة للغنيِّ، والأصل في العقوبة، زجر الجاني وإصلاحه وحفظ أمن المجتمع، وهذه الغاية غير متحقِّقة في عقوبة التعزير بأخذ المال؛ ولهذا لا يجوز التعزير بأخذ المال؛ عملاً بالقاعدة الشرعية: "كلُّ تصرُّف تقاعَدَ عن تحصيل مقصوده فهو باطل"، وعملاً بمبدأ: "أصل النظر في مآلات الأفعال مُعتبَر مقصود شرعًا".

والفريق الثاني: يرى جواز التعزير بأخذ المال، ويُنسب هذا الرأي إلى أبي يوسف من الحنفية، وابن فرحون من المالكية، وابن تيمية وتلميذه ابن قيم الجوزية من الحنابلة[7].

واستدلوا على رأيهم هذا بما يلي:
أ- ما رواه بهز بن حكيم عن أبيه عن جدِّه، قال: سمعتُ النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((في كل إبل سائمة، في كل أربعين ابنة لبون[8]، لا يفرق إبل عن حسابها[9]، من أعطاها مؤتجرًا[10] فله أجرُها، ومَن أبى فإنا آخِذُوها، وشطر[11] إبله، عزمة من عزمات ربنا[12]، لا يحلُّ لآل محمد صلى الله عليه وسلم منها شيء))[13].
 
وجه الاستدلال بالحديث:
أوجب الرسول صلى الله عليه وسلم عقوبة أخذ المال على من امتنع عن أداء الزكاة، وهذا يدل بوضوح على مشروعية التعزير بأخذ المال.

ب- عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبدالله بن عمرو، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن الثمر المعلَّق[14]، فقال: ((ما أصاب من ذي حاجة[15] غير متَّخذ خبنة[16]، فلا شيء عليه، ومن خرج بشيء منه، فعليه غرامة مثلَيه والعقوبة، ومن سرق شيئًا منه بعد أن يؤويه الجرين[17]، فبلغ ثمن المجن[18] فعليه القطع، ومن سرق دون ذلك، فعليه غرامة مثلَيه والعقوبة)).

وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبدالله بن عمرو، أن رجلاً من مزينة، أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف ترى في حريسة الجبل؟[19]، فقال: ((هي ومثلها، والنكال[20]، وليس في شيء من الماشية قطع، إلا فيما آواه المراح[21]، فبلغ ثمن المجن ففيه قطع اليد، وما لم يبلغ ثمن المجن، ففيه غرامة مثلَيه وجلدات نكال، قال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم، كيف ترى في الثمر المعلق؟ قال: ((هو ومثله والنَّكال، وليس في شيء من الثمر المعلَّق؟ إلا فيما آواه الجرين، فما أخذ من الجرين، فبلغ ثمن المجنِّ، ففيه القطع، وما لم يبلغ ثمن المجنِّ، ففيه غرامة مثليه، وجلدات نكال))[22].

وجه الاستدلال بالحديث الشريف:
الحديث نص صريح في مشروعية التعزير بأخذ المال؛ حيث أفاد الحديث ثبوت عقوبة التعزير بالجلد والغرامة المالية، لمن سرق من الثمر المعلَّق، أو سرق دون النصاب، أو أخذ المال من غير حرزه، وهذا دليل واضح على جواز التعزير بأخذ المال.

جـ- عن أبي هريرة عن عامر عن فاطمة بنت قيس[23]، أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية: ﴿ وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ ﴾ [المعارج: 24]، قال: ((إن في هذا المال حقًّا سوى الزكاة، وتلا هذه الآية: ﴿ لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ....
[البقرة: 177] الآية.
 
وجه الاستدلال بالحديث الشريف:
يشمل الحديث بعمومه وإطلاقه عقوبة التعزير بأخذ المال؛ لأن التعزير بالمال يستند إلى سبب مشروع وهو تحقيق المصلَحة ودرْء المفسَدَة، وحيثما تحقَّقت المصلحة المُعتبَرة شرعًا، فثمَّ شرعُ الله ودينُه.

د- الإجماع وهو إجماع الصحابة؛ حيث اشتهر عنهم في قضايا متعدِّدة، جدًّا، التعزير بأخذ المال، ولم يُنكر منهم مُنكر، وعُمر فعله بحضرة الصحابة وهم يقرُّونه وينصرونه عليه، فكان ذلك إجماعًا على مشروعية التعزير بأخذ المال[24].

هـ- المعقول، المصلحة تَقتضي مشروعية التعزير بأخذ المال؛ وذلك لسببين:
الأول: التنوع في العقوبات التعزيرية من أجل مراعاة تعدُّد وتنوُّع الجرائم، وكذلك مُراعاة الفروق الفردية بين الناس.

والثاني: تحقُّق الغاية مِن العقوبة التعزيرية، وهي زجر المُخالف وإصلاحه، وحفظ أمن المجتمع، وهذا الردع متحقِّق على أرض الواقع؛ ولهذا أصبح التغريم بالمال عرفًا عالميًّا، ولو لم تكن فيه مصلحة لما تعارف الناس عليه.

خامسًا: المناقشة والتَّرجيح:
1- مناقشة أدلة المانعين؛ والذين يرون عدم مشروعية التعزير بأخذ المال:
أ- إن الاستدلال بالأدلة العامة استدلال قويٌّ، لكنه يبقى استدلالاً عامًّا، وما مِن عام إلا وخصِّص، وقد ثبَت لدينا التخصيص بأدلة صحيحة من السنَّة وإجماع الصحابة، فيبقى العام على عمومه فيما وراء الخاص، والتخصيص نوع من التوفيق والجمع بين الأدلة أولى مِن إهمال أو تعطيل بعضها.

ب- الاستدلال بحديث: ((ليس في المال حق سوى الزكاة)) غير صحيح؛ لأن الحديث منقطع، ويشترط للاحتجاج بالحديث، اتصال السند، وفيه يقول البيهقي: "فلستُ أحفظ فيه إسنادًا"[25]، وعلى فرض القول بصحته، فهو حديث عام، خصِّص بالأدلة الواردة بجواز التعزير بأخذ المال، وبهذا يتمُّ الجمع والتوفيق بين الأدلة الواردة والمُتعارِضة في هذه المسألة.

جـ- الاستدلال بالإجماع، استدلال غير صحيح؛ لأنه دعوى مجرَّدة، لا تقوم على دليل، وقد ثبت عكس هذا الإجماع قولاً وعملاً من الصحابة رضوان الله عليهم، وهذا يؤكد أن الإجماع مجرَّد قول، يَنقصه الدليل، فلا قيمة له مِن الناحية الشرعية[26]، كما أن الإجماع خارج محل النزاع، لأنه يتحدَّث عن ردَّة مَن أنكر الزكاة، وهو كافر باتِّفاق العلماء؛ لأنه مُرتدٌّ، والمرتدُّ يعاقب بالقتل، والمسألة مدار البحث في التعزير وليست في الحدود، ولهذا يكون الإجماع خارج محلِّ النزاع، فلا يصحُّ الاستدلال به شرعًا في محل النزاع.

د- الاستدلال بالمعقول استدلال غير صحيح؛ لأنه يترتَّب عليه إلغاء العقوبات التعزيرية الأخرى؛ لأن المآل واحد، بل قد يكون أشد في عقوبة الحبس أو الجلد؛ لما فيه من تسليط الحكام على كرامة الناس وحرياتهم، وهذا لا يقول به أحد، فثبَت بطلان اللازم والملزوم، كما أنَّ العقوبات التعزيرية بحاجة إلى المُرونة والتنوُّع، تحقيقًا للعدالة، ومنعًا للظلم، ومراعاةً للفروق الفردية بين الناس، وفي إلغاء العقوبة بالتعزير بالمال فيه تضْييق على الحكام دون مسوغ شرعي.

والسُّلطة التقديرية في اختيار العقوبة التعزيرية للحاكم المسلم وَفق ما تقتضيه المصلحة المعتبَرَة شرعًا، والحاكم المسلم يُشترَط فيه العدالة، وتصرُّفه منوط بالمصلَحة، والمصلحة قيد يحدُّ مِن سلطته التَّقديرية، ويحقِّق العدالة في أوسع صورها.

هـ- القول بالنَّسخ، قول غير صحيح؛ لأن دليل النسخ الذي أشرتم إليه[27] ضعيف لا يقوى على النسخ، كما أن النسخ يتطلب معرفة السابق من الأدلة، وهذا غير متحقِّق، بالإضافة إلى عدم إمكانية التوفيق بين الأدلة، وقد تحقَّق التوفيق بالتخصيص.

2- مناقشة أدلة المجيزين:
الاستدلال بالأدلة استدلال غير صحيح للأسباب التالية:
أ- ضَعف الأدلة؛ بسبب تفرُّد الرُّواة في رواية الأحاديث، كما أن الرواة اختلف العلماء في توثيقهم وتجريحهم، والحديث الضعيف لا يصحُّ الاحتجاج به، أو بِناءُ الأحكام عليه، ويؤكد ضعف الأدلة معارضتها للأدلة الواردة في القرآن الكريم، والأصول الثابتة في الشريعة؛ ومنها: قوله تعالى: ﴿ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ ﴾ [البقرة: 194]، وهذه هي العدالة التي تقتضي التماثل والتساوي، والزيادة شطط وجور، وحَديثا بهز بن حكيم وعمرو بن شعيب، قرَّرا الزيادة، وهذا لا يَصحُّ شرعًا، مما يؤكِّد ضعفَ الحديثين، وأما المُخالفة للأصول الشرعية، فهو واضِح، ومن ذلك، أصل قاعدة الضمان الذي يقوم على التساوي والمُماثلة؛ لأن التعويض والضمان يكون بالمثْل أو القيمة، وتعارض الأدلة مع هذا الأصل واضح، وهذا يَقتضي عدم القول بالأدلة، ويترتَّب على ذلك عدم مشروعية التعزير بأخذ المال[28].

ب- الأدلة تَحتمِل التأويل، ومسوِّغ التأويل بصرف الأدلة عن معناها الظاهر المُتعارِض مع أصول الشريعة والتي أشرنا إليها سابقًا؛ ومن ذلك أن الرَّاوي في حديث بهز بن حكيم غلط في لفظ الرواية، والصحيح: ((وشطر ماله))؛ أي: يجعل ماله شطرين، وتؤخذ الزكاة من خير النصفين عقوبة له لمنعِه الزكاة.

وأما حديث عمرو بن شعيب، فإنَّ الغرامة جاءت في الحديث على سبيل الوعيد والتغليظ، لا الوجوب؛ لينتهي فاعله عنه، وإلا فلا واجب على مُتلفِ الشيء أكثر من مثله[29].

جـ- احتمال النَّسخ[30]: عقوبة التعزير بأخذ المال كانت في أول الإسلام، ثم نسخت بقوله صلى الله عليه وسلم: ((ليس في المال حق سوى الزكاة))، ومع وجود هذه الاحتمالات، يَسقط الاستدلال بالأدلة، ويَثبُت القول بعدم مشروعية التعزير بأخذ المال.
 
3- التَّرجيح[31]:
يترجَّح لدينا رأي متأخِّري الحنابلة، والذي يَقضي بجواز التعزير بأخذ المال، للأسباب التالية:
أ- صحَّة الأدلة الواردة في المسألة في الجملة؛ حيث وردت في كتب الحديث المُعتمَدة، وذَكَرها أبو داود في سُننه دون تعقيب، مما يدلُّ على أنها صالحة للاحتجاج بها[32].

ب- المصلحة تقتضي القول بالتعزير بالمال؛ لأن العقوبات التعزيرية تقوم على المصلحة والعرْف، والسلطة في ذلك للحاكم المسلم أو من يقوم مقامه، والأعراف والمصالح تتغيَّر بتغيُّر الزمان والمكان، والتعزير بأخذ المال أصبح عرفًا عالميًّا اليوم.

جـ- لا يوجد تعارض بين أصول الشريعة وعقوبة التعزير بأخذ المال؛ لأن المال يؤخذ عقوبةً، والسلطة التقديرية في ذلك للحاكم المسلم وفق ما تَقتضيه المصلحة، وليس كذلك الضمان؛ لأنه يقتضي إعادة الحال إلى ما كان عليه ما أمكن، بالمثل أو القيمة.

د- الجمع والتوفيق بين الأدلة أولى من تعطيل أو إهمال بعضها.

هـ- الاحتمالات التي أوردها جماهير العلماء على أدلة القائلين بجواز عقوبة التعزير بأخذ المال، لا قيمة لها من الناحية الشرعية؛ لأنها لا تستند إلى دليل؛ وهي ضعيفة في ذاتها.

و- وقوع التعزير بالمال مِن قِبَل النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء من بعده، وليس أدل على الجواز من الوقوع.

[1] الكاساني: البدائع (7 / 63) وما بعدها، والشربيني: مغني المحتاج (4 / 192) وما بعدها، وابن قدامة: المغني (12 / 523) وما بعدها.


[2] ابن جزي: القوانين الفقهية (ص: 218)، وابن عابدين: رد المحتار على الدر المختار (3 / 178)، وابن قيم الجوزية: إعلام الموقعين (2 / 117، 118)، وابن تيمية: السياسة الشرعية (ص: 49).

[3] الكمال بن الهمام: فتح القدير (5 / 344، 345)، وحاشية الدسوقي على الشرح الكبير (4 / 355)، والشربيني: مغني المحتاج (4 / 192)، وإمام الحرمين الجويني: غياث الأمم في الْتياث الظلم (ص: 287، 288)، وابن قدامة: المغني (12 / 526)، والشاطبي: الاعتصام (2 / 123، 124).

[4] النووي: صحيح مسلم بشرح النووي (4 / 431).

[5] البيهقي: السنن الكبرى (4 / 84).


[6] ابن عابدين: رد المحتار على الدر المختار (3 / 178).


[7] الكمال بن الهمام: فتح القدير (5 / 345)، وابن فرحون: تبصرة الحكام (2 / 217)، وابن قيم الجوزية: الطرق الحكمية (ص: 276) وما بعدها، وابن تيمية: الحسبة (ص: 32).

[8] ابن اللبون: هو الذي أتى عليه حولان، وصارت أمه لبونًا بوضع الحمل.

[9] لا يفرق إبل عن حسابها: أي تحسب الكل في الأربعين، ولا يترك هزال ولا صغير، والعمال لا يأخذ إلا الوسط.


[10] مؤتجرًا: بالهمزة أي طالبًا للأجر.


[11] وشطر: بسكون الطاء بمعنى النصف.


[12] عزمة من عزمات ربنا: أي حق من حقوقه وواجب من واجباته.

[13] النسائي: سنن النسائي بشرح الحافظ جلال الدين السيوطي (5 / 15).

[14] الثمر المعلق: أي: بالأشجار، فلا قطع فيه قبل أن يقطع ويحرز.

[15] ذي حاجة: المقصود حالة الاضطرار، أي: أبيح للمضطر.

[16] الخبنة: بضمِّ الخاء وسكون الباء، الإزار وطرف الثوب، أي لا يأخذ منه في ثوبه.

[17] الجرين: موضع يجمع فيه التمر ويجفَّف، والمقصود أنه لا بد من تحقق الحرز في القطع.

[18] المجن: الترس، وهو يساوي ربع ديار من الذهب أي 1.2 غم من الذهب تقريبًا.

[19] حريسة الجبل: الشاة المسروقة مِن المرعى، والاحتِراس أن يؤخذ الشيء من المرعى، فيُقال: فلان يأكل الحرسان، إذا كان يأكل أغنام الناس.


[20] النكال: المقصود عقوبة بدنية، وهي الجلد، والمقصود عقوبة تعزيرية بالجلد.


[21] المراح: بفتح الميم، المحل ترجع إليح وتبيت فيه.

[22] النسائي: سنن النسائي بشرح السيوطي (8 / 85).

[23] البيهقي: السنن الكبرى (4 / 84).

[24] ابن قيم الجوزية: الطرق الحكمية (ص: 269)، وذكر ابن قيم الجوزية، أمثلة كثيرة على التعزير بالمال، منها: أنه صلى الله عليه وسلم، قطع نخيل اليهود إغاظة لهم، وهدمه مسجد الضرار، وإراقة عمر بن الخطاب رضي الله عنه اللبن المغشوش، وحرقه المكان الذي يباع فيه الخمر؛ أيضًا: الطرق الحكمية (ص: 267) وما بعدها، وتبصرة الحكام (2 / 217) وما بعدها، وابن قيم الجوزية: إعلام الموقعين (2 / 117).

[25] البيهقي: السنن الكبرى (4 / 84).

[26] ابن تيمية: الحسبة (ص: 32).

[27] وهو قوله صلى الله عليه وسلم : ((ليس في المال حق سوى الزكاة)).

[28] الدريني: القفه المقارن (ص: 279) وما بعدها، ود.
البوطي: محاضرات في الفقه المقارن (ص: 148) وما بعدها، ود.
ماجد أبو رخية وأبو ليل: بحوث في الفقه المقارن (ص: 285) وما بعدها.


[29] النسائي: سنن النسائي بشرح الحافظ جلال الدين السيوطي (5 / 15)، و(8 / 85).

[30] ابن عابدين: رد المحتار على الدر المختار (2 / 117).


[31] ابن تيمية: الحسبة (ص: 31، 32).


[32] أبو داود: سنن أبي داود (2 / 232، 234).

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٢