شرح الترمذي - باب ما يقول إذا خرج من الخلاء [11]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمدٍ وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة الطيبين وعمن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.

اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً، سهل علينا أمورنا، وعلمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الراحمين.

اللهم زدنا علماً نافعاً، وعملاً صالحاً، بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين، سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك، سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك، اللهم صل على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد:

فما زلنا نتدارس ترجمة أمنا المباركة الصديقة بنت الصديق حبيبة رسول الله على نبينا وآله وأزواجه صلوات الله وسلامه، وكنا في الأمر السادس إخوتي الكرام من ترجمتها، ويدور هذا الأمر حول حب الله جل وعلا لها، ودفاعه عنها، وغيرته عليها، وقلت: سأذكر في هذا الموضوع أمرين اثنين يقرران ذلك:

الأمر الأول: ما يتعلق ببركة أمنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها في سبب نزول آية التيمم؛ فإنها لما انقطع عقدها رضي الله عنها وأرضاها وسع الله عليها وعلى هذه الأمة المباركة المرحومة، فشرع التيمم إذا لم يجد الإنسان الماء ببركتها رضي الله عنها وأرضاها، وتقدم معنا أن هذا ليس أول بركةٍ منها، ومن آل أبي بكر، فبركاتهم كثيرة، جزاهم الله عنا وعن الإسلام خير الجزاء.

والأمر الثاني إخوتي الكرام الذي يدل على منزلة أمنا عائشة رضي الله عنها عند ربنا جل وعلا، وعلى حب الله لها، وعلى غيرته عليها، قلت: إنزال آياتٍ تتلى من كلام الله في كتابه يتعبد بتلاوتها إلى يوم القيامة في تبرئة أمنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها، وقد أنزل الله في ذلك ست عشرة آية من سورة النور، وقد ذكرت عشرة أمورٍ فيها تبين منزلة أمنا عائشة رضي الله عنها عند العزيز الغفور، وقلت: سأختمها بعد ذلك بأمرين اثنين: بما يدل على فضيلة أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه، وأنه خير هذه الأمة بعد نبيها على نبينا وآله وأصحابه صلوات الله وسلامه، فهذه الآيات التي نزلت ببركة أمنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها أثبتت مكانتها عند الله كما أثبتت مكانة أبيها عند الله جل وعلا، ثم نروي لكم حديث الإفك الذي روي في كتب السنة المطهرة.

إخوتي الكرام! كنا نتدارس الأمر الرابع من الأمور العشرة في الآيات التي أنزلها الله في تبرئة أمنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها مما رميت به.

وقلت: سنتكلم على ثلاثة أمور في هذه الدلالة الرابعة.

دلالات لفظة (ظن) من قوله تعالى: (لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيراً ...)

الأولى كلمة (ظن)، (لولا إذ سمعتموه ظن)، ولم يقل الله جل وعلا: لولا إذ سمعتموه تيقنتم بأنفسكم خيراً، استعمل الظن ولم يستعمل اليقين والجزم للإشارة إلى أن أقل ما يجب عليك، وهذا في وسعك أن تظن بأخيك خيراً، ولا ينبغي التفريط فيه بحال، فالتفريط بهذا الأمر جورٌ وبلاء، فأقل المراتب أن تغلب ظن الخير على ظن السوء والجور والتهمة، والظن ترجيح أحد الاحتمالين، وهناك قطعٌ ويقين، فإذا لم يكن عندك بينةٌ ولا برهان على وجه التمام في طهارة هذا الإنسان، فلا أقل من ترجيحٍ طهارته في قلبك، وهذا في وسعك؛ لأنه ليس عندك يقين على ثبوت التهمة فيه، وليس عندك يقين على براءته، تقول: احتمال واحتمال، فارجع إلى الأصل، والأصل هو الطهارة والبراءة، وقد أمرنا أن نحسن الظن بعباد الله، ولأن نحسن الظن بعباد الله ونخطئ خير لنا من أن نظن بهم سوءاً ونصيب؛ لأن الظن لا ينبغي أن نستعمله في جانب السوء، فإذا أخطأت فيا ويحك ويا ويلك، وأما الظن في جانب الخير فأنت لم تخرج عن أمر الخير وعن الهدى فلا أقل من الظن، فالخروج عن هذا ضلالٌ وظلمٌ وجور، لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا [النور:12]، هذا أقل ما ينبغي، وإلا الأصل أن تتيقن طهارة المؤمنين، وأن تجزم بذلك، وأن تدفع الشبهة، فأقل ما ينبغي فرط فيه بعض الصحابة الكرام كـمسطح بن أثاثة ، وحسان بن ثابت ، وحمنة بنت جحش رضوان الله عليهم أجمعين، وخدعوا بإرجاف وافتراء وإفك المنافقين، بخروجهم عن جادة الصواب، فلم يظنوا خيراً بأنفسهم، أي: بإخوانهم، وهذا أقل ما ينبغي أن تسلكه نحو عباد الله، إلا إذا قام عندك دليل القطع على تلبسهم بذنبٍ أو جريمة، فأنت هناك تشهد على مثل ضوء الشمس، وأما ما عدا هذا فدعك من الأراجيف والأقاويل وظن بعباد الله خيراً.

فائدة الالتفات من الخطاب إلى الغيبة في قوله: (لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون...)

الدلالة الثانية: قول الله: لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا [النور:12]، (سمعتموه) خطاب يوجه إليهم، ثم قال: (ظن المؤمنون) وجه الكلام إلى طريق الغيبة، وهذا الذي يقال له في علم البلاغة: التفات، وهو نقل الكلام من حالةٍ إلى حالة، والأصل أن يقول: لولا إذ سمعتموه ظننتم بأنفسكم خيراً، والالتفات غرضه العام تنبيه الأذهان عندما يساق الكلام من حالةٍ إلى حالة، لكن له مقصودٌ خاصٌ في هذه الآيات وفي كل مكانٍ يقع فيه التفات، والمقصود هنا المبالغة في الذم والتقريع، فبعد أن قال: لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ [النور:12]، فبدلاً من أن يقول: ظننتم طرحهم عن صريح الخطاب، وتوجيه الكلام إليهم، ونقل الكلام إلى الغيبة، (ظن المؤمنون)، ثم ذكر العلة التي تدعوهم إلى ذلك الظن الحسن ألا وهو الإيمان، (ظن المؤمنون)، كأنه يقول: أنتم مؤمنون، فكيف لم تتصفوا بصفات الإيمان التي توجب عليكم حسن الظن نحو أهل الإسلام، إذاً أتى بوصف الإيمان عند صيغة الغيبة ليبين أن هذا هو العلة في ذلك الظن الذي ينبغي أن يتصفوا به، فالمؤمن لا ينحرف قلبه عن حسن الظن بعباد الله الصالحين، لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ [النور:12].

ما تفيده لفظة (بأنفسهم) وقوله تعالى: (ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفهسم خيرا) من الدلالة

الدلالة الثالثة في هذه الجملة المباركة: (بأنفسهم)، المراد بإخوانهم المؤمنين، وبأخواتهم من المؤمنات، وإنما قال: (بأنفسهم) حيث نزل المؤمن منزلة نفسه، فنزل المؤمن أخاه منزلة نفسه؛ لأن المؤمنين إخوة، وما يسر أخاك يسرك، وما يضره يضرك، والله جل وعلا يشير إلى هذا المعنى في كثيرٍ من آيات القرآن الكريم، يقول الله جل وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ [الحجرات:11]، والمراد هنا: ولا يلمز بعضكم بعضاً بنقيصةٍ وتعييرٍ وطعنٍ وذمٍ وتحقير، فلمز الأخ لمزٌ للنفس؛ لأن المؤمنين كالجسد الواحد، فإذا طعنت في أخيك فقد طعنت في نفسك، وعلى هذا يتنزل قول الله جل وعلا: وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا [النساء:29].

الأولى كلمة (ظن)، (لولا إذ سمعتموه ظن)، ولم يقل الله جل وعلا: لولا إذ سمعتموه تيقنتم بأنفسكم خيراً، استعمل الظن ولم يستعمل اليقين والجزم للإشارة إلى أن أقل ما يجب عليك، وهذا في وسعك أن تظن بأخيك خيراً، ولا ينبغي التفريط فيه بحال، فالتفريط بهذا الأمر جورٌ وبلاء، فأقل المراتب أن تغلب ظن الخير على ظن السوء والجور والتهمة، والظن ترجيح أحد الاحتمالين، وهناك قطعٌ ويقين، فإذا لم يكن عندك بينةٌ ولا برهان على وجه التمام في طهارة هذا الإنسان، فلا أقل من ترجيحٍ طهارته في قلبك، وهذا في وسعك؛ لأنه ليس عندك يقين على ثبوت التهمة فيه، وليس عندك يقين على براءته، تقول: احتمال واحتمال، فارجع إلى الأصل، والأصل هو الطهارة والبراءة، وقد أمرنا أن نحسن الظن بعباد الله، ولأن نحسن الظن بعباد الله ونخطئ خير لنا من أن نظن بهم سوءاً ونصيب؛ لأن الظن لا ينبغي أن نستعمله في جانب السوء، فإذا أخطأت فيا ويحك ويا ويلك، وأما الظن في جانب الخير فأنت لم تخرج عن أمر الخير وعن الهدى فلا أقل من الظن، فالخروج عن هذا ضلالٌ وظلمٌ وجور، لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا [النور:12]، هذا أقل ما ينبغي، وإلا الأصل أن تتيقن طهارة المؤمنين، وأن تجزم بذلك، وأن تدفع الشبهة، فأقل ما ينبغي فرط فيه بعض الصحابة الكرام كـمسطح بن أثاثة ، وحسان بن ثابت ، وحمنة بنت جحش رضوان الله عليهم أجمعين، وخدعوا بإرجاف وافتراء وإفك المنافقين، بخروجهم عن جادة الصواب، فلم يظنوا خيراً بأنفسهم، أي: بإخوانهم، وهذا أقل ما ينبغي أن تسلكه نحو عباد الله، إلا إذا قام عندك دليل القطع على تلبسهم بذنبٍ أو جريمة، فأنت هناك تشهد على مثل ضوء الشمس، وأما ما عدا هذا فدعك من الأراجيف والأقاويل وظن بعباد الله خيراً.

الدلالة الثانية: قول الله: لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا [النور:12]، (سمعتموه) خطاب يوجه إليهم، ثم قال: (ظن المؤمنون) وجه الكلام إلى طريق الغيبة، وهذا الذي يقال له في علم البلاغة: التفات، وهو نقل الكلام من حالةٍ إلى حالة، والأصل أن يقول: لولا إذ سمعتموه ظننتم بأنفسكم خيراً، والالتفات غرضه العام تنبيه الأذهان عندما يساق الكلام من حالةٍ إلى حالة، لكن له مقصودٌ خاصٌ في هذه الآيات وفي كل مكانٍ يقع فيه التفات، والمقصود هنا المبالغة في الذم والتقريع، فبعد أن قال: لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ [النور:12]، فبدلاً من أن يقول: ظننتم طرحهم عن صريح الخطاب، وتوجيه الكلام إليهم، ونقل الكلام إلى الغيبة، (ظن المؤمنون)، ثم ذكر العلة التي تدعوهم إلى ذلك الظن الحسن ألا وهو الإيمان، (ظن المؤمنون)، كأنه يقول: أنتم مؤمنون، فكيف لم تتصفوا بصفات الإيمان التي توجب عليكم حسن الظن نحو أهل الإسلام، إذاً أتى بوصف الإيمان عند صيغة الغيبة ليبين أن هذا هو العلة في ذلك الظن الذي ينبغي أن يتصفوا به، فالمؤمن لا ينحرف قلبه عن حسن الظن بعباد الله الصالحين، لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ [النور:12].

الدلالة الثالثة في هذه الجملة المباركة: (بأنفسهم)، المراد بإخوانهم المؤمنين، وبأخواتهم من المؤمنات، وإنما قال: (بأنفسهم) حيث نزل المؤمن منزلة نفسه، فنزل المؤمن أخاه منزلة نفسه؛ لأن المؤمنين إخوة، وما يسر أخاك يسرك، وما يضره يضرك، والله جل وعلا يشير إلى هذا المعنى في كثيرٍ من آيات القرآن الكريم، يقول الله جل وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ [الحجرات:11]، والمراد هنا: ولا يلمز بعضكم بعضاً بنقيصةٍ وتعييرٍ وطعنٍ وذمٍ وتحقير، فلمز الأخ لمزٌ للنفس؛ لأن المؤمنين كالجسد الواحد، فإذا طعنت في أخيك فقد طعنت في نفسك، وعلى هذا يتنزل قول الله جل وعلا: وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا [النساء:29].

الدلالة الخامسة: لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ [النور:13]، كأن الله جل وعلا يقول: لا برهان على قذف أمنا الحَصان عائشة رضي الله عنها وأرضاها، الطاهرة المطهرة، وما افتري عليها فهو محض بهتان، لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ [النور:13]، إذاً لا بينة على قولهم وإفكهم وافترائهم، بل ذاك كما تقدم معنا من حبك العصبة المتآمرة، وإذا لم يقم دليلٌ على صحة الشيء وثبوته، فهو هذيان كهذيان المحموم وعربدة السكران، أي قيمةٍ لهذا الكلام إذا لم يقم عليه حجةٌ وبرهان؟! انتبه لقول الله جل وعلا: فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ [النور:13]، وضع المظهر أيضاً موضع المضمر -والأصل أن يقول: فإذ لم يأتوا بهم- لزيادة التقريع، للدلالة على أن هذا لا يثبت إلا بشهداء، ينبغي ألا يغيب هذا عن أذهانكم، وأتى بصيغة اسم الإشارة الذي هو للبعد، فَأُوْلَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ [النور:13]، للإيذان ببعد منزلتهم في الفساد والشر حيث قالوا ما لا دليل عليه، وهو إفكٌ مفترى.

لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُوْلَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ [النور:13]، وإذا كان حكمهم عند الله أنهم كاذبون مفترون أفاكون، فيا عباد الله! عاملوهم بذلك، ولا تصدقوهم، فهم عند ربكم كذابون، فكيف تصدقون من كذبه رب العالمين؟!

فَأُوْلَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ [النور:13]، وأتى بضمير الفصل هم الذي يفيد حصر الكذب فيهم، كأنه لا كاذب غيرهم لشناعة كذبهم وقبح فعلهم؛ حيث قذفوا زوجة نبيهم على نبينا وآله وأزواجه صلوات الله وسلامه.

الدلالة السادسة: إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ [النور:15]، (إذ تلقونه)، فسرت هذه الكلمة بعدة أمور كلها تدل على شيءٍ واحد، قيل: تتلقونه من التلقي، وقيل: من التلقف، وقيل: من التلقن، إذاً تلقي وتلقفٌ وتلقن، قال أئمتنا: وهذه المعاني متقابلة، لكن المعنى الأول تتلقونه يفيد معنى الاستقبال، أي: تأخذونه، وتستفيدونه من غيركم في المستقبل، ولفظ التلقف يفيد معنى الخطف وأخذ الشيء؛ كأنك تخطفه، ومعنى التلقن يفيد الحذق والمهارة في أخذ الشيء، فأنتم تأخذون هذا من غيركم، وكأنكم تخطفونه عندما تأخذونه، ثم تأخذونه بحذقٍ ومهارةٍ، (إذ تلقونه)، كأنه نبأٌ غريب عديم، قامت عليه البراهين، حتى حرصتم عليه، فتأخذونه من غيركم وتحرصون عليه، وتخطفونه منه، وتحذقون بعد ذلك أخذه وتلقيه، وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ [النور:15]، والقول لا يكون إلا بالفم، فقيل: هذا للتأكيد؛ لئلا يظن أن هذا كلامٌ قلبي فقط جرى منهم، بل صدر من ألسنتهم وخرج من أفواههم من بين شفتيهم، كما قيل:

امتلأ الحوض وقال قطني مهلاً رويداً قد ملأت بطني

فالحوض عندما يقول هذا، فهذا حكاية حال، وليس بلسان المقال، فلئلا يظن أن هذا الذي جرى منهم قولٌ بالقلب وعزمٌ عليه وحديث نفس، قال الله: إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ [النور:15]، يعني: ليس حديثاً قلبياً كما هو حال الحوض.

وفي قوله: وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ [النور:15] إشارة إلى أن هذا القول لا مصداق له، ولا صحة له، ولا برهان عليه، لم يصدر من قلبٍ، ولم ينبع من صدرٍ، ولا حجة عليه ولا يقين ولا برهان، بل هو مجرد قولٍ بالفم واللسان، يتشدقون به وكأنه ثابت، وهو إفك مفترى، وهذا كقول الله جل وعلا: وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ [آل عمران:167]، لو نعلم قتالاً لاتبعناكم، هذا كلامٌ لا حقيقة له، فهم يعلمون أنه سيحصل قتال بين النبي عليه الصلاة والسلام وبين الكفار في موقعة أحد، وهذه نزلت أيضاً في عبد الله بن أبي ابن سلول رئيس المنافقين أيضاً، عندما انحاز مع أصحابه في ثلاثمائة، وذكرت هذه الكلمة أيضاً :(وتقولون بأفواهكم للإشارة إلى توبيخهم، فكأنهم يتشدقون بهذا الكلام ملئ أفواههم، مع أنه لا صحة له ولا دليل عليه في قلوبهم وصدورهم، وعلى ذلك حمل قول الله جل وعلا في سورة آل عمران أيضاً: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ [آل عمران:118]، المراد أنهم يتكلمون من أفواههم ويتبجحون، ولا يكتمون ولا يسرون، بل يقولون ما يزعجكم، وما يدل على عداوتكم بملء أفواههم.

الدلالة السابعة: هي في قوله تعالى: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ [النور:14]، وهي الآية التي قبل الآية المتقدمة: إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ [النور:15]، فـ(لولا) هنا حرف امتناعٍ لوجود؛ لأنه وليها اسم، وقد ترتب على تلقي ذلك الإفك الإفاضة فيه، والإفاضة: هي الخوض في الكلام والإكثار منه، ومنه فاض الوادي بالماء، إذا كثر سيلان الماء فيه، ومنه قول الله جل وعلا: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ * وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ [المائدة:82-83].

إذاً حصل كثرة كلام وثرثرةٌ بهذا الإفك والبهتان، وليست كلمة وانقضت، إنما هو حديث تلوكه الألسن مدة شهرٍ كامل فترتب على تلقي الإفك، وعلى النطق به إفاضةٌ وإكثارٌ وثرثرة، ولذلك يقول الله: لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ [النور:14]، لولا فضل الله ورحمته عليكم في الدنيا والآخرة، ونعمه التي لا تحصى، ومن جملتها أنه لا يعاجل المخطئ بالعقوبة بعد أن يبين له الأمر، وتقام عليه الحجة، لولا ذلك لترتب على كلامكم أن يعاقبكم الله في الدنيا، وأن يذيقكم عذاباً أليماً في الآخرة، لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ [النور:14]، التنكير في عذاب يفيد التشنيع، ووصفه بالعظم لزيادة التهويل، لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ [النور:14]، وانتبه هنا للإبهام في اسم الموصول حيث لم يذكر الإفك والقذف باسمه، ولم يعده مرةً ثانية لتهويل أمره، واستهجان ذكره، فأبهمه وكنى عنه، وكأن الله جل وعلا يقول: أنا لا أحكيه عنكم لشناعته، فكيف أنتم استسهلتم ذكره وقوله وترداده وإفاضة الكلام فيه؟!

الدلالة الثامنة في قول الله جل وعلا: وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ [النور:15]، فهو أمر عظيمٌ اسمه، كبيرٌ جرمه، كيف لا! وقذف المحصنات من المؤمنات من الموبقات المهلكات، فكيف من قذف حرم خير المخلوقات! على نبينا وآله صلوات الله وسلامه، وقد أخبرنا نبينا صلى الله عليه وسلم أن قذف المحصنة من الكبائر، فكيف من قذف زوجة النبي عليه الصلاة والسلام التي يترتب على قذفها تنقيص النبي عليه الصلاة والسلام وتحقيره! وقد وردت الأحاديث في التحذير من القذف، والدلالة على أنه من الكبائر، من ذلك ما ثبت في الصحيحين وسنن أبي داود والنسائي ، والحديث رواه الإمام البيهقي أيضاً، وهو في أعلى درجات الصحة من رواية أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (اجتنبوا السبع الموبقات، قالوا: وما هن يا رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات)، وقد أخبرنا نبينا صلى الله عليه وسلم عن شناعة هذه الكبيرة وجرمها عند الله جل وعلا، ففي معجم الطبراني الكبير ومسند البزار، والحديث رواه الحاكم في المستدرك، في الجزء الرابع، صفحة ثلاثٍ وسبعين وخمسمائة، ورواه الإمام ابن عساكر في تاريخ دمشق عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (قذف المحصنة يهدم عمل مائة سنةوَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ [النور:15]، والحديث جميع رجاله ثقاتٌ أثبات إلا ليث بن أبي سليم فقد جرى حوله كلام، وهو صدوقٌ لكن طرأ عليه الاختلاط في آخر حياته، وقد أخرج حديثه البخاري لكن معلقاً في صحيحه، وأخرجه الإمام مسلم لكن مقروناً، وحديثه مرويٌ في السنن الأربعة، ولذلك قال الإمام الهيثمي في المجمع: في إسناد الحديث ليث بن أبي سليم ، وهو ضعيفٌ وقد يحسن حديثه، ودلالة الحديث العام يشهد لها آيات القرآن وأحاديث النبي عليه الصلاة والسلام، وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ [النور:15]، من عظم شناعة الإفك أن القاذف بقذفه يحبط الله له عمل مائة سنة، وكنت قد أشرت في محاضراتٍ سابقة في غير هذا المسجد إلى وجه الحكمة في تحديد عقوبة القاذف في هذا الحديث بأن يحبط عمله لمائة سنة، فقلت: إن المقذوف غاية ما يتصور أن يعيش في الغالب مائة سنة وقلّ أن يجاوز ذلك، والقاذف قد آذى المقذوف بقذفه مدة حياة المقذوف فسيعير، والناس سيتكلمون على عرضه، فما دامت هناك مدةٍ يتصور أن يعيش فيها هذا المقذوف، فلا يقبل الله من القاذف عملاً فيها.

إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [النور:23]، وهنا: وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ [النور:15]، إذا كان هذا هو حكم القذف بالنسبة لقذف المؤمنين والمؤمنات، فكيف يكون الحال فيمن قذف أمنا عائشة رضي الله عنها، وهي زوجة خير البريات على نبينا وآله وأزواجه صلوات الله وسلامه؟! حتماً أن الإثم سيتضاعف، والجرم سيكبر، ولذلك قال أئمتنا: كثيراً ما يكون عظم الذنوب باعتبار متعلقاتها، فالزنا جريمة، وليس الزنا بزوجة الجار كالزنا بأجنبية، وليس الزنا بالأم كالزنا بزوجة الجار، فالذنب كبير، لكن يكبر أيضاً باعتبار متعلقه، فإذا زنيت بأمك نعوذ بالله من ذلك، والعافية من سخطه، ليس الحال كما لو زنيت بامرأةٍ أخرى، وهنا من قذف أمه زوجة نبيه عليه الصلاة والسلام فإثمه أكبر بكثير مما لو قذف امرأةً من المؤمنات الأخريات.




استمع المزيد من الشيخ عبد الرحيم الطحان - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح الترمذي - باب الاستتار عند الحاجة، والاستنجاء باليمين، والاستنجاء بالحجارة [4] 4042 استماع
شرح الترمذي - باب ما جاء في فضل الطهور [6] 3977 استماع
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [9] 3905 استماع
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [46] 3791 استماع
شرح الترمذي - مقدمات [8] 3784 استماع
شرح الترمذي - باب مفتاح الصلاة الطهور [2] 3769 استماع
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [18] 3567 استماع
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [24] 3482 استماع
شرح الترمذي - باب ما يقول إذا خرج من الخلاء [10] 3463 استماع
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [6] 3414 استماع