شرح الترمذي- باب ما يقول إذا خرج من الخلاء [8]


الحلقة مفرغة

اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الراحمين! اللهم زدنا علماً نافعاً، وعملاً صالحاً، بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين!

سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك، سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك.

اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد:

فلا زلنا نتدارس ترجمة أمنا المباركة سيدتنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها، وأم المؤمنين، وزوج نبينا الأمين على نبينا وآله صلوات الله وسلامه، والسبب الذي دعانا لترجمتها -كما تقدم معنا- هي راوية الحديث الذي رواه الإمام الترمذي في الباب الخامس من أبوب الطهارة: ما يقول إذا خرج من الخلاء، فروت عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه كان إذا خرج من الخلاء قال: ( غفرانك )، وحديثها كما قال عنه الإمام الترمذي : حديث حسن غريب، قال: ولا نعرف في الباب إلا حديث أمنا عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم.

إخوتي الكرام! تقدم معنا أننا سنتدارس ترجمتها الطيبة المباركة ضمن ستة أمور، وكنا نتدارس الأمر الخامس منها فيما يتعلق بقيامها بأمر الدين على وجه التمام حسب ما في وسع الإنسان، فكانت تقوم بتعظيم ذي الجلال والإكرام، وبالشفقة والإحسان إلى عباد الرحمن، وبينت شيئاً من عبادتها لربها جل وعلا فيما يتعلق بصيامها وقيامها وقراءتها وخوفها من ربها جل وعلا، وختمت الأمر الخامس بأمر -قلت- ينبغي أن يستفيده نساؤنا منها ألا وهو: حياؤها العظيم ومحافظتها على عرضها وصونها لبدنها رضي الله عنها وأرضاها، فكانت تحجب بدنها من الأحياء المبصرين، ومن الأحياء العميان، ومن الميتين أيضاً، فلا يقع على بدنها نظر أحد، كما لا تنظر هي إلى أحد رضوان الله عليها وعلى سائر المؤمنين والمؤمنات.

هذا الخلق الكريم الذي كانت تتصف به أمنا الطيبة المباركة زوجة نبينا على نبينا وآله صلوات الله وسلامه، قلت: ينبغي أن نقف عنده وقفة، وأن نأخذ منه درساً وعبرة في إلزام نسائنا بالحياء، وفي التزام نسائنا بهذا الخلق الكريم الرفيع، وقد شاء الله جل وعلا أن يمتد الكلام في ذلك في جميع المحاضرة الماضية، وكان في نيتي أن ننتهي، لكن قدر الله وما شاء فعل، ولا غرو في ذلك ولا عجب فسوف يأتينا عند آية التيمم أن ما حصل لهذه الأمة بسببها ليس هذا بأول بركتها ولا هو بأول بركة آل أبي بكر رضي الله عنهم أجمعين.

وهذا أيضاً من بركتها بتوفيق الله لنا أن تدارسنا ما يتعلق بأمرها فيما يتعلق بحيائها وحجابها رضي الله عنها وأرضاها.

إخوتي الكرام! تكلمت البارحة على ثلاثة أمور حسان:

أولها: أن الحجاب خلق كامل، وأن ستر الوجه عنوان الحياء، وينبغي على النساء أن يحافظن على ذلك.

والأمر الثاني: إذا خشيت فتنة من كشف الوجه يحرم على المرأة أن تكشف وجهها باتفاق أئمتنا -كما تقدم معنا تقرير ذلك- وعليه قلت: كل من نقل عن الأئمة الكرام خلافاً في موضوع وجه المرأة، وهل هو عورة أو لا؟ ورتب على هذه الخلاف أنه إذا لم يكن عورة فلا مانع من كشفه قلت: هذه سفاهة وخيانة لدين رب العالمين، وافتراء على أئمة المسلمين، فالذين لم يقولوا بأن الوجه عورة قالوا: لا يجوز أن يكشف إذا خشيت فتنة من الكشف عليها أو على الناظر، ولا خلاف بين أئمتنا في ذلك.

وعليه؛ لا صلة بين قول علمائنا: إنه ليس بعورة وبين جواز كشفه على الإطلاق، فهذا موضوع آخر، والستر لا بد منه، أما هل هو عورة أو لا؟ فهذا يبحث بعد ذلك -كما قلت- في الأمر الثالث وهو: هل هو عورة أم لا؟ ووفقت بين القولين فقلت: من رخص في كشفه باعتبار بداية ما كان عليه الأمر ثم استقر الأمر بعد ذلك على أن الوجه ينبغي أن يستر ولا يجوز أن يكشف وأنه عورة، وهذا هو القول الثاني -كما تقدم معنا- للإمام أحمد ، وجمع بين هذا القول والأقوال الأخرى أئمتنا بالصفة التي ذكرتها رحمة الله ورضوانه عليهم أجمعين.

وفي بداية هذه الموعظة سأذكر أيضاً بثلاثة أمور، ثم ندخل إن شاء الله في مناقشة السفهاء الذين أثاروا سفهاً ولغطاً حول موضوع حجاب وجه المرأة ونقابها، وسوف نتكلم على هذا بعد هذه الأمور الثلاثة إن شاء الله.

إخوتي الكرام! تقدم معنا أن الأكمل للمرأة أن تستر وجهها وأن ستر الوجه للمرأة عنوان حيائها، فالمرأة الحيية هي التي تستر الوجه، وإذا انسلخت من الحياء كشفت عن الوجه، وقلت: إن كشف الوجه بداية لكشف ما بعده، فكل ما عدا الوجه لا يمكن أن يكشف إلا إذا كشف الوجه، ومن سهل عليها أن تكشف عن وجهها سيسهل عليها بعد ذلك أن تكشف عما عدا ذلك، ولذلك عنوان الحياء ودليل الطهر والصفاء والنقاء في المرأة أن تستر الوجه، وهذا هو مسلك نساء سلفنا الطيبات الطاهرات المباركات.

استمعوا إلى هذه القصة التي يرويها شيخ الإسلام الإمام أبو بكر بن العربي في كتابه أحكام القرآن، وهو من علماء القرن السادس للهجرة -كما تقدم معنا حاله وخبره رضي الله عنه وأرضاه- فيذكر في كتاب أحكام القرآن في تفسير هذه الآية من قول الله جل وعلا في سورة الأحزاب: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [الأحزاب:33] إلى آخر الآية الكريمة في الجزء الثالث صفحة خمس وثلاثين وخمسمائة وألف، لأن الكتاب في أربع مجلدات وهو مرتب من الجزء الأول إلى آخر الجزء الرابع بأرقام متسلسلة، وليس لكل جزء أرقام مستقلة، ونقل عنه هذا الإمام القرطبي في تفسيره أيضاً في الجزء الرابع عشر صفحة ثمانين ومائة.

يقول هذا العبد الصالح عليه رحمة الله: لقد دخلت نيفاً على ألف قرية، يعني: ما يزيد على ألف قرية، فما رأيت نساء أصون عيالاً ولا أعف نساء من نساء نابلس بضم الباء واللام، والنسبة إليها نابلسي، يقول: التي رمي فيها الخليل على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه بالنار، فإني أقمت فيها أشهراً فما رأيت امرأة في طريق نهاراً إلا يوم الجمعة، فإنهن يخرجن إليها حتى يمتلئ المسجد منهن، فإذا قضيت الصلاة وانقلبن إلى منازلهن لم تقع عيني على واحدة منهن إلى الجمعة الأخرى، وقد رأيت بالمسجد الأقصى عفائف ما خرجن من معتكفهن حتى استشهدن فيه.

هذا ما يقوله هذا الإمام المبارك عليه رحمة الله في وصفه نساء هذه الأمة المرحومة في القرن السادس للهجرة، ويقول أنه دخل قرى كثيرة وكلهن فيهن صفة الحجاب لكن هذه البلدة تمتاز بالحجاب ولزوم البيوت، فالمرأة لا تخرج من بيتها إلا في يوم واحد وذلك إلى المسجد الأقصى يستمعن الموعظة ثم بعد ذلك يعدن إلى بيوتهن وخروجهن وعودتهن بالصفة الشرعية حتى تكاد أبدانهن أن تلتصق بالجدران عند مشيهن في ذهابهن وإيابهن إلى المسجد وإلى بيوتهن، هذا يوم واحد ومرة واحدة، فهذه هي عفة النساء وهذا هو شأن المسلمات، أما الشوارع التي تمتلئ بالنساء في جميع الأوقات فهذه ليست مظاهر إسلامية، وإنما هي مظاهر الجاهلية.

إذاً: هذا هو خلق النساء الصالحات الطيبات في العصر الأول. ‏

القرار في البيوت وسيلة لحفظ العفاف

وقد كان أئمتنا عليهم رحمة الله يذكرون في ترجمة كثير من النساء الصالحات ما يستغربه السفهاء في هذه الأوقات، بل ما يعتبرونه عيباً كما قال بعض السفهاء في كتاب له ألفه وهو يعتبر نفسه من الدعاة -وهو من البغاة- يقول: يفتخر المسلمون في هذا الوقت بترجمة بعض النساء بأنها ما خرجت من بيتها إلا إلى قبرها.

وهل هذه مسخرة أو منقصة؟! يعني: لازم نزج بها في الجامعات، ويأتيها بعد ذلك أشكال رديئات، أشكالهم كأشكال كارتر وبيجن ، فلازم للمرأة المسلمة أن تذهب لهذه الجامعات المنحطة؟ سبحان ربي العظيم! يقول: الآن بعض الناس يذكرون هذه القصص وهي منقصة وعار على الإسلام والمسلمين أن يقولوا: ما خرجت من بيتها إلا إلى قبرها، يعني: ما كانت تتجول، ولا تعرف الأسواق ولا دخلت هذه المدارس الآسنة والمستنقعات المنتنة باسم الدراسة.

تنبه لما يقوله أئمتنا في ترجمة امرأة أيضاً في القرن السادس للهجرة سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة، توفيت وهي الصالحة القانعة القانتة الورعة الحيية العفيفة: فاطمة بنت نصر العطار فيذكر الإمام ابن الجوزي في كتابه المنتظم في حوادث هذه السنة في الجزء العاشر صفحة تسع وسبعين ومائتين، والقصة رواها الإمام ابن كثير في البداية والنهاية في الجزء الثاني عشر صفحة تسع وتسعين ومائتين، يقول الإمام ابن كثير : كانت من العابدات المتورعات المخدرات. ويقول الإمام ابن الجوزي : شاع عنها الذكر الجميل والزهد في الدنيا، وحدثني أخوها أنها كانت تقوم الليل، وما خرجت في حياتها من بيتها إلا ثلاث مرات.

هذا هو شأن المرأة الطاهرة أنها تخرج من بيتها لزيارة بيت ربها، أو لأداء نسك الحج والعمرة، وتخرج من بيتها لبيت زوجها، وبعد ذلك تخرج من بيتها إلى قبرها، وثلاث مرات يكفيها.

علاقة القرار في البيت بالجهل والتخلف

فإن قيل: ستعيش هكذا في البيت؟ نقول: بيوتنا نحن مؤسسات علمية، وليست بيوتنا قائمة على التلفاز ولا على الفيديو ولا على قلة حياء، نحن بيوتنا هي المؤسسات العلمية، فيجلس صاحب البيت مع أسرته يتذاكرون بعد العشاء وبعد الفجر وفي كل وقت، وبعد ذلك إذا تعب من في البيت نام، ولا يوجد عندنا مذياع يشتغل في بيت، ولا عندنا تلفاز ينظر إليه أحد، ولا عندنا قيل وقال، ولا كلام فارغ، أما أنتم لما ابتليتم بهذه القاذورات تقولون: من أين تتعلم البنت؟ فهل يشترط من تعليمها أن تذهب لهذه المدارس العفنة؟ لا ثم لا، وقد كان نساء سلفنا يتعلمن وهن العالمات كما تقدم معنا في ترجمة حفصة بنت سيرين الثقة العالمة الورعة العابدة من رجال الكتب الستة، كان أخوها محمد بن سيرين إذا أشكل عليه شيء وسأله طلابه وهو شيخ الإسلام يقول: اسألوا حفصة ، أي: اذهبوا واستأذنوا عليها واسألوها، فهذه مسألة أشكلت علي، وأنا لا أستطيع أن أجيبكم، وهو شيخ الإسلام.

وليس معنى هذا أننا إذا قلنا: لا تخرج من البيت أنها ستعيش حكمها وحكم البهيمة سواء، فمن قال هذا؟ ولذلك عندما يربطون بين الأمرين قصدهم إضلال الأمة، يقولون: ما خرجت من البيت يعني تبقى جاهلة؟! ولم تمتهنون المرأة؟ نقول لهم: ما امتهن المرأة إلا أنتم عندما أخرجتموها من خدرها وحصنها ومملكتها وسيادتها، وأي امتهان لها عندما تكون في البيت تُعَلَّم من قبل المسئول عن الأسرة؟ وإذا قدر أنه ليس كذلك فتتصل بنساء صالحات أو تحضر وعظهن ودروسهن وعلمهن وانتهى الأمر، أما المناهج التي فيها ما يدنس القلب، ويلوث الذهن، فيقال للمرأة: ليس لازم أن تذهب إلى هذا؟ ومن الذي ألزم؟ ومن أين جاء اللزوم؟

القرار في البيت ضمان لصون المرأة وحمايتها

إخوتي الكرام! المرأة في الإسلام عرض يصان، وعندنا المرأة هي أغلى شيء في هذه الحياة، ( الدنيا متاع وخير متاعها المرأة الصالحة )، والمتاع كلما كان نفيساً كلما اشتدت المحافظة عليه، فإذا كان عندك جوهرة قيمتها ملايين فأين تحفظها؟ هل ترميها هكذا في السيارة وتأتي إلى المسجد؟ لا أبداً، فهذه ملايين لا بد لها من صناديق ولها مفاتيح سرية، وهذه الصناديق ثقيلة فلو جاء مائة ما يستطيعون تحريكها فضلاً عن حملها، كهذه الخزانات التي يوضع فيها الفلوس الكثيرة عند أصحاب الفلوس.

فإذاً: هذه سلعة نفيسة، وأنفس شيء في الدنيا: هي المرأة، فهي عرض يصان، وما طاب نساء الجنة إلا بعد أن كن مقصورات في الخيام، فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ [الرحمن:56]، كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ [الصافات:49]، ما طاب نساء الجنة إلا بهذا الوصف، أما امرأة خراجه ولاجه بذيئة سفيهة، ثم يقال: هذه هي المرأة المتقدمة الواعية، نعوذ بالله من هذه السفاهة.

إخوتي الكرام! ثلاث مرات خرجت من بيتها، هذا ما يقرره أئمتنا في ترجمتها، وهذا الخلق صار غريباً بيننا، فلزوم البيوت بالنسبة للنساء واجب، ولا يجوز للمرأة أن تخرج من بيتها إلا لضرورة شرعية، فقد قرر الله هذا في كتابه فقال: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ [الأحزاب:33]، أي: استقري وامكثي واثبتي، ولا يقولن سفيه: هذه الآية في أزواج النبي عليه الصلاة السلام، كما قالوا: الحجاب خاص بنساء النبي عليه الصلاة والسلام، ويقولون: الحجاب غل وقيود، وجاء للمسلمين من قبل الأعاجم وغيرهم، وعندما نقول له قد جاء في القرآن: وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ [الأحزاب:53]، يقول: هذا خاص بنساء النبي عليه الصلاة السلام، سبحان الله! القيود والأغلال ما قيد بها إلا زوجات خير خلق الله على نبينا وأزواجه وآله صلوات الله وسلامه؟! ومن عداهن جاء إليهن الحجاب من عادة أعجمية!

المقصود بالخطاب في قوله: (وقرن) وأقوال المفسرين في معنى الجاهلية الأولى

وهنا إياك أن يخطر ببالك أن: قري في بيتك واثبتي خاص بنساء النبي عليه الصلاة والسلام، فاستمع لما يقوله القرطبي في تفسير هذه الآية رحمه الله، يقول: معنى هذه الآية الأمر بلزوم البيت، وإن كان الخطاب لنساء النبي صلى الله عليه وسلم فقد دخل غيرهن فيه بالمعنى، هذا لو لم يرد دليل يخص جميع النساء، فكيف والشريعة طافحة بلزوم النساء بيوتهن والانكفاف عن الخروج منها إلا لضرورة على ما تقدم في غير موضع، فأمر الله جل وعلا نساء النبي عليه الصلاة والسلام بملازمة بيوتهن وخاطبهن بذلك تشريفاً لهن، ونهاهن عن التبرج، وأعلن جل وعلا أن هذا من فعل الجاهلية الأولى فقال: وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى [الأحزاب:33]، وحقيقة التبرج: إظهار ما ستره أحسن، وهو مأخوذ من السعة، يقال: في أسنانه برج إذا كانت متفرقة.

واختلف الناس في الجاهلية الأولى، فقيل: هي الزمن الذي ولد فيه إبراهيم على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه، فكانت المرأة تلبس الدرع من اللؤلؤ فتمشي وسط الطريق تعرض نفسها على الرجال.

وقال الحكم بن عيينة : ما بين آدم ونوح على نبينا وعليهما صلوات الله وسلامه. وهي ثمانمائة سنة، وحكيت لهم سير ذميمة، أي: في هذه الفترة.

وقال ابن عباس رضي الله عنهم أجمعين: هي ما بين نوح وإدريس على نبينا وعليهما صلوات الله وسلامه.

وقيل: ما بين نوح وإبراهيم على نبينا وعليهم جميعاً صلوات الله وسلامه، قيل: إن المرأة كانت تلبس الدرع من اللؤلؤ غير مخيط الجانبين. سبحان الله! كأن ما يفعل في هذه الأيام هو الذي كان يفعل في قديم الزمان، فهناك غير مخيط الجانبين، والآن غير مخيط حتى من الجوانب الأربع، فأحياناً من الأمام مفتوح ومن الخلف ومن الجانبين، حتى خلال حركاتها تظهر جوانبها ومقدمتها وأمامها، يقول: هذه هي الجاهلية التي كانت تفعل، وتلبس الثياب الرقاق التي لا تواري بدنها.

حكى مرة بعض الشيوخ -وما رأيت مثل هذا في حياتي، وأسأل الله أن يسترنا-: أنه رأى امرأة أجنبية وهي في الأسواق الكبيرة في القاهرة، يقول: رآها تلبس قميصاً أبيض شفافاً، وفوقه قميص آخر شفاف، يقول: ليس على سوأتها خرقة، فتبدو سوأتها من الأمام ومن الخلف من وراء الثياب، وتمشي في سوق كبير، يقول: والناس ينظرون هذا مغرور يقول بإعجاب واستكبار: هذه عندها تطور وتقدم أنها تخرج بهذه الحالة، قميص أبيض فوقه قميص أحمر، والكل شفاف وليس على بدنها شيء، وتتعمد هذه الأشكال من أجل أن يعطي البشرة والجلد والأعضاء زينة أكثر، والجسم في الأصل يميل بطبيعته إلى الحمرة أيضاً، فانظر لهذه الألوان في وسط شارع عام تمشي بهذه الحالة، نسأل الله العافية والستر.

وقالت فرقة: هي ما بين موسى وعيسى على نبينا وعليهما صلوات الله وسلامه، قال الشعبي : يعني تبرج الجاهلية الأولى ما بين عيسى ومحمد على نبينا وعلى جميع أنبياء الله ورسله صلوات الله وسلامه.

قال أبو العالية : هي زمان داوود وسليمان على نبينا وعليهم الصلاة والسلام، كان فيه للمرأة قميص من الدر غير مخيط الجانبين.

قال أبو العباس المبرد : الجاهلية الأولى كما تقول: الجاهلية الجهلاء، وكان النساء في الجاهلية الجهلاء يظهرن ما يقبح إظهاره، حتى كانت المرأة تجلس مع زوجها وخليلها.

وهذا موجود أيضاً الآن، فينفرد خليلها بما فوق الإزار إلى الأعلى، وينفرد زوجها -حليلها- بما دون الإزار إلى الأسفل، فالمرأة معها خليل وحليل، فالخليل له من السرة إلى الرأس، والحليل من أسفل السرة يفعل ما شاء، قال: وربما سأل أحدهما صاحبه البدل.

وما أكثر هذا الآن في الحفلات العامة التي تفعل في بلاد المسلمين، وأما بلاد الكافرين فكلهم على هذا، فهذا يراقص زوجة صاحبه وصاحبه يراقص زوجته ويفعل بها ما شاء على مرأى من الناس، كما قال: حتى ربما سأل أحدهم صاحبه البدل، يعني: خذ نصيبي وأعطني نصيبك، فليكن الجانب الأعلى لك والجانب الأسفل له فترة وفترة.

وقال مجاهد : كان النساء يتمشين بين الرجال فذلك التبرج، يعني: خروج المرأة من غير مصلحة شرعية يعتبر تبرجاً.

قال ابن عطية : والذي يظهر عندي أنه أشار للجاهلية التي لحقنها فأمرن بالنقلة عن سيرتهن فيها، وهي ما كان قبل الشرع من سيرة الكفرة؛ لأنهم كانوا لا غيرة عندهم، وكان أمر النساء دون حجاب، وجعلها أولى بالنسبة إلى ما كن عليه، وليس المعنى أن ثمة جاهلية أخرى، وقد أوقع اسم الجاهلية على تلك المدة التي قبل الإسلام، فقالوا: جاهلية الشعراء، وإلى غير هذا.

قلت: وهذا قول حسن، ويعترض بأن العرب كانوا أهل قشف وضنك في الغالب وأن التنعم وإظهار الزينة إنما جرى في الأزمان السابقة وهي المراد بالجاهلية الأولى، وأن المقصود من الآية مخالفة من قبلهن من المشية على تغنيج وتكسير وإظهار المحاسن للرجال إلى غير ذلك مما لا يجوز شرعاً، وذلك يشمل الأقوال كلها ويعمها، فيلزمن البيوت، فإن مست الحاجة إلى الخروج فليكن على تبذل وتستر تام.

إذاً: إخوتي الكرام! هذا خلق النساء المسلمات في العصر الأول، ولذلك أمر الله المسلمة في كل عصر أن تقر في بيتها، وإذا خرجت فلتستر بدنها، وستر الوجه هو عنوان حيائها.

وقد كان أئمتنا عليهم رحمة الله يذكرون في ترجمة كثير من النساء الصالحات ما يستغربه السفهاء في هذه الأوقات، بل ما يعتبرونه عيباً كما قال بعض السفهاء في كتاب له ألفه وهو يعتبر نفسه من الدعاة -وهو من البغاة- يقول: يفتخر المسلمون في هذا الوقت بترجمة بعض النساء بأنها ما خرجت من بيتها إلا إلى قبرها.

وهل هذه مسخرة أو منقصة؟! يعني: لازم نزج بها في الجامعات، ويأتيها بعد ذلك أشكال رديئات، أشكالهم كأشكال كارتر وبيجن ، فلازم للمرأة المسلمة أن تذهب لهذه الجامعات المنحطة؟ سبحان ربي العظيم! يقول: الآن بعض الناس يذكرون هذه القصص وهي منقصة وعار على الإسلام والمسلمين أن يقولوا: ما خرجت من بيتها إلا إلى قبرها، يعني: ما كانت تتجول، ولا تعرف الأسواق ولا دخلت هذه المدارس الآسنة والمستنقعات المنتنة باسم الدراسة.

تنبه لما يقوله أئمتنا في ترجمة امرأة أيضاً في القرن السادس للهجرة سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة، توفيت وهي الصالحة القانعة القانتة الورعة الحيية العفيفة: فاطمة بنت نصر العطار فيذكر الإمام ابن الجوزي في كتابه المنتظم في حوادث هذه السنة في الجزء العاشر صفحة تسع وسبعين ومائتين، والقصة رواها الإمام ابن كثير في البداية والنهاية في الجزء الثاني عشر صفحة تسع وتسعين ومائتين، يقول الإمام ابن كثير : كانت من العابدات المتورعات المخدرات. ويقول الإمام ابن الجوزي : شاع عنها الذكر الجميل والزهد في الدنيا، وحدثني أخوها أنها كانت تقوم الليل، وما خرجت في حياتها من بيتها إلا ثلاث مرات.

هذا هو شأن المرأة الطاهرة أنها تخرج من بيتها لزيارة بيت ربها، أو لأداء نسك الحج والعمرة، وتخرج من بيتها لبيت زوجها، وبعد ذلك تخرج من بيتها إلى قبرها، وثلاث مرات يكفيها.

فإن قيل: ستعيش هكذا في البيت؟ نقول: بيوتنا نحن مؤسسات علمية، وليست بيوتنا قائمة على التلفاز ولا على الفيديو ولا على قلة حياء، نحن بيوتنا هي المؤسسات العلمية، فيجلس صاحب البيت مع أسرته يتذاكرون بعد العشاء وبعد الفجر وفي كل وقت، وبعد ذلك إذا تعب من في البيت نام، ولا يوجد عندنا مذياع يشتغل في بيت، ولا عندنا تلفاز ينظر إليه أحد، ولا عندنا قيل وقال، ولا كلام فارغ، أما أنتم لما ابتليتم بهذه القاذورات تقولون: من أين تتعلم البنت؟ فهل يشترط من تعليمها أن تذهب لهذه المدارس العفنة؟ لا ثم لا، وقد كان نساء سلفنا يتعلمن وهن العالمات كما تقدم معنا في ترجمة حفصة بنت سيرين الثقة العالمة الورعة العابدة من رجال الكتب الستة، كان أخوها محمد بن سيرين إذا أشكل عليه شيء وسأله طلابه وهو شيخ الإسلام يقول: اسألوا حفصة ، أي: اذهبوا واستأذنوا عليها واسألوها، فهذه مسألة أشكلت علي، وأنا لا أستطيع أن أجيبكم، وهو شيخ الإسلام.

وليس معنى هذا أننا إذا قلنا: لا تخرج من البيت أنها ستعيش حكمها وحكم البهيمة سواء، فمن قال هذا؟ ولذلك عندما يربطون بين الأمرين قصدهم إضلال الأمة، يقولون: ما خرجت من البيت يعني تبقى جاهلة؟! ولم تمتهنون المرأة؟ نقول لهم: ما امتهن المرأة إلا أنتم عندما أخرجتموها من خدرها وحصنها ومملكتها وسيادتها، وأي امتهان لها عندما تكون في البيت تُعَلَّم من قبل المسئول عن الأسرة؟ وإذا قدر أنه ليس كذلك فتتصل بنساء صالحات أو تحضر وعظهن ودروسهن وعلمهن وانتهى الأمر، أما المناهج التي فيها ما يدنس القلب، ويلوث الذهن، فيقال للمرأة: ليس لازم أن تذهب إلى هذا؟ ومن الذي ألزم؟ ومن أين جاء اللزوم؟

إخوتي الكرام! المرأة في الإسلام عرض يصان، وعندنا المرأة هي أغلى شيء في هذه الحياة، ( الدنيا متاع وخير متاعها المرأة الصالحة )، والمتاع كلما كان نفيساً كلما اشتدت المحافظة عليه، فإذا كان عندك جوهرة قيمتها ملايين فأين تحفظها؟ هل ترميها هكذا في السيارة وتأتي إلى المسجد؟ لا أبداً، فهذه ملايين لا بد لها من صناديق ولها مفاتيح سرية، وهذه الصناديق ثقيلة فلو جاء مائة ما يستطيعون تحريكها فضلاً عن حملها، كهذه الخزانات التي يوضع فيها الفلوس الكثيرة عند أصحاب الفلوس.

فإذاً: هذه سلعة نفيسة، وأنفس شيء في الدنيا: هي المرأة، فهي عرض يصان، وما طاب نساء الجنة إلا بعد أن كن مقصورات في الخيام، فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ [الرحمن:56]، كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ [الصافات:49]، ما طاب نساء الجنة إلا بهذا الوصف، أما امرأة خراجه ولاجه بذيئة سفيهة، ثم يقال: هذه هي المرأة المتقدمة الواعية، نعوذ بالله من هذه السفاهة.

إخوتي الكرام! ثلاث مرات خرجت من بيتها، هذا ما يقرره أئمتنا في ترجمتها، وهذا الخلق صار غريباً بيننا، فلزوم البيوت بالنسبة للنساء واجب، ولا يجوز للمرأة أن تخرج من بيتها إلا لضرورة شرعية، فقد قرر الله هذا في كتابه فقال: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ [الأحزاب:33]، أي: استقري وامكثي واثبتي، ولا يقولن سفيه: هذه الآية في أزواج النبي عليه الصلاة السلام، كما قالوا: الحجاب خاص بنساء النبي عليه الصلاة والسلام، ويقولون: الحجاب غل وقيود، وجاء للمسلمين من قبل الأعاجم وغيرهم، وعندما نقول له قد جاء في القرآن: وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ [الأحزاب:53]، يقول: هذا خاص بنساء النبي عليه الصلاة السلام، سبحان الله! القيود والأغلال ما قيد بها إلا زوجات خير خلق الله على نبينا وأزواجه وآله صلوات الله وسلامه؟! ومن عداهن جاء إليهن الحجاب من عادة أعجمية!




استمع المزيد من الشيخ عبد الرحيم الطحان - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح الترمذي - باب الاستتار عند الحاجة، والاستنجاء باليمين، والاستنجاء بالحجارة [4] 4042 استماع
شرح الترمذي - باب ما جاء في فضل الطهور [6] 3975 استماع
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [9] 3904 استماع
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [46] 3785 استماع
شرح الترمذي - مقدمات [8] 3784 استماع
شرح الترمذي - باب مفتاح الصلاة الطهور [2] 3769 استماع
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [18] 3565 استماع
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [24] 3481 استماع
شرح الترمذي - باب ما يقول إذا خرج من الخلاء [10] 3462 استماع
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [59] 3413 استماع