شرح الترمذي - باب ما يقول إذا خرج من الخلاء [4]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، اللهم زدنا علماً نافعاً، وعملاً صالحاً، بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين، سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك، سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك، اللهم صل على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:

إخوتي الكرام! كنا نتدارس ترجمة أمنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها، وهي راوية الحديث الذي رواه الإمام الترمذي في جامعه عن شيخ المحدثين وسيد المسلمين أبي عبد الله البخاري عليهم جميعاً رحمة الله، عن أمنا عائشة رضي الله عنها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج من الخلاء قال: غفرانك)، قال أبو عيسى : هذا حديث حسنٌ غريب، ولا نعرف في هذا الباب إلا حديث أمنا عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم.

وقد أورد الإمام الترمذي هذا الحديث كما تقدم معنا في الباب الخامس من أبواب الطهارة فيما يقوله الإنسان إذا خرج من الخلاء، وبعد أن انتهينا من دراسة إسناد الحديث وصلنا إلى مدارسة ترجمة راوية الحديث أمنا عائشة رضي الله عنها الصديقة بنت الصديق حبيبة حبيب الله على نبينا وآله وأزواجه صلوات الله وسلامه.

وقد تقدم معنا إخوتي الكرام شيءٌ من ترجمتها العطرة المباركة، وقلت: سنتدارس أحوالها ضمن ستة أمور:

أولها: فيما يتعلق بفضلها وأفضليتها.

ثانيها: فيما يتعلق بحب نبينا صلى الله عليه وسلم لها محبةً خاصةً.

والأمر الثالث: في أسباب حبها وتقديمها على غيرها رضي الله عنها وأرضاها.

والأمر الرابع: في زواج نبينا صلى الله عليه وسلم من أمنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها.

وهذه الأمور الأربعة تقدمت معنا مدارستها وبقي معنا أمران:

الأمر الخامس: في ترجمتها العطرة الطيبة فيما يتعلق بقيامها بجميع أمور الدين، من تعظيمٍ لرب العالمين، وشفقةٍ على المخلوقين.

والأمر السادس: في حب الله لها، وغيرته عليها، ودفاعه عنها.

أما الأمر الخامس فيما يتعلق بعبادتها لربها، وبشفقتها على خلق الله جل وعلا، فسنتدارسه ضمن ثلاثة أمور مختصرة:

أولها: فيما يتعلق بعبادتها لله، في صيامها، وصلاتها، وخوفها، وخشيتها من ربها جل وعلا.

والثاني: فيما يتعلق بكرمها، وجودها، ومساعدتها للمخلوقين.

الثالث: سأختم ترجمتها المتعلقة بالأمر الخامس هذا بالحديث عن خلقها الذي ينبغي أن تقتدي به نساؤنا الصالحات في هذا الوقت؛ في حيائها، ومحافظتها على حجابها واحتشامها نحو المبصرين ونحو العميان ونحو الميتين، رضي الله عنها وأرضاها وعن سائر أمهاتنا والصحابة أجمعين.

أما فيما يتعلق بالأمر الأول: في عبادتها لربها وتعظيمها له؛ فهي من العابدات القانتات المجتهدات في ذلك، وكيف لا وهي زوجة سيد العابدين، وإمام الزاهدين، وخير خلق الله أجمعين، على نبينا وآله وأزواجه وأصحابه صلوات الله وسلامه.

لقد بلغ من جدها واجتهادها في طاعة ربها أنها بعد موت نبينا عليه الصلاة والسلام واظبت على الصيام، وما كانت تفطر إلا الأيام التي نهينا عن الصيام فيها، أربعة أيامٍ في السنة: يوم الفطر، ويوم الأضحى، وثلاثة أيامٍ من أيام التشريق، المجموع خمسة أيام، وما عدا هذا فكانت تصوم الدهر رضي الله عنها وأرضاها، نعم في حياة نبينا عليه الصلاة والسلام ما كانت تفعل ذلك من أجل تفرغها لخدمة النبي عليه الصلاة والسلام، وبعد أن توفي عليه صلوات الله وسلامه وانتقل إلى جوار ربه إلى الرفيق الأعلى ما بقي شيءٌ يشغلها عن هذه الطاعات، وخدمة النبي عليه الصلاة والسلام أفضل من صيامها نافلة، فكانت تسرد الصوم بعد ذلك وتواصله -وهذا ثابتٌ عنها بالأسانيد الصحيحة- تعظيماً لذي الجلال والإكرام، وكذلك في طبقات ابن سعد في الجزء الثالث صفحة ثمانٍ وستين وخمسٍ وسبعين بإسنادٍ صحيح عن القاسم بن محمد بن أبي بكر ، وهو ابن أخيها وهي عمته، ينقل عنها أنها كانت تصوم الدهر، وأنها كانت تسرد الصوم.

ونقل عنها ذلك سعد بن إبراهيم أيضاً.

فلا يقولن قائل: نهينا عن صيام الدهر، كما نهينا أيضاً عن أن نقرأ القرآن في كل يومٍ أو في كل ليلة؛ فهذا في من يشق عليه ويترتب عليه مللٌ ونفورٌ من العبادة، وأما من كان يتحمل فهو أدرى بنفسه، والصحابة هم أعلم الناس بمراد رسول الله صلى الله عليه وسلم من كلامه، ولذلك قرر أئمتنا أن ما ورد من أحاديث تنهى عن صيام الدهر وعن قراءة القرآن في أقل من ثلاث فهو محمولٌ على من يسأم أو يترتب على ذلك محظور، وقد بحث في هذه الأمور الإمام اللكنوي في كتابه إقامة الحجة وبيَّن أن الإكثار في التعبد ليس ببدعة، ووفق بين النصوص الشرعية الثابتة عن خير البرية عليه الصلاة والسلام التي تنهى عن صيام الدهر، وعن قراءة القرآن في اليوم والليلة، وختم القرآن في اليوم والليلة، وبين ما تواتر عن صالحي هذه الأمة من الصحابة فمن بعدهم فقال: إن تلك النصوص التي تنهى محمولةٌ على واحدةٍ من أمورٍ عشرة، فمن اتصف بواحدٍ منها فالنهي يقع عليه وإلا فلا حرج عليه.

وهذه الأمور العشرة ختم الإمام اللكنوي بها كتابه، والكتاب في قرابة مائة وسبعين صفحة، انظروا آخر الكتاب من صفحة سبعٍ وأربعين ومائة إلى صفحة خمسٍ وخمسين ومائة، فقرر هذه الأمور العشرة بعد أن استخلصها من الحوادث والنصوص والتخريجات في الكتاب، ثم انتهى بعد ذلك إلى هذه الأمور العشرة، وسأسردها سرداً، ولعل الله أن يسهل الكلام عليها تفصيلاً ضمن مباحث الأحاديث التي تأتي معنا في المستقبل إن شاء الله.

والإمام اللكنوي من علماء الهند الصالحين، وتوفي سنة أربعٍ وثلاثمائةٍ وألفٍ للهجرة، صار له منذ أن مات مائة سنة وعشر سنوات عليه رحمة الله، له هذا الكتاب، وله كتب كثيرة في الحديث نافعة، انظروا ما يتعلق بهذه المسألة: إقامة الحجة على أن الإكثار في التعبد ليس ببدعة، لكن ضمن هذه الضوابط:

أولها: الجواز محمولٌ على ما إذا لم يحصل هناك مللٌ يشوش التذاذ العابد بالعبادة، ويشوش حضور قلبه؛ فإذا كان يقوم بالعبادة ويتلذذ وقلبه حاضر ويكثر، أي: يصوم الدهر، ويقوم الليل، ويقرأ القرآن كل ليلةٍ مرة من أوله إلى آخره، وقلبه حاضر، وتلذذه موجود، قال: هذا لا يقع عليه النهي، وما ذكر جزئيةً إلا قررها بأحاديث صحيحة، (ليصل أحدكم نشاطه، فإذا فتر فليرقد)، فلينم، قال: وهذا مما يدل على أن النهي مختص بما إذا حصلت سآمةٌ وملل، كون الإنسان يعلق حبلاً في السقف ويصلي فإذا نعس يتأرجح بهذا الحبل ليدفع النعاس عن نفسه، في الحقيقة هذا فيه سآمة وإكراه للنفس، لكن إذا كانت نفسه تقوم بذلك عفواً دون جهدٍ وتعب، والنفوس تتفاوت، فنحن إذا قمنا ليلةً واحدة نتثاقل، ونسأل الله أن يتوب علينا، وذاك إذا ترك ساعةً من القيام يتثاقل، ويرى أن حياته في القيام، فلا يمكن أن نقيس حالنا عليه، ولا يمكن أن نعطيه حكمنا، ولا يصلح أن نقيس الملائكة على الحدادين، ولا أن نقيس البيض على الحديد؛ فكل واحدٍ له حكم فليأخذ بما يليق بحاله: ( ليصل أحدكم نشاطه )، فإذا كان نشاطك في أربع ركعات فصل أربع ركعات، وإذا كان نشاطك في قيام الليل بأكمله فقم الليل بأكمله.

إذاً: النهي هذا فيمن يعتريه سآمةٌ، ويفقد تلذذ وحلاوة المناجاة، ويكره القلوب على ذلك، والقلوب إذا أكرهت عميت.

الثاني: النهي منصب على من حمل نفسه مشقةً لا يطيقها، وأما إذا كان يقوم بذلك ويطيقه فلا حرج، (عليكم من الأعمال ما تطيقون)، فإذا كان يطيق القيام ويطيق مواصلة الصيام، ويطيق قراءة القرآن كل ليلة فلا حرج.

الثالث: النهي ينصب على من فوت ما هو أهم مما يقوم به من العبادة، كما لو كان الإنسان مشتغلاً بالتعليم ودروس العلم، فترك ذلك من أجل أن يتفرغ للنوافل، فهذا في الحقيقة ضيع شيئاً عظيماً مقابل أمرٍ يسير، فإذا كان لا يضيع ما هو أهم فلا حرج، وهكذا إذا كان يقوم الليل ويضيع صلاة الفجر، فقم قبل الفجر بربع ساعة أحسن من أن تقوم الليل من أوله إلى آخره وتغلبك عيناك وتنام عن صلاة الفجر، ولأن يشهد الإنسان صلاة الفجر في جماعةٍ خيرٌ له من قيام ليلة.

الرابع: النهي ينصب على من يضيع حقاً شرعياً، وإذا كان لا يضيع حقاً شرعياً فلا يقع عليه النهي، هناك سيضيع ما هو أعظم من الطاعة، وهنا سيضيع حقوق الناس، كما لو كان سيضيع حقوق الأهل، أو حقوق الضيف، أو حقوق وواجبات نحو العباد، لو قام الليل وله زوجة، نهاره صائم، وليله قائم، فستتطلع إلى غيره، لكن لو قدر أنه أعطى الزوجة حقها ثم قام بمناجاة ربه إلى الفجر فلا حرج عليه؛ لأنه ما ضيع حقاً شرعياً، ولا فرط في أمرٍ يجب عليه، وأعطى كل ذي حقٍ حقه.

الخامس: النهي فيمن يبطل الرخص الشرعية ويعدها باطلة، ويعتبر العامل بها عاصياً، هو قام الليل وصام الدهر، فقيل له: فلان لا يقوم من الليل إلا ثلثه، فقال: هذا مخطئ، فيقال له: قف عند حدك، أنت فعلت ما تطيقه فلا تتهجم على غيرك ممن يفعل ما رغب الشرع المطهر فيه، فإذا قام ثلث الليل فهو على هدى، فإذاً: الرخص الشرعية بأن يقوم الإنسان على حسب ما في وسعه لا يجوز أن تعدها باطلة، ولا أن تعد العامل بها عاصياً.

السادس: النهي يكون إذا أوجب ما لم يوجبه الله، أو حرم ما لم يحرمه الله، يعني لو قام الليل وقال: هذا واجب، ومن لم يقم الليل أثم وعصى، ولو صام الدهر واعتقد وجوبه وتحريم الفطر فيه، فجعل صيام شوال صيام رمضان، نقول له: الحقيقة أنك أدخلت في دين الله ما ليس منه، فعبادتك مردودةٌ عليك، فإذا لم يفعل هذا فلا حرج عليه أيضاً.

السابع: أن يوفي العبادات حظها عندما يقوم بها، فإذا لم يوفها حظها فالنهي ينصب عليه وينهى عن تلك العبادة، فإذا أراد أن يقرأ قراءة هذرمة لا يعي ما يقول، ولا يفقه ما يقرأ، ويصلي كنقر الديك، فنقول له: هذه العبادة أنت منهيٌ عنها، فلو قال: أنا أقوم الليل، نقول: صل نشاطك بعبادةٍ مشروعة أحسن من أن تكثر من هذه الحالة التي ليست مشروعة، فأنت لا تعطي القراءة حقها من أحكام التجويد، ولا تُعمل عقلك في التفكر والتدبر، وتختم كل ليلة ختمة أو ختمتين لكن الحروف كلها متداخلة كأنك تقرأ شعراً، والله تعالى يقول: وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا [المزمل:4]، فإن قال: أنا إن فعلت ذلك لم أقرأ كل ليلة إلا ثلاثة أجزاء، قل له: اقرأ جزءاً واحداً خيرٌ من الختمة بكاملها هذرمةً، فلا بد له من ضابطٍ شرعي، ولذلك فما نقل عن سلفنا كـعثمان وغيره رضي الله عنهم من الصحابة الكرام أنه يقرأ القرآن في ركعتين، فنجزم أنه لا يفعل هذا هذرمة، وتصاحبه ألطاف الله جل وعلا ومعونته، فيبارك له في الوقت، فيقرأ قراءة مرتلة، ويمد له ويبارك له فيه بحيث يختم القرآن في ركعتين، يقرأ قراءة مرتلة متقنة يستنبط منها ويتدبر ويتفكر، وإذا قال: لا أقوى على هذا، فقل له: صل نشاطك واقرأ نشاطك حسبما تطيق وتتحمل.

الثامن: إذا فعل ما فعل من طاعات والتزم بها فينبغي أن يداوم عليها، وأن نعلم من نفسه ذلك، ولا ينبغي أن يتركها، فأحب العمل إلى الله أدومه وإن قل، فإن قال: سأنشط بعض الليالي وأحييها من أولها إلى آخرها، ثم أترك القيام، فقل له: قم كل ليلة عشر دقائق خير من أن تقوم ليلةً بكاملها في السنة ثم تترك القيام بعد ذلك، وأحب العمل إلى الله ما داوم عليه صاحبه، فإذا عملت عملاً من أمور الخير فلا تتركه، فإذا كنت تجد من نفسك التحمل فبها ونعمت، وإلا فخذ ما تطيق من أول الأمر؛ لأن من شرع في عبادةٍ وتركها فهو كالمعرض عنها، و(من حفظ القرآن ثم نسيه لقي الله وهو أجذم)، ولو لم يحفظه من البداية لما كان له هذه العقوبة؛ لأن التارك للشيء بعد الدخول فيه كالمعرض عنه، وكالزاهد فيه، كأنه ما رأى فيه فائدةً فتركه، وهذا يدل على سفاهةٍ وحماقة.

التاسع: النهي يكون فيمن يتسبب في ملل غيره، هو لا يمنع، لكن يفعل عبادةً يؤذي بها غيره ويتسبب له في هذا الملل، كما لو كان إماماً وأراد أن يحيي الليلة بالقرآن من أوله إلى آخره والناس لا يطيقون، إذا كان عندك جد ونشاط ولا يعتريك الملل، فإذا اعتراهم الملل فلا يجوز إلا إذا وثقت بأنهم يقبلون، ولذلك لا ينبغي للإمام أن يطول فيما لم يرد له به الترخيص بقراءته؛ فإذا قرأ مثلاً سورة ق أو سورة السجدة وسورة الإنسان في صلاة الفجر وقالوا: طولت! لا نصلي خلفك! يقول: صلوا أو لا تصلوا لا شأن لي ولكم؛ هذه صلاتي موافقة للسنة، لكن لو أراد أن يقرأ مثلاً سورة البقرة في صلاة العشاء فينهى ويمنع إلا إذا رضي المأموم، فلو قالوا: يسرنا أن تقرأ فينا كل ليلة ثلاثة أجزاء في صلاة العشاء فلا حرج، وما عدا ذلك فالتزم بما لا يشق على الناس.

العاشر وهو آخر الضوابط: ألا يعتقد أن ما يقوم به أفضل مما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: النبي عليه الصلاة والسلام هو الكامل، وما صدر عنه من تشريع فهو الكامل الأكمل، وذاك الهدي الأتم الأحسن، وأنا ما أفعل هذا لأنني أفضل أو لأن هذه الكيفية أحسن، إنما أفعل هذا لأنه رخص لي في فعله، وإذا صام الإنسان وأفطر وتهجد ونام فهو أفضل، لكن رخص لنا إذا تحملنا ولم نقع في واحدٍ من هذه المحظورات أن نقوم وأن نصوم، وعليه فأنا ضمن دائرة الجواز.

إكثار السلف من التعبد وفق الضوابط العشرة

بهذه الضوابط العشرة نستطيع أن نرد ما نقل عن سلفنا الكرام من قراءةٍ للقرآن في ليلة، وأحياناً كان بعضهم يقرأ في الليلة ثلاث ختمات، فأحد أئمة التابعين كان يختم كل ليلةٍ ثلاث ختمات، ويباشر أهله ثلاث مرات، ولما توفي قالت له: نعم الزوج كنت! ترضي ربك وأهلك، فإن قيل: كيف يختم ثلاث ختمات؟ فقل:

أولاً: يبارك الله له في الوقت وهو على كل شيءٍ قدير، فما ألفه أئمتنا لو أردنا أن نكتبه لما أطقنا، فالإمام ابن الجوزي مصنفاته زادت على خمسمائة مصنف، والسيوطي زادت مصنفاته على سبعمائة مصنف، وبعض المصنفات أكثر من عشرين مجلداً، لو أردت أن تكتبها كتابة لانتهى عمرك وما انتهت، فكيف هذا؟ هذا موضوعٌ آخر، كتاب الإتقان للإمام السيوطي الذي طبع في أربعة مجلدات الطبعة الحديثة جعله مقدمة تفسيرٍ له، وتفسيره إلى الآن في عالم المخطوطات، فلا تقس نفسك عليهم، ولا تقس أولئك على نفسك؛ فكل واحدٍ يأخذ ما يستطيع، وكل إناءٍ له حجم ويتسع على حسب حجمه.

سعيد بن جبير عليه رحمة الله كان يختم القرآن ما بين المغرب والعشاء، وكانوا يؤخرون العشاء إلى آخر ثلث الليل الأول ولا يوجد بين المغرب وآخر ثلث الليل الأول إلا ست ساعات أو خمس، ولا يمكن قراءة القرآن في أقل من ست ساعات مهما كان الإنسان حافظاً متقناً مسرعاً.

والإمام النووي في التبيان يقول: أكثر ما بلغنا عن بعض الصالحين أنه كان يختم ثمان ختمات في اليوم والليلة، أربع في النهار وأربع في المساء، فلهم أحوال خاصة، يبارك الله لهم في أوقاتهم، فإذا وصلنا إلى مثل هذا نقف عند حدنا، ولا داعي بعد ذلك لأن نسفه أئمتنا، وإذا جاء إنسان بعد ذلك وقال: ورد في المسند والسنن الأربعة إلا سنن النسائي ، والحديث رواه الدارمي من حديث عبد الله بن عمرو ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يفقه القرآن من قرأه في أقل من ثلاث)، وعليه فلا يجوز للإنسان أن يقرأ القرآن في أقل من ثلاث، فقل له: هذا الحديث خير من فهمه الصحابة الكرام، فـعثمان بن عفان رضي الله عنه عندما كان يختم في ليلةٍ واحدة في ركعتين، فهل خالف السنة؟! إذاً هذا محمولٌ على ما تقدم معنا من تخريجات وتأويلات في الجمع بين نصوص الشرع.

يبقى معنا فعل النبي عليه الصلاة والسلام هو الأكمل والأفضل والأحسن، وعمل أولئك ضمن دائرة الجواز، وإذا كان كذلك فالأمر سهلٌ يسير، وما نقل بالإسناد الصحيح عن أمنا عائشة وهي زوجة خير خلق الله عليه الصلاة والسلام أنها كانت تصوم الدهر: (ولا صام من صام الدهر)، نقول: هذا فيمن يسأم، أو يشق عليه، أو يعتقد أن هذا أفضل، فيمن يقول: ما لنا ولرسول الله عليه الصلاة والسلام؟! أين نحن منه قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟! فينبغي أن نجد في العبادة أكثر منه، لا! قفوا عند حدكم الآن ستدخلون في دائرة البدعة؛ لأنكم سترون أن ما تقومون به أكمل مما كان عليه النبي عليه الصلاة والسلام، فهديه كما قال: (أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد -أنام- وآكل اللحم، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني)، فإذا قدر أنهم ما فعلوه بهذه العلة، بل قالوا: هدي النبي عليه الصلاة والسلام هو الأكمل، لكن أطقنا نحن زيادة على ذلك فلا حرج في ذلك دون أن نرى أن ما نحن عليه أكمل، ودون أن تحصل سآمة لنا أو لغيرنا، ودون أن نضيع حقاً واجباً ينبغي أن نقوم به، وغير ذلك ضمن المحترزات العشرة السابقة.

وهذه أمنا عائشة رضي الله عنها كانت تصوم الدهر، وقد عده الإمام الزركشي من خصائصها وفضائلها في كتابه: الإجابة فيما استدركته أمنا عائشة رضي الله عنها على الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، وقد أورد لها أربعين خصيصة، وقال في الخصيصة السادسة والثلاثين: أنها كانت تصوم الدهر، وهذا من جدها واجتهادها، ولا يعتبر خروجاً عن الهدي النبوي على نبينا صلوات الله وسلامه بالشروط التي تقدم ذكرها وضبطها.

ضابط في ختم القرآن

قال الإمام النووي في كتابه التبيان في آداب حملة القرآن صفحة ثمانٍ وأربعين -والكتاب ينبغي أن يقرأه طالب العلم مرات وليس مرة واحدة، وكلما قرأه لا يشبع منه- يقول فيه بعد أن ذكر حال السلف في الختم -وأقصى ما بلغه ثماني ختمات، أربع في النهار وأربع في الليل-: والتحقيق أن ذلك يختلف باختلاف الأشخاص؛ فمن كان يظهر له عند خلو الفكر خصائص يستنبطها فليختصر على قدر ما يحصل له ذلك، يقول: أنا إذا قرأت قراءة مرتلة هادئة فإني استنبط معالم وفوائد، وأتفاعل مع القرآن وأخشع، فنقول: اقتصر على المقدار الذي يحصل لك به ذلك، جزءاً أو نصف جزء على حسب ما تحصل هذه الفوائد، ومن كان مشغولاً بنشر علمٍ أو بمهمات الدين فليقتصر من قراءة القرآن على ما لا يحصل به إخلالٌ بما هو مرصدٌ له؛ فإذا كنت مثلاً مدرساً أو معلماً وشغلت نفسك بقراءة القرآن ضيعت الرعية، وإذا شغلت نفسك بقراءة القرآن وقيام الليل لم تتفرغ لنشر العلم وتعليم العباد، فاقتصر على ما لا يضر بما أنت مرصدٌ له ووقفت حياتك من أجله.

ثم قال: وإن لم يكن من هؤلاء، أي: ليس ممن يستخرجون اللطائف والأحكام بدقيق الفكر، ولا هو مرصد لمصلحةٍ عامة من تعليم علم، أو رعاية في شئون الأمة، فليستكثر ما أمكنه من غير مللٍ ولا هذرمة، وهذا هو الوعي الشرعي والفقه الديني الذي يجمع بين هذه النصوص ويوفق بينها وبين من تلقاها عن نبينا عليه الصلاة والسلام من الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين.

إذاً: هذه عبادة أمنا عائشة في صيامها.

بهذه الضوابط العشرة نستطيع أن نرد ما نقل عن سلفنا الكرام من قراءةٍ للقرآن في ليلة، وأحياناً كان بعضهم يقرأ في الليلة ثلاث ختمات، فأحد أئمة التابعين كان يختم كل ليلةٍ ثلاث ختمات، ويباشر أهله ثلاث مرات، ولما توفي قالت له: نعم الزوج كنت! ترضي ربك وأهلك، فإن قيل: كيف يختم ثلاث ختمات؟ فقل:

أولاً: يبارك الله له في الوقت وهو على كل شيءٍ قدير، فما ألفه أئمتنا لو أردنا أن نكتبه لما أطقنا، فالإمام ابن الجوزي مصنفاته زادت على خمسمائة مصنف، والسيوطي زادت مصنفاته على سبعمائة مصنف، وبعض المصنفات أكثر من عشرين مجلداً، لو أردت أن تكتبها كتابة لانتهى عمرك وما انتهت، فكيف هذا؟ هذا موضوعٌ آخر، كتاب الإتقان للإمام السيوطي الذي طبع في أربعة مجلدات الطبعة الحديثة جعله مقدمة تفسيرٍ له، وتفسيره إلى الآن في عالم المخطوطات، فلا تقس نفسك عليهم، ولا تقس أولئك على نفسك؛ فكل واحدٍ يأخذ ما يستطيع، وكل إناءٍ له حجم ويتسع على حسب حجمه.

سعيد بن جبير عليه رحمة الله كان يختم القرآن ما بين المغرب والعشاء، وكانوا يؤخرون العشاء إلى آخر ثلث الليل الأول ولا يوجد بين المغرب وآخر ثلث الليل الأول إلا ست ساعات أو خمس، ولا يمكن قراءة القرآن في أقل من ست ساعات مهما كان الإنسان حافظاً متقناً مسرعاً.

والإمام النووي في التبيان يقول: أكثر ما بلغنا عن بعض الصالحين أنه كان يختم ثمان ختمات في اليوم والليلة، أربع في النهار وأربع في المساء، فلهم أحوال خاصة، يبارك الله لهم في أوقاتهم، فإذا وصلنا إلى مثل هذا نقف عند حدنا، ولا داعي بعد ذلك لأن نسفه أئمتنا، وإذا جاء إنسان بعد ذلك وقال: ورد في المسند والسنن الأربعة إلا سنن النسائي ، والحديث رواه الدارمي من حديث عبد الله بن عمرو ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يفقه القرآن من قرأه في أقل من ثلاث)، وعليه فلا يجوز للإنسان أن يقرأ القرآن في أقل من ثلاث، فقل له: هذا الحديث خير من فهمه الصحابة الكرام، فـعثمان بن عفان رضي الله عنه عندما كان يختم في ليلةٍ واحدة في ركعتين، فهل خالف السنة؟! إذاً هذا محمولٌ على ما تقدم معنا من تخريجات وتأويلات في الجمع بين نصوص الشرع.

يبقى معنا فعل النبي عليه الصلاة والسلام هو الأكمل والأفضل والأحسن، وعمل أولئك ضمن دائرة الجواز، وإذا كان كذلك فالأمر سهلٌ يسير، وما نقل بالإسناد الصحيح عن أمنا عائشة وهي زوجة خير خلق الله عليه الصلاة والسلام أنها كانت تصوم الدهر: (ولا صام من صام الدهر)، نقول: هذا فيمن يسأم، أو يشق عليه، أو يعتقد أن هذا أفضل، فيمن يقول: ما لنا ولرسول الله عليه الصلاة والسلام؟! أين نحن منه قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟! فينبغي أن نجد في العبادة أكثر منه، لا! قفوا عند حدكم الآن ستدخلون في دائرة البدعة؛ لأنكم سترون أن ما تقومون به أكمل مما كان عليه النبي عليه الصلاة والسلام، فهديه كما قال: (أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد -أنام- وآكل اللحم، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني)، فإذا قدر أنهم ما فعلوه بهذه العلة، بل قالوا: هدي النبي عليه الصلاة والسلام هو الأكمل، لكن أطقنا نحن زيادة على ذلك فلا حرج في ذلك دون أن نرى أن ما نحن عليه أكمل، ودون أن تحصل سآمة لنا أو لغيرنا، ودون أن نضيع حقاً واجباً ينبغي أن نقوم به، وغير ذلك ضمن المحترزات العشرة السابقة.

وهذه أمنا عائشة رضي الله عنها كانت تصوم الدهر، وقد عده الإمام الزركشي من خصائصها وفضائلها في كتابه: الإجابة فيما استدركته أمنا عائشة رضي الله عنها على الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، وقد أورد لها أربعين خصيصة، وقال في الخصيصة السادسة والثلاثين: أنها كانت تصوم الدهر، وهذا من جدها واجتهادها، ولا يعتبر خروجاً عن الهدي النبوي على نبينا صلوات الله وسلامه بالشروط التي تقدم ذكرها وضبطها.

قال الإمام النووي في كتابه التبيان في آداب حملة القرآن صفحة ثمانٍ وأربعين -والكتاب ينبغي أن يقرأه طالب العلم مرات وليس مرة واحدة، وكلما قرأه لا يشبع منه- يقول فيه بعد أن ذكر حال السلف في الختم -وأقصى ما بلغه ثماني ختمات، أربع في النهار وأربع في الليل-: والتحقيق أن ذلك يختلف باختلاف الأشخاص؛ فمن كان يظهر له عند خلو الفكر خصائص يستنبطها فليختصر على قدر ما يحصل له ذلك، يقول: أنا إذا قرأت قراءة مرتلة هادئة فإني استنبط معالم وفوائد، وأتفاعل مع القرآن وأخشع، فنقول: اقتصر على المقدار الذي يحصل لك به ذلك، جزءاً أو نصف جزء على حسب ما تحصل هذه الفوائد، ومن كان مشغولاً بنشر علمٍ أو بمهمات الدين فليقتصر من قراءة القرآن على ما لا يحصل به إخلالٌ بما هو مرصدٌ له؛ فإذا كنت مثلاً مدرساً أو معلماً وشغلت نفسك بقراءة القرآن ضيعت الرعية، وإذا شغلت نفسك بقراءة القرآن وقيام الليل لم تتفرغ لنشر العلم وتعليم العباد، فاقتصر على ما لا يضر بما أنت مرصدٌ له ووقفت حياتك من أجله.

ثم قال: وإن لم يكن من هؤلاء، أي: ليس ممن يستخرجون اللطائف والأحكام بدقيق الفكر، ولا هو مرصد لمصلحةٍ عامة من تعليم علم، أو رعاية في شئون الأمة، فليستكثر ما أمكنه من غير مللٍ ولا هذرمة، وهذا هو الوعي الشرعي والفقه الديني الذي يجمع بين هذه النصوص ويوفق بينها وبين من تلقاها عن نبينا عليه الصلاة والسلام من الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين.

إذاً: هذه عبادة أمنا عائشة في صيامها.

انظر بعد ذلك إلى عبادتها في قيامها رضي الله عنها وأرضاها، فقد كانت تقوم الليل، وتكثر من قراءة القرآن، ومن دعاء ربنا الرحمن.

روى أبو نعيم في كتاب الحلية الجزء الثاني صفحة ثمانٍ وأربعين، ورواه عبد الرزاق في المصنف، وابن أبي شيبة في المصنف أيضاً، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم في تفسيريهما، ورواه البيهقي في شعب الإيمان: أن أمنا عائشة رضي الله عنها كانت تقوم الليل وتقرأ القرآن، فإذا وصلت إلى قول الله في سورة الطور: فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ [الطور:27]، تقف وتقول: اللهم من عليّ وقني عذاب السموم، هذا فيمن كانوا في أهلهم مشفقين خائفين، إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ * فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ * إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ [الطور:26-28]، ولا يجمع الله على عبده خوفين، ولا يجمع له أمنين؛ فمن أمنه في الدنيا خوفه يوم القيامة، ومن خافه في الدنيا أمنه يوم القيامة، اللهم من علينا وقنا عذاب السموم.

وروى الإمام ابن الجوزي في صفة الصفوة في الجزء الثاني صفحة واحد وثلاثين في ترجمة أمنا عائشة رضي الله عنها، والأثر أشار إليه الإمام النووي في كتابه التبيان صفحة ثمانٍ وستين، فبعد أن نقله الإمام النووي عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهم أجمعين، قال: وروينا أيضاً مثل ذلك عن أمنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها، وخلاصة ما حكى: عن القاسم بن محمد رضي الله عنه -الذي هو ابن أخيها وهي عمته- قال: كنت إذا غدوت إلى العمل وإلى السوق في الصباح، فقبل أن أذهب إلى شأني أبدأ ببيت عائشة رضي الله عنها -يسلم عليها- قال: فبكرت وغدوت يوماً فدخلت عليها فرأيتها تقرأ القرآن وتبكي وتردد هذه الآية: فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ * إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ [الطور:27-28]، تقرأ وتردد وتبكي، وما شعرت بدخوله ولا باستئذانه، يقول القاسم بن محمد رضي الله عنه يقول: فوقفت وراءها حتى مللت الوقوف وهي تردد الآية وتبكي، يقول: فذهبت إلى السوق فقضيت حاجتي، ثم رجعت فإذا هي كما كانت قائمةٌ تبكي وتصلي وتردد هذه الآية.

صائمةٌ مصليةٌ داعيةٌ قانتةٌ خاشعة، هذه أمنا عائشة رضي الله عنها، وهذه صلتها بالله.

ومع ذلك فاستمع أيضاً لخوفها ووجلها من ربها جل وعلا، والأمر كما قال أئمتنا: ليس الخوف من كثرة الذنوب، إنما الخوف من صفاء القلوب: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28]، وأكثر الناس خشيةً لله أعلمهم بالله جل وعلا.

روى ابن سعد في الطبقات والإمام أحمد في المسند والبخاري في صحيحه، والحديث من أصح الأحاديث فهو في صحيح البخاري عن عبد الله بن أبي مليكة ، وهو عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكة من أئمة التابعين، أدرك ثلاثين من أصحاب النبي الأمين على نبينا وآله وصحبه صلوات الله وسلامه، وتوفي سنة سبع عشرة ومائة للهجرة، وحديثه مخرج في الكتب الستة، وهو إمامٌ ثقةٌ فقيهٌ عدلٌ رضا، عن عبد الله بن أبي مليكة رضي الله عنه قال: استأذن ابن عباس رضي الله عنهما على أمنا عائشة رضي الله عنها وهي مغلوبةٌ في مرض موتها، فقالت: أخشى أن يدخل ابن عباس ويثني علي -سيدخل على أمه ويثني عليها بما هي له أهل- فقيل لها: يا أم المؤمنين! إنه ابن عم النبي عليه الصلاة والسلام، وهو من وجوه المسلمين، هذا حبر الأمة وبحرها ترجمان القرآن لا يؤذن له، فقالت: أدخلوه، فلما دخل قال لأمه رضي الله عنها وأرضاها: كيف تجدينك؟ قالت: بخيرٍ إن اتقيته، يعني: إذا صرت تقيةٍ لله فأنا بخير، فقال لها ابن عباس رضي الله عنهما: أنت بخيرٍ إن شاء الله، زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم ينكح بكراً غيرك، ونزل عذرك من السماء، وهي تبرئتها كما سيأتينا في المبحث السادس آيات تتلى في محاريب المسلمين، عذرك نزل من السماء غيرة من الله عليك، في براءتك وطهارتك، وإثبات عفتك، ومكانتك، فأنت على خير، زوجة النبي عليه الصلاة والسلام ومحبوبة إليه، لم يتزوج بكراً غيرك، وما تزوجك إلا بوحيٍ من الله، فخرج ابن عباس رضي الله عنهما بعد ذلك، فدخل عبد الله بن الزبير وهو ابن أختها رضي الله عنهم أجمعين، وهو من محارمها، فقالت: دخل ابن عباس فأثنى علي، وددت أني كنت نسياً منسياً، نعم إذا قلت هذا فقد سبقك إلى هذا القول الصديقة مريم عندما قالت: يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا [مريم:23]، أي: شيئاً لا يذكر، ولا شأن لي ولا اعتبار، وضبط نِسياً بكسر النون، والنسي هو الشيء الحقير المطرح الذي لا يلتفت إليه، ويقال لخرقة الحيض: نسي، وجمعها أنساء، يا ليتني كنت نسياً منسياً، يعني: خرقة بالية كالخرقة التي تتمسح بها المرأة، وهذا من باب تواضعها واحتقارها لنفسها وخشيتها من ربها.

وقولها هذا رواه أيضاً الإمام عبد الرزاق في مصنفه في الجزء الحادي عشر صفحة ثلاثمائة وسبعة، ومن طريقه رواه أبو نعيم في الحلية في الجزء الثاني صفحة خمسٍ وأربعين، ورواه ابن أبي شيبة في مصنفه أيضاً في الجزء الثالث عشر صفحة تسعٍ وخمسين وثلاثمائة، ورواه الأئمة وكيع وهناد والإمام أحمد في كتب الزهد، ورواه الإمام أحمد أيضاً في كتاب فضائل الصحابة، يا ليتني كنت نِسياً منسياً، نَسياً منسياً، وقد بوب على هذا القول وذكر نظائر له من قول سلفنا من صحابةٍ وتابعين رضوان الله عليهم أجمعين: بوَّب أئمتنا في كتب الزهد كما فعل وكيعٌ وهناد ، فقالا: باب من قال: يا ليتني لم أخلق، فأوردوا هذه الآثار عن أمنا عائشة وعن الصحابة الأبرار رضوان الله عليهم أجمعين بدءاً من أبي بكر فمن بعده، يقولون مثل هذه الكلمات من باب تعظيمهم لربهم، واتهامهم لأنفسهم، لا اعتراضاً على قدر الله جل وعلا.

وقد روى ابن سعد في الطبقات في الجزء الثامن صفحة أربعٍ وسبعين فما بعدها عن أمنا عائشة رضي الله عنها أقوالاً متعددةً كثيرةً تشبه هذه الجملة المتقدمة، منها: أنها كانت تقول: يا ليتني كنت شجرةً، يا ليتني كنت مدرةً وهي طينٌ متجمد، يا ليتني كنت حجراً، وكانت تقول: وددت أن الله لم يكن خلقني شيئاً قط، يا ليتني كنت شجرةً أسبح، وكانت تقول: يا ليتني لم أخلق، يا ليتني كنت ورقةً من هذه الشجرة، وكانت تقول: يا ليتني كنت نباتاً من الأرض ولم أك شيئاً مذكوراً، وكل هذا من باب اتهامها لنفسها واحتقارها؛ وذلك لزهدها وتعظيمها لربها، وحذاري حذاري أن يظن أحدٌ أن هذا من باب التسخط على المقدور والاعتراض على العزيز الغفور، فحاشا سلفنا أن يصدر منهم ذلك، إنما ذلك من شدة خشيتها وخوفها من ربها، وورود هذا عن السلف جنسه متواتر، وقد بوب عليه أئمتنا أبواباً بهذا الخصوص مثل: باب من قال: يا ليتني لم أخلق.

إذاً: هذا فيما يتعلق بتعظيمها لربها، من قيامٍ، وصلاةٍ، وخوفٍ، وخشوعٍ، وإخبات.

أما فيما يتعلق بمساعدتها لعباد الله فحدث ولا حرج، كنت قد فصلت الكلام على ذلك في مبحث النبوة عند جود نبينا عليه الصلاة والسلام وكرمه، وعند بيان مسكنه وأثاثه، وأن ذلك من باب الاختيار لا من باب عدم وجود عرض الدنيا، إنما ما كان يأتيه ينفقه ويختار بعد ذلك ما اختاره من هذه المعيشة المتواضعة على نبينا وآله صلوات الله وسلامه، وقلت: إن ذلك الخلق ورثه عنه نساؤه، وبدأت بأمنا عائشة وقلت: التفصيل سيأتي فيما بعد، فسأعيد ما سبق مع إضافة شيءٍ إليه على وجه الاختصار لننتقل إلى الأمر الثالث إن شاء الله فيما ينبغي أن يستفيده النساء من حياء أمنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها.

حقيقةً إحسانها ومساعدتها لعباد الله وشفقتها عليهم لا نظير له، وقد أخذت هذا من نبينا عليه الصلاة والسلام واستفادته منه، وهي حبيبته ستتخلق بأخلاقه عليه وعلى آله صلوات الله وسلامه، فاستمع لهذه القصص.

يروي الإمام ابن سعد في الطبقات في الجزء الثامن صفحة سبعٍ وستين، وهناد بن السري في كتاب الزهد، والأثر في الحلية بسندٍ صحيح في الجزء الثالث صفحة سبعٍ وأربعين عن أم ذر رضي الله عنها وأرضاها، والأثر ذكره ابن حجر في الإصابة، والإمام ابن كثير في أسد الغابة: أن عبد الله بن الزبير رضي الله عنه أجمعين أرسل إلى أمنا عائشة مالاً في غرارتين، قدر هذا المال يكون مائة ألف درهم، وفي رواية هناد في الزهد: بلغ ثمانين ومائة ألف درهم، أرسل إليها هذا المبلغ الكثير، فلما وصلها صبته من هاتين الغرارتين -أي: الوعائين- وبدأت تقسم وتوزع، حتى حان المغرب فقالت لجاريتها: عليّ بفطوري، فأتتها بخبزٍ وزيت لتفطر عليه بعد أن وزعت مائةً وثمانين ألف درهم قبل غروب الشمس، فقالت لها جاريتها: هلا تركتي لنا درهماً نشتري لحماً نفطر عليه؟ الجواب الذي قالته أمنا عائشة أعظم بكثير من توزيعها لتلك الدراهم الكثيرة، قالت: لو ذكرتيني لفعلت، قلوب مستغرقة بالله جل وعلا، لا تنتبه لحالها في هذه الحياة الدنيا.

إذاً: ما اختاروه من حياة الشظف والقلة لا لعدم وجود المال والتنعم، فلو أرادوا لصارت معهم الجبال ذهباً كما تقدم معنا في حياة نبينا عليه صلوات الله وسلامه، فانظر إلى هذا الخلق المحمود، ومثل هذا كثير.

وروى أيضاً أبو نعيم في الحلية وابن سعد في الطبقات عن عروة بن الزبير رضي الله عنهم أجمعين، قال: رأيت أمنا عائشة رضي الله عنها تتصدق بسبعين ألف درهم، وإنها لترقع جيب قميصها، وإنها لترقع جانب درعها، عندها درع بالي وقميص قديم ترقعه وتتصدق بسبعين ألف درهم.

وروى الحاكم في المستدرك بسندٍ صحيح في الجزء الرابع صفحة ثلاث عشرة عن عروة بن الزبير أيضاً، قال: بعث معاوية بن أبي سفيان بمائة ألفٍ إلى أمنا عائشة ، فما قامت من مجلسها حتى وزعتها، ثم أفطرت على خبزٍ وزيت، فقالت لها جاريتها بريرة : هلا تركت لنا درهماً نشتري به لحماً نفطر عليه؟ قالت: لو ذكرتيني لفعلت.

وثبت في الحلية عن عبد الرحمن بن القاسم بن محمد بن أبي بكر رضوان الله عليهم أجمعين قال: أهدي إلى أمنا عائشة رضي الله عنها سلال من عنب، فأمرت بتوزيعها ووزعتها، الآن الجارية احتاطت فاحتفظت بسلة عنب، فلما حان المغرب لتفطر -وكانت تصوم الدهر- أحضرت الجارية شيئاً من العنب، قالت: من أين هذا؟ قالت: من السلال التي جاءتك رفعت سلةً منها، قالت: سلةً؟ هلا عنقوداً واحداً؟! والله لا أذوقه، وزعت على الناس وتتركي لنفسك سلة؟ نجعل أنفسنا مثل الناس ولا نؤثرهم علينا؟ يعني: لو تركت عنقوداً لأكلت منه، أما سلة بكاملها فكلي أنت هنيئاً مريئاً.

انظر إلى هذا الكرم وهذا الجود، توزع سلالاً وما تركت لنفسها عنقوداً، إنما الذي ترك الجارية، ولما علمت بأن الذي ترك سلة بكاملها قالت: لا آكل من هذا شيئاً، ومثل هذا كثير.

روى الحاكم في المستدرك أيضاً في الجزء الرابع صفحة ثمانية بسندٍ صحيحٍ على شرط الشيخين عن ذكوان ، وهو مولى أمنا عائشة رضي الله عنها أعتقته، وهو أبو عمرو : أن درجاً -أي: صندوقاً- من خشب قدم إلى عمر من العراق عندما حصل ما حصل من فتوح القادسية والقضاء على الفرس الضالين، فيه جوهرٌ، فلما فتح الدرج قال عمر للصحابة: تدرون كم ثمن هذا؟ قالوا: لا ندري، قال: كيف سنقسمه ونوزعه على المجاهدين؟ فاختلفوا فيه، فقال عمر رضي الله عنه: أتأذنون وتطيب نفوسكم -يستأذنهم لأنه حق للمجاهدين- أن أبعث به إلى أمنا عائشة لحب رسول الله صلى الله عليه وسلم إياها، هذه حبيبة رسول الله عليه الصلاة والسلام، قالوا: تطيب نفوسنا، من لا تطيب نفسه أن يرسل روحه إلى أمه فضلاً عن عرض الدنيا؟! فلما جيء به إلى أمنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها وزعته قبل أن تقوم من مقامها، فبدلاً من أن يقتسموه هم قسمته هي، وما تركت لنفسها جوهرةً واحدةً ولا شيئاً منه، رضي الله عنها وأرضاها.

وبالنسبة لـذكوان فهو مولاها، وقد كان يؤمها، وكان إذا أمها يقرأ من المصحف، وقد بوب البخاري على ذلك باباً في كتاب الأذان فقال: باب إمامة العبد والمولى، ثم روى بسندٍ معلق بصيغة الجزم، قال: وكانت عائشة رضي الله عنها يؤمها عبدها من المصحف، وهذا دليلٌ للسادة الحنابلة رضي الله عنهم أجمعين على أن القراءة من المصحف لا تبطل الصلاة؛ لأن النظر في المصحف عبادة، وتغتفر الحركات التي تجري من المصلي؛ لأن هذا ضمن مصلحة الصلاة، كالحركات التي تحصل منه في حال قيامه وركوعه وسجوده ومد يديه، هذه كلها حركات للصلاة وليست حركات عبث، وعندما يمسك المصحف فإذا كان عبادة ورخص له فيه، فالحركات لا تضر إن شاء الله.

وذكوان أبو عمرو مدنيٌ ثقة، حديثه مخرج في الصحيحين وسنن أبي داود والنسائي ، قال الحافظ في الفتح: وهذا الأثر الذي أورده الإمام البخاري معلقاً بصيغة الجزم أن ذكوان -هذا أبو عمرو- كان يؤم أمنا عائشة من المصحف، قال: وصله ابن أبي داود في كتاب المصاحف، ووصله ابن أبي شيبة في المصنف، وعبد الرزاق في مصنفه أيضاً، والشافعي في مسنده رحمة الله عليهم أجمعين. وهذا ثابتٌ في أصح الكتب بعد كتاب الله، والأثر روي موصولاً في الكتب التي ذكرتها.

هذه نماذج من جود وكرم أمنا عائشة رضي الله عنها، والأخبار في ذلك كثيرة سأختمها بهذا الخبر لننتقل إلى الجانب الآخر.

روى هناد في كتب الزهد في الجزء الثاني صفحة ثلاثٍ وثلاثين عن عطاء ، قال: بعث معاوية رضي الله عنه طوقاً من ذهب إلى أمنا عائشة رضي الله عنها فيه جوهرٌ قومّ بمائة ألفٍ، فقسمته بين أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ولم تأخذ منه شيئاً، يعني هم يقدمونها لتقديم رسول الله صلى الله عليه وسلم لها على صاحباتها، فإذا جاءها الشيء أعادته إلى صاحباتها ولم تأخذ منه شيئاً. والأخبار في ذلك كثيرة، فهذا تعظيمها لربها، وهذه شفقتها على خلق الله وإحسانها إليهم، فجمعت مقاصد الدين من تعظيمٍ لرب العالمين، وشفقةٍ على المخلوقين.