شرح الترمذي - باب ما يقول إذا أراد دخول الخلاء [3]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمدٍ وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة الطيبين، وعمن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً، سهل علينا أمورنا، وعلمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الراحمين، اللهم زدنا علماً نافعاً، وعملاً صالحاً بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين، سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك، سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك، اللهم صل على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:

فكنا نتدارس الباب الرابع من أبواب الطهارة من جامع الإمام أبي عيسى الترمذي عليه رحمات رب العالمين، عنون عليه فقال: باب ما يقول إذا أراد دخول الخلاء. ثم روى عن ثلاثةٍ من شيوخه: قتيبة بن سعيد ، وهناد بن السري ، وأحمد بن عبدة الضبي البصري رحمهم الله جميعاً، عن أنسٍ رضي الله عنه وأرضاه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل الخلاء يقول: اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبيث)، وكان يقول كما في الرواية الثانية: (اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث).

هذا الحديث قال عنه الإمام الترمذي : أصح شيءٍ في هذا الباب وأحسن، بعد أن بين أنه روي في الباب أحاديث أخرى عن غير أنس رضي الله عنه، فقال: وفي الباب عن علي وزيد بن أرقم وعبد الله بن مسعود وجابر بن عبد الله رضي الله عنهم أجمعين.

قبل أن نتدارس مباحث هذا الحديث الشريف فيما يتعلق بإسناده وفكره وتخريجه وبيان الروايات التي أشار إليها الإمام الترمذي عليه رحمة الله، قبل هذا أحب أن أقدم مقدمةً تدور على أمرين اثنين ترتبط بهذا البحث ارتباطاً وثيقاً، هذان الأمران هما ما يتعلق بشهوات الدنيا وملذاتها، وإلى أي شيءٍ ستستحيل في نهاية الأمر، وبينت إخوتي الكرام أن شهوات الدنيا رخيصةٌ خسيسة، قررت هذا من وجوه عشرة في الموعظة الماضية، ومن ذلك قلت: لا يوجد شهوة على وجه التمام والكمال إلا في جنات النعيم بجوار رب العالمين سبحانه وتعالى، أما هذه الدنيا فمهما كان فيها من نعيم فهي دار عناءٍ وبلاءٍ وكدٍ وتعبٍ وشقاء، ولو لم يكن فيها إلا الموت لكفى منغصاً، والأمر كما قال أئمتنا في حال الدنيا:

أحلام نومٍ أو كظلٍ زائل إن اللبيب بمثلها لا يخدع

وكانوا يقولون:

هب الدنيا تساق إليك عفواً أليس مصير ذاك إلى زوال

وما دنياك إلا لاسم فيءٍ أظلك ثم آذن للزوال

أظلك هذا الفيء ثم آذن وأعلن بأنه سيزول عنك وينتقل، هذا هو حال الدنيا، لو صفت فإنها ستزول، وكفى هذا منغصاً فيها، مع أنها ليست بصافية، ولا يوجد فيها لذةٌ خالصةٌ كما تقدم معنا. ولذلك عندما جاء رجلٌ إلى العبد الصالح يونس بن عبيد ، فقال له: إذا أكلت تألمت، وإذا جعت تألمت، يعني: أمرٌ يحير طبع هذه الحياة، إذا جاع الإنسان تألم، ويقرصه الجوع في أمعائه، وإذا أكل وزاد فإنه يتألم من التخمة ويصعب عليه أيضاً عندما تمتلئ بطنه، فماذا أفعل؟

قال: يا عبد الله! هذه الدار لا توافقك، فاطلب داراً أخرى لا تجوع فيها، وإذا أكلت لا تتألم، اطلب داراً أخرى لا تجوع فيها ولا تعرى، ثم إذا أكلت تتلذذ وتتنعم ولا تتألم، ويونس بن عبيد من أئمتنا الربانيين، توفي سنة تسعٍ وثلاثين ومائة، وقيل: سنة أربعين ومائة للهجرة، وهو من شيوخ الإسلام الكرام الكبار في زمنه، حديثه مخرج في الكتب الستة، ومن ورعه ومناقبه وفضائله رحمه الله ورضي الله عنه: أنه كان يبيع الملابس وهو شيخ الإسلام في بغداد، فجاءه رجلٌ وقال: أريد نقرة بأربعمائة درهم، قال: ما عندنا إلا نقرة بمائتين، هذا أعلى شيء، قال: أريد بأربعمائة، قال: لا يوجد، فذهب يونس بن عبيد إلى حاجةٍ فعاد فرأى ابن أخته قد باع النقرة بأربعمائة درهم، وعاد ذاك المشتري مرةً ثانية وقال: أريد نقرةً أخرى بأربعمائة، قال ابن أخت يونس : هذا بأربعمائة هل يناسبك؟ فرد المشتري وقال: يناسبني، خذ الدراهم فهي حلال، فاشتراه بأربعمائة، فقال يونس لابن أخته: ويحك نبيعه بمائتين فكيف بعته بأربعمائة؟ قال: هو رضي، قال: ابحث عنه، فبحث عنه حتى وجده ثم أعاده قال: أنت بين أمرين لا ثالث لهما: إما أن تأخذ المائتين الزائدة، وإما أن تعيد النقرة، فـ(الدين النصيحة)، و(لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)، فأنت تأخذه بأربعمائة، لا يمكن أبداً، إما أن تعيده وتأخذ فلوسك، وإما أن تأخذ المائتين الزائدة، قال: أسألك بالله من أنت؟ قال: أنا رجلٌ من المسلمين، قال: سألتك بالله فأخجله، قال: أنا يونس ، قال: يونس بن عبيد ؟ قال: نعم، قال: سبحان الله! إذا كنا في الغزو، ووقفنا في نحر الأعداء، واشتد علينا البلاء نقول: اللهم رب يونس بن عبيد انصرنا، وفرج عنا، فيفتح الله علينا وينصرنا على أعدائنا، نحن إذا اشتد علينا الكرب نلجأ إلى الله بهذا الاسم المبارك فنقول: اللهم رب يونس بن عبيد ، هذا الولي الذي اصطفيته لنفسك، ولك ربوبيةٌ وعنايةٌ خاصةٌ به نسألك أن تنصرنا فكنا ننصر على أعدائنا.

هذه الدار لا توافقنا، إذا أكلت تتألم، وإذا جعت تتألم، فاطلب داراً أخرى.

وهذا العبد الصالح من درر كلامه: ارحم الغريب والأغرب من الغريب؟

قالوا: من الغريب؟ ومن الأغرب؟

قال: الغريب الذي إذا عرف السنة عرفها، وأما الأغرب فهو الذي يعرف بالسنة، ويدل الناس عليها هذا أغرب الناس، إن أغرب الناس حقيقةً من يعرف بالسنة ويقال عنه وله: مخرفٌ مبتدع.

ومن يقول عنه هذا؟

يقول هذا من في بيته آلات اللهو ومزامير الشيطان، في بيته هذا ويقول بعد ذلك عمن يعرف بالسنة والذي هو أغرب الناس: إنه مبتدع، سبحان ربي العظيم!

إذاً: هذه الدار الدنيا كما قلت: ليس فيها لذة صافية كاملة تامة، ولا بد من بيان الدار التي فيها لذة كاملة تامة ألا وهي الجنة، نذكرها على وجه الإيجاز؛ لنبين أن هذه الدار دار عناءٍ وبلاء، وتلك دار سرورٍ وفرحٍ ومرح، ودار تنعمٍ وخيرٍ وبركةٍ، وأما هذه فعلى الضد من ذلك.

الجنة فيها نعيم عظيم، وهذه النعم التي في الدنيا إن شابهت ما في الجنة من نعيمٍ فالمشابهة في الأسماء فقط، لكن الحقائق تختلف، وكنت ذكرت في مواعظ متقدمة الأثر الذي روي عن ابن عباس رضي الله عنهما وهو ثابتٌ عنه وصحيح رواه البيهقي وأبو نعيم ، والضياء المقدسي في أحاديث الجياد المختارة أنه قال: (ليس في الجنة شيءٌ مما في الدنيا إلا الأسماء) أي: فقط الأسماء تتشابه، لكن الحقائق تختلف، ولذلك أعد الله لعباده في جنته ودار كرامته (ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر)، ثبت الحديث بذلك في المسند والصحيحين وسنن الترمذي وابن ماجه والدارمي من رواية أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قال الله تعالى: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر)، قال أبو هريرة رضي الله عنه: اقرءوا إن شئتم فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [السجدة:17] ، والحديث رواه مسلمٌ في صحيحه أيضاً، والحاكم في مستدركه عن سهل بن سعد رضي الله عنه.

وهذا النعيم العظيم الذي يحصله المؤمنون في دار كرامة أرحم الراحمين في الجنة كما قلت: ليس فيه شائبةٍ من شوائب النقص، وأما هنا في الدنيا فكل نعيمٍ مشوب بمنغصات ونقائص كثيرة، فاستمع لما يوجد في نعيم الجنة بصورةٍ موجزة مختصرة.

ثبت في مسند الإمام أحمد وصحيح مسلم والحديث رواه الدارمي في مسنده من رواية أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من يدخل الجنة ينعم ولا يبأس)، ينعم نعيماً دائماً، ولا يبأس، فليس هناك شيءٌ من البؤس، أو شيءٌ من الشقاء، أو شيءٌ من الشدة، أو شيءٌ من العنت، أو شيءٌ من الشوائب، (من يدخل الجنة ينعم ولا يبأس، لا تبلى ثيابه، ولا يفنى شبابه)، زاد الإمام أحمد والدارمي في روايتهما: (وله في الجنة ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر)، لا يوجد شيءٌ من هذا في الدنيا، نعيمٌ بلا بؤس لا يمكن، ولعل البؤس في هذه الحياة أشد من النعيم الذي يحصله الإنسان، ثم بعد ذلك هذه الثياب لا تبلى، ولا تذهب بهجتها وجمالها، والشباب لا يفنى، وأما في هذه الحياة فيتمتع الواحد بشبابه فترةً ثم يرد إلى أرذل العمر، ونسأل الله حسن الخاتمة، هذا حال الجنة.

والحديث رواه مسلم أيضاً في صحيحه والترمذي في سننه والدارمي في مسنده من رواية أبي هريرة وأبي سعيد رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا دخل أهل الجنة الجنة ينادي منادٍ: يا أهل الجنة! إن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبداً، وإن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبداً، وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبداً، وإن لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبداًوَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [الأعراف:43]، حياةٌ بلا موت، صحةٌ بلا سقم، شبابٌ بلا هرم، نعمةٌ بلا بؤسٍ وشائبة، هذا يكون في تلك الدار، ولا يكون إلا بجوار العزيز الغفار سبحانه وتعالى.

أما الأكل والشرب فإننا نأكل لكننا لا نشقى في ذلك الأكل ولا في تحصيله، ولا نتعب بعد أكله فنذهب إلى مكان قضاء الحاجة لا ثم لا، ولا نأكله بدافع حاجة لحفظ الأبدان من الهلاك والتلف والعطب والموت لا ثم لا، الأكل كله تلذذ كما تقدم معنا من فاكهةٍ ولحم كله نتفكه به إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ * فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ [الطور:17-18]، وقلت: قال الله: (فاكهين) للإشارة إلى أن جميع أكلهم من باب التفكه، فإن أكلوا لحماً مختلف الأصناف والألوان فهذا كالتفكه، لا من أجل حفظ البدن وأنه قوتٌ في أجسامهم لا ثم لا.

(فاكهين) يتفكهون ويتلذذون بآخر الطعام كما يتلذذون بأوله، ويجدون نعمة لا تعدلها نعمة، وقد أشار نبينا صلى الله عليه وسلم إلى هذا، وأخبرنا عن اختلاف دار الجنة عن دار الدنيا في هذه النعم.

ففي المسند وصحيح مسلم من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن أهل الجنة يأكلون فيها ويشربون) وهذه الجملة رواها أبو داود أيضاً في سننه، والزيادة من المسند وصحيح مسلم (إن أهل الجنة يأكلون فيها ويشربون، ولا يتفلون، ولا يبولون، ولا يتغوطون، ولا يمتخطون)، طهارةٌ حسيةٌ ومعنوية في تلك الدار، (لا يتفلون، ولا يبولون، ولا يتغوطون، ولا يمتخطون، قالوا: يا رسول الله! فما بال الطعام؟) إذا كانوا يأكلون في الجنة ويشربون ما نتيجته ونهايته؟ وإلى أي شيءٍ يستحيل؟ (قال: جشاءٌ ورشحٌ كرشح المسك) جشاء يتجشئون من أفواههم رائحة أطيب من المسك، وعرقه يرشح من أبدانهم أطيب من المسك، (جشاءٌ ورشحٌ كرشح المسك، يلهمون التسبيح والتحميد كما يلهمون النفس)، وفي بعض روايات مسلم : (يلهمون التسبيح والحمد كما يلهمون النفس)، وفي بعض روايات مسلم : (ويلهمون التسبيح والتكبير كما يلهمون النفس) واجمع بين الروايات: فيسبحون ويحمدون ويكبرون، سبحان الله، والحمد لله، والله أكبر، كما أنهم يتنفسون، لا تفتر ألسنتهم عن هذا، هذا هو حال تلك الدار (يأكلون ويشربون لا يتفلون، لا يبولون، لا يتغوطون، لا يمتخطون)، هذا عجيب، كيف هذا الطعام؟ أين سيذهب؟ (جشاءٌ ورشحٌ كرشح المسك)، ثم هذه النعمة العظيمة يشكرون الله عليها بمقدار أنفاسهم فيسبحون الله، ويحمدونه، ويكبرونه على ما أنعم به عليهم من ذلك النعيم العظيم المقيم.

هذه هي الدار الآخرة، وهذه هي دار الدنيا، دار الدنيا مآل شهواتها ولذاتها كما تقدم معنا إلى زوال، ومن أراد أن يعرف الدنيا فليذهب إلى الحمام فيرى هناك حقيقة السمن والعسل والدجاج والبط يراه في صورة الفضلات، وأما في الآخرة فلا يوجد شيءٌ من ذلك على الإطلاق، لا إله إلا الله.

هذه الدار ينبغي أن يتنافس عليها العقلاء الأبرار، وأما دار الدنيا فلا يتنافس فيها إلا الأشرار، فليس لها عند الله أي وزنٍ ولا اعتبار، و(لو كانت تعدل عند الله جناح بعوضةٍ ما سقى منها كافراً شربة ماء).

هذا المعنى ثابتٌ عن نبينا عليه الصلاة والسلام في أحاديث كثيرة تفيد التواتر المعنوي، بأن أهل الجنة يأكلون ويشربون، لكن لا يخرج منهم فضلاتٌ كما يخرج منا في هذه الحياة، إنما جشاءٌ ورشحٌ كرشح المسك، ثبت في مسند أحمد ومعجم الطبراني الكبير والأوسط، والحديث رواه البزار وإسناده صحيح كما في مجمع الزوائد في الجزء العاشر صفحة ست عشرة وأربعمائة، ورواه النسائي في السنن الكبرى وابن حبان في صحيحه، والحاكم في مستدركه، والدارمي في مسنده، وشيخ الإسلام عبد الله بن المبارك في كتاب الزهد والرقائق عن زيد بن أرقم رضي الله عنه وأرضاه، قال: (أتى رجلٌ من اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا محمد! -على نبينا صلوات الله وسلامه- ألست تزعم أن أهل الجنة يأكلون فيها ويشربون؟) وقال هذا اليهودي الخبيث لأصحابه: إن أقر لي محمد بهذا خصمته، يعني: أقيم عليه الحجة وأبطل دعوته، إن أقر لي بهذا أنهم إن أكلوا وشربوا، فيفهم من هذا على تعبيره أنهم يذهبون لقضاء الحاجة والجنة دار الطهر والكرامة، وأهل الكتاب عليهم لعنات رب الأرباب، ينقسموا في نعيم الجنة إلى قسمين: أما النصارى فقالوا: نعيماً روحانياً، فلا يوجد هناك أكلٌ ولا شرب ولا تمتع بلذةٍ من اللذات الحسية.

وأما اليهود عليهم لعائن ربنا المعبود فلا يوجد في التلمود عندهم ذكرٌ من علم الجنة على الإطلاق، فكيف يتصورون الجنة؟ لا يوجد ذكرٌ من علم الجنة عندهم على الإطلاق، فكانوا يرون أن الجنة إذا كانت فيها هذه النعم فسيترتب عليها دنسٌ كما هو في هذه الحياة، فقال: إن أقر لي محمدٌ بهذا خصمته، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: (بلى، أهل الجنة يأكلون فيها ويشربون، والذي نفسي بيده إن أحدهم ليعطى قوة مائة في المطعم والمشرب والشهوة والجماع)، والحديث -كما قلت- صحيح، يأكل ويشرب ليس أكلاً وشرباً عادياً، بل قوته تعدل قوة مائة أكلاً وشرباً وشهوةً وجماعاً، (فقال له هذا اليهودي الخبيث: يا محمد! الذي يأكل ويشرب تكون له الحاجة) فأين سيقضون حاجتهم هؤلاء؟ إذا أكل أهل الجنة في الجنة وشربوا؟ (فقال نبينا عليه الصلاة والسلام: حاجة أحدهم عرقٌ يفيض من جلودهم كريح المسك، فإذا البطن قد ضمر)، يعني عندما أكل وامتلأ خرج العرق كريح المسك فبطنه صار فيه ضمور، والضمور هو شيء من الهزال، وليس هزال ضعف يعني هذا الانتفاخ من الطعام بضمر، ثم يأكل مرةً ثانية ثم يضمر وهكذا، لكن لا يوجد حاجةٌ ولا فضلاتٌ تخرج منهم في دار الطهر والكمال.

هذا الكمال موجودٌ في تلك الدار، وكما قلت: لا يوجد دارٌ فيها نعيمٌ لا تنغيص فيه إلا في الجنة، وأما هذه الدنيا فأنت تتنعم من أجل أن تدفع عنك آفة، ثم إذا دفعت تلك الآفة يترتب على تلك النعمة آفة وهكذا، فلا يوجد لذةٌ كاملةٌ بوجهٍ من الوجوه اللهم إلا لذة ذكر الله، لذة مناجاة الله وهذا موضوعٌ آخر، لكن نتكلم نحن على شهوات الدنيا على لذائذها التي يتنافس الناس فيها وعبدوها من دون الله جل وعلا، وهي لذاتٌ خسيسةٌ رخيصة لا وزن لها ولا اعتبار.

هذا فيما يتعلق بتلك الدار من ناحية ما يقع فيها من أكلٍ وشرب وحياةٍ وصحةٍ وشباب.

وأما النساء اللاتي فيها فقد قال الله: وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ [البقرة:25] قلت: والإنصاف أن يقال: ما عند النساء وأزواجهن بمثل هذه الآية؛ لأنه إذا لم تكن المرأة هنا مطهرةً طهارةً حسيةً ومعنوية فتحيض ويعتريها ما يعتري الرجل من بولٍ وغائطٍ ومخاطٍ وبصاق، وفيها دنسٌ معنوي كالرجل دنس، ولا يوجد أحدٌ منا كامل، فعندك حسد وأحياناً سوء خلق وما شاكل هذا، وهذه كلها صفاتٌ ذميمةٌ يتصف بها البشر في هذه الحياة الدنيا، فالمرأة تناسبنا عندما كان فينا هذا النقص فكانت على شاكلتنا، لكن هناك في الجنة عندما يقال لنا: طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ [الزمر:73] ، فتطيب النساء أيضاً.

وهذه بعض أوصاف النساء اللاتي يكن في الجنة من الحوريات ومن النساء المؤمنات فاعلمها، وانظر كيف يجعلهن الله في تلك الدرجات، وفي هذه الحالة الطيبة الكريمة الطاهرة الفاضلة، واستمع لما يحصل للمؤمن من تلذذٍ بعد ذلك بهؤلاء النسوة:

جاء في المسند والصحيحين وسنن الترمذي والدارمي بسند في أعلى درجات الصحة من، رواية أبي موسى الأشعري رضي الله عنه وأرضاه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن للمؤمن في الجنة لخيمةً من لؤلؤةٍ مجوفةٍ طولها ستون ميلاً، للمؤمن فيها أهلون، يطوف عليهم فلا يرى بعضهم بعضاً)، لؤلؤةٌ مجوفة طولها ستون ميلاً، لك فيها حوريات وبعض النساء المؤمنات، ولا يعلم عددهن إلا رب الأرض والسموات، (يطوف عليهم فلا يرى بعضهم بعضاً)، هذا لا يمكن في الدنيا، لا يمكن أن يطوف على هؤلاء النسوة الكثر في وقتٍ واحد، ثم هذه الحواجز المعنوية -وليست حسية- التي تحجز بحيث لا يرى بعضهم بعضاً لا يمكن في الدنيا، (لؤلؤة مجوفة، ولك فيها أهلون تطوف عليهم فلا يرى بعضهم بعضاً)، وهذه المرأة لها من الجمال والحسن حقيقةً ما لو نظرت إلى الدنيا لحجبت ضوء الشمس والقمر، والخمار الذي على رأسها أغلى من الدنيا وما فيها، والدنيا وما فيها لا تعدل هذه الخرقة التي تضعه الحورية على رأسها كما ثبت هذا عن نبينا عليه صلوات الله وسلامه.

ففي المسند وصحيح البخاري وسنن الترمذي وصحيح ابن حبان من رواية أنس بن مالك -رضي الله عنه-، ورواه الإمام أحمد في المسند أيضاً عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لروحةٌ في سبيل الله أو غدوةٌ خيرٌ من الدنيا وما فيها، ولقاب قوس أحدكم في الجنة أو موضع طيبه خيرٌ من الدنيا وما فيها، ولو أن امرأةً من أهل الجنة اطلعت على الدنيا لأضاءت ما بينهما -أي ما بين المشرق والمغرب- ولملأته ريحاً، ولنصيفها على رأسها خيرٌ من الدنيا وما فيها).

غدوةٌ في سبيل الله أو روحة هو الجهاد في سبيل الله، وإعلاء كلمة الله، هذا خيرٌ من الدنيا وما فيها، والغدوة هي المرة التي يذهب بها الإنسان في الصباح من طلوع الفجر إلى زوال الشمس، والروحة هي التي تكون في المساء من زوال الشمس إلى غروبها، فمرةٌ واحدةٌ تذهب في الغداة أو في العشي في سبيل الله خيرٌ من الدنيا وما فيها، وموضع سوطك في الجنة، أو موضع طيبك وهو بمعنى السوط أيضاً خيرٌ من الدنيا وما فيها، والسوط كم يأخذ مساحةً ومسافة؟ متر في متر، لا يزيد على ذلك.

وقوله: (خيرٌ من الدنيا وما فيها) هذا على حسب اعتدال الناس إذا كان في الدنيا خير، على حسب اعتدالهم فهو يرون أن فيها خيرات، وفيها لذائذ، وفيها شهوات، يقول لو سلمنا نكون بذلك، فهذا المكان القصير الصغير في الجنة خيرٌ من شهوات الدنيا بأكملها، وخيرٌ من بقعة الدنيا من أولها لآخرها (ولو أن امرأةً من أهل الجنة نظرت إلى الدنيا لأضاءت ما بينهما، ولملأته ريحاً، ولنصيفها على رأسها خيرٌ من الدنيا وما فيها)، وثبت في ذلك أحاديث كثيرة عن نبينا عليه الصلاة والسلام منها ما رواه الإمام أحمد في المسند، وابن حبان في صحيحه، وأبو يعلى في مسنده، وانظر مجمع الزوائد في الجزء العاشر صفحة تسع عشرة وأربعمائة، بإسناد حسن حسنه الهيثمي في المجمع والمنذري في الترغيب والترهيب، والحافظ في الفتح في الجزء الحادي عشر صفحة اثنين وأربعين وأربعمائة، من رواية أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الرجل ليتكئ في الجنة سبعين سنةً قبل أن يتحول، ثم تأتيه امرأته فينظر وجهه في خدها أصفى من المرآة، وإن أدنى لؤلؤةٍ عليها تضيء ما بين المشرق والمغرب، فتسلم عليه فيرد السلام، ويسألها: من أنت؟ فتقول: أنا من المزيد لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ [ق:35] ، والمزيد خيرات يزادون بها، ومنها النظر إلى وجه الله المجيد، وخيرات كثيرة منها هذه الحوريات، تقول: (أنا من المزيد، وإنه ليكون عليها سبعون كنزاً أدناها مثل النعمان من طوبى)، والنعمان هو الملابس الحمراء الجميلة، لكن هذه من طوبى من الجنة، من شجرة طوبى، (فينفذها -أي بصره- حتى يرى مخ ساقها من وراء ذلك)، (سبعون حلة ينفذها حتى يرى مخ ساقها من وراء ذلك، وإن عليها من التيجان، وإن أدنى لؤلؤةٍ منها لتضيء ما بين المشرق والمغرب).

هذا الذي أعد الله لعباده الكرام في دار السلام، وأما هذه الدنيا فهي دار عناءٍ وبلاء، وبعض النساء كهذه المرأة التي تعتبر نفسها من الداعيات، ولكن ما أكثر البغاة والباغيات باسم الدعاة والداعيات في هذه الأيام على شريعة رب الأرض والسموات، تقول: هي داعية، وهي كما قلت: باغية، وأكثر الدعاة بغاة في هذه الأيام، تقول: أنا في الحقيقة أتعجب غاية العجب كيف تستطيع المرأة في الآخرة أن تصبر ويوجد لزوجها غيرها، أما في هذه الحياة لا يمكن أتحمله، ولا أن أقبل به أبداً، لكن مع ذلك كيف سيكون الأمر في الآخرة، وكيف سنصبر؟ فقلت لهذه الصعلوكة: يا أمة الله! إذا دخلت الجنة فكري بالغيرة بعد ذلك، الآن هل عندك صك أنك من أهل الجنة؟ أنا أخشى بهذا الكلام أن تخلدي في جهنم.

إن الإمام ابن القيم عندما بحث في أولاد المشركين وحال الأرواح ذكر أنهم يمتحنون في عرصات الموقف فمن أطاع منهم دخل الجنة، ومن عصى دخل النار، وحكى عدة أقوال أخرى لعلمائنا الكرام ومنها قال: يكونون خدم أهل الجنة، قال ابن القيم : ويا فوز من يفوز بتلك المرتبة، يا ليتنا نأخذ بشارة بأننا من خدم أهل الجنة، يا ليتنا، وهذه المسكينة الآن لا تفكر في الدخول، بل تفكر إذا دخلت فإن زوجها سيكون عنده أزواج فكيف ستتحمل، نعوذ بالله من هذا الضلال وهذه السفاهة التي أصيب بها المسلمون في هذه الأيام، وهذه داعية، ما تظن أنها داعية، وتلقي مواعظ وهي تقول هذا الأمر.

إن الحور العين هن النساء الصالحات في تلك الدار وهذه صفتهن، سبحان ربي العظيم! لو نظرت إلى الدنيا لأضاءت ما بين المشرق والمغرب، ولامتلأت الدنيا ريحاً طيبةً منها، ثم بعد ذلك سبعون حلة ينفذها بصرك حتى ترى مخ ساقها، وإذا نظرت في وجهها ترى صورتك يتلألأ من البياض والإشراق، هذا الذي يكون في الآخرة وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ [البقرة:25] ، هذه هي الطهارة الحسية والمعنوية، وهذا هو حسن عشرتها مع هذا العبد الصالح الولي الذي أكرمه الله بجواره.

ثبت في معجمي الطبراني الأوسط والصغير، بإسناد صحيحٌ كما في مجمع الزوائد في الجزء العاشر صفحة ست عشرة وأربعمائة، وعند المنذري في الترغيب والترهيب في الجزء الرابع صفحة ثمانٍ وثلاثين وخمسمائة من رواية عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أزواج الجنة ليغنون أزواجهن بأحسن أصواتٍ سمعها أحدٌ قط) يغنون فاستمع لغنائهم، إن مما يغنين: (نحن الخيرات الحسان أزواج أقوامٍ كرام، ينظرون بقرة أعيان)، أي: بقرة أعين، ومدت من أجل يعني اتفاق وزنٍ في هذه الألفاظ الثلاثة، وإن مما يغنين به: (نحن الخالدات فلا نمتنه، نحن الآمنات فلا نخفنه، نحن المقيمات فلا نظعنه) أي: لا نسافر ولا نرحل، بقاؤنا دائماً، الحديث -كما قلت- إسناده صحيح.

إن أحكامٌ قضاء الحاجة والنهي عن استقبال القبلة فيها، والنهي عن الاستنجاء والاستجمار باليمين، كل هذا سيأتينا في أبوابٍ متتابعة، وهذه الأبواب كما قلت: لا توجد في غير التشريع الإسلامي، وقلت: ينبغي أن نحمد الله على هذه الشريعة التي أكرمنا الله بها، أعطانا شريعةً فيها تفصيلٌ لكل شيءٍ في هذه الدنيا، فالعقائد الحقة بينت فيها، والعبادات الحقة بينت فيها، والمعاملات الحقة بينت فيها، أخلاقٌ وآدابٌ تذكو بها بينت فيها، وحدودٌ وعقوبات بينت فيها، هذا العموم في هذا التشريع لا يوجد في تشريعٍ آخر على الإطلاق، فلا يوجد في القوانين الوضعية بأسرها لا عند أمريكا ولا بريطانيا ولا فرنسا ولا الصين عليهم جميع لعنات رب العالمين، لا يوجد عند واحدٍ من هؤلاء نظامٌ لقضاء الحاجة، فعندهم كل شيء يجوز، ولو أن تأخذ غائطك بيمينك وتدهن به بدنك، ما لهم ولك! فليس لهم به شغلٌ على الإطلاق، هذا النظام الوضعي لا علاقة له بهذه الأمور، وإنما ضبط أمور الحياة العامة فقط؛ لئلا يحصل نزاع ومخاصمات هذا هو مبدأ الحريات الشخصية الذي ينادون به عليهم لعنات رب البرية، فافعل ما شئت، الزنا اغتصاباً ممنوع، أما تراضياً فلا أحد يعترض عليك على الإطلاق، هذا في أنظمتهم الوضعية الردية، التي ترى التناقض الكثير الكثير فيها.

إن دول الغرب الآن مجمعة على استباحة المسكر، وأكثر الدول العربية الغوية على هذا الأمر، أن المسكر مباح صنعاً وبيعاً وشرباً، ثم إن الدول الغربية تناقضت نحو المخدر وهو الحشيش، فمنها من أباح المخدر زراعةً ومتاجرةً وشرباً، ومنها من منع، والذي أباح هو أشد وأهدى، وإن كان أضل وأبغى، لكن ضلال متفق مع بعضه، يعني: كما أباح المسكر أباح المخدر، يعني هذا بول وهذا غائط، يجوز أن تشرب البول ولا تأكل الغائط، والفصيلة واحدة؟ وهذا تعبير وكلامٌ بالحرف في مجموع الفتاوى لـابن تيمية عندما بحث في نجاسة الخمر والمخدرات وقال: هما نجسان نجاسةً مغلظة، فالخمر كالبول، والحشيش فإما أن تقول: يباح استعمالهما معاً وإما يحرمان معاً؛ لأن كلاً منهما نجاسته نجاسة مغلظة، وانظر لهذا التفريق من قبل السفهاء، وانظر لإباحة بعضهم للأمرين، وكل هذا لا يوجد في التشريع الإسلامي على الإطلاق ولله الحمد، والله لولا أن الله أكرمنا بنبيه عليه الصلاة والسلام لكنا والبهائم سواء، بل البهائم أرفع قدراً منا؛ لأنه لا عقول عندها والتكليف مرتفعٌ عنها، وأما نحن فعقول لكن تتردى، والبشر -في زماننا- يتكلمون في الرذائل والله إن البهائم والحمير لتستحي من فعلها، هذا الحاصل عندما ينتكس العقل البشري، وقد وصل الأمر ببعض العتاة الأغنياء الأثرياء ولعلكم تعلمون هذه القصص أكثر مني عندما يذهب ليشرب الخمر فيشرب ويشرب حتى لا يستطيع الشرب، ثم يستأجر بعد ذلك ثلاثة رجال: اثنان يفتحان دبره، واحد من جانب وثان من الجانب الآخر، والثالث يصب الخمر في الدبر، يدفع أجرة لثلاثة ليصبوا الخمر في دبره، هؤلاء البشر والله إن البهائم لا تفعل فعلهم، وهذا هو انحطاط البشر عندما ينحطون.

إخوتي الكرام! هذه الشريعة التي أكرمنا الله بها، هي تشريعٌ كامل لجميع شؤون الحياة، كيف تتعامل مع نفسك؟ وكيف تتعامل مع ربك؟ وكيف تتعامل مع غيرك؟

كل هذا ينبغي أن يكون على حسب شريعة الله، قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الأنعام:162-163] ، وهذا الأمر هو الفارق والفيصل بين المهتدي والضال، وبين الموحد والملحد، وهو القاعدة والأساس التي ينبغي أن تكون مقياساً لأفعالنا وسلوكنا وتصرفاتنا في هذه الحياة.

إن الحلال والحرام هو باختصار: شريعة ذي الجلال والإكرام، فاستمع لهذه الشريعة التي تعلمك كيف تقضي الحاجة؟ وماذا تقول؟ وكيف تخرج؟ وكيف تزيل ذلك القذر؟ وهذه عناية الله بهذا الإنسان الذي خلقه وتعهده بهذه التربية الكاملة التامة؛ ليعيش سعيداً في هذه الحياة بشريعة الله؛ ولينال بعد ذلك رضوان الله وجنته بعد الممات.

وقد أشار سلفنا الكرام إلى هذا فاستمع إلى هذا الحديث الصحيح في المسند وصحيح مسلم والسنن الأربعة، ورواه أبو داود الطيالسي في سننه والبيهقي في السنن الكبرى وابن الجارود في المنتقى، عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم قال: جاء رجلٌ من اليهود، وفي رواية المسند وصحيح مسلم والنسائي وابن ماجه والبيهقي من المشركين، وفي رواية الطيالسي : من أهل الكتاب، وأهل الكتاب هم مشركون من اليهود الذي يقيمون بالمدينة، جاء إلى سلمان الفارسي رضي الله عنه وأرضاه، فقال له: قد علمكم نبيكم كل شيءٍ حتى الخراءة؟ يعني نبيكم عليه الصلاة والسلام يعلمكم جميع الأمور، والتشريع الذي أتى به يكون شاملاً عاماً، حتى الخراءة علمكم أحكامها؟ أخبرني هل أحكام الخراءة تتعلمونها من النبي عليه الصلاة والسلام؟

وانظر لهذه البذاءة من قبل هذا الضال المشرك، وكأنه يريد أن ينتقد، يعني: أن تشريعكم حتى الخراءة تعاهد ببيانها، وهذا من مفاخر الشريعة الاسلامية فقال سلمان : (أجل، علمنا نبينا صلى الله عليه وسلم كل شيءٍ حتى الخراءة، نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستقبل القبلة بغائطٍ أو بول، أو أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار، أو أن نستنجي برجيعٍ أو عظم)، والرجيع هو الروث، والعظم معروف.

وسيأتينا سبب النهي عن هذا إن شاء الله ضمن أحاديث سنن الترمذي، في أحكام دخول الخلاء (علمكم نبيكم صلى الله عليه وسلم كل شيءٍ حتى الخراءة، قال: أجل حتى الخراءة)، وهذا لا يوجد إلا في هذه الشريعة السمحاء الواسعة الغراء، التي ما فرط الله فيها من شيء، وبين لك هذه الأخلاق والآداب، وهذه الفضائل والكمالات على وجه التمام، وهذه الأمور كما قلت من خصائص ومزايا التشريع الرباني، التي لا توجد في الأمور الوضعية على الإطلاق، فانتبه لهذا.

إذاً: أحكام قضاء الحاجة مما تدل على عموم الشريعة الإسلامية لجميع شئون الحياة، ومن بين لنا أحكام الغائط لن يهمل لنا ما هو أعظم من ذلك وأهم، من أمور المعاملات، وأمور الحكم، وشئون السياسة، وكل هذا بينٌ بائن علمنا، وما يريده عصاة البشرية من المسلمين في هذه الأيام من جعل الدين بين الإنسان وبين ربه، ولا دخل للدين في أمور الحياة فهو ضلال مبين، فالذي تعاهدك وبين لك ما يختص بقضاء حاجتك عندما تكون في خلاءٍ بمفردك، وقلنا: سمي دخول الخلاء بذلك؛ لأنه في مكانٍ خالٍ وبعيد، فإذا كان هذا في مكانٍ خاص بك لا يطلع عليه غيرك، وجعل لك فيه أدباً ينبغي أن تكون فيه، والله رقيبك على ذلك وسيحاسبك عليه، فكيف في شئون الحكم وأمور المعاملات وتنظيم أمور الحياة، إن العناية بذلك ستكون من باب أولى وأحرى ولا بد.

بعض آثار الاستنجاء بالماء على حياة المسلم

إن هذه التوجيهات بينت لنا ما يتعلق بأمور قضاء الحاجة وآداب دخول الخلاء، وسيأتينا -إن شاء الله- أننا ندبنا إلى أن نستنجي بالماء، وأن هذا مروءةٌ آدمية، ووظيفةٌ شرعية، وهو أكمل من الاستجمار بالأحجار، وقد ثبت في المسند والنسائي بإسناد صحيح، وسيأتينا في الباب الخامس عشر من سنن الترمذي عن أمنا عائشة رضي الله عنها أنها قالت لنساء الصحابة رضوان الله عليهن أجمعين: (مرن أزواجكن أن يستطيبوا بالماء، فإني أستحييهم -أي: أستحي من أن أقول للرجال: استنجوا بالماء- وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفعله)، أي: كان يستنجي بالماء.

وهذه الآداب لها حقيقة أثرٌ عظيمٌ عظيمٌ عظيمٌ في سلوك الإنسان، خاصةً مع زوجه، والإنسان عندما يستجمر بالحجارة مع وجود الماء لا تزال الرائحة، نعم إن الحجارة تزيل الأثر، وتمحي العيب، لكن لا تزيل الرائحة، وأما الماء فإنه يزيل الأثر والرائحة، فزوجتك بشر، وكما تحب منها الطيب فإنها تحب منك الطيب، وما زنت نساء بني إسرائيل إلا عندما ترك رجالهم الاستنجاء بالماء، فمن استجمر بالحجارة واتصل بأهله وفاحت منه روائحٌ منتنة، فهي بشر قد تنكسر نفسها وتفر عن زوجها وتتطلع بعد ذلك إلى غيره، هذه الآداب حقيقة، فضلاً عن كونها تنظفك وتصح جسمك، فإنها تقوي الصلة بينك وبين زوجك، ومن راعى هذه الآداب في خاصة نفسه سيلتزم بشريعة الله في الأمور الأخرى من بابٍ أولى وأحرى، والعلم عند الله جل وعلا.

هذا فيما يتعلق بهذين الأمرين، ثم ننتقل بعد ذلك إلى مدارسة مباحث الحديث الأربعة على حسب الترتيب المعروفة عندنا إن شاء الله.

إن هذه التوجيهات بينت لنا ما يتعلق بأمور قضاء الحاجة وآداب دخول الخلاء، وسيأتينا -إن شاء الله- أننا ندبنا إلى أن نستنجي بالماء، وأن هذا مروءةٌ آدمية، ووظيفةٌ شرعية، وهو أكمل من الاستجمار بالأحجار، وقد ثبت في المسند والنسائي بإسناد صحيح، وسيأتينا في الباب الخامس عشر من سنن الترمذي عن أمنا عائشة رضي الله عنها أنها قالت لنساء الصحابة رضوان الله عليهن أجمعين: (مرن أزواجكن أن يستطيبوا بالماء، فإني أستحييهم -أي: أستحي من أن أقول للرجال: استنجوا بالماء- وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفعله)، أي: كان يستنجي بالماء.

وهذه الآداب لها حقيقة أثرٌ عظيمٌ عظيمٌ عظيمٌ في سلوك الإنسان، خاصةً مع زوجه، والإنسان عندما يستجمر بالحجارة مع وجود الماء لا تزال الرائحة، نعم إن الحجارة تزيل الأثر، وتمحي العيب، لكن لا تزيل الرائحة، وأما الماء فإنه يزيل الأثر والرائحة، فزوجتك بشر، وكما تحب منها الطيب فإنها تحب منك الطيب، وما زنت نساء بني إسرائيل إلا عندما ترك رجالهم الاستنجاء بالماء، فمن استجمر بالحجارة واتصل بأهله وفاحت منه روائحٌ منتنة، فهي بشر قد تنكسر نفسها وتفر عن زوجها وتتطلع بعد ذلك إلى غيره، هذه الآداب حقيقة، فضلاً عن كونها تنظفك وتصح جسمك، فإنها تقوي الصلة بينك وبين زوجك، ومن راعى هذه الآداب في خاصة نفسه سيلتزم بشريعة الله في الأمور الأخرى من بابٍ أولى وأحرى، والعلم عند الله جل وعلا.

هذا فيما يتعلق بهذين الأمرين، ثم ننتقل بعد ذلك إلى مدارسة مباحث الحديث الأربعة على حسب الترتيب المعروفة عندنا إن شاء الله.