خطب ومحاضرات
شرح الترمذي - باب ما جاء في فضل الطهور [2]
الحلقة مفرغة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة الطيبين وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً، سهل علينا أمورنا وعلمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الرحمين، اللهم زدنا علماً نافعاً وعملاً صالحاً بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين، سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك، سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك، اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحابه وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:
كنا نتدارس الباب الثاني من أبواب الطهارة من جامع الإمام الترمذي رحمه الله، والباب الثاني دار حول فضل الطُهور، أي: التطهر واستعمال الماء أو التيمم، ثم ساق الإمام الترمذي الحديث من طريق شيخيه: إسحاق بن موسى المدني الأنصاري الخطمي ، وقتيبة بن سعيد إلى أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا توضأ العبد المسلم أو المؤمن فغسل وجهه خرجت من وجهه كل خطيئة نظر إليها بعينيه مع الماء أو مع آخر قطر الماء، وإذا غسل يديه خرجت من يديه كل خطيئة بطشتها يداه مع الماء أو مع آخر قطر الماء، حتى يخرج نقياً من الذنوب )، قال أبو عيسى : هذا حديث حسن صحيح.
كنا في المبحث الأول حول تراجم رجال الإسناد، وانتهينا من ترجمة جميع الرجال، خلا ترجمة الصحابي الراوي أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه، وقلت: إن كل راوٍ من رواة الحديث من الصحابة الكرام سنقف عنده وقفة فيها شيء من التفصيل لأحواله ومكانته من حيث الرواية ومنزلته في الإسلام، ووقفتنا مع أبي هريرة رضي الله عنه ستكون حول حياته وإسلامه ومكانته، وهذه الوقفة أكثر وأطول من الوقفات نحو الرواة الآخرين من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين؛ والسبب في ذلك أنه كان ألزم الناس للنبي عليه الصلاة والسلام في مدة إسلامه التي لم تزد على ثلاث سنين، ففي هذه السنوات كان يلازمه في جميع الأحوال والأوقات، ويده في يد النبي عليه الصلاة والسلام في كل مكان، فإجلالاً للنبي عليه الصلاة والسلام، وحباً للنبي عليه الصلاة والسلام، ينبغي أن نتعرف على أحوال هذا الصاحب الذي تأثر بنبيه عليه الصلاة والسلام في مدة صحبته، لا سيما كما قلت: إنه أحفظ الصحابة الكرام، وهو راوية الإسلام، وظهرت فيه معجزات كثيرة لنبينا عليه الصلاة والسلام.
ذكرت فيما مضى بعضاً من أحواله فيما يتعلق باسمه، ومنزلته على وجه العموم في نفس كل مؤمن ومؤمنة، فلا يسمع به مؤمن إلى قيام الساعة إلا أحبه وتعلق به وترضى عنه.
إسلام أبي هريرة وحياته
توفي سنة (57 هـ)، فعمر في الإسلام خمسون سنة على التمام، عاش خمسين سنة وهو مسلم، توفي وعمره (78 عاماً)، وأسلم وعمره ثلاث وعشرون سنة، ولما توفي النبي عليه الصلاة والسلام كان عمر أبي هريرة ستاً وعشرين سنة، وتقدم معنا أنه قال: إني شاب وأخاف على نفسي العنت، وليس عندي ما أتزود به، ثم لازم النبي عليه الصلاة والسلام هذه الملازمة التامة، فصار أكثر الصحابة رواية لحديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
عدد مرويات أبي هريرة رضي الله عنه
خلاصة الكلام: روايات أبي هريرة خمسة آلاف وثلاثمائة وأربعة وسبعون حديثاً، اتفق الشيخان على إخراج ثلاثمائة وخمسة وعشرين أو ثلاثمائة وستة وعشرين، انفرد البخاري بإخراج ثلاثة وتسعين حديثاً، وانفرد مسلم إما بثمانية وتسعين وإما بمائة وتسعين والعلم عند رب العالمين.
أسباب كثرة روايات أبي هريرة
الأمر الأول: دعاء النبي صلى الله عليه وسلم له بالحفظ وقوة الضبط، وهذا حتماً من معجزات النبي عليه الصلاة والسلام، وهي خصيصة لـأبي هريرة دون غيره.
ولا غرابة عندما يأتي الزنادقة ويطعنون في أبي هريرة ؛ لأن هذا طعن فيمن دعا له بالحفظ والضبط، أي: في رسول الله عليه الصلاة والسلام، فإذا كان أبو هريرة لا يوثق بحفظه وضبطه، فما قيمة تلك الدعوة التي دعا له بها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وتقدم معنا أنه دعا لأمه، فقبل وصول أبي هريرة إلى البيت اغتسلت أمه ولبست درعها، وما استطاعت أن تلبس خمارها عندما جاء ولدها أبو هريرة بل خرجت لتفتح الباب بسرعة وتقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، فما خيب الله نبيه عليه الصلاة والسلام في تلك الدعوة لأم أبي هريرة بالهداية، وأعطاه عين ما سأل، وكذلك في حق أبي هريرة ، دعا له النبي صلى الله عليه وسلم بالحفظ، فاستجاب الله دعاء نبيه ومصطفاه.
ثبت في أصح الكتب بعد كتاب الله في صحيح البخاري في كتاب العلم، وبوب عليه البخاري باباً يشير به إلى هذه القضية، فقال: باب: حفظ العلم، وأعاد الحديث في كتاب المناقب فقال: باب: في مناقب أبي هريرة ، ثم روى الحديث بسنده إلى أبي هريرة رضي الله عنه ( أنه قال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: يا رسول الله! إني أسمع منك حديثاً كثيراً ثم أنساه، فادع الله لي ألا أنسى ما أسمع منك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا
وقال الحافظ في الإصابة معلقاً على هذا الحديث أيضاً: والحديث المذكور من علامات النبوة، فإنه كان أحفظ للأحاديث في عصره رضي الله عنه وأرضاه، وإلى مثل هذا أشار الذهبي في سير أعلام النبلاء، فقال: وقد كان حفظ أبي هريرة الخارق من معجزات النبوة.
الأمر الثاني: جد واجتهاد أبي هريرة ، وحرصه على المذاكرة والتعلم والإصغاء، والاهتمام بما يحفظ، وهذا الذي نملكه، فإذا كان أبو هريرة ملك الأمر الأول والثاني، والأول أي: دعوة النبي صلى الله عليه وسلم ليس في وسعنا، فلا أقل من أن نحرص على الثاني؛ أن نجد ونجتهد، وأن نبذل وسعنا في حفظ حديث نبينا عليه الصلاة والسلام؛ لنحصل السبب الثاني للحفظ، وقد شهد النبي عليه الصلاة والسلام لـأبي هريرة بأنه كان أحرص الصحابة على الحفظ والتلقي والسماع والضبط، ففي صحيح البخاري أيضاً في كتاب العلم: باب: الحرص على الحديث، والحديث رواه الإمام أحمد -أيضاً- وغيره، ولفظ الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: ( قلت: يا رسول الله! من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ )، من أحق الناس بشفاعتك؟ ولمن ستشفع في الحالة الأولى؟ ومن الذي سيحظى بشفاعتك يوم القيامة؟ فقال النبي عليه الصلاة والسلام: ( لقد ظننت أن لا يسألني عن هذا الأمر أحد قبلك يا
فالنبي عليه الصلاة والسلام أعطى هذه الشهادة لـأبي هريرة ، وقد كان أبو هريرة رضي الله عنه يذكر الصحابة بذلك، وأنه كان أحرصهم على التلقي وضبط حديث النبي عليه الصلاة والسلام وحفظه، فما ينبغي أن يرتابوا في روايته؛ لأنه حضر ما لا يحضرون، فحفظ ما لا يحفظون، كما في صحيح البخاري في كتاب العلم، باب: حفظ العلم، يقول أبو هريرة رضي الله عنه: إن الناس يقولون: أكثر أبو هريرة ، يعني: في روايته عن النبي عليه الصلاة والسلام، ثم بين سبب الإكثار، يقول: والله لولا آيتان في كتاب الله لما حدثت، ثم تلا قول الله جل وعلا من سورة البقرة: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [البقرة:159-160]، وكان يقول في بعض الروايات: والله الموعد، أي: فنئول إليه ويحاسبنا إذا كنا نكذب على نبينا عليه الصلاة والسلام.
أما المهاجرون فكان يشغلهم الصفق في الأسواق، والصفق يعني: التجارة، مأخوذة من الصفقة عندما يضع الإنسان يده بيد البائع والمشتري، ولم يكن للمهاجرين أرض يزرعونها في المدينة المنورة، فكانوا يبيعون ويشترون في السوق، وأما إخواننا الأنصار فكانوا يشتغلون في مزارعهم وبساتينهم، وأنا لزمت رسول الله صلى الله عليه وسلم بشبع بطني، فحضرت ما لا يحضرون، وحفظت ما لا يحفظون، يعني: لم تقولون: أكثر أبو هريرة رضي الله عنه وأرضاه؟! ما كنتم تحضرون المجالس التي أحضرها، وبالتالي سيغيب عنكم أشياء أنا حفظتها وضبطتها، والصحابة الكرام ما كانوا يشكون في روايته، وحاشاهم أن يشكوا في ذلك، ولكن عندما يقولون له: إنك تكثر، فإنه يبين لهم سبب الإكثار، فيقول: هذا الإكثار له سبب؛ أنني تفرغت لتلقي العلم، وأما أنتم فشغلتم في البيع والشراء، أو في المزارع والبساتين. وفي مستدرك الحاكم ، في الجزء الثالث صفحة (509)، وصححه وأقره عليه الذهبي ، وعند ابن سعد في الطبقات، وقال عنه الحافظ في الإصابة: إسناده جيد، أن أمنا عائشة رضي الله عنها قالت لـأبي هريرة : من أين لك هذه الروايات عن رسول الله عليه الصلاة والسلام؟ تعني: إنك تكثر من الروايات عنه، فمن أين لك هذا؟ وكيف حفظتها؟ ومتى سمعتها؟ فقال: يا أماه! أما أنا فقد طلقتها، يعني: الدنيا، فلا مال، ولا عيال، ولا زوجة، وإنما أكون في هذه الصفة أصحب النبي عليه الصلاة والسلام أينما ذهب، وأما أنتِ فقد شغلك عن حديث رسول الله عليه الصلاة والسلام المرآة والمكحلة والتطلع لرسول الله عليه الصلاة والسلام.
اعتراف الصحابة بحفظ أبي هريرة
وقفة مع حديث المصراة الذي رواه أبو هريرة
واستمع لهذه القصة حول حديث المصراة الذي رواه أبو هريرة في الصحيحين وغيرهما، والمصراة هي الشاة أو البقرة أو الناقة إذا صريت من التصرية وهي: الحبس والجمع، أي: حبست عدة أيام ولم تحلب ليجتمع اللبن في ضرعها، ثم ينزلها إلى السوق ليبيعها على أنها كثيرة اللبن، وهذا من باب الغش والتدليس على الناس، فليس فيها لبن كثير، وإنما اللبن اجتمع في ضرعها لأنها لم تحلب ثلاثة أيام، أما لو حلبت كل يوم لكان الضرع عادياً، ليس فيه هذا الانتفاخ وهذا الامتلاء، فروى أبو هريرة رضي الله عنه الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام في النهي عن بيع المصراة، وأن من اشترى شاة مصراة أو بقرة أو ناقة ولم تعجبه فله أن يعيدها مع صاع من التمر، ولفظ الحديث قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( لا تصروا الإبل والغنم، ومن ابتاعها بعد ذلك فهو بخير النظرين، بعد أن يحلبها )، بخير النظرين أي: يختار بين أمرين، ( فإن رضيها أمسكها، وإن سخطها ردها وصاعاً من تمر )، هذا هو مذهب الجمهور والأئمة الثلاثة؛ مالك والشافعي وأحمد عليهم جميعاً رحمة الله.
وغفر الله للحنفية الذين لم يأخذوا بهذا الحديث، وقالوا: إنه يعارض الأصول والقياس، وإذا ثبت على خلاف القياس فلا يؤخذ به، فكيف نردها مع صاع تمر، وهذا فيه جهالة، فإذا كان نقص الدر عيباً فإنها ترد بدون صاعٍ من تمر، ويكفي أنه أطعمها، وإذا لم يكن عيباً فهو ملزم بشرائها، أما أن يرد صاعاً من تمر معها فكيف هذا؟
على كل حال قول الجمهور يشهد له هذا الحديث، وأنت إذا اشتريت شاة أو بقرة أو ناقة مصراة بعد أن حلبتها، جلست عندك يوم أو يومين، وما رأيت الضرع يمتلئ كما كان عند شرائها، جاز أن تذهب إلى صاحبها وتقول: أنت غششتني وأعطيتني البهيمة والضرع ممتلئ فظننت أن هذه عادتها، ثم عندما حلبته ما عاد الحليب يأتي بتلك الوفرة، أي: أن ذاك كان مجموعاً من عدة أيام، فتعيد إليه ناقته وبقرته وشاته، مع صاعٍ من تمر؛ بمقدار ما انتفعت من اللبن، وإن شئت الانتفاع بها فأنت بالخيار، وذكر التمر في الحديث كما قال الإمام ابن القيم عليه رحمة الله: على حسب فتيا أهل الحجاز، ولا يتعين التمر في البلاد الأخرى، ففي بلاد الشام يمكن أن يكون صاعاً من تين؛ لأن التين قوت لأهل الشام كالتمر لأهل الحجاز، وهكذا الأرز والذرة على حسب قوت كل بلد. انظر إعلام الموقعين الجزء الثالث صفحة (25).
ومثل هذا يقال في صدقة الفطر، تخرج صاعاً من قوت أهل البلد، فإذا كانوا يقتاتون السمك فأخرج صاعاً من سمك، ولا يتعين صاعاً من تمر فمن أين ستأتي بالتمر -مثلاً- في إندونيسيا ولا يوجد في تلك البلاد كلها تمرة واحدة؟ فإذاً: أنت ملزم بهذه المصراة، فردها مع صاعٍ من أرز، والأرز عندهم ما أكثره.
الشاهد إخوتي الكرام! أن هذا الحديث في العصور المتأخرة في بلاد بغداد حدث به في جامع المنصور من رواية أبي هريرة بعض أهل الحديث، فقام بعض الناس وقال: أبو هريرة ليس بفقيه، أي: ليس من طلبة الفقه والعلم، وروايته في هذا الباب لحديث المصراة لا يعول عليها؛ لأنها ما جاءت من طريق فقيه يعلم الأصول والقياس، كأنه يقول: قد يكون وهم -هو لا يتهمه بالكذب- والرواية إذا جاءت على خلاف الأصول وصادمت القياس من غير فقيه، فإنه يدل على أنه وهم فيها فلا نأخذها، فبينا الرجل كذلك إذ انفرج سقف المسجد فنزلت منه حية عظيمة، فتفرق الناس وهربوا، فتبعت هذا الشاب الذي قال: أبو هريرة ليس بفقيه ولا تؤخذ روايته في هذا الأمر، تتبعه حيثما هرب، فلحقه الناس وهم يقولون له: تب إلى الله من قولك في أبي هريرة ، فقال: تبت إلى الله، أبو هريرة فقيه، فتوارت الحية وما يعلمون أين ذهبت، يقول الإمام الذهبي في السير: رواها الأئمة، أي: أئمة حفاظ متقنون رووا هذه القصة وفيها خرق للعادة من أجل توثيق هذا العبد الصالح الذي وثقه رب العالمين، فحقيقة: عندما يطعن في أبي هريرة الزنادقة إنما يريدون الطعن في الله وفي رسوله عليه الصلاة والسلام.
ضبط أبي هريرة في حفظه وفقهه
وانظر لهذه القصة التي رواها الحاكم في المستدرك وصححه وأقره الذهبي وابن عساكر في تاريخ دمشق التي تبين ضبط أبي هريرة رضي الله عنه، استدعاه مروان بن الحكم وكان أميراً على المدينة في عهد بني أمية، وطلب منه أن يحدث عن النبي عليه الصلاة والسلام، وجعل وراء الستار من يكتب هذه الأحاديث، وأبو هريرة رضي الله عنه يحدث، وما أعلموه أنهم كتبوا شيئاً، واحتفظ مروان بن الحكم بهذا الكتاب سنة كاملة، ثم استدعاه بعد سنة وقال: يا أبا هريرة ! حدثنا بالأحاديث التي حدثتنا بها في ذلك المجلس قبل عام، والكتاب بين يدي مروان ينظر فيه، فحدث أبو هريرة بتلك الأحاديث، فما زاد حرفاً ولا أنقص حرفاً. علق الإمام الذهبي في السير على هذه القصة بقوله: فما زاد ولا نقص ولا قدم ولا أخر، قلت: هكذا فليكن الحفظ، هذا بعد مرور سنة يحدث به من فاتحته إلى خاتمته، ما زاد حرفاً ولا أنقص حرفاً، رحمه الله ورضي عنه، وبركة النبي عليه الصلاة والسلام لا تخيب عندما دعا له فما نسي شيئاً، ثم هذا الجد والاجتهاد، وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [العنكبوت:69].
أبو هريرة فقيه محدث قارئ، ولذلك أورده الإمام الذهبي في تذكرة الحفاظ، فهو شيخ الحفاظ وإمام الرواة، وأورده في طبقات القراء في كتابه: معرفة القراء الكبار، فهو من المقرئين المهرة في ضبط القرآن بوجوه القراءات، الذين تلقوا القرآن الكريم عن نبينا الأمين عليه الصلاة والسلام، وأورده في سير أعلام النبلاء، فهو من العلماء الفقهاء البارزين المبرزين، قال الذهبي : هو رأس في القرآن، رأس في السنة، رأس في الفقه، وقد بين الذهبي السبب لترجمته له في كل هذه الكتب، فقال: لأنه رأس في القرآن، رأس في السنة، رأس في الفقه، هذا فيما يتعلق بعلمه وحفظه وضبطه.
عبادة أبي هريرة وذكره واجتهاده في العمل
وأما ذكر أبي هريرة لربه، فكان يسبح كل يوم اثنتي عشرة ألف تسبيحة، والأثر ثابت عنه بإسناد صحيح كالشمس في الحلية وطبقات ابن سعد وتاريخ دمشق لـابن عساكر ، قال الحافظ في الإصابة: إسناده صحيح، وكان يقول: أسبح بمقدار ديتي، أي: أفك رقبتي من النار كل يوم بمقدار الدية، والدية: إما ألف دينار أو اثنا عشر ألف درهماً.
وبمناسبة ذكر التسبيح أريد أن أنبه إلى أمر يكثر حوله القيل والقال في هذه الأيام؛ ألا وهو موضوع السبحة، وهل هي مستحبة أو بدعة؟ الجواب وسط بين قولين متطرفين، فهذا يعتبرها من علامات البدعة والمبتدعين، وذاك يعتبرها من علامات الذكر والذاكرين، والأمر فيها كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى في الجزء الثاني والعشرين صفحة (506)، عند موضوع التسبيح بالخرز، يقول: وأما التسبيح بالخرز الذي يدعى النظام، يعني: الخيط الذي يربط فيه خرز كخرز السبحة، فمن الناس من استحبه، ومنهم من كرهه، والصواب: أنه حسن إذا صح فيه القصد، أما إذا كان قصد الإنسان باقتناء هذه السبحة أو هذا الخرز الرياء، فالرياء مذموم في كل شيء في الفرائض والنوافل، ولا نستطيع أن نحكم على إنسان بأنه يرائي أو لا، فهو أدرى بحاله والله جل وعلا رقيب على عباده، وأما إذا جعلها وسيلة للعد والضبط، فحكمها كحكم الدابة التي تركبها إلى مكة المكرمة، إن شئت أن تركب على حمار أو ناقة أو سيارة أو طائرة أو تمشي على رجليك، الأمر -إن شاء الله- فيه سعة، وهي كما قلت وسيلة للعد، ويسن ويشرع العد بأصابع اليدين، والذي سيسبح اثنتي عشرة ألف تسبيحة، يحتاج إلى سبحة؛ لأنه لا يستطيع أن يعد بأصابع يديه، أما إذا كانت ذاكرته كذاكرة أبي هريرة فهذا موضوع آخر، والغالب لو أن واحداً منا أراد أن يسبح ألف تسبيحة بأصابع يديه لما ضبط العد، فما الحرج في أن يكون عنده حصى أو خرز أو نوى تمر أو زيتون يعد بها تسبيحاته؟
الذي أراه والعلم عند الله أن الإنسان يكون عنده سبحة لكن يخفيها ويجعلها في بيته، ويسبح بها ولا يظهرها أمام الناس، ولا أقول: إن إظهارها حرام أو بدعة، لكن يكون هذا في الخلوة لمن أراد أن يسبح أعداداً كبيرة، وأما قول بعض المشايخ في هذا العصر: إن أكثر ما ورد من الأعداد في التسبيح مائة.
أقول: قال الله: وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ [الأحزاب:35]، يعني: هل الذي يسبح أكثر من مائة في ذكر من الأذكار يقال عنه: مبتدع؟ أو يقال عنه: غافل يتقرب إلى الله؟ لا شيء في ذلك، فمثلاً الذكر المشهور: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، ورد أننا نقوله مائة مرة، فيكون لنا عدل عشر رقاب، وتكتب لنا مائة حسنة، ويمحى عنا مائة سيئة، والحديث في الصحيحين وغيرهما، وتكون هذه الصيغة حرزاً لنا من الشيطان في ذلك اليوم، ولا يأتي أحد بأفضل مما فعلناه إلا من زاد عليها، فإذا أراد مسلم أن يقول بعد المائة عشرة آلاف مرة فهنيئاً له ذلك وما أعلم في هذا خلافاً، فإذا أراد أن يعد العشرة آلاف، هل يستطيع أن يعدها بأصابع اليدين؟ فالمائة تعد بسهولة، ولكن هذه عشرة آلاف، لا يمكن ضبطها، فإذا كان كذلك فلا حرج، وأنا أدركت نساء عجائز عندما يصلين التراويح في البيت أو في المسجد، يتخذن حبيبات عشر، وفي الغالب إما من
أسلم أبو هريرة في العام السابع للهجرة، فمدة صحبته للنبي عليه الصلاة والسلام ثلاث سنين فقط، لازمه ملازمة تامة كاملة، فصار أكثر الصحابة رواية لحديث النبي صلى الله عليه وسلم، لاسيما وقد امتدت به الحياة كما سيأتينا، فاحتاج المسلمون من صحابة متأخرين ومن تابعين جاءوا بعد حين احتاجوا إلى روايات هذا العبد الصالح عن نبينا عليه الصلاة والسلام، فكان يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بما سمعه منه ورآه وشاهده.
توفي سنة (57 هـ)، فعمر في الإسلام خمسون سنة على التمام، عاش خمسين سنة وهو مسلم، توفي وعمره (78 عاماً)، وأسلم وعمره ثلاث وعشرون سنة، ولما توفي النبي عليه الصلاة والسلام كان عمر أبي هريرة ستاً وعشرين سنة، وتقدم معنا أنه قال: إني شاب وأخاف على نفسي العنت، وليس عندي ما أتزود به، ثم لازم النبي عليه الصلاة والسلام هذه الملازمة التامة، فصار أكثر الصحابة رواية لحديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
إن أبا هريرة عبد الرحمن بن صخر جمع بين العلم والعمل، جمع الرواية والحفظ والورع والعبادة، عالم حافظ، عامل عابد رضي الله عنه وأرضاه، أما علمه فالأمر كما قال الحافظ في الإصابة في كتاب الكنى عند ترجمة أبي هريرة في الجزء الرابع صفحة (204): أجمع أهل الحديث على أن أبا هريرة رضي الله عنه أكثر الصحابة حديثاً، قال الإمام الشافعي : هو أحفظ من روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال الإمام البخاري عليه رحمة الله: بلغ الرواة عن أبي هريرة من الصحابة والتابعين قرابة ثمانمائة راوٍ، وقد بلغت رواياته التي رواها عن النبي عليه الصلاة والسلام خمسة آلاف وثلاثمائة وأربعاً وسبعين حديثاً، كما في سير أعلام النبلاء في ترجمة أبي هريرة ، وهي آخر ترجمة من الجزء الثاني، وكما في الفتح المبين في شرح الأربعين للحافظ ابن حجر الهيتمي ، وقال ابن حجر : اتفق الشيخان على إخراج ثلاثمائة وخمسة وعشرين حديثاً، منها خمسة وعشرون حديثاً وثلاثمائة أخرجها الشيخان في الصحيحين، ثلاثمائة وخمسة وعشرون وزاد الذهبي واحداً أي: ثلاثمائة وستة وعشرون، وانفرد البخاري بإخراج ثلاثة وتسعين حديثاً، وأما ما انفرد بإخراجه مسلم فقد ذكر في ذلك قولان مختلفان، وما تحقق لي أن أحقق الأمر وأضبطه، ذكر الإمام الذهبي أن ما انفرد به مسلم ثمانية وتسعون حديثاً، ذكر هذا في سير أعلام النبلاء، وأما الحافظ ابن حجر في الفتح المبين فيقول: الذي به مسلم مائة وتسعون حديثاً، فلعل في أحد الأمرين تصحيف، والذي يغلب على ظني والعلم عند ربي أن طبعة سير أعلام النبلاء فيها تصحيف، فينبغي أن تكون بدل ثمانية وتسعين: مائة وتسعون، والتصحيف قريب بينهما، فالأمر يحتاج إلى تحقيق، ولعلني أخبركم في المستقبل بحقيقة الأمر، أما في هذه العجالة، ومع الكتب التي بين يدي فلم أستطع أن أقف على حقيقة الأمر.
خلاصة الكلام: روايات أبي هريرة خمسة آلاف وثلاثمائة وأربعة وسبعون حديثاً، اتفق الشيخان على إخراج ثلاثمائة وخمسة وعشرين أو ثلاثمائة وستة وعشرين، انفرد البخاري بإخراج ثلاثة وتسعين حديثاً، وانفرد مسلم إما بثمانية وتسعين وإما بمائة وتسعين والعلم عند رب العالمين.
استمع المزيد من الشيخ عبد الرحيم الطحان - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
شرح الترمذي - باب الاستتار عند الحاجة، والاستنجاء باليمين، والاستنجاء بالحجارة [4] | 4045 استماع |
شرح الترمذي - باب ما جاء في فضل الطهور [6] | 3979 استماع |
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [9] | 3906 استماع |
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [46] | 3793 استماع |
شرح الترمذي - مقدمات [8] | 3787 استماع |
شرح الترمذي - باب مفتاح الصلاة الطهور [2] | 3771 استماع |
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [18] | 3570 استماع |
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [24] | 3486 استماع |
شرح الترمذي - باب ما يقول إذا خرج من الخلاء [10] | 3465 استماع |
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [6] | 3417 استماع |