شرح الترمذي - مقدمات [4]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة الطيبين وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً، سهل علينا أمورنا وعلمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الرحمين.

اللهم زدنا علماً نافعاً وعملاً صالحاً بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين.

سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك، سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك، اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه، وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد:

فكنا نتدارس فوائد دراسة حديث نبينا عليه الصلاة والسلام، وقلت: إن فوائد دراسة الحديث الشريف كثيرة وفيرة، أبرزها ثلاث فوائد:

الفائدة الأولى: أننا عندما نتدارس حديث النبي عليه الصلاة والسلام ونحفظ سنته الشريفة نحفظ أدلة الشرع ونحافظ عليها من الضياع والذهاب والاستقدام والاندراس.

والفائدة الثانية: كثرة الصلاة والسلام على نبينا خير الأنام عليه الصلاة والسلام.

والفائدة الثالثة: أن من يقرأ حديث النبي عليه الصلاة والسلام ويحفظ سنته الشريفة يفوز بالنضرة والرحمة اللتين دعا بهما نبينا صلى الله عليه وسلم لمن يحفظ سنته وينشر حديثه.

أما الفائدة الأولى: فبقي عليها كلام يسير قليل أذكره، ثم أجيب على سؤالين وجها فيما يتعلق بموضوعنا في الموعظة الماضية، وفي مدارستنا لحديث نبينا عليه الصلاة والسلام.

أما التكملة المتعلقة بالأمر الأول فأقول: إن علماء الحديث وحفاظ الأثر الذين ينشرون سنة نبينا عليه الصلاة والسلام يحفظونها على هذه الأمة؛ لمدارسة أدلة دينها، فالسنة وحي كالقرآن الكريم، ولا فارق بينهما، إلا أن القرآن وحي يتلى، والسنة المطهرة وحي لا يتلى، وكلاهما نزل به جبريل على نبينا الجليل عليهما صلوات الله وسلامه.

إذاً: علماء الحديث لهم منزلة عالية جليلة رفيعة، عندما يحفظون أدلة الشرع من الضياع والفقدان والذهاب والاضمحلال، ولذلك فإن حبهم دين، أعني حب المحدثين الذين ينشرون أحاديث النبي عليه الصلاة والسلام ويعلمون سنته المطهرة، والبغض لهم من أكبر علامات المبتدعين.

دفاع الأئمة ضد من طعن في الحديث وأهله

وقد كان أئمتنا يولون هذا الأمر عناية عظيمة، فكل من تعلق بالحديث وبأهل الحديث رؤي فيه علامة الخير والصلاح، وكل من نفر عن الحديث وأهله فهو من أهل البدع والضلال، فلذلك يقول الإمام ابن تيمية عليه رحمة الله في كتابه نقد المنطق في صفحة: (280)، والأثر مذكور أيضاً في مجموع الفتاوى له، وذكره الإمام ابن الجوزي أيضاً في مناقب الإمام المبجل أحمد بن حنبل عليهم جميعاً رحمة الله، وخلاصة الأثر: أنه قيل للإمام أحمد : إن فلاناً من المتكلمين يقع في أهل الحديث وينال من المحدثين، فقال الإمام أحمد عليه رحمة الله وهو ينفض ثوبه ويقول: زنديق، زنديق، زنديق لا دين له، وكأن الإمام أحمد عليه رحمة الله فطن لمراده، وفهم غاية هذا الطاعن؛ لأن من طعن في أهل الحديث ونال ممن يروون سنة نبينا عليه الصلاة والسلام لا يقصد الطعن في أشخاصهم وذواتهم وأبدانهم وحقيقة أنفسهم، إنما يقصد الطعن فيما يروونه وينقلونه ويحملونه وينشرونه للناس، فمن يظن في أهل الحديث فهو زنديق، زنديق، زنديق لا دين له.

ولذلك فقد أنف أهل البدع قاطبة من الانتساب إلى السلف الصالح وإلى أهل الحديث، وتراهم يدندنون ما بين الحين والحين؛ أن من ينتسب إلى السلف، أو إلى أهل الحديث، فإنه انتساب زور، وهو باطل، وأن أهل الحديث حشوية -من الحشوة وهو: رذالة الشيء- وهم.. وهم.. وهم...

ويقال لهم: إذا كنتم أنتم على هدى، هلا نسبتم أنفسكم إلى السلف الصالح! وهلا نسبتم أنفسكم إلى أهل الحديث الشريف! إذا كان من ينتسبون تقولون: لا صحة لنسبتهم، نسبتهم مزورة، وأنتم يا معشر الفرق المبتدعة! إذا كانت حقيقتكم أنكم على هدى، وعلى صلاح، فهلا انتسبتم إلى سلف الأمة، وإلى المحدثين، وهلا استدللتم ودللتم على قولكم بكلام سلف الأمة؛ بدءاً من صديقها أبي بكر رضي الله عنه فمن بعده، وبكلام المحدثين! ولكنكم أبعد الناس عن الاستدلال بأقوال السلف، وأبعد الناس عن الاحتجاج بما ورد في كتب الحديث الشريف في سنة نبينا عليه الصلاة والسلام، ثم بعد ذلك تلمزون وتغمزون وتنبزون أهل الهدى بأنهم حشوية!

وأول من قال هذا اللفظ في هذه الأمة عمرو بن عبيد ، وهو المؤسس الثاني لمذهب الاعتزال بعد شيخه واصل بن عطاء الغزال ، قال عمرو بن عبيد : كان عبد الله بن عمر -يعني: ابن الخطاب رضي الله عنهما- حشوياً، يعني: من رذالة الناس وحثالتهم!

وهذا دأب أهل البدع في هذه الأيام إذا أراد أحدهم أن ينبز أحداً من علماء الإسلام، قال: إنه حشوي، وسمعت شريطاً من قريب لبعض المفتين المفتونين، حط فيه على الإمام ابن تيمية عليه رحمة الله، وصفه بالضلال والإضلال! ويعيد هذه اللفظة، يقول: هذا حشوي.. هذا حشوي هذا حشوي، أي: من رذالة الناس وسقطهم، ليس عنده عقل ولا وعي ولا دين، وأنتم أبعد الناس عن السلف، وأنتم أبعد الناس عن الاستدلال بأحاديث نبينا عليه الصلاة والسلام خير الناس.

وإنما الحشوي في الحقيقة هو الذي يبتعد عن السنة، هذا هو الرذالة، وهذا هو الحثالة.

مقصود من يطعن في الحديث وأهله

ولذلك من طعن في المحدثين فإنه يريد في الحقيقة أن يطعن في الحديث الذي حمله المحدثون، ولذلك قال الإمام أحمد : زنديق، زنديق، زنديق لا دين له، وبمثله قال أبو زرعة عبيد الله بن عبد الكريم الرازي شيخ الإمام البخاري في حق من طعن في الصحابة الكرام: إذا رأيت أحداً ينتقص أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعلم أنه زنديق ولا دين له، قيل له: وكيف؟ هل الطعن في أبي بكر زندقة وردة ومروق من الإسلام، وكفر بالرحمن؟ قال: نعم، قالوا: كيف؟ قال: لأن القرآن حق، والسنة حق، والذين نقلوا إلينا القرآن والسنة هم الصحابة الكرام، فإذا كان الصحابة لا يوثق بهم، وهم غير عدول، فما قيمة المنقول؟!

فهؤلاء الذين يطعنون في الصحابة يريدون أصالة أن يطعنوا في القرآن، وأن يطعنوا في سنة النبي عليه الصلاة والسلام، لكن لو قالوا للعوام: القرآن باطل، لعلم الناس مرادهم ورجموهم بالحجارة، ولو قالوا للسذج والدهماء: سنة النبي عليه الصلاة والسلام لا قيمة لها، لرجموا بالحجارة، فأرادوا أن يصلوا إلى مرادهم عن طريق ملتوٍ، فقالوا: الصحابة هؤلاء لا يوثق بهم، لا قيمة لهم، لا دين لهم، فبدءوا يطعنون فيهم، فإذا ثبت ما يقولون ورسخ في أذهان الناس، قالوا بعدها: إن أبا بكر ، عمر ، عثمان هؤلاء كتموا حديث النبي عليه الصلاة والسلام وخالفوه، ومات النبي عليه الصلاة والسلام وهو عليهم غضبان، ثم يقولون: القرآن الذي تم جمعه في عهد أبي بكر وعمر وعثمان لا يوثق به، فينسفون بذلك القرآن من أوله لآخره بطعنهم في أبي بكر وعمر وعثمان ، فليس أبو بكر رضي الله عنه هو المقصود بالطعن حقيقة، إنما المقصود الدين الذي كان يحمله أبو بكر ، والدين الذي حكم به أبو بكر رضي الله عنه.

وهكذا من طعن في المحدثين وفي أهل الحديث، وقال: إنهم حشوية فهو خبيث زنديق لا دين له.

يقول الإمام ابن تيمية عليه رحمة الله: الذين يعيبون أهل الحديث ويعدلون عن مذاهبهم جهلة زنادقة منافقون بلا ريب. ثم روى القصة الماضية عن الإمام أحمد بن حنبل .

وهذا المعنى الذي كان في العصر الماضي المتقدم في القرن الثالث للهجرة، هو هو في عصرنا تماماً، لا يقع في أهل الحديث والمحدثين إلا أهل البدع الذين غضب عليهم رب العالمين، ولذلك يقول شيخ الإسلام مصطفى صبري في كتابه موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين وعباده المهتدين، في الجزء الرابع صفحة (16)، يقول: (إن من ميزات هذه الطائفة) الضالة التي تسمي نفسها بالطائفة العقلانية -الطائفة العقلية التي ابتلي بها هذا الإمام في عهده من محمد عبده وأذنابه- (من ميزات هذه الطائفة العقلية: أنهم لا يعرفون كتب الحديث ولا ينظرون فيها) إنما يقرأ القرآن، ثم يتهجم عليه بعد ذلك برأيه وهواه، فمن مميزات هذه الطائفة: أنهم لا يعرفون كتب الحديث ولا يقرءون فيها.

فأهل الحديث حقاً همُ أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وإن لم يصحبوا نفسه صحبوا أنفاسه، والطعن في الصحابة زندقة، والطعن في المحدثين زندقة كذلك.

مكانة علماء الحديث

إن علماء الحديث هم أول من يدخلون في قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( إن العلماء ورثة الأنبياء )، والحديث صحيح وقد تقدم من رواية أبي الدرداء رضي الله عنه في المسند والسنن الأربعة إلا سنن الإمام النسائي ، ورواه الإمام ابن حبان في صحيحه، والإمام الدارمي في مسنده، وقد رواه الإمام البزار بلفظ: ( العلماء خلفاء الأنبياء )، وإسناده موثقون كما قاله الهيثمي في المجمع. فهم خلفاء النبي عليه الصلاة والسلام، وهم ورثة النبي عليه الصلاة والسلام، فحبهم دين نتقرب به إلى رب العالمين.

هاتان الروايتان تشهدان للرواية الثابتة عن الحسن البصري مرسلاً، وعن الحسن بن علي متصلاً، وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين، بسندين متصلين وبسند مرسل، والأسانيد الثلاثة فيها ضعف، تتقوى ببعضها، ولفظ رواية علي والحسن بن علي والحسن البصري عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال: ( اللهم ارحم خلفاءنا، قالوا: من خلفاؤك يا رسول الله؟ قال: الذين يحيون سنتي ويعلمونها عباد الله )، وفي رواية: ( الذين يروون أحاديثي ويعلمونها الناس )، وهذه الرواية عن هؤلاء الأئمة الكرام عن علي وابنه الحسن والحسن البصري ، رواها الإمام ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله، والإمام الهروي أبو إسماعيل في كتابه: ذم الكلام، ورواها الإمام الطبراني في معجمه الأوسط، وأبو نعيم في كتاب فضل العالم العفيف، وفي كتاب رياضة المتعلمين، وهكذا ابن السني في كتابه أيضاً رياضة المتعلمين، ورواها الإمام الرامهرمزي في المحدث الفاصل بين الراوي والواعي، ورواها ابن عساكر في تاريخ دمشق، ورواها الخطيب البغدادي في شرف أصحاب الحديث، والإمام الضياء المقدسي عليهم جميعاً رحمة الله.

وقد كان أئمتنا يولون هذا الأمر عناية عظيمة، فكل من تعلق بالحديث وبأهل الحديث رؤي فيه علامة الخير والصلاح، وكل من نفر عن الحديث وأهله فهو من أهل البدع والضلال، فلذلك يقول الإمام ابن تيمية عليه رحمة الله في كتابه نقد المنطق في صفحة: (280)، والأثر مذكور أيضاً في مجموع الفتاوى له، وذكره الإمام ابن الجوزي أيضاً في مناقب الإمام المبجل أحمد بن حنبل عليهم جميعاً رحمة الله، وخلاصة الأثر: أنه قيل للإمام أحمد : إن فلاناً من المتكلمين يقع في أهل الحديث وينال من المحدثين، فقال الإمام أحمد عليه رحمة الله وهو ينفض ثوبه ويقول: زنديق، زنديق، زنديق لا دين له، وكأن الإمام أحمد عليه رحمة الله فطن لمراده، وفهم غاية هذا الطاعن؛ لأن من طعن في أهل الحديث ونال ممن يروون سنة نبينا عليه الصلاة والسلام لا يقصد الطعن في أشخاصهم وذواتهم وأبدانهم وحقيقة أنفسهم، إنما يقصد الطعن فيما يروونه وينقلونه ويحملونه وينشرونه للناس، فمن يظن في أهل الحديث فهو زنديق، زنديق، زنديق لا دين له.

ولذلك فقد أنف أهل البدع قاطبة من الانتساب إلى السلف الصالح وإلى أهل الحديث، وتراهم يدندنون ما بين الحين والحين؛ أن من ينتسب إلى السلف، أو إلى أهل الحديث، فإنه انتساب زور، وهو باطل، وأن أهل الحديث حشوية -من الحشوة وهو: رذالة الشيء- وهم.. وهم.. وهم...

ويقال لهم: إذا كنتم أنتم على هدى، هلا نسبتم أنفسكم إلى السلف الصالح! وهلا نسبتم أنفسكم إلى أهل الحديث الشريف! إذا كان من ينتسبون تقولون: لا صحة لنسبتهم، نسبتهم مزورة، وأنتم يا معشر الفرق المبتدعة! إذا كانت حقيقتكم أنكم على هدى، وعلى صلاح، فهلا انتسبتم إلى سلف الأمة، وإلى المحدثين، وهلا استدللتم ودللتم على قولكم بكلام سلف الأمة؛ بدءاً من صديقها أبي بكر رضي الله عنه فمن بعده، وبكلام المحدثين! ولكنكم أبعد الناس عن الاستدلال بأقوال السلف، وأبعد الناس عن الاحتجاج بما ورد في كتب الحديث الشريف في سنة نبينا عليه الصلاة والسلام، ثم بعد ذلك تلمزون وتغمزون وتنبزون أهل الهدى بأنهم حشوية!

وأول من قال هذا اللفظ في هذه الأمة عمرو بن عبيد ، وهو المؤسس الثاني لمذهب الاعتزال بعد شيخه واصل بن عطاء الغزال ، قال عمرو بن عبيد : كان عبد الله بن عمر -يعني: ابن الخطاب رضي الله عنهما- حشوياً، يعني: من رذالة الناس وحثالتهم!

وهذا دأب أهل البدع في هذه الأيام إذا أراد أحدهم أن ينبز أحداً من علماء الإسلام، قال: إنه حشوي، وسمعت شريطاً من قريب لبعض المفتين المفتونين، حط فيه على الإمام ابن تيمية عليه رحمة الله، وصفه بالضلال والإضلال! ويعيد هذه اللفظة، يقول: هذا حشوي.. هذا حشوي هذا حشوي، أي: من رذالة الناس وسقطهم، ليس عنده عقل ولا وعي ولا دين، وأنتم أبعد الناس عن السلف، وأنتم أبعد الناس عن الاستدلال بأحاديث نبينا عليه الصلاة والسلام خير الناس.

وإنما الحشوي في الحقيقة هو الذي يبتعد عن السنة، هذا هو الرذالة، وهذا هو الحثالة.

ولذلك من طعن في المحدثين فإنه يريد في الحقيقة أن يطعن في الحديث الذي حمله المحدثون، ولذلك قال الإمام أحمد : زنديق، زنديق، زنديق لا دين له، وبمثله قال أبو زرعة عبيد الله بن عبد الكريم الرازي شيخ الإمام البخاري في حق من طعن في الصحابة الكرام: إذا رأيت أحداً ينتقص أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعلم أنه زنديق ولا دين له، قيل له: وكيف؟ هل الطعن في أبي بكر زندقة وردة ومروق من الإسلام، وكفر بالرحمن؟ قال: نعم، قالوا: كيف؟ قال: لأن القرآن حق، والسنة حق، والذين نقلوا إلينا القرآن والسنة هم الصحابة الكرام، فإذا كان الصحابة لا يوثق بهم، وهم غير عدول، فما قيمة المنقول؟!

فهؤلاء الذين يطعنون في الصحابة يريدون أصالة أن يطعنوا في القرآن، وأن يطعنوا في سنة النبي عليه الصلاة والسلام، لكن لو قالوا للعوام: القرآن باطل، لعلم الناس مرادهم ورجموهم بالحجارة، ولو قالوا للسذج والدهماء: سنة النبي عليه الصلاة والسلام لا قيمة لها، لرجموا بالحجارة، فأرادوا أن يصلوا إلى مرادهم عن طريق ملتوٍ، فقالوا: الصحابة هؤلاء لا يوثق بهم، لا قيمة لهم، لا دين لهم، فبدءوا يطعنون فيهم، فإذا ثبت ما يقولون ورسخ في أذهان الناس، قالوا بعدها: إن أبا بكر ، عمر ، عثمان هؤلاء كتموا حديث النبي عليه الصلاة والسلام وخالفوه، ومات النبي عليه الصلاة والسلام وهو عليهم غضبان، ثم يقولون: القرآن الذي تم جمعه في عهد أبي بكر وعمر وعثمان لا يوثق به، فينسفون بذلك القرآن من أوله لآخره بطعنهم في أبي بكر وعمر وعثمان ، فليس أبو بكر رضي الله عنه هو المقصود بالطعن حقيقة، إنما المقصود الدين الذي كان يحمله أبو بكر ، والدين الذي حكم به أبو بكر رضي الله عنه.

وهكذا من طعن في المحدثين وفي أهل الحديث، وقال: إنهم حشوية فهو خبيث زنديق لا دين له.

يقول الإمام ابن تيمية عليه رحمة الله: الذين يعيبون أهل الحديث ويعدلون عن مذاهبهم جهلة زنادقة منافقون بلا ريب. ثم روى القصة الماضية عن الإمام أحمد بن حنبل .

وهذا المعنى الذي كان في العصر الماضي المتقدم في القرن الثالث للهجرة، هو هو في عصرنا تماماً، لا يقع في أهل الحديث والمحدثين إلا أهل البدع الذين غضب عليهم رب العالمين، ولذلك يقول شيخ الإسلام مصطفى صبري في كتابه موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين وعباده المهتدين، في الجزء الرابع صفحة (16)، يقول: (إن من ميزات هذه الطائفة) الضالة التي تسمي نفسها بالطائفة العقلانية -الطائفة العقلية التي ابتلي بها هذا الإمام في عهده من محمد عبده وأذنابه- (من ميزات هذه الطائفة العقلية: أنهم لا يعرفون كتب الحديث ولا ينظرون فيها) إنما يقرأ القرآن، ثم يتهجم عليه بعد ذلك برأيه وهواه، فمن مميزات هذه الطائفة: أنهم لا يعرفون كتب الحديث ولا يقرءون فيها.

فأهل الحديث حقاً همُ أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وإن لم يصحبوا نفسه صحبوا أنفاسه، والطعن في الصحابة زندقة، والطعن في المحدثين زندقة كذلك.

إن علماء الحديث هم أول من يدخلون في قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( إن العلماء ورثة الأنبياء )، والحديث صحيح وقد تقدم من رواية أبي الدرداء رضي الله عنه في المسند والسنن الأربعة إلا سنن الإمام النسائي ، ورواه الإمام ابن حبان في صحيحه، والإمام الدارمي في مسنده، وقد رواه الإمام البزار بلفظ: ( العلماء خلفاء الأنبياء )، وإسناده موثقون كما قاله الهيثمي في المجمع. فهم خلفاء النبي عليه الصلاة والسلام، وهم ورثة النبي عليه الصلاة والسلام، فحبهم دين نتقرب به إلى رب العالمين.

هاتان الروايتان تشهدان للرواية الثابتة عن الحسن البصري مرسلاً، وعن الحسن بن علي متصلاً، وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين، بسندين متصلين وبسند مرسل، والأسانيد الثلاثة فيها ضعف، تتقوى ببعضها، ولفظ رواية علي والحسن بن علي والحسن البصري عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال: ( اللهم ارحم خلفاءنا، قالوا: من خلفاؤك يا رسول الله؟ قال: الذين يحيون سنتي ويعلمونها عباد الله )، وفي رواية: ( الذين يروون أحاديثي ويعلمونها الناس )، وهذه الرواية عن هؤلاء الأئمة الكرام عن علي وابنه الحسن والحسن البصري ، رواها الإمام ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله، والإمام الهروي أبو إسماعيل في كتابه: ذم الكلام، ورواها الإمام الطبراني في معجمه الأوسط، وأبو نعيم في كتاب فضل العالم العفيف، وفي كتاب رياضة المتعلمين، وهكذا ابن السني في كتابه أيضاً رياضة المتعلمين، ورواها الإمام الرامهرمزي في المحدث الفاصل بين الراوي والواعي، ورواها ابن عساكر في تاريخ دمشق، ورواها الخطيب البغدادي في شرف أصحاب الحديث، والإمام الضياء المقدسي عليهم جميعاً رحمة الله.

قبل أن أنتقل إلى الفائدة الثانية، أحب أن أجيب على هذين السؤالين:

السؤال الأول: يتعلق بالكتاب الذي سنتدارسه، وقد وجه من عدد من الإخوة: هل هناك طبعة معينة للإمام الترمذي توصي بها؟ يعني: أي الكتاب من طبعات نسخ الإمام الترمذي يشتريه ويقتنيه طالب العلم ويقدم على غيره؟

وأقول: أحسن الطبعات الطبعة التي حققها الشيخ أحمد شاكر عليه رحمة الله، وهذا في خمسة أجزاء، وما أكملها، حقق المجلد الأول والثاني، ثم توفي رحمه الله تعالى، فحقق الشيخ محمد فؤاد عبد الباقي المجلد الثالث وما أكمله، ثم جاء الشيخ إبراهيم عطوة من علماء الأزهر من علماء مصر، فحقق المجلد الرابع والخامس، واعتنى بالطباعة وإن لم يكن هناك زيادة تعليق.

هذه خير الطبعات، قل أن يوجد فيها تصحيف أو تحريف أو خطأ في الكتابة، وهي مشكولة، لاسيما المجلد الأول والثاني من طبعاتها فهي محققة مدققة مخرجة موثقة مؤكدة.

فإذا لم توجد فلا أقل من الطبعة الثانية التي طبعت في بلاد الشام في حمص والشيخ عزة عبيد الدعاس نشرها وهي في عشرة أجزاء، والطبعتان عندي، وما أعلم بعد ذلك طبعة إلا وهي رديئة، كطبعة طبعت في المطبعة السلفية في المدينة المنورة على منورها صلوات الله وسلامه، والتي علق عليها الشيخ عبد الوهاب عبد اللطيف ، وهي شر الطبعات لما فيها من البتر والتصحيف، فطالب العلم يبتعد عنها، وهي أيضاً في خمسة مجلدات.

وأما بالنسبة للشروح؛ فالشروح لن يقتصر على ما فيها غالباً، وما فيها لا يكفينا، فهناك عارضة الأحوذي للإمام أبي بكر بن العربي ، وهكذا تحفة الأحوذي للإمام المباركفوري ، وقيمة ما في العارضة أقوى من قيمة ما في التحفة؛ لجلالة هذا الإمام وتقدمه، فهو من علماء القرن السادس للهجرة، وبإذن الله سنتدارس ما في الكتابين وما في غيرهما.

وأرى لو أن الإنسان اقتنى كتاباً من الطبعة الأولى التي ذكرتها، فهذا أيسر لحفظه ولحمله، وبعد ذلك يفتح الله ما ييسر بالنسبة لشرح أحاديث سنن الترمذي .

السؤال الثاني: سأله بعض الإخوة وأنا أتعجب من سؤاله: كيف تكون الأمة تلقت حديث معاذ رضي الله عنه وأرضاه بالقبول، وقد أنكره غير واحد من الأئمة، مثل الإمام البخاري وابن حجر وغيرهما، كما ذكر ذلك الشيخ المحدث الألباني في السلسلة؟ أرجو التوضيح.

علل القدح في حديث معاذ

أقول: ذكرت أن في هذا الحديث كلاماً، هل في أصحاب معاذ جهالة أم لا؟ بعضهم يرى أنهم في حيز الجهالة، وبعضهم يرى أنهم في أعلى درجات الشهرة والاستفاضة، كالإمام ابن القيم والخطيب البغدادي وغيرهما؛ لأن أصحاب معاذ لم يسموا وهذا أعلى مما لو سموا واحداً منهم، وتقدم الجواب عن هذا، وهذه علة.

والعلة الثانية: الحارث بن عمرو مجهول، وهو من رجال الترمذي وأبي داود كما تقدم معنا، والذي روى عنه أبو عون الثقفي من رجال البخاري ، ولكن هل تزول جهالة الحارث بن عمرو بوصف الراوي له بأنه ابن أخٍ للمغيرة بن شعبة ، وهو من التابعين؟ لا سيما وقد قال الخطيب البغدادي : روي الحديث من طريق آخر، وعليه يكون متصلاً.

وقد ذكر ابن حبان أن الجهالة تزول إذا روى عنه راوٍ واحد، كما يرى ابن عبد البر أنه لا داعي للتنصيص على عدالة الإنسان، فمن اشتهر بطلب العلم ولم يعلم فيه جرح فهو عدل، فالحديث ضعيف من ناحية الإسناد على مذهب الجمهور، وهذا ما تقتضيه قواعد علم الحديث والمصطلح، فالمعتمد في الحارث بن عمرو أنه مجهول، لم يرو عنه إلا راوٍ واحد، والجهالة لا تزول إلا براويين.

قبول الأئمة لحديث معاذ

ولكن هذا الضعف قد زال بتلقي الأمة لمدلول هذا الحديث بالقبول، حيث أفتى بموجبه ثلاثة من الصحابة، كل واحد لقوله حكم الرفع إلى نبينا عليه الصلاة والسلام أولهم: أبو بكر ، ثانيهم: عمر ، ثالثهم: عبد الله بن مسعود ، والأسانيد إليهم صحيحة ثابتة، لا نزاع في ثبوتها، وهي في سنن النسائي والبيهقي ، باب: الحكم بصفات أهل العلم، وهذه الآثار الثلاثة تشهد لحديث معاذ. لكن الحديث الضعيف إذا تلقي بالقبول ينزل منزلة المتواتر، كما قال السخاوي ، وقال ابن تيمية في مجموع الفتاوى: والغرض أنك تطلب تفسير القرآن منه، فإن لم تجده فمن السنة، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لـمعاذ حين بعثه إلى اليمن: ( بم تحكم؟ قال: بكتاب الله، قال: فإن لم تجد؟ قال: بسنة رسول الله عليه الصلاة والسلام، قال: فإن لم تجد قال: أجتهد رأيي، قال: فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدره، وقال: الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله، لما يرضي رسول الله عليه الصلاة والسلام )، وهذا الحديث في المسانيد والسنن بإسناد جيد. وما زاد على ذلك كلمة أخرى، وهو نص كلام الإمام ابن كثير عليهم جميعاً رحمات ربنا الجليل، اعتمدوا هذا وقرروه، كما أن الإمام البغوي في شرح السنة صفحة: (116) يستدل بالحديث على أنه ثابت، ولا يتكلم في إسناده، بل ولا يرويه بالإسناد، مع أنه في شرح السنة يروي بإسناده.

قال البغوي : الاجتهاد هو رد القضية إلى معنى الكتاب والسنة من طريق القياس، فعلى الحاكم أن يحكم بما في كتاب الله سبحانه وتعالى، فإن لم تكن الحادثة التي يحتاج إلى الحكم فيها في كتاب الله، فيحكم بالسنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن لم يجدها في السنة، فحينئذ يجتهد والدليل عليه: ما روي عن معاذ أن النبي عليه الصلاة والسلام قال له لما أراد أن يبعثه إلى اليمن: ( كيف تقضي إذا عرض لك قضاء؟ ).. الحديث، وما زاد عليه ولا كلمة.

وقوله بعد ذلك: ( أجتهد رأيي ) لم يرد به الرأي الذي يسنح له من قبل نفسه، أو يخطر بباله على غير أصل من كتاب أو سنة، بل أراد به رد القضية إلى معنى الكتاب والسنة من طريق القياس. أي: أنني أقيس الفرع بالأصل إذا وافقه في العلة فألحقه بحكم الأصل الذي ورد به النص، وهذا هو القياس الشرعي.

والمعلق الشيخ شعيب مال إلى تصحيحه، والشيخ عبد القادر مال إلى تصحيحه في التعليق على جامع الأصول، حيث يقول: أخرجه أحمد وأبو داود وكذا، ثم قال: وقد ضعف بجهالة الحارث بن عمرو ، وبجهالة شيوخه الذين روى عنهم، وهم أصحاب معاذ ، لكن مال إلى القول بصحته غير واحد من المحققين، منهم أبو بكر الرازي وأبو بكر بن العربي والخطيب البغدادي وابن قيم الجوزية ، وقالوا: إن الحارث بن عمرو ليس بمجهول عين.

الرد على الألباني في حكمه على حديث معاذ

أما الشيخ الألباني نسأل الله أن يثيبه وأن يغفر لنا وله وللمسلمين أجمعين، في كتابه سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة ورقم الحديث: (881) حكم عليه بأنه منكر، يقول: قلت: وأجاب ابن القيم عن العلة الثانية، وهي جهالة أصحاب معاذ بقوله في إعلام الموقعين كذا.. ثم يقول: ثم تبين لي أن ابن القيم اتبع في ذلك كله الخطيب البغدادي وهذا ليس بصحيح، نعم، نقل عن الخطيب البغدادي ، لكن لم يتبعه ولم يقلده، وهذا كتابه في صفحة: (202) يقول فيه: فصل: وقد أقر النبي صلى الله عليه وسلم معاذاً على اجتهاد رأيه فيما لم يجد فيه نصاً عن الله ورسوله.. ثم نقل قرابة صفحة، وقال: وقد قيل، وذكر أنه تلقته الكافة عن الكافة، ذكر هذا بعد ذلك، وهو في الأصل رواه على أنه يقرر به حكماً شرعياً، فقول الألباني هنا تبع الخطيب البغدادي ، وقوله: وهذا أعجب أن يخفى على مثل الخطيب في حفظه ومعرفته بالرجال علة هذا الحديث القادحة! غير صحيح لأنه ما خفي عليه بل قال: أصحاب معاذ ليسوا بمجهولين، وأعلم مما لو سموا، والحارث بن عمرو فيه جهالة، لكن لعلها تزول بالطريق الثاني وإذا لم تزل نأتي بأمر آخر: الحديث تلقته الكافة عن الكافة.

وانظر هنا لما نقل كلام الحافظ في التلخيص، فرأيه أن الحافظ يضعف الحديث، وهذا الذي جزم به في نهاية تعليقه، يقول هنا: جملة القول أن الحديث لا يصح إسناده لإرساله وجهالة راويه الحارث بن عمرو ، وبعد ذلك لجهالة أصحاب معاذ ، والذين ضعفوه عدة منهم ابن حجر وهو العاشر، هذا كلامه، لكن الحافظ ختم كلامه في التلخيص فقال: وقد استند أبو العباس بن القاص في صحته إلى تلقي أئمة الفقه والاجتهاد له بالقبول، وقال: وهذا القدر مغنٍ عن مجرد الرواية، وهو نظير أخذهم بحديث: ( لا وصية لوارث ) مع كون راويه إسماعيل بن عياش ..

و أبو العباس بن القاص من أئمة الحديث الكبار، توفي سنة: (335)، وهذا النقل حذفه الشيخ الألباني .

إذاً: الحافظ ابن حجر نقل من ضعف الحديث ونقل من صححه، وختم كلامه على هذا الحديث بكلام أبي العباس بن القاص ، وأن الحديث تلقي بالقبول من أئمة الفقه والاجتهاد، وعليه فهو صحيح ثابت.

ما يدل على تقوية حديث معاذ

وهنا لا بد من التنبه لقضية يشير إليها أئمتنا الكرام: وهي أن الضعيف إذا ورد من طريق آخر ولم يشتد الضعف يرتقي لدرجة الحسن، يقول شيخ المحدثين وسيدهم في زمنه الشيخ عبد الرحيم بن الحسيني الأثري شيخ الحافظ ابن حجر عليهم جميعاً رحمة الله في ألفيته الشهيرة؛ يحتج بالضعيف عند آخر مبحث الحديث الحسن:

فإن يقل: يحتج بالضعيفِ فقل: إذا كان من الموصوف

رواته بسوء حفظ يجبرُ بكونه من غير وجه يذكرُ

وإن يكن لكذب أو شذا.. يعني: إذا كان الضعف بسبب الكذب.

وإن يكن لكذب أو شذا أو قوي الضعف فلم يجبر ذا

ألا ترى المرسل حيث أسندا أو أرسلوا كما يجيء اعتضدا

يعني: الحديث المرسل الذي ضعفه جمهور المحدثين، يقول: أي: المرسل ألا ترى أنه إذا جاء من طريق مسند، أو من طريق مرسل آخر يحتج به.

ألا ترى المرسل حيث أسندا أو أرسلوا..

أي: أرسلوه من طريق آخر، وروي مرسلاً من طريق آخر، والمرسل: هو ما رفعه التابعي إلى النبي عليه الصلاة والسلام.

ألا ترى المرسل حيث أسندا أو أرسلوا كما يجيء اعتضدا

وفي بحث المرسل يقول الشيخ الإمام العراقي الأثري يستطيل في المرسل:

واحتج مالك كذا النعمان وتابعوهما به ودانوا

يعني: الحديث المرسل يحتج به الإمام مالك وأبو حنيفة ، وهو المعتمد عند الحنابلة؛ أن الحديث المرسل حجة؛ لأنه قيل في عصر لم يفشُ فيه الكذب على النبي عليه الصلاة والسلام.

ثم التابعي عندما يقول: قال رسول الله عليه الصلاة والسلام لا يستحل أن يرفع هذا إلى النبي عليه الصلاة والسلام إذا حدثه به ثقة عن صحابي، فإذاً: عندهم حجج، هذا قول الأئمة الثلاثة: الحديث المرسل حجة عند أبي حنيفة ومالك والإمام أحمد .

واحتج مالك كذا النعمان وتابعوهما به ودانوا

ورده جماهر النقاد للجهل بالساقط في الإسناد

ومسلم صدر الكتاب أصله وصاحب التمهيد -يعني: ابن عبد البر - عنهم نقله

يعني: أن الحديث المرسل عند المحدثين مردود.

لكن إذا صح لنا مخرجه بمسند أو مرسل يخرجه

من ليس يروي عن رجال الأول نقبله قلت: الشيخ لم يفصل

يعني: ابن الصلاح .

والشافعي بالكبار قيدا ومن روى عن الثقات أبدا

ومن إذا شارك أهل الحفظ وافقهم إلا بنقص لفظ

فإن يقل: فالمسند المعتمد فقل: دليلان به يعتضد

الشاهد: الإمام الشافعي من الأئمة الأربعة قال: الحديث المرسل ليس بحجة، لكنه قبله بشرطين: شرط في الراوي وشرط في الرواية. أما في الراوي: إذا كان يتصف بثلاثة أمور: من كبار التابعين، وإذا شاركه الحفاظ المأمونون لا يخالفهم. ويروي عن الثقات، فلا يروي عن الضعفاء، هذه ثلاث صفات في الراوي: إذا شاركه أهل الحفظ لا يخالفهم في الرواية -ليس في هذا الحديث بل في غيره- يروي عن الثقات، ويكون من كبار التابعين، هذه ثلاثة شروط لا بد منها في الراوي المرسل.

وواحد من أربعة في الرواية: وهو: إذا وردت الرواية مسندة من طريق آخر، أو مرسلة أو أفتى بها صحابي فقط أو أفتى بها أكثر أهل العلم المتأخرين بعد الصحابة، فالمرسل يصبح حجة بهذه الأحوال.

فإذاً: ينضم قوله إلى قول الجمهور: أبي حنيفة ومالك وأحمد بأن المرسل حجة، لكنهم قبلوه من غير شرط، وهذا قبله بشروط، رحمهم الله ورضي عنهم.

فحديث معاذ على التسليم بأن فيه الحارث بن عمرو ، وهو مجهول وهذا قول الجمهور، وقلت: هو المقرر حسب جمهور المحدثين وقواعدهم التي سار عليها الكم، لكن ضعف يسير زال بوجود ما يشهد له من أقوال ثلاثة من كبار الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين، ثم تلقاه أئمة الفقه والاجتهاد بالقبول كما نص على ذلك أبو العباس بن القاص من علماء القرن الرابع للهجرة، والخطيب البغدادي من علماء القرن الخامس للهجرة، ولذلك فالعبارة التي ذكرها الشيخ الألباني عليه رحمة الله حياً وميتاً في السلسلة عند هذا الحديث وهي قوله: (ولا يهولنك اشتهار هذا الحديث عند علماء الأصول واحتجاجهم به في إثبات القياس، فإن أكثرهم لا معرفة عنده بالحديث ورجاله، ولكن ينزل بينهم بين صحيحه وسقيمه، شأنهم في ذلك شأن الفقهاء بالفروع إلا قليلاً منهم). لا داعي لها؛ لأن هذا الحديث قد صححه أئمة جهابذة محدثون كبار: الخطيب البغدادي ، أبو العباس بن القاص، الإمام ابن القيم، الإمام ابن تيمية، الإمام ابن كثير ، الإمام أبو بكر بن العربي محدث شارح سنن الترمذي ، فقوله: إن هذا الحديث اعتمده علماء الأصول فقط، ولا يؤخذ بكلامهم في الحديث وحالهم كحال الفقهاء في الفروع هذا كلام غير مسلم، نعم الحديث حوله كلام وزال عنه الضعف بفضل ربنا الرحمن.

حديث معاذ من جهة المعنى

والإمام الألباني نقل عن الإمام ابن الجوزي في: (881) وقد عده من جملة العشرة الذين ضعفوا الحديث يقول: ولما أنكر ابن الجوزي صحة الحديث.

وأتبع ذلك قوله: وإن كان معناه صحيحاً.

يقول: الحديث فيه ضعف من حيث الإسناد، لكن معناه صحيح، ولم يعلق على هذه الجملة.

وأقول: هو صحيح المعنى فيما يتعلق بالاجتهاد عند فقدان النص، وهذا مما لا خلاف فيه، ولكنه ليس بصحيح المعنى عندي فيما يتعلق بتصنيف السنة مع القرآن، وإنزاله إياه معها منزلة الاجتهاد منهما. فكما أنه لا يجوز الاجتهاد مع وجود النص في الكتاب والسنة، فكذلك لا يأخذ بالسنة إلا إذا لم يجد في الكتاب كما دل عليه هذا الحديث.

وهذا التفريق بينهما مما لا يقول به مسلم، بل الواجب النظر في الكتاب والسنة معاً وعدم التفريق؛ لأن الأدلة وإن كانت جميعاً صحيحة معتبرة فهي متفاوتة من حيث القوة والترتيب، فتقدم معنا: أولها: الإجماع، ثانيها: نص المتواتر أي: كتاب وسنة، ثالثها: سنة أحادية، رابعها: قياس يلحق أمر حادث لأمر سبق لوجوده في العلة الشرعية التي دل عليها بقرآن أو سنة، وهذا مما لا خلاف فيه عند أئمتنا في مراتب الأدلة.

وأما معنى حديث معاذ فلا أعلم حوله خلافاً، لو لم يثبت هذا اللفظ فمعناه معتبر عند أئمتنا قاطبة، وذكرت كلام أبي بكر وعمر وكلام ابن مسعود رضي الله عنهم أجمعين، فيما يقرر هذا: نقضي بما في كتاب، ثم بما في سنة رسول الله، ثم بما قضى به من قبلنا من الصالحين، ثم نجتهد بعد ذلك ونحترز ونتقي الله في اجتهادنا.

أقول: ذكرت أن في هذا الحديث كلاماً، هل في أصحاب معاذ جهالة أم لا؟ بعضهم يرى أنهم في حيز الجهالة، وبعضهم يرى أنهم في أعلى درجات الشهرة والاستفاضة، كالإمام ابن القيم والخطيب البغدادي وغيرهما؛ لأن أصحاب معاذ لم يسموا وهذا أعلى مما لو سموا واحداً منهم، وتقدم الجواب عن هذا، وهذه علة.

والعلة الثانية: الحارث بن عمرو مجهول، وهو من رجال الترمذي وأبي داود كما تقدم معنا، والذي روى عنه أبو عون الثقفي من رجال البخاري ، ولكن هل تزول جهالة الحارث بن عمرو بوصف الراوي له بأنه ابن أخٍ للمغيرة بن شعبة ، وهو من التابعين؟ لا سيما وقد قال الخطيب البغدادي : روي الحديث من طريق آخر، وعليه يكون متصلاً.

وقد ذكر ابن حبان أن الجهالة تزول إذا روى عنه راوٍ واحد، كما يرى ابن عبد البر أنه لا داعي للتنصيص على عدالة الإنسان، فمن اشتهر بطلب العلم ولم يعلم فيه جرح فهو عدل، فالحديث ضعيف من ناحية الإسناد على مذهب الجمهور، وهذا ما تقتضيه قواعد علم الحديث والمصطلح، فالمعتمد في الحارث بن عمرو أنه مجهول، لم يرو عنه إلا راوٍ واحد، والجهالة لا تزول إلا براويين.

ولكن هذا الضعف قد زال بتلقي الأمة لمدلول هذا الحديث بالقبول، حيث أفتى بموجبه ثلاثة من الصحابة، كل واحد لقوله حكم الرفع إلى نبينا عليه الصلاة والسلام أولهم: أبو بكر ، ثانيهم: عمر ، ثالثهم: عبد الله بن مسعود ، والأسانيد إليهم صحيحة ثابتة، لا نزاع في ثبوتها، وهي في سنن النسائي والبيهقي ، باب: الحكم بصفات أهل العلم، وهذه الآثار الثلاثة تشهد لحديث معاذ. لكن الحديث الضعيف إذا تلقي بالقبول ينزل منزلة المتواتر، كما قال السخاوي ، وقال ابن تيمية في مجموع الفتاوى: والغرض أنك تطلب تفسير القرآن منه، فإن لم تجده فمن السنة، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لـمعاذ حين بعثه إلى اليمن: ( بم تحكم؟ قال: بكتاب الله، قال: فإن لم تجد؟ قال: بسنة رسول الله عليه الصلاة والسلام، قال: فإن لم تجد قال: أجتهد رأيي، قال: فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدره، وقال: الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله، لما يرضي رسول الله عليه الصلاة والسلام )، وهذا الحديث في المسانيد والسنن بإسناد جيد. وما زاد على ذلك كلمة أخرى، وهو نص كلام الإمام ابن كثير عليهم جميعاً رحمات ربنا الجليل، اعتمدوا هذا وقرروه، كما أن الإمام البغوي في شرح السنة صفحة: (116) يستدل بالحديث على أنه ثابت، ولا يتكلم في إسناده، بل ولا يرويه بالإسناد، مع أنه في شرح السنة يروي بإسناده.

قال البغوي : الاجتهاد هو رد القضية إلى معنى الكتاب والسنة من طريق القياس، فعلى الحاكم أن يحكم بما في كتاب الله سبحانه وتعالى، فإن لم تكن الحادثة التي يحتاج إلى الحكم فيها في كتاب الله، فيحكم بالسنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن لم يجدها في السنة، فحينئذ يجتهد والدليل عليه: ما روي عن معاذ أن النبي عليه الصلاة والسلام قال له لما أراد أن يبعثه إلى اليمن: ( كيف تقضي إذا عرض لك قضاء؟ ).. الحديث، وما زاد عليه ولا كلمة.

وقوله بعد ذلك: ( أجتهد رأيي ) لم يرد به الرأي الذي يسنح له من قبل نفسه، أو يخطر بباله على غير أصل من كتاب أو سنة، بل أراد به رد القضية إلى معنى الكتاب والسنة من طريق القياس. أي: أنني أقيس الفرع بالأصل إذا وافقه في العلة فألحقه بحكم الأصل الذي ورد به النص، وهذا هو القياس الشرعي.

والمعلق الشيخ شعيب مال إلى تصحيحه، والشيخ عبد القادر مال إلى تصحيحه في التعليق على جامع الأصول، حيث يقول: أخرجه أحمد وأبو داود وكذا، ثم قال: وقد ضعف بجهالة الحارث بن عمرو ، وبجهالة شيوخه الذين روى عنهم، وهم أصحاب معاذ ، لكن مال إلى القول بصحته غير واحد من المحققين، منهم أبو بكر الرازي وأبو بكر بن العربي والخطيب البغدادي وابن قيم الجوزية ، وقالوا: إن الحارث بن عمرو ليس بمجهول عين.




استمع المزيد من الشيخ عبد الرحيم الطحان - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح الترمذي - باب الاستتار عند الحاجة، والاستنجاء باليمين، والاستنجاء بالحجارة [4] 4048 استماع
شرح الترمذي - باب ما جاء في فضل الطهور [6] 3981 استماع
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [9] 3907 استماع
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [46] 3795 استماع
شرح الترمذي - مقدمات [8] 3787 استماع
شرح الترمذي - باب مفتاح الصلاة الطهور [2] 3772 استماع
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [18] 3573 استماع
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [24] 3486 استماع
شرح الترمذي - باب ما يقول إذا خرج من الخلاء [10] 3466 استماع
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [59] 3417 استماع