شرح الترمذي - مقدمات [3]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة الطيبين وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الرحمين، اللهم زدنا علماً نافعاً، وعملاً صالحاً بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين، سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك، سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك، اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحابه وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد:

إخوتي الكرام! قلت: سنتدارس مقدمة موجزة قبل البدء في قراءة كتاب سنن الترمذي ، وهذه المقدمة كما قلت: ستدور على ثلاثة أمور:

أولها: أمر مهم ضروري لجميع أعمالنا، وهو كالروح للأبدان، ألا وهو: إخلاص النية لربنا في جميع أحوالنا، وقد مضى الكلام على هذا.

والأمر الثاني: فضل دراسة الحديث، وفوائد دراسة السنة، وهذا ما تدارسنا بعضه، ونكمل مدارسته في هذه الموعظة المباركة إن شاء الله.

والأمر الثالث: سيدور حول التعريف بكتاب الإمام الترمذي عليه رحمة الله، ومنزلة هذا الكتاب في كتب السنة.

إخوتي الكرام! تقدم معنا أن كل ما ورد في فضل العلم والعلماء شامل لفضل دراسة حديث خاتم الأنبياء عليه صلوات الله وسلامه، فهذا من أفضل العلوم وأجلها عند الحي القيوم، وإذا كان العلماء هم الناس، فالمحدثون هم الأسياد؛ كيف لا وهم يروون أحاديث خير الناس نبينا عليه الصلاة والسلام، فلذلك كان الإمام الشافعي عليه رحمة الله يقول كما في شرف أصحاب الحديث للإمام الخطيب البغدادي في صفحة: (49): إذا رأيت صاحب حديث فكأنما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم حياً.

نعم أهل الحديث هم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وإن لم يصحبوا نفسه أنفاسه صحبوا.

إخوتي الكرام! ختمنا الموعظة السابقة بالحديث الصحيح الثابت في المسند وصحيح البخاري والترمذي من رواية عبد الله بن عمرو بن العاص ، وتقدم معنا أن الحديث روي أيضاً عن أبي هريرة وأبي سعيد الخدري ، ولفظ رواية عبد الله بن عمرو في صحيح البخاري ، عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال: ( بلغوا عني ولو آية، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، ومن كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار )، والجملة الثانية وهي قول النبي عليه الصلاة والسلام: ( وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج )، تحتمل خمسة معاني مقبولة، ومعنى سادساً مردوداً، كما بين هذا الإمام الحافظ ابن حجر عليه رحمة الله في الفتح.

والمعاني الخمسة مع المعنى السادس المردود كنت قد ذكرتها في آخر الموعظة الماضية، وأعيدها هنا على سبيل الإيجاز، ثم أبين فوائد وآثار وثمرات دراسة حديث نبينا عليه الصلاة والسلام، وسنته الطاهرة المشرفة.

هذه المعاني هي:

المعنى الأول: ولا حرج عليكم في أن تحدثوا عنهم.

المعنى الثاني: ولا حرج عليكم في ترك الحديث عنهم؛ لأن ما تقدم من الأمر قد يشعر بوجوب الحديث عنهم، فكأن النبي عليه الصلاة والسلام يقول: الأمر ليس من باب الإلزام والحتم، إنما هو من باب الإباحة والتخيير، وهذان أقوى ما قيل من المعاني.

المعنى الثالث: ليس المراد من الحرج هنا الإثم والذنب، وأنه لا إثم عليكم في أن تحدثوا أو في أن لا تحدثوا، إنما المراد من الحرج هنا ضيق الصدر، أي: لا تضق صدوركم من التحديث عن بني إسرائيل، مما وقع فيهم من العجائب فالله على كل شيء قدير.

المعنى الرابع: لا حرج عليكم في حكاية ما وقع فيهم وصدر منهم من أمور مستشنعة، فناقل الألفاظ البذيئة يحاكي الكفر ليس بكافر ولا بذيء، وقد حكى الله قول بني إسرائيل ورد عليهم وأخبر أنه لعنهم وغضب عليهم: لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ [آل عمران:181]، وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ [المائدة:64]، سبحانه وتعالى.

المعنى الخامس: ذهب إليه الإمام الشافعي فقال: أخبار بني إسرائيل تنقسم إلى قسمين:

الأول: ما ورد في شرعنا ما يدل على صحته ويقرره ويؤكده ويبينه، فيجب التحديث عنه؛ لأن هذا من ضمن التحدث عما ورد في شرعنا، ومما ينبغي مدارسته وفهمه ووعيه، وهذا هو المراد بقول النبي عليه الصلاة والسلام: ( وحدثوا عن بني إسرائيل )، مما بينه الله لكم في كتابه، وبينته لكم في حديثي، على نبينا صلوات الله وسلامه.

الثاني: ما لم يرد في القرآن ولا في السنة ما يدل عليه ويقرره ويؤكده، ونقل عن بني إسرائيل، وليس في شريعتنا أيضاً ما يبين بطلانه؛ فهذا لا حرج عليكم في أن تحدثوا عنهم، هذه التأويلات الخمسة كل منها حق ومقبول.

المعنى السادس المردود: أن المراد ببني إسرائيل خصوص أولاد نبي الله يعقوب على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه، والمراد بالحديث عنهم ما ورد من أخبارهم وذكر شأنهم في قصة نبي الله يوسف على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه في سورة يوسف، فحدثوا عنهم، أي: تحدثوا بقصتهم الواردة في هذه السورة الكريمة في كتاب الله الكريم.

قال الحافظ ابن حجر : وهذا أبعد الأوجه، وهو حقيق بالبعد، والعلم عند الله جل وعلا.

إخوتي الكرام! بعد أن تدارسنا هذا في الموعظة الماضية؛ نشرع الآن في بيان فوائد وثمرات مدارسة حديث نبينا عليه صلوات الله وسلامه، وفهم سنته وحفظها، فإن الذي يدرس حديث النبي عليه الصلاة والسلام وينشر سنته ويعتني بها ويضبطها يحصل ثلاث فوائد، كل فائدة منها عظيمة جليلة:

الفائدة الأولى: حفظ أدلة الشرع المطهر من الضياع والفقدان والاندراس.

والفائدة الثانية: كثرة الصلاة والسلام على خير الأنام عليه الصلاة والسلام.

والفائدة الثالثة: الفوز بالرحمة والنضارة اللتين دعا بهما نبينا صلى الله عليه وسلم لمن يروي حديثه وينشر سنته.

أما الفائدة الأولى ألا وهي: حفظ أدلة الشرع من الضياع والفقدان والذهاب والاندراس، فلا يخفى على مسلم أن أدلة الشرع المطهر تقوم على دعامتين اثنتين، وعلى ركنين متينين، وعلى دليلين قويين محكمين، وسائر الأدلة ترتكز على هذين الدليلين: كتاب الله وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام، وأما الإجماع فإنه حجة ولا يكون إلا بناء على نص، وأما القياس فهو حجة أيضاً، ويكون بقياس ما لم يقع على ما وقع، قياس ما وقع في العصور المتأخرة على ما وقع في زمن النبي عليه الصلاة والسلام، قياس حادثة متأخرة على حادثة متقدمة لمساواتها لها في العلة فنلحقها بها في حكمها، هذا هو القياس، فهو -إذاً- لا يكون إلا بوجود نص واستنباط علة منه، والنص الشرعي هو الذي يؤخذ منه الحكم ويبنى عليه الإجماع ويقاس عليه، فنحن عندما ندرس حديث النبي عليه الصلاة والسلام، ونتدارس سنته ونضبطها وننشرها؛ نحافظ على أدلة الشرع المطهر من الضياع والاندراس، فنصوص الفقهاء مع علو شأنها ورفعة قدرها ليست بحجج شرعية، الحجة في كلام رب البرية وفي كلام رسوله عليه الصلاة والسلام، وأما كلام الفقهاء فيؤخذ من قولهم ويترك، ولا يؤخذ قول أحد بكامله ولا يرد عليه شيء إلا قول المصطفى عليه صلوات الله وسلامه، فهو الذي لا ينطق إلا بالحق، ولا يقول إلا الصدق، والوحي يسدده، والله جل وعلا يتولى أمره سبحانه وتعالى.

إذاً: نصوص الفقهاء ليست بحجج، فلا بد لهذا الفقه من دليل يسنده، ألا وهو كتاب الله وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام.

والحجة كما تكون بنصوص القرآن -بآياته وسوره- تكون أيضاً بأحاديث النبي عليه الصلاة والسلام، وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا الأمر ووضحه، ففي مسند الإمام أحمد والسنن الأربعة إلا سنن الإمام النسائي ، وكما رواه الحاكم في المستدرك والدارمي والبيهقي في سننيهما، والطحاوي في شرح معاني الآثار، ورواه الخطيب البغدادي في كتابه: الفقيه والمتفقه، وإسناده صحيح كالشمس، من رواية المقدام بن معدي كرب .

والحديث روي أيضاً عن أبي رافع خادم نبينا عليه الصلاة والسلام ومولاه، وقد رواه أيضاً من تقدم ذكرهم إضافة إلى الشافعي في الأم والرسالة والبغوي في شرح السنة عن أبي رافع مع زيادة في الرواية.

وروي الحديث عن محمد بن المنكدر مرسلاً كما في مسند الحميدي إلى نبينا عليه الصلاة والسلام، وأشار إلى روايته الإمام الترمذي .

وخلاصة الكلام أن الحديث مروي من طريقين صحيحين متصلاً مرفوعاً إلى نبينا عليه الصلاة والسلام: من رواية المقدام بن معدي كرب ، ومن رواية أبي رافع ، وروي مرسلاً من رواية محمد بن المنكدر ، وهو تابعي.

ولفظ الحديث: أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ( ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه )، وفي رواية: ( ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه )، وفي رواية: ( ألا إني أوتيت القرآن وما يعدله )، أي: ما يساويه في الحجية والدلالة، ( ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه، ألا عسى رجل شبعان متكئ على أريكته يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه، فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله، فما وجدنا فيه من حلال أحللناه، وما وجدنا فيه من حرام حرمناه، ألا وإن ما حرم رسول الله مثلما حرم الله )، أي: الذي حرمه رسول الله صلى الله عليه وسلم، مثلما حرمه الله تماماً، ( ألا وإني أحرم كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير )، وهو ما يأكل فريسته ويصيدها بنابه، كالذئب والأسد والسبع وما شاكل هذا، (وكل ذي مخلب من الطير)، وهو ما يأكل فريسته بظفره، فهو من الجوارح، كالنسر والصقر وغير ذلك.

إذاً: السنة تعدل القرآن تماماً، فهذا وحي وهذا وحي، فنحن عندما نتعلم سنة النبي عليه الصلاة والسلام نحافظ على أدلة الشرع من الضياع والذهاب والفقدان والاندراس، فتبقى أدلة الشرع ظاهرة بينة وكما تعهد الله تعالى بحفظ القرآن الكريم كما قال سبحانه: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9]، فاستلزم ذلك التعهد قطعاً وجزماً حفظ السنة المطهرة، وقد هيأ الله لهذه السنة من يحفظها وينشرها ويرويها، ويحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عن دين الله تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين.

السنة تعدل القرآن من حيث الحجية والمكانة، فهذه وحي وهذا وحي، والكل أوحي به إلى النبي عليه الصلاة والسلام: ( ألا وإني أوتيت القرآن ومثله معه )، وقد خشي علينا النبي عليه الصلاة والسلام من صورة وقعت في هذا العصر، ووقعت قبل ذلك بعصور من قبل الزائغين الضالين، ألا وهي: التعويل على القرآن ونبذ السنة، والعبارة الدقيقة لفعلهم: نبذ القرآن والسنة! لكن أرادوا أن يصوغوا ضلالهم بعبارة معسولة تخدع الناس، فقالوا: هذه السنة نقل رجال، وما تكفل الله بحفظها، وأما القرآن فهو كلام الله وقد تكفل الله بحفظه، فلنعول عليه، ولنطرح السنة وراء ظهورنا! وهل يمكن العمل بالقرآن دون سنة نبينا عليه الصلاة والسلام؟!

إن القرآن أحوج إلى السنة من احتياج السنة إلى القرآن، لو لم يكن هناك قرآن، وكان كل الوحي هو سنة النبي عليه الصلاة والسلام فقط لأمكن أن يعيش الإنسان بهدى ونور، وأن يستضيء بحديث النبي عليه الصلاة والسلام، فيكون على محجة بيضاء، أما إذا ضاعت السنة كيف ستعمل بنصوص القرآن؟! كيف ستصلي؟ وكيف ستصوم؟ وكيف ستحج؟ وكيف ستزكي؟ وكيف ستبيع؟ وكيف ستشتري؟ كيف ستعرف هذه الأمور؟ لأن هذا كله وضحته سنة نبينا عليه صلوات الله وسلامه.

فالذي يطعن في السنة حقيقة أمره أنه يطعن في القرآن، ويريد أن ينسلخ من الإسلام، لكن غلف هذا الضلال فقال: هذه السنة هي نقل رجال، ولا يوثق بها، وعليه فلنعول على القرآن! ثم يتلاعب بعد ذلك بنصوص القرآن كما يسول له الشيطان، ولذلك قلت ولا أزال أقول وهذا القول ينبغي أن نعيه تماماً: لا خير في إيمان بالقرآن من غير إيمان بسنة النبي عليه الصلاة والسلام، ولا خير في إيمان بالقرآن وبسنة النبي عليه الصلاة والسلام من غير اتباع السلف الكرام، وفهم الإسلام كما فهموه، وإلا إذا جئت أيضاً لتقول: قرآن وسنة، ثم بعد ذلك تفهم منهما على حسب عقلك وضلالك وغيك، وما يزين لك شيطانك فهذا ضلال ضلال، إنما قرآن وسنة كما فهمهما سلف الأمة.

قوله عليه الصلاة والسلام: ( ألا عسى رجل شبعان متكئ على أريكته )، أي: متخم بطر أشر، كما حصل من بعض العتاة في هذه الأيام ينطبق عليهم هذا الوصف تماماً، وطاغوت من الطواغيت، وعاتٍ من العتاة، يقول: هذه السنة لا يوثق بها فاطرحوها وراء الظهور، نعول على كلام الله فقط! شبعان متكئ على أريكته، يرد سنة النبي عليه الصلاة والسلام ويقول: دعونا من هذا، بيننا وبينكم كتاب الله، نعكف عليه فقط، فما وجدنا فيه من حلال أحللناه، وما وجدنا فيه من حرام حرمناه!

وقال النبي عليه الصلاة والسلام: ( ألا وإن ما حرم رسول الله مثلما حرم الله، ألا وإني أحرم كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير )، وهذا المعنى الثابت في حديث المقدام وحديث أبي رافع ومحمد بن المنكدر رحمهم الله ورضي عنهم جميعاً أشار النبي صلى الله عليه وسلم إليه في حديث آخر رواه العرباض بن سارية كما في سنن أبي داود ، وفي إسناد الحديث أشعث بن شعبة المصيصي ، انفرد بالإخراج عنه أبو داود ، قال الحافظ في التقريب: مقبول، ويعني بهذه العبارة: أن حديثه يقبل إذا وجد له متابع، أو إذا شهد له شاهد، ويشهد لحديثه ما تقدم معنا من حديث المقدام ، وحديث أبي رافع رضي الله عنهم أجمعين.

ولفظ حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: ( قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أيحسب أحدكم متكئاً يظن أن الله لم يحرم شيئاً إلا ما في هذا القرآن، ألا وإني والله قد أمرت ووعظت ونهيت عن أشياء، وإنها لمثل القرآن أو أكثر )، وحقيقة إذا أردت أن تقارن بين حجم القرآن وحجم سنة النبي عليه الصلاة والسلام ستجد أن حجم السنة أكبر من حجم القرآن بكثير، وأن المأمورات والمواعظ والنواهي الواردة في السنة أضعاف أضعاف ما في القرآن الكريم، والكل وحي أوحاه الله إلى نبيه عليه صلوات الله وسلامه.

فعندما ندرس حديث النبي عليه الصلاة والسلام نحفظ أدلة الشرع من الضياع والاندراس، وقد صرح أئمتنا الكرام بأن السنة وحي أوحاه الله إلى نبينا عليه الصلاة والسلام والأمر كذلك.

ففي سنن الإمام الدارمي في المقدمة في الجزء الأول، صفحة: (145) عن حسان بن عطية بإسناد صحيح، وهو من أئمة التابعين، وأثره له حكم الرفع إلى نبينا الأمين عليه الصلاة والسلام، فهو مرفوع مرسل، وهذا الأثر رواه عنه أيضاً الخطيب البغدادي في كتابه الفقيه والمتفقه، وروي أيضاً عن تابعي آخر ومن طريق الإمام الأوزاعي عليهم جميعاً رحمة الله.

عن حسان بن عطية والإمام الأوزاعي أنهما قالا: كان جبريل على نبينا وعليه الصلاة والسلام ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم بالسنة كما ينزل عليه بالقرآن، ولذلك قال أئمتنا: سنة النبي عليه الصلاة والسلام وحي كالقرآن غير أنها لا تتلى كما يتلى، الفارق بينهما أن القرآن كلام الله لفظاً ومعنى، والسنة أوحي بها إلى النبي عليه الصلاة والسلام وصاغها بعبارات من عنده حسبما ألهمه ربه جل وعلا، فالوحي مشترك في الأمرين، لكن القرآن يتعبد بتلاوته، وأما سنة النبي عليه الصلاة والسلام فلا يتعبد بتلاوتها، وليس لنا على قراءة كل حرف عشر حسنات، ولا يجوز أن نقرأ الأحاديث في الصلاة، لكن هي وحي كالقرآن تماماً، وإذا أردت أن تتحقق من هذا الأمر فانظر إلى حديثين اثنين من أحاديث كثيرة تقرر هذا الأمر، ألا وهو أن سنة النبي عليه الصلاة والسلام وحي أوحاه الله إلى نبينا عليه الصلاة والسلام بواسطة جبريل كما أوحى إليه بالقرآن الكريم.

الدليل الأول على أن السنة وحي

الحديث الأول: رواه الإمام أحمد في المسند، ومسلم في صحيحه، وعبد الرزاق في مصنفه، والحديث مروي أيضاً في السنن، وفي سنن الإمام البيهقي ، ومنتقى ابن الجارود ، ورواه الإمام الطحاوي في شرح معاني الآثار، ولفظ الحديث عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحي كرب )، أي: اعتراه شدة وكرب ومشقة، إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا [المزمل:5]، وكان عليه الصلاة والسلام إذا نزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد يتفصد جبينه من العرق عليه صلوات الله وسلامه.

فيقول عبادة بن الصامت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أنزل عليه الوحي كرب بذلك وتربد وجهه )، (وتربد)، أي: اعترى وجهه شيء من التغير الذي يميل إلى التغبر، كأنه اغبر وجهه عليه الصلاة والسلام من أثر الشدة التي يعانيها.

يقول: (فأنزل عليه الوحي ذات يوم فلقي كذلك)، أي: رؤي بهذه الحالة عليه، أي كرب عليه صلوات الله وسلامه، وتربد وجهه، أي: تغير.

(فلما سري عنه)، أي: ذهب عنه الوحي، وعاد إلى طبيعته عليه صلوات الله وسلامه قال: (خذوا عني، خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلاً)، كان الصحابة ينتظرون السبيل الذي أشار إليه ربنا الجليل في سورة النساء: وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا [النساء:15]، ما هو السبيل؟ فلما نزل عليه الوحي وكرب عليه صلوات الله وسلامه، وتربد وجهه، فلما سري عنه نطق بما أوحي إليه في تلك الساعة فقال: (خذوا عني خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلاً: الثيب بالثيب جلد مائة، ثم رجم بالحجارة، والبكر بالبكر جلد مائة ثم نفي سنة).

وهذا الحديث سيأتينا ضمن أحاديث سنن الترمذي عند حد الزنا إن شاء الله.

إذاً: لما أنزل عليه الوحي نزل بهذا الحكم الذي هو حديث بينه لنا نبينا عليه الصلاة والسلام فيمن وقع في جريمة الزنا نسأل الله أن يصون أعراضنا بفضله ورحمته.

الدليل الثاني على أن السنة وحي

والحديث الثاني: رواه الإمام أحمد في المسند، وأخرجه الشيخان -البخاري ومسلم - في صحيحيهما، ورواه أهل السنن الأربعة باستثناء ابن ماجه ، وهو في موطأ الإمام مالك أيضاً، والحديث في أعلى مراتب الصحة لإخراج الشيخين البخاري ومسلم له، عن يعلى بن أمية أنه قال لـعمر بن الخطاب رضي الله عنهم أجمعين: ليتني أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ينزل عليه الوحي، وفي رواية قال: ليتني أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين يوحى إليه، أريد أن تريني فأنت من خواص النبي عليه الصلاة والسلام، اجتماعاتك به كثيرة ومصاحبتك له دائمة، فإذا نزل عليه الوحي أخبرني بذلك لأنظر إليه في حال نزول الوحي، يقول يعلى بن أمية : فلما كان النبي صلى الله عليه وسلم بالجعرانة، وهي موضع بين مكة والطائف، اعتمر منه النبي عليه الصلاة والسلام في العام الثامن للهجرة بعد أن انتهى من موقعة هوازن، وهي أقرب إلى مكة منها إلى الطائف كما قال أئمتنا، ولا خلاف بين العلماء قاطبة أنها بكسر الجيم واختلف بعد ذلك المحدثون واللغويون وأهل المدينة وأهل العراق فيما زاد على هذا الضبط، فالمحدثون وأهل المدينة يضبطونها بإسكان العين وتخفيف الراء مع كسر الجيم، وهذا بالاتفاق، وأما اللغويون وأهل العراق فيكسرون العين ويشددون الراء، وهكذا لفظ الحديبية، فيخففها المحدثون وأهل المدينة ولا يثقلون، واللغويون وأهل العراق يشددون الياء، واللفظان صحيحان، وليس واحد منهما كما قال أئمتنا بلحن أو بخطأ، لكن هذا ضبط المحدثين وأهل المدينة، وهذا ضبط اللغويين وأهل العراق.

فلما كان النبي عليه الصلاة والسلام بالجعرانة، وعليه ثوب قد أظل به عليه الصلاة والسلام من شدة الحر جاءه رجل متضمخ بطيب (فقال: يا رسول الله! كيف تراه؟) أي: كيف ترى في رجل أحرم في جبة بعدما تضمخ بالطيب؟ أي: عندما أحرم لبس جبته ولبس عباءته وما تجرد من المخيط، ولبس لباس الإحرام، وزاد على ذلك أنه متضمخ بطيب، (كيف ترى في رجل أحرم في جبة بعدما تضمخ بالطيب؟ فنظر النبي صلى الله عليه وسلم ساعة) أي: وقتاً وبرهة وزمناً يسيراً، (ثم سكت، فجاءه الوحي)، وطبيعته كما تقدم معنا عليه الصلاة والسلام إذا جاءه الوحي يعتريه الكرب والشدة، ويتغير وجهه عليه الصلاة والسلام، يقول يعلى : (فجاءه الوحي، فأشار عمر إلي وناداني، فقال: تعال أقبل جاء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول يعلى بن أمية : فأدخلت رأسي، أي: في هذا الثوب الذي ظلل به النبي عليه الصلاة والسلام لأنظر إليه نظراً خاصاً، فإذا هو محمر الوجه عليه الصلاة والسلام يغط -أي: يخرج منه صوت كحال النائم عندما يخرج منه شخير عليه صلوات الله وسلامه- كذلك ساعة، ثم سري عنه، أي: ذهب عنه الوحي عليه صلوات الله وسلامه وانكشف، فقال: أين الذي سألني عن العمرة آنفاً؟ )، أي: أحرم في جبة بعدما تضمخ بطيب، (أما الطيب الذي بك فاغسله ثلاث مرات، وأما الجبة فانزعها -يعني: والبس لباس الإحرام- ثم اصنع في عمرتك كما تصنع في حجك)، والحديث دليل لما ذهب إليه الإمام الشافعي ومعه جم غفير من أئمة الإسلام إلى أن من كان في النسك حجاً كان أو عمرة ولبس المخيط جاهلاً أو ناسياً أو طيب نفسه جاهلاً أو ناسياً ثم تذكر أو علم فلا شيء عليه، إنما يصحح وضعه، فإذا تطيب يغسله ثلاث مرات بحيث يزول الأثر، وإذا لبس المخيط ينزعه، وتأتينا المسألة في أحكام الحج عند هذا الحديث إن شاء الله، وسنتكلم حولها بعون الله جل وعلا.

الشاهد: أنه سأل النبي عليه الصلاة والسلام عن رجل أحرم بحج، وعندما أحرم لبس الجبة وتضمخ بطيب فماذا عليه؟ والنبي عليه الصلاة والسلام ما أوحي إليه بهذا الحكم قبل ذلك، (فنظر ثم سكت، فجاءه الوحي، فاحمر وجهه عليه الصلاة والسلام، فبدأ يغط ويسمع له صوت شخير، ثم عندما سري عنه قال: أين السائل عن العمرة؟ أما الطيب فاغسله ثلاث مرات، وأما الجبة فانزعها، ثم اصنع في عمرتك كما تصنع في حجك)، إن هذا دليل واضح على أن سنة النبي عليه الصلاة والسلام وحي ينزل عليه كالقرآن، لكن لا تتلى كما يتلى كلام الرحمن جل وعلا.

ولذلك فإن حُكم ما حكم به النبي عليه الصلاة والسلام يعدل ما ورد في القرآن من أحكام، بل نقل الإمام ابن كثير في مقدمة تفسيره في الجزء الأول صفحة: (3) عن الشافعي أنه قال: كل ما حكم به رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو مما فهمه من القرآن، ومما أوحي به إليه.

الحديث الأول: رواه الإمام أحمد في المسند، ومسلم في صحيحه، وعبد الرزاق في مصنفه، والحديث مروي أيضاً في السنن، وفي سنن الإمام البيهقي ، ومنتقى ابن الجارود ، ورواه الإمام الطحاوي في شرح معاني الآثار، ولفظ الحديث عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحي كرب )، أي: اعتراه شدة وكرب ومشقة، إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا [المزمل:5]، وكان عليه الصلاة والسلام إذا نزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد يتفصد جبينه من العرق عليه صلوات الله وسلامه.

فيقول عبادة بن الصامت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أنزل عليه الوحي كرب بذلك وتربد وجهه )، (وتربد)، أي: اعترى وجهه شيء من التغير الذي يميل إلى التغبر، كأنه اغبر وجهه عليه الصلاة والسلام من أثر الشدة التي يعانيها.

يقول: (فأنزل عليه الوحي ذات يوم فلقي كذلك)، أي: رؤي بهذه الحالة عليه، أي كرب عليه صلوات الله وسلامه، وتربد وجهه، أي: تغير.

(فلما سري عنه)، أي: ذهب عنه الوحي، وعاد إلى طبيعته عليه صلوات الله وسلامه قال: (خذوا عني، خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلاً)، كان الصحابة ينتظرون السبيل الذي أشار إليه ربنا الجليل في سورة النساء: وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا [النساء:15]، ما هو السبيل؟ فلما نزل عليه الوحي وكرب عليه صلوات الله وسلامه، وتربد وجهه، فلما سري عنه نطق بما أوحي إليه في تلك الساعة فقال: (خذوا عني خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلاً: الثيب بالثيب جلد مائة، ثم رجم بالحجارة، والبكر بالبكر جلد مائة ثم نفي سنة).

وهذا الحديث سيأتينا ضمن أحاديث سنن الترمذي عند حد الزنا إن شاء الله.

إذاً: لما أنزل عليه الوحي نزل بهذا الحكم الذي هو حديث بينه لنا نبينا عليه الصلاة والسلام فيمن وقع في جريمة الزنا نسأل الله أن يصون أعراضنا بفضله ورحمته.

والحديث الثاني: رواه الإمام أحمد في المسند، وأخرجه الشيخان -البخاري ومسلم - في صحيحيهما، ورواه أهل السنن الأربعة باستثناء ابن ماجه ، وهو في موطأ الإمام مالك أيضاً، والحديث في أعلى مراتب الصحة لإخراج الشيخين البخاري ومسلم له، عن يعلى بن أمية أنه قال لـعمر بن الخطاب رضي الله عنهم أجمعين: ليتني أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ينزل عليه الوحي، وفي رواية قال: ليتني أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين يوحى إليه، أريد أن تريني فأنت من خواص النبي عليه الصلاة والسلام، اجتماعاتك به كثيرة ومصاحبتك له دائمة، فإذا نزل عليه الوحي أخبرني بذلك لأنظر إليه في حال نزول الوحي، يقول يعلى بن أمية : فلما كان النبي صلى الله عليه وسلم بالجعرانة، وهي موضع بين مكة والطائف، اعتمر منه النبي عليه الصلاة والسلام في العام الثامن للهجرة بعد أن انتهى من موقعة هوازن، وهي أقرب إلى مكة منها إلى الطائف كما قال أئمتنا، ولا خلاف بين العلماء قاطبة أنها بكسر الجيم واختلف بعد ذلك المحدثون واللغويون وأهل المدينة وأهل العراق فيما زاد على هذا الضبط، فالمحدثون وأهل المدينة يضبطونها بإسكان العين وتخفيف الراء مع كسر الجيم، وهذا بالاتفاق، وأما اللغويون وأهل العراق فيكسرون العين ويشددون الراء، وهكذا لفظ الحديبية، فيخففها المحدثون وأهل المدينة ولا يثقلون، واللغويون وأهل العراق يشددون الياء، واللفظان صحيحان، وليس واحد منهما كما قال أئمتنا بلحن أو بخطأ، لكن هذا ضبط المحدثين وأهل المدينة، وهذا ضبط اللغويين وأهل العراق.

فلما كان النبي عليه الصلاة والسلام بالجعرانة، وعليه ثوب قد أظل به عليه الصلاة والسلام من شدة الحر جاءه رجل متضمخ بطيب (فقال: يا رسول الله! كيف تراه؟) أي: كيف ترى في رجل أحرم في جبة بعدما تضمخ بالطيب؟ أي: عندما أحرم لبس جبته ولبس عباءته وما تجرد من المخيط، ولبس لباس الإحرام، وزاد على ذلك أنه متضمخ بطيب، (كيف ترى في رجل أحرم في جبة بعدما تضمخ بالطيب؟ فنظر النبي صلى الله عليه وسلم ساعة) أي: وقتاً وبرهة وزمناً يسيراً، (ثم سكت، فجاءه الوحي)، وطبيعته كما تقدم معنا عليه الصلاة والسلام إذا جاءه الوحي يعتريه الكرب والشدة، ويتغير وجهه عليه الصلاة والسلام، يقول يعلى : (فجاءه الوحي، فأشار عمر إلي وناداني، فقال: تعال أقبل جاء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول يعلى بن أمية : فأدخلت رأسي، أي: في هذا الثوب الذي ظلل به النبي عليه الصلاة والسلام لأنظر إليه نظراً خاصاً، فإذا هو محمر الوجه عليه الصلاة والسلام يغط -أي: يخرج منه صوت كحال النائم عندما يخرج منه شخير عليه صلوات الله وسلامه- كذلك ساعة، ثم سري عنه، أي: ذهب عنه الوحي عليه صلوات الله وسلامه وانكشف، فقال: أين الذي سألني عن العمرة آنفاً؟ )، أي: أحرم في جبة بعدما تضمخ بطيب، (أما الطيب الذي بك فاغسله ثلاث مرات، وأما الجبة فانزعها -يعني: والبس لباس الإحرام- ثم اصنع في عمرتك كما تصنع في حجك)، والحديث دليل لما ذهب إليه الإمام الشافعي ومعه جم غفير من أئمة الإسلام إلى أن من كان في النسك حجاً كان أو عمرة ولبس المخيط جاهلاً أو ناسياً أو طيب نفسه جاهلاً أو ناسياً ثم تذكر أو علم فلا شيء عليه، إنما يصحح وضعه، فإذا تطيب يغسله ثلاث مرات بحيث يزول الأثر، وإذا لبس المخيط ينزعه، وتأتينا المسألة في أحكام الحج عند هذا الحديث إن شاء الله، وسنتكلم حولها بعون الله جل وعلا.

الشاهد: أنه سأل النبي عليه الصلاة والسلام عن رجل أحرم بحج، وعندما أحرم لبس الجبة وتضمخ بطيب فماذا عليه؟ والنبي عليه الصلاة والسلام ما أوحي إليه بهذا الحكم قبل ذلك، (فنظر ثم سكت، فجاءه الوحي، فاحمر وجهه عليه الصلاة والسلام، فبدأ يغط ويسمع له صوت شخير، ثم عندما سري عنه قال: أين السائل عن العمرة؟ أما الطيب فاغسله ثلاث مرات، وأما الجبة فانزعها، ثم اصنع في عمرتك كما تصنع في حجك)، إن هذا دليل واضح على أن سنة النبي عليه الصلاة والسلام وحي ينزل عليه كالقرآن، لكن لا تتلى كما يتلى كلام الرحمن جل وعلا.

ولذلك فإن حُكم ما حكم به النبي عليه الصلاة والسلام يعدل ما ورد في القرآن من أحكام، بل نقل الإمام ابن كثير في مقدمة تفسيره في الجزء الأول صفحة: (3) عن الشافعي أنه قال: كل ما حكم به رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو مما فهمه من القرآن، ومما أوحي به إليه.

حكم النبي عليه الصلاة والسلام يعدل ما في القرآن من أحكام، وقد كان سلفنا الكرام يهتمون بهذا الأمر ويلفتون إليه الأذهان.

قصة ابن مسعود في بيان أن السنة وحي كالقرآن

ثبت في المسند والكتب الستة: الصحيحين والسنن الأربع من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: (لعن الله الواشمات والمستوشمات، والنامصات والمتنمصات، والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله)، فجاءت إليه امرأة من بني أسد يقال لها أم يعقوب فقالت: يا بن مسعود ! كيف تلعن من فعل هذا؟ قال: ما لي لا ألعن من لعنه رسول الله عليه الصلاة والسلام، وهو في كتاب الله؟! كأن ابن مسعود يقول لها: إن النبي عليه الصلاة والسلام لعن، وأخبر أن الله لعن النامصة والمتنمصة والواشمة والمستوشمة والمتفلجات للحسن اللاتي يغيرن خلق الله، وهذا الأمر منصوص عليه في القرآن، فقالت أم يعقوب : لقد قرأت ما بين لوحي المصحف فما وجدت فيه ذلك، والنامصة هي التي تزيل شعر الوجه، ترقق الحاجبين، وتنتف شيئاً من شعر وجهها، والمتنمصة هي التي تطلب من غيرها أن يفعل هذا بها.

وأما الواشمة فهي التي تغرز إبرة بشيء من زينة أو حبرٍ أو صفرة أو زرقة أو غير ذلك ثم تغرسها في الجلد من أجل أن تتجمد تحت الجلد، ويصبح بعد ذلك نقاط ورسمات معينة.

والمتفلجة للحسن التي تأخذ المبرد إذا صارت عجوزاً، لكي ترقق أسنانها، فإن المرأة إذا كبرت التصقت أسنانها ببعض، فإذا أرادت أن تظهر أنها صبية فتية تأتي فتباعد ما بين الأسنان، فترققها وتبردها لتظهر الحسن بذلك، هذه هي المتفلجة، من الفلج وهو المباعدة.

فقالت المرأة: كيف تلعن هؤلاء؟ فقال عبد الله بن مسعود : هؤلاء لعنهن رسول الله عليه الصلاة والسلام، ولعنتهن مذكورة في القرآن، فقالت أم يعقوب : كيف تقول: إن الله لعن هؤلاء، وأنا قرأت ما بين لوحي المصحف من أوله إلى آخره، فما وجدت أن الله لعن نامصة ولا متنمصة، ولا متفلجة ولا واشمة؟ فقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: لو قرأتيه لوجدتِ ذلك فيه، قالت: وأين ذاك؟ قال: أما قرأتِ قول الله عز وجل: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر:7]؟ قالت: بلى! قال: فرسول الله عليه الصلاة والسلام لعن من فعل هذا، فإذاً من لعنه رسول الله عليه الصلاة والسلام كأنما لعنته ذكرت في القرآن؛ لأن الله قال لنا: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر:7].

فقالت أم يعقوب : يا عبد الله ! بلغني أن أهل بيتك يفعلون هذا، أي: زوجتك، تفعل النمص، والوشم! فقال عبد الله : ادخلي فانظري أيوجد فيها نمص أو وشم، أو تباعد ما بين أسنانها، فدخلت وخرجت فلم تر شيئاً، فقال عبد الله بن مسعود : لو فعلت ذلك لما جامعتها، لأنها ترتكب كبيرة، وتحصل لعنة، ومثل هذه لا يصلح أن تعاشر، بل تطلق وتفارق، ولا خير في صحبتها.

إذاً: عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يقول: هذه السنة مذكورة في القرآن، مع أنها ما ذكرت بهذا اللفظ، لكن بما أن القرآن قال لنا: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ [الحشر:7]، فما حكم به النبي عليه الصلاة والسلام فهو حق ووحي، إذاً: هذه اللعنة كأنه نص عليها في القرآن.

قصة الشافعي في بيان أن السنة كالوحي

ورحمة الله على الإمام الشافعي الذي أشار إلى هذا المعنى في قصة وردت في السنن الكبرى للإمام البيهقي في الجزء الخامس صفحة: (212) في كتاب الحج في باب: ما للمحرم قتله من دواب البر في الحل والحرم، ورواها الإمام البيهقي أيضاً في كتاب مناقب الإمام الشافعي .

وخلاصة القصة: أن الإمام الشافعي عليه رحمة الله عندما حج وجلس في فناء زمزم قال: سلوني، فلا تسألوني عن شيء إلا نبأتكم عنه بكتاب الله جل وعلا وبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا تسألوني عن شيء إلا أجيبكم عنه بالكتاب والسنة، فقام بعض المتنطعين الذين يريدون أن يحرجوا هذا الإمام الكبير، فقال: أخبرنا عن قتل الزنبور إذا قتله المحرم، والزنبور بضم الزاي، ذباب لساع وهو معروف يزيد على النحلة في الحجم، وإذا طار له صوت، وإذا لدغ الإنسان فلدغته فوق لدغة النحلة ودون لدغة العقرب، كأن الرجل يقول: هاتِ آية وحديثاً في الجواب على هذا السؤال، وأنت تقول: سلوني، ما تسألوني عن شيء إلا نبأتكم عنه بكتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام.

فتبسم الإمام عليه رحمة الله وقال: قال الله تعالى: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر:7]، لكن لا يوجد في السنة جواب لحكم هذه القصة، ثم قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر)، وقد حكم عمر رضي الله عنه بأن المحرم يجوز له أن يقتل الزنبور، وليس عليه إثم ولا فدية، وبناء عليه فقضاء عمر من قضاء رسول الله عليه الصلاة والسلام، وقضاء رسول الله عليه الصلاة والسلام من قضاء الله.

وهذا الحديث الذي استدل به الإمام الشافعي عليه رحمة الله: (اقتدوا باللذين من بعدي )، حديث صحيح، كنت ذكرته في موعظة سابقة رواه الإمام أحمد والترمذي ، وسيأتينا في السنن إن شاء الله، ورواه الإمام ابن ماجه والحاكم في المستدرك وأبو نعيم في الحلية وإسناده صحيح كالشمس، من رواية حذيفة بن اليمان ، وروي عن غيره من الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين، أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (لا أدري ما بقائي فيكم، فاقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر)، وبينت هناك أن منزلة أبي بكر وعمر من النبي عليه الصلاة والسلام كمنزلة السمع والبصر، كما ورد هذا في معجم الطبراني الكبير من رواية عبد الله بن عمرو ، ورواه الترمذي والحاكم في المستدرك من رواية عبد الله بن حنطب ، والحديث صحيح عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال عندما رأى هذين الصحابيين المباركين أبا بكر وعمر قال: (هذان السمع والبصر).

وورد في تاريخ بغداد بإسناد صحيح من رواية جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ( أبو بكر وعمر من هذا الدين كمنزلة السمع والبصر من الرأس)، أي: لهما منزلة في دين الله كمنزلة السمع والبصر من الرأس، فإذا فقد الإنسان سمعه وبصره فكأنه فقد عقله، وليس بإمكانه أن يفهم ولا أن ينتهض، لا عن طريق الإشارة ولا العبارة، بل يرفع القلم عنه، حكمه كحكم من يفقد عقله تماماً، فإذاً: ماذا يستفيد الرأس من بقية الجوارح إذا فقد سمعه وبصره، وهكذا أبو بكر وعمر في هذا الدين كالسمع والبصر لرأس الإنسان الحي.


استمع المزيد من الشيخ عبد الرحيم الطحان - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح الترمذي - باب الاستتار عند الحاجة، والاستنجاء باليمين، والاستنجاء بالحجارة [4] 4045 استماع
شرح الترمذي - باب ما جاء في فضل الطهور [6] 3979 استماع
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [9] 3906 استماع
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [46] 3793 استماع
شرح الترمذي - مقدمات [8] 3787 استماع
شرح الترمذي - باب مفتاح الصلاة الطهور [2] 3771 استماع
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [18] 3570 استماع
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [24] 3486 استماع
شرح الترمذي - باب ما يقول إذا خرج من الخلاء [10] 3465 استماع
شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [59] 3418 استماع