خطب ومحاضرات
/home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
Warning: Trying to access array offset on value of type null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
/audio/122"> الشيخ عبد الرحيم الطحان . /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
Warning: Trying to access array offset on value of type null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
/audio/122?sub=8329"> سلسلة مباحث النبوة
Warning: Undefined array key "Rowslist" in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 70
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 70
مباحث النبوة - النكاح مفتاح الغنى [2]
الحلقة مفرغة
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة الطيبين وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً، سهل علينا أمورنا، وعلمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الراحمين، اللهم زدنا علماً نافعاً، وعملاً صالحاً بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين، سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك، سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك، اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
إخوتي الكرام! لا زلنا نتدارس مقاصد النكاح، ولعلها تكون هذه آخر موعظة في هذا الموضوع، وننتقل بعد ذلك إلى ما بعده إن شاء الله، وقد تقدم معنا أن مقاصده الأساسية وحكمه البارزة خمس:
أولها: تحصين النفس البشرية من كل آفة ردية، سواء كانت حسية أو معنوية.
وثانيها: إنجاب الذرية التي تعبد وتوحد رب البرية.
وثالثها: تحصيل الأجر للزوجين عن طريق حسن عشرة كل منهما لصاحبه، ومساعدته أيضاً في نفقته.
ورابع المقاصد: تذكر لذة الآخرة.
وخامس المقاصد وهو ما كنا نتدارسه: ارتفاق كل من الزوجين بصاحبه وبأهل صاحبه وقرابته.
إخوتي الكرام! الأمر الخامس قلت: سأقرره بخمس آيات، وقد تدارسنا أربع آيات، ونحن نتدارس الآية الخامسة الأخيرة في هذا الموضوع، ألا وهي قول الله عز وجل: وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [النور:32]، وقد تقدم معنا أن هذه الآية فيها عِدة كريمة من رب كريم بإغناء المتزوجين، وقلت: هذا المعنى هو الذي دلت عليه آيات القرآن العظيم، ووردت به أحاديث نبينا الأمين عليه الصلاة والسلام، وهو ما نقل عن سلفنا الطيبين، وهو المقرر في كتب أئمتنا المفسرين، هذا انتهينا منه، وقررت هذه الدلالات.
ثم استعرضت قولين ضعيفين مرجوحين: الأول قاله ابن المنير وذهب إليه الإمام الرازي عليهم جميعاً رحمة الله: أنه ليس في هذه الآية عدة بإغناء المتزوجين، إنما لما ركز في الطباع بأن النكاح مانع من الغنى لكثرة ما يتحمله المتزوج من نفقات وتبعات، أراد الله أن ينفي هذا الوهم، فأراد أن يخبر بأن النكاح لا يمنع من الغنى، فعندما أراد أن ينفي هذا المعنى دل عليه بهذه الصورة، وهو وجود الغنى مع النكاح، والمقصود أصالة نفي الفقر بالنكاح، أي: أنه لا يمكن أن يفتقر الإنسان إذا تزوج، وإذا قدر له الغنى سيأتيه الغنى، سواء كان متزوجاً أو لا، وتقدم معنا أن هذا القول مردود لما تقدم معنا من الأدلة والآثار.
والقول الثاني تقدم معنا أنه قال به الإمام الثعلبي عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا، وخلاصته: أن الله وعد المتزوج بالغنى كما وعد العزب بالغنى، يقول: فإن قيل: فما الفارق إذن؟ يعني لماذا ذكر وعد الله بإغناء المتزوجين وهذا حاصل لغيرهم؟ قال: من أجل أن الإنسان إذا لم يتيسر له الزواج وكان عزباً فليستعفف حتى يغنيه الله من فضله، وإذا طلب الزواج وهو فقير فما ينبغي للمرأة ولا لأهلها أن يمنعوه لفقره، فهو يستعفف ويصبر ويأمل الغنى من فضل الله، وإذا خطب يزوج ولا يمنعهم فقره من تزويجه، ويأملون الغنى من فضل الله، وقلت: هذا القول مع أنه أقل في البعد من القول الذي قبله، لكن ظواهر ما تقدم معنا يرده، ولذلك قال الإمام الألوسي عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا في روح المعاني في الجزء الثامن عشر صفحة تسع وأربعين ومائة عند تفسير هذه الآية الكريمة: ولا يخفي عليك أن الأخبار الدالة على وعد الناكح بالغنى كثيرة، ولم نجد في وعد العزب الذي ليس بصدد النكاح من حيث هو كذلك خبراً، ما ورد خبر بأنه إذا كان عزباً سيضمن له من المعونة والرعاية والعناية والتوفيق كما هو الحال في حق المتزوج الفقير والعلم عند الله الجليل.
إخوتي الكرام! هذا كله تقدم معنا، وسأختم الكلام على هذه المسألة بأسباب حصول الغنى للمتزوج، هذه الأسباب متنوعة متعددة كلها تقرر هذا الأمر، أعني: أن كل واحد من الزوجين يرتفق بزوجه، وبما يترتب على مصاحبته لصاحبه من غنى في هذه الحياة.
من أسباب غنى المتزوجين اهتمام الزوج بالكسب وجده في تحصيل الرزق بعد الزواج
ولذلك كان أئمتنا يقولون: الزواج قيد للرجال. والإنسان قبل زواجه يكثر التطواف والأسفار، ويذهب إلى هذه الديار وتلك، فإذا تزوج استقر في الدار التي تزوج فيها، ويبتعد عن الذهاب والإياب، الزواج قيد للرجال، ولا يقوى عليه البطال, البطال يحب دائماً أن يتجول هنا وهناك، إما لأنه لا يريد أن يتحمل مئونة الزواج، ولا يريد الفساد أيضاً، لكن يقول: أصبر على عناء العزوبة وضغطها ولا أريد الزواج، وإما أنه يريد الفساد ولا يريد أن يتحمل مسئولية فتح بيت وإنجاب ذرية، همه أن يعيث فساداً هنا وهناك نسأل الله العافية. وقد كان أئمتنا يدركون هذا المعنى، وهذا الأمر مما هو مركوز في فطر الخلق أجمعين.
يذكر أئمتنا في ترجمة العبد الصالح معمر بن راشد ، وهو شيخ الإسلام أبو عروة معمر بن راشد البصري من بلاد البصرة من جهة العراق، ذهب إلى اليمن لأجل تحصيل العلم وطلبه فأعجب به أهل اليمن وأحبوه، وما أرادوا أن يفارقهم، فبدءوا يتشاورون فيما بينهم كيف يجعلونه يستقر عندهم؟ فقال بعض الشيوخ الكبار: قيدوه، قالوا: بأي شيء نقيده؟ قال: زوجوه، إذا تزوج سيستقر عندكم ولن يفارق دياركم، وكان كذلك، حتى توفي في بلاد اليمن سنة ثلاث وخمسين ومائة، وحديثه في الكتب الستة، وقد نعته الإمام الذهبي في السير في الجزء السابع صفحة خمس، وترجمته أول ترجمة في الجزء السابع، قال: إنه شيخ الإسلام أبو عروة البصري نزيل اليمن، وقد شهد جنازة الحسن البصري عليهم جميعاً رحمة الله، فهو من أتباع التابعين الكبار، وطلب العلم وهو حدث، وكان من أوعية العلم مع الصدق والتحري والورع والجلالة وحسن التصنيف، قال الإمام أحمد : لست تضم معمراً إلى أحد إلا وجدته فوقه، أي إذا قارنته بغيره من الرواة وجدته فوقه، وقال الإمام العجلي : ثقة رجل صالح بصري سكن صنعاء وتزوج بها، قال العجلي : ولما دخلها كرهوا أن يخرج من بين أظهرهم، فقال لهم شيخ: قيدوه، فقيدوه عن طريق تزويجه فاستقر عندهم، قال الحافظ في التقريب: هو فقيه ثبت فاضل، وكما قلت: توفي في سنة ثلاث وخمسين ومائة كما في سير أعلام النبلاء، والحافظ ابن حجر يقول: سنة أربع وخمسين ومائة، ولعل واحداً منهما جبر الكسر والآخر ألغاه والعلم عند الله جل وعلا.
إذن: الزواج قيد، والإنسان إذا تزوج يشعر بالمسئولية، وبالتالي سيتحرك من أجل تحصيل الرزق، ويجد ويجتهد، وأئمتنا كانوا يشيرون إلى هذا فيقولون:
إن ذئباً أمسكوه وتماروا في عقابه
قال شيخ زوجوه ودعوه في عذابه
اختلفوا بأي شيء يعاقبونه؟ فقال أكبر القوم: زوجوه، وإذا زوجتموه فهذه أكبر عقوبة له، ودعوه في عذابه، خلوه يعاني ما يعاني ويقاسي ما يقاسي من نفقة وإنجاب أولاد ورعاية لهم، ونحو ذلك، فهذه كلها تحتاج حقيقة إلى جهد، وأنا لما كنت أذكر هذين البيتين كنت أقول:
إن ذئباً أمسكوه وتماروا في عقابه
قال شيخ زوجوه وخلصوه من عذابه
لأن الإنسان إذا تزوج يتحمل شيئاً من العناء والجهد والتعب الظاهري البدني، لكنه يجد ما قال الله تعالى: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً [الروم:21] ، وقال تعالى: وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [الذاريات:49]، وتقدم معنا أن الزوجين كل واحد منهما للآخر كاليدين للبدن، وكالعينين للإنسان، وكالأذنين له، وكالرجلين له، لو فقد إحدى الرجلين تعطل عن المشي، أو إحدى اليدين تعطل أيضاً عن مزاولة الحاجات على وجه التمام.. وهكذا.
فهذا لا بد من مراعاته، أما أن يوجد في الدنيا لذة لا تنغيص فيها، فهذا لا يمكن أبداً، حتى الطعام فإننا نتعب في تحصيله ونتعب في هضمه وأكله ونتعب في إخراجه، هذا لا بد منه، لا يوجد في الدنيا لذة كاملة، إنما لذاتها مشوبة بالنقص والتنغيص والعكر والكدر، واللذات الكاملة إنما تكون في دار الكمال بجوار ذي العزة والجلال في الجنة، كما تقدم معنا ذكر نقص هذه اللذة في مدارسة هذا الأمر في أول المبحث، وذكرت الأمور العشرة في بيان امتهان هذه اللذة، ووجود النقص فيها، وأنها لا تكون على وجه الكمال إلا في الآخرة في دار كرامة الله جل وعلا.
هذا هو الأمر الأول، وهو سبب عادي لتحصيل الرزق، فالإنسان إذا تزوج لا بد أن يقوم بالعمل، لأنه صار يشعر بالمسئولية.
إخوتي الكرام! الإمام الذهبي عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا في ترجمة معمر بن راشد في السير ذكر كلاماً ينبغي أن نذكر به أنفسنا جميعاً، يقول عليه رحمة الله في الجزء السابع صفحة سبع عشرة: قال عبد الرزاق : أنبأنا معمر ، قال: كان يقال: إن الرجل يطلب العلم لغير الله فيأبى عليه العلم حتى يكون لله. ونقل أيضاً عن معمر أنه قال: لقد طلبنا هذا الشأن وما لنا فيه نية، ثم رزقنا الله النية من بعد. وحقيقة الإنسان في أول أمره قد يكون عنده شيء من التخليط في نيته عند طلبه، قد يتطلع للدنيا للحظوة للمنزلة لحطام الدنيا، لهذه الرعونات والآفات، لكن إذا طلب العلم الشرعي سيكسره هذا العلم ويذكره بالله، فتراه بعد ذلك يصحح نيته ويقبل على الله عز وجل، مع أنه عندما دخل كان هناك شيء من الشوائب.
يقول الذهبي : قلت: نعم يطلبه أولاً والحامل له حب العلم، وهذا كما يقول كثير من الناس: اطلب العلم للعلم! لا, بل نطلب العلم لله عز وجل، لا للعلم ولا للجهل، لا نطلبه إلا إرضاء لله عز وجل، فلا نطلب العلم من أجل أن نعلمه فقط، بل من أجل أن نتقرب إلى الله عز وجل، يقول: والحامل له حب العلم، وحب إزالة الجهل عنه، وحب الوظائف ونحو ذلك. هذا حال كثير من الناس، ونسأل الله أن يتوب علينا، ثم قال: ولم يكن علم وجوب الإخلاص فيه، ولا صدق النية، فإذا علم عندما يدرس هذه العلوم الشرعية، وتذكره بالله، حاسب نفسه، وخاف من وبال قصده، فتجيئه النية الصالحة كلها أو بعضها -هذا بعد أن سار في طلب العلم- وقد يتوب من نيته الفاسدة ويندم، وعلامة ذلك أنه يقصر من الدعاوى وحب المناظرة، ومن قصد التكثر بعلمه، ويزري على نفسه، فإن تكثر بعلمه أو قال: أنا أعلم من فلان فبعداً له، فإذا تعلم ليتشدق، وأنه لا يوجد أحد يساويه ولا يقرب منه فبعداً له. هذا حقيقة كلام ينبغي أن نذكر به أنفسنا جميعاً: أن النية قد لا تكون خالصة في البداية، لكن من طلب العلم الشرعي سيذكره بالله، فإذا تذكر تراه دائماً يوبخ نفسه، ويعترف بتقصيره، وأنه ما عنده من العلم إلا قليل، ولا يزري على فلان ولا على فلان، ونسأل الله أن يشغلنا بعيوبنا عن عيوب خلقه إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين، هذا السبب الأول.
من أسباب غنى المتزوجين مساعدة المرأة لزوجها في تحصيل الرزق
ويخبرني بعض إخواننا في بلاد الشام يقول: إنه تزوج امرأة قريبة له أيضاً مدرسة، يقول: إذا أخذت راتبها تأتي وتضعه في جيبه دون علمه، فإذا استيقظ وجد الفلوس في الجيب، فيقول: من أين هذا؟ فتقول: ما لي علاقة بهذا، أنا لا أستلم ريالاً واحداً، أنا الآن امرأة في بيت، لا يصلح أن يكون بين يدي فلوس، يقول: إن احتاجت بعد ذلك إلى ليرة واحدة إلى درهم فتطلب منه كأنه ليس لها مال، هذا موجود، وهو حقيقة ارتفاق، فالزوج قد ارتفق بها، وحصل خيراً بسببها: إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [النور:32]، هذا سبب ثان يحصل الإنسان بسببه الغنى.
من أسباب غنى الزوجين إرث الزوج من زوجته
أول هذه الأسباب: سبب عادي، وهو معروف عند البشر أجمعين: أن الإنسان إذا تزوج يصبح عنده مزيد اهتمام بالكسب، ويقوم بالجد على وجه التمام في السعي لتحصيل الرزق، هذا سبب عادي؛ لأنه يشعر بالمسؤولية، كان هو بمفرده، ولربما كان أيضاً مع أسرته مع أبويه وإخوته لا يكلف بشيء، لكن عندما استقل وصار له بيت، وهو قيم ومسئول، وصار عنده رعية، حتماً سيهتم لمصلحته ولمصلحتهم، ولذلك سيبحث عن تحصيل الرزق، وإذا تعرض لنفحات الله فتح الله عليه الرزق من حيث لا يحتسب.
ولذلك كان أئمتنا يقولون: الزواج قيد للرجال. والإنسان قبل زواجه يكثر التطواف والأسفار، ويذهب إلى هذه الديار وتلك، فإذا تزوج استقر في الدار التي تزوج فيها، ويبتعد عن الذهاب والإياب، الزواج قيد للرجال، ولا يقوى عليه البطال, البطال يحب دائماً أن يتجول هنا وهناك، إما لأنه لا يريد أن يتحمل مئونة الزواج، ولا يريد الفساد أيضاً، لكن يقول: أصبر على عناء العزوبة وضغطها ولا أريد الزواج، وإما أنه يريد الفساد ولا يريد أن يتحمل مسئولية فتح بيت وإنجاب ذرية، همه أن يعيث فساداً هنا وهناك نسأل الله العافية. وقد كان أئمتنا يدركون هذا المعنى، وهذا الأمر مما هو مركوز في فطر الخلق أجمعين.
يذكر أئمتنا في ترجمة العبد الصالح معمر بن راشد ، وهو شيخ الإسلام أبو عروة معمر بن راشد البصري من بلاد البصرة من جهة العراق، ذهب إلى اليمن لأجل تحصيل العلم وطلبه فأعجب به أهل اليمن وأحبوه، وما أرادوا أن يفارقهم، فبدءوا يتشاورون فيما بينهم كيف يجعلونه يستقر عندهم؟ فقال بعض الشيوخ الكبار: قيدوه، قالوا: بأي شيء نقيده؟ قال: زوجوه، إذا تزوج سيستقر عندكم ولن يفارق دياركم، وكان كذلك، حتى توفي في بلاد اليمن سنة ثلاث وخمسين ومائة، وحديثه في الكتب الستة، وقد نعته الإمام الذهبي في السير في الجزء السابع صفحة خمس، وترجمته أول ترجمة في الجزء السابع، قال: إنه شيخ الإسلام أبو عروة البصري نزيل اليمن، وقد شهد جنازة الحسن البصري عليهم جميعاً رحمة الله، فهو من أتباع التابعين الكبار، وطلب العلم وهو حدث، وكان من أوعية العلم مع الصدق والتحري والورع والجلالة وحسن التصنيف، قال الإمام أحمد : لست تضم معمراً إلى أحد إلا وجدته فوقه، أي إذا قارنته بغيره من الرواة وجدته فوقه، وقال الإمام العجلي : ثقة رجل صالح بصري سكن صنعاء وتزوج بها، قال العجلي : ولما دخلها كرهوا أن يخرج من بين أظهرهم، فقال لهم شيخ: قيدوه، فقيدوه عن طريق تزويجه فاستقر عندهم، قال الحافظ في التقريب: هو فقيه ثبت فاضل، وكما قلت: توفي في سنة ثلاث وخمسين ومائة كما في سير أعلام النبلاء، والحافظ ابن حجر يقول: سنة أربع وخمسين ومائة، ولعل واحداً منهما جبر الكسر والآخر ألغاه والعلم عند الله جل وعلا.
إذن: الزواج قيد، والإنسان إذا تزوج يشعر بالمسئولية، وبالتالي سيتحرك من أجل تحصيل الرزق، ويجد ويجتهد، وأئمتنا كانوا يشيرون إلى هذا فيقولون:
إن ذئباً أمسكوه وتماروا في عقابه
قال شيخ زوجوه ودعوه في عذابه
اختلفوا بأي شيء يعاقبونه؟ فقال أكبر القوم: زوجوه، وإذا زوجتموه فهذه أكبر عقوبة له، ودعوه في عذابه، خلوه يعاني ما يعاني ويقاسي ما يقاسي من نفقة وإنجاب أولاد ورعاية لهم، ونحو ذلك، فهذه كلها تحتاج حقيقة إلى جهد، وأنا لما كنت أذكر هذين البيتين كنت أقول:
إن ذئباً أمسكوه وتماروا في عقابه
قال شيخ زوجوه وخلصوه من عذابه
لأن الإنسان إذا تزوج يتحمل شيئاً من العناء والجهد والتعب الظاهري البدني، لكنه يجد ما قال الله تعالى: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً [الروم:21] ، وقال تعالى: وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [الذاريات:49]، وتقدم معنا أن الزوجين كل واحد منهما للآخر كاليدين للبدن، وكالعينين للإنسان، وكالأذنين له، وكالرجلين له، لو فقد إحدى الرجلين تعطل عن المشي، أو إحدى اليدين تعطل أيضاً عن مزاولة الحاجات على وجه التمام.. وهكذا.
فهذا لا بد من مراعاته، أما أن يوجد في الدنيا لذة لا تنغيص فيها، فهذا لا يمكن أبداً، حتى الطعام فإننا نتعب في تحصيله ونتعب في هضمه وأكله ونتعب في إخراجه، هذا لا بد منه، لا يوجد في الدنيا لذة كاملة، إنما لذاتها مشوبة بالنقص والتنغيص والعكر والكدر، واللذات الكاملة إنما تكون في دار الكمال بجوار ذي العزة والجلال في الجنة، كما تقدم معنا ذكر نقص هذه اللذة في مدارسة هذا الأمر في أول المبحث، وذكرت الأمور العشرة في بيان امتهان هذه اللذة، ووجود النقص فيها، وأنها لا تكون على وجه الكمال إلا في الآخرة في دار كرامة الله جل وعلا.
هذا هو الأمر الأول، وهو سبب عادي لتحصيل الرزق، فالإنسان إذا تزوج لا بد أن يقوم بالعمل، لأنه صار يشعر بالمسئولية.
إخوتي الكرام! الإمام الذهبي عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا في ترجمة معمر بن راشد في السير ذكر كلاماً ينبغي أن نذكر به أنفسنا جميعاً، يقول عليه رحمة الله في الجزء السابع صفحة سبع عشرة: قال عبد الرزاق : أنبأنا معمر ، قال: كان يقال: إن الرجل يطلب العلم لغير الله فيأبى عليه العلم حتى يكون لله. ونقل أيضاً عن معمر أنه قال: لقد طلبنا هذا الشأن وما لنا فيه نية، ثم رزقنا الله النية من بعد. وحقيقة الإنسان في أول أمره قد يكون عنده شيء من التخليط في نيته عند طلبه، قد يتطلع للدنيا للحظوة للمنزلة لحطام الدنيا، لهذه الرعونات والآفات، لكن إذا طلب العلم الشرعي سيكسره هذا العلم ويذكره بالله، فتراه بعد ذلك يصحح نيته ويقبل على الله عز وجل، مع أنه عندما دخل كان هناك شيء من الشوائب.
يقول الذهبي : قلت: نعم يطلبه أولاً والحامل له حب العلم، وهذا كما يقول كثير من الناس: اطلب العلم للعلم! لا, بل نطلب العلم لله عز وجل، لا للعلم ولا للجهل، لا نطلبه إلا إرضاء لله عز وجل، فلا نطلب العلم من أجل أن نعلمه فقط، بل من أجل أن نتقرب إلى الله عز وجل، يقول: والحامل له حب العلم، وحب إزالة الجهل عنه، وحب الوظائف ونحو ذلك. هذا حال كثير من الناس، ونسأل الله أن يتوب علينا، ثم قال: ولم يكن علم وجوب الإخلاص فيه، ولا صدق النية، فإذا علم عندما يدرس هذه العلوم الشرعية، وتذكره بالله، حاسب نفسه، وخاف من وبال قصده، فتجيئه النية الصالحة كلها أو بعضها -هذا بعد أن سار في طلب العلم- وقد يتوب من نيته الفاسدة ويندم، وعلامة ذلك أنه يقصر من الدعاوى وحب المناظرة، ومن قصد التكثر بعلمه، ويزري على نفسه، فإن تكثر بعلمه أو قال: أنا أعلم من فلان فبعداً له، فإذا تعلم ليتشدق، وأنه لا يوجد أحد يساويه ولا يقرب منه فبعداً له. هذا حقيقة كلام ينبغي أن نذكر به أنفسنا جميعاً: أن النية قد لا تكون خالصة في البداية، لكن من طلب العلم الشرعي سيذكره بالله، فإذا تذكر تراه دائماً يوبخ نفسه، ويعترف بتقصيره، وأنه ما عنده من العلم إلا قليل، ولا يزري على فلان ولا على فلان، ونسأل الله أن يشغلنا بعيوبنا عن عيوب خلقه إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين، هذا السبب الأول.
السبب الثاني: مساعدة المرأة له، هذا أيضاً من أسباب حصول الرزق، إذا تزوجت تأتي المرأة وتساعدك، قال الإمام الألوسي في روح المعاني في الجزء الثامن عشر صفحة تسع وأربعين ومائة: وهذا كثير في العرب وأهل القرى، فقد وجدنا فيهم من تكفيه امرأته أمر معاشه ومعاشها بشغلها. وحقيقة كما يقول الإمام الألوسي أنا أدركت هذا موجوداً في بلاد الشام في القرى بكثرة، إذا تزوج الإنسان فإن المزرعة من أولها لآخرها تقوم بها المرأة، والاحتطاب تقوم به المرأة، وإعداد الطعام تقوم به المرأة، فهي المسئولة عن كل شيء، وما عنده إلا أن أصل المال له، لكن التثمير هي التي تقوم به، وهي تقوم على الماشية وتحلبها وتنزلها إلى السوق وهي متحجبة لتبيعها.. وهكذا، يقول الإمام الألوسي عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا: هذا كثير في العرب وأهل القرى، وقد وجدنا فيهم من تكفيه امرأته أمر معاشه ومعاشها بشغلها، تشتغل فتكفي نفسها وتكفيه، وأنا أعرف بعض طلبة العلم من إخواننا ولا زال على قيد الحياة، كان طالباً، وكان بعد في مراحل الطلب، فتعرضت له بعض النساء عن طريق خطبة شرعية بواسطة محارمها من أجل أن يتزوجها، وهي كانت مدرسة، وهي أكبر منه، لكن هو طالب ما يملك شيئاً، فتزوجها، فبدأت تنفق عليه، وما كانت ادخرته جمعته من الرواتب أعطته أيضاً، فالرجل تحسنت حاله وظهرت عليه البهجة والنعيم والنضرة، ونحن بقينا على حالتنا عندما كنا في سن الطلب، وصار حاله -كما يقال- كذكر النحل، تنفق عليه هذه الزوجة، وتكرمه، وتحسن إليه، وليس في ذلك منقصة، إذا جاء الأمر عن طريق ما أحل الله فليس في ذلك منقصة، وهي تعمل في مهنة التدريس متحجبة تتقي الله وتصون عرضها وكرامتها، فلا حرج أيضاً، وهذا عندما تزوجها حقيقة ارتفق بها، وما كلفته من المهر درهما واحداً، بل قالت له: أنت إذا وافقت كل شيء يتم، وتم الأمر، نسأل الله أن يبارك لهما وللمسلمين أجمعين، فهذا يقع بكثرة.
ويخبرني بعض إخواننا في بلاد الشام يقول: إنه تزوج امرأة قريبة له أيضاً مدرسة، يقول: إذا أخذت راتبها تأتي وتضعه في جيبه دون علمه، فإذا استيقظ وجد الفلوس في الجيب، فيقول: من أين هذا؟ فتقول: ما لي علاقة بهذا، أنا لا أستلم ريالاً واحداً، أنا الآن امرأة في بيت، لا يصلح أن يكون بين يدي فلوس، يقول: إن احتاجت بعد ذلك إلى ليرة واحدة إلى درهم فتطلب منه كأنه ليس لها مال، هذا موجود، وهو حقيقة ارتفاق، فالزوج قد ارتفق بها، وحصل خيراً بسببها: إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [النور:32]، هذا سبب ثان يحصل الإنسان بسببه الغنى.