مباحث النبوة - أثاث بيت النبي


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد الصادق الأمين، ورضي الله عن الصحابة أجمعين، وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً، سهل علينا أمورنا، وعلمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الراحمين.

اللهم زدنا علماً نافعاً، وعملاً صالحاً، بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين.

سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك، سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك.

اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:

فلا زلنا نتدارس المبحث السادس من مباحث النبوة الذي يدور حول معرفة الأمور التي يعرف بها صدق النبي والرسول على نبينا وعلى جميع أنبياء الله ورسله صلوات الله وسلامه، وقلت: إن هذه الأمور كثيرة وفيرة يمكن أن يجدها الإنسان في أربع علامات:

العلامة الأولى: النظر إلى النبي عليه الصلاة والسلام في نفسه، في خلقه وخلقه.

والعلامة الثانية: النظر إلى دعوة النبي عليه الصلاة والسلام ورسالته التي بعث بها.

والعلامة الثالثة: النظر إلى المعجزات وخوارق العادات التي أيده الله بها وأكرمه.

والعلامة الرابعة: -وهي آخر العلامات- النظر إلى أصحابه الكرام، فالتلاميذ صورة لشيخهم ومربيهم على نبينا وعلى جميع أنبياء الله ورسله صلوات الله وسلامه.

وكنا نتدارس العلامة الأولى التي تدور حول النظر إلى النبي عليه الصلاة والسلام في نفسه، في خلقه وخلقه، وقلت: إن الله أعطى أنبياءه -على نبينا وعليهم جميعاً صلوات الله وسلامه- الكمال في الأمرين: في الخلق وفي الخلق، فمنحهم الجمال والجلال في خلقهم وفي أخلاقهم كما منحهم البهاء والملاحة.

وقد تقدم معنا ما يتعلق بالنظر إلى خلق النبي عليه الصلاة والسلام وفصلت الكلام على هذا وبينت وجه دلالة هذا الأمر على صدق نبينا عليه الصلاة والسلام في أنه رسول الله حقاً وصدقاً.

ثم بعد ذلك انتقلنا إلى مدارسة الأمر الثاني ألا وهو النظر إلى خلق النبي عليه الصلاة والسلام، وبعد أن بينت أن نبينا صلوات الله وسلامه عليه هو أكمل المخلوقات خلقاً فلابد من تحديد هذا بتفصيل دقيق، وقلت: إن خلقه عليه الصلاة والسلام ينقسم إلى خلق مع الحق جل وعلا، وإلى خلق مع الخلق، وأما خلقه مع الخلق فسنتدارسه ضمن عدة أمور لتتضح الصورة في أذهان الناس.

وهذا التفصيل ينبغي أن نتكلم على خلقه عليه الصلاة والسلام مع أهله في بيته، وعلى خلقه مع أصحابه وأمته، وعلى خلقه مع الملائكة الكرام على نبينا وعليهم الصلاة والسلام، وعلى خلقه مع أعدائه من شياطين الإنس والجن، وعلى خلقه مع الحيوانات، وعلى خلقه مع الجمادات.

فهذه من تأملها لم يرتب في أن نبينا عليه الصلاة والسلام هو رسول رب الأرض والسماوات حقاً وصدقاً.

وسنتدارس الأمر الأول من هذه الأمور السبعة ألا وهو: خلق نبينا عليه الصلاة والسلام مع أهله في بيته، وهذا الأمر ينبغي أن نجمله في أربعة أمور أيضاً:

أولها: فيما يتعلق بسكنه ومنزله وحجر نسائه عليه وعلى آل بيته جميعاً صلوات الله وسلامه.

الأمر الثاني: في الأثاث الذي يوجد في ذلك المسكن وتلك الحجر.

والأمر الثالث: الطعام الذي كان يتناول ويقدم في تلك الحجر ويأكله هو وأهله على نبينا وآل بيته صلوات الله وسلامه.

والأمر الرابع: كيف كان يتعامل نبينا عليه الصلاة والسلام مع أمهاتنا -أزواجه الطاهرات الطيبات- عليه وعلى آل بيته جميعاً صلوات الله وسلامه.

وتقدم معنا ما يتعلق بالأمر الأول من الأمور الأربعة ألا وهو: مسكن النبي عليه الصلاة والسلام، وهذا ثابت في صفة حجر نبينا عليه الصلاة والسلام وهي باختصار -كما تقدم معنا- حجره وهي لمن جعل هذه الدنيا ممراً ولم يتخذها مقراً.

وقلت: إنما فعل هذا اختياراً ليكتمل أجره ومنزلته ورفعة قدره عند ربه جل وعلا، فلا يؤثر أحد من الدنيا شيئاً إلا ونقص من درجته عند الله وإن كان عنده كبيراً، ونبينا عليه صلوات الله وسلامه آثر الآخرة على الدنيا بكل ما تحتمل هذه الجملة من معان، ولذلك عندما اختار ذلك المسكن والأثاث المتواضع -الذي سيأتينا بيان حاله- والطعام الذي هو بمقدار البلغة والضرورة، ثم بعد ذلك معاملته مع نسائه عليه وعلى آل بيته صلوات الله وسلامه، وهذه الاعتبارات كلها دليل على أنه رسول الله حقاً وصدقاً عليه صلوات الله وسلامه، وأنه آثر الآخرة على العاجلة، وما فعل ذلك من قلة ولا من بخل، فقد أعطاه الله وفتح عليه لكنه جاد به هنا وهناك، وكان يعطي عطاء من لا يخشى الفقر، ثم بعد ذلك هو وأهله عليهم جميعاً صلوات الله وسلامه يطوون الليل جياعاً.

وهذا الخلق الكريم الذي كان عليه نبينا الأمين عليه الصلاة والسلام ورثه أهل بيته الطيبين الطاهرين، وكنت ذكرت قصة واحدة من قصص أمهاتنا أزواج نبينا عليه وعليهن جميعاً صلوات الله وسلامه، وهي قصة أمنا عائشة رضي الله عنها، وبينت كيف كانت تجيئها الألوف المؤلفة، وإذا وصلت إليها تصدقت بها في جميع الجهات، فإذا حان وقت إفطارها أفطرت على خبز وزيت رضي الله عنها وأرضاها، وعندما عوتبت في ذلك وقيل لها: هلا تركتِ درهماً لنشتري به لحماً نفطر عليه؟ قالت لجاريتها: لا تعنفيني لو ذكرتيني لفعلت.

فهذا الخلق الذي كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم كان يتعهد أهل بيته دائماً في مراعاته والتقيد به، وبيت النبوة لا ينبغي أن يكون فيه رائحة الدنيا.

ولذلك قبل أن أنتقل إلى وصف أثاث نبينا عليه الصلاة والسلام في بيوته وحجره أحب أن أذكر قصتين فقط فيما يتعلق بتوجيهه لأكرم الخلق عليه من أهله وأسرته إنها بضعته الطاهرة فاطمة رضي الله عنها وأرضاها، فانظر إلى التوجيه الذي كان يتعهدها به نبينا عليه صلوات الله وسلامه.

حديث ابن عمر في نهي النبي ابنته فاطمة من اتخاذ ستر موشى في بيتها

ثبت في المسند وصحيح البخاري وسنن أبي داود وكتاب تركة النبي عليه الصلاة والسلام لـحماد بن إسحاق : عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى بيت فاطمة رضي الله عنها وأرضاها فوجد على بابها ستراً موشياً ) هكذا ضبط في اللغة بفتح الميم، وكذلك في الحديث في صحيح البخاري وهكذا في سنن أبي داود ولكن الكتب التي نقلت من هذين الكتابين ضبطوه هكذا: موشياً بضم الميم، من الوشي وهو النقش، وثوب موشى إذا كان منقوشاً مزخرفاً، والحافظ ابن حجر في الفتح في الجزء الخامس صفحة خمس وسبعين ومائة عند هذا الحديث يقول: هو بضم الميم وإسكان الواو، فيحتمل أن تكون الطباعة فيها تصحيف وخطأ في الفتح من قبل الطابعين ولعل الحافظ يقصد بفتح الميم وإسكان الواو: موشياً، كما هو في كتب اللغة؛ كمختار الصحاح وغيره، وقلت لكم أيضاً: الذين أشرفوا على طباعة كتب السنة ضبطوه: موشياً بفتح الميم، والحافظ في الفتح يقول: بضم الميم وسكون الواو: موشياً. فليضبط هذا وليحقق.

ثم قال: (فلم يدخل) فجاء علي فرآها مغتمة فقال: ما لكِ؟ فأخبرته بانصراف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بابها، فأتى علي رضي الله عنه وأرضاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له وقال: قد اشتد ذلك عليها، أي على فاطمة على نبينا وآل بيته جميعاً صلوات الله وسلامه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ما لنا وللدنيا، ما لنا وللرقم ) والرقم هو النقش، وهذا الإنكار مع أنه ليس فيها صور على الإطلاق إنما: ( ما لنا وللرقم )، أي ما لنا وللدنيا، فذهب علي إلى فاطمة فأخبرها أن النبي عليه الصلاة والسلام ما دخل البيت لما فيه من ستارة ملونة، وأخبرها بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا علي ارجع إلى النبي عليه الصلاة والسلام تقول: ( فما تأمرنا به فيه؟ )؛ أي: ماذا نعمل؟ قال: ( ترسلين به إلى بني فلان)، فتصدقت بذلك الثوب.

قال الحافظ ابن حجر : لم نقف على تعيينه، يعني: ذلك البيت الذي تصدقت بالثوب عليه.

قال أهل العلم: كره نبينا صلى الله عليه وسلم لابنته فاطمة ما كرهه لنفسه من تعجيل الطيبات في الدنيا، وستر الباب ليس بحرام؛ يعني: إذا وضع الإنسان ستارة على الباب أو على النافذة ليس بحرام، لكن كره نبينا عليه الصلاة والسلام لابنته ما كرهه لنفسه من تعجيل الطيبات؛ لأنه لا يصيب أحد من الدنيا نعمة إلا وينقص من درجته عند الله وإن كان شيئاً حلالاً, وإن دخل الجنة بغير حساب.

حديث سفينة في امتناع النبي عن دخول بيت فاطمة بسبب الستار المعلق فيه

وهذا حديث آخر إسناده صحيح كالشمس أيضاً، رواه الإمام أحمد في المسند في الجزء الخامس صفحة واحدة وعشرين ومائتين، ورواه أبو داود في السنن وابن ماجه وابن حبان في صحيحه، وهو في موارد الضمأن صفحة اثنتين وخمسين وثلاثمائة، ورواه الحاكم في المستدرك وصححه وأقره عليه الذهبي في الجزء الثاني صفحة ست وثمانين ومائة، ولفظ الحديث عن سفينة أبي عبد الرحمن مولى نبينا عليه الصلاة والسلام، سفينة الذي ركب السفينة فانكسرت به في البحر فألقاه إلى غابة فخرج إليه أسد يزأر كما في المستدرك والحلية بسند صحيح فقال سفينة : أبا الحارث، أنا مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فبدأ الأسد يهمهم ويتمسح بـسفينة ، يقول سفينة : فدفعني برأسه لأمشي، يقول: فمشيت حتى أوصلني إلى قارعة الطريق فدار حولي وهمهم فعلمت وعرفت أنه يسلم علي ويودعني وانصرف.

يقول سفينة مولى رسول الله عليه الصلاة والسلام: ( إن رجلاً أضاف علي بن أبي طالب ) أضاف: أي نزل عنده ضيفاً، والمضيف هو علي ، ( فنزل عنده ضيفاً فصنع له طعاماً، فقالت له فاطمة : لو دعونا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكل معنا، فدعوناه فجاء فوضع يده على عضادتي الباب فرأى القرام ) والقرام هو الستر، يعني خرقة موضوعة تكون على الجدار، ( فرأى القرام قد وضع في ناحية البيت )، فرجع النبي صلى الله عليه وسلم فقالت فاطمة : يا علي! الحقه فانظر ما أرجعه. فتبعه علي فقال: ( يا رسول الله! ما ردك؟ قال: إنه ليس لي أو لنبي أن يدخل بيتاً مزوقاً )؛ أي: بيتاً مزخرفاً.

والإمام ابن حبان استدل بحديث سفينة أبي عبد الرحمن رضي الله عنه وأرضاه أن هذا الأمر أي: الإنكار على وضع الستائر على الجدار كان نبينا عليه الصلاة والسلام يفعله في بيته وينبغي أن يفعل في سائر البيوت، فلا ينبغي أن يكون في البيوت تزويق ولا ستائر، وسيأتينا أن ستر الجدران أقل ما فيه الكراهة، بل ذهب بعض أئمتنا إلى التحريم فالله لا يرضى لنا أن يجعل بيتنا كالكعبة المشرفة بيت رب العالمين، فبيته الذي يكسى، أما بيوتنا ينبغي أن يكون لها حالة أخرى، ويأتينا هذا عند هدي الإسلام في البناء والعمران.

والإمام ابن حبان بوب على هذا الحديث باباً فقال: البيان بأن ذلك لم يكن منه صلوات الله وسلامه في بيت فاطمة فقط دون غيرها، لأنه قال: ( ليس لنبي أن يدخل بيتاً مزوقاً )، وسنذكر آثار الصحابة بعد ذلك والأحاديث الصحيحة التي تبين حكم تزويق البيوت وزخرفتها إن شاء الله.

حديث ثوبان في امتناع النبي عن دخول بيت فاطمة بسبب مسح سترت به بابها

روى الإمام أحمد في المسند وأبو داود في السنن والإمام حماد بن إسحاق في كتابه تركة النبي عليه الصلاة والسلام في صفحة ثمان وخمسين، والأثر رواه ابن ماجه في تفسيره كما أشار إلى ذلك الحافظ ابن حجر في تهذيب التهذيب في الجزء الرابع صفحة إحدى وثلاثين ومائتين في ترجمة أحد رواة هذا الحديث، وهذا الحديث فيه مجهولان، لكن يشهد لمعناه ما تقدم معنا من الحديثين الصحيحين: حديث ابن عمر وحديث سفينة أبي عبد الرحمن رضي الله عنهم أجمعين.

فالمجهول الأول: حميد الشامي من رجال أبي داود ، لم يخرج له أبو داود إلا هذا الحديث، وكذلك ابن ماجه أيضاً في التفسير قال عنه الحافظ في التقريب: مجهول من الأولى، أي: توفي بعد سنة مائة للهجرة، وروى حميد الشامي هذا الحديث عن سليمان بن المنبهي قال عنه الحافظ : مجهول من الثانية، وروى سليمان بن المنبهي الحديث عن ثوبان ، وسليمان بن المنبهي أخرج حديثه أبو داود وابن ماجه في التفسير، وقال عنه الحافظ في التقريب: مجهول، وذكر في تهذيب التهذيب أن ابن حبان ترجمه في الثقات فقال: هو ثقة عند ابن حبان ، والمسألة خلافية في أن من لم يعلم فيه جرح وروى عنه راو واحد فقد خرج من الجهالة وهو ثقة، وقلت: إن مذهب ابن حبان فيه اتساع غير مرضي عند أئمتنا. ولذلك عندما يقال وثقه ابن حبان يعني: هو مجهول عند الجمهور.

فالحديث في المسند وسنن أبي داود وكتاب تركة النبي عليه الصلاة والسلام عن حميد الشامي عن سليمان بن المنبهي؛ يعني: الطريق واحدة. لكن يشهد له ما تقدم معنا من رواية ابن عمر وسفينة رضي الله عنهم أجمعين، يقول ثوبان : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سافر كان آخر عهده بإنسان من أهله فاطمة، أي: أنه كان يودع نساءه وأصحابه وأقاربه، وآخر من يودعه فاطمة ، يختم بها ثم يسافر عليه صلوات الله وسلامه، وكان إذا قدم من سفره كان أول من يدخل عليه فاطمة ، فهي آخر من يودعها وهي أول من يدخل عليها عند قدومه رضي الله عنها وعلى نبينا وآل بيته صلوات الله وسلامه.

قال ثوبان : فقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً من غزاة له وقد علقت مسحاً أو ستراً على بابها، والمسح يقول أئمتنا: هو الملابس، وهو قطعة من الخيط أو من الشعر، فعلقت مسحاً أو ستراً على بابها, وحلت الحسن والحسين قلدين من فضة، القلد قال أئمتنا: كالسوار، ألبست الحسن والحسين قلدين من فضة يزينهما وهما صغار، فقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يدخل، فظنت أن ما منعه أن يدخل هو ما رأى من المسح ومن القلدين في يدي الحسن والحسين عليهما رضوان الله. فهتكت الستر وفكت القلدين عن الصبيين، فانطلقا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم -الحسن والحسين- وهما يبكيان، فأخذه القلدين منهما وقال: يا ثوبان ، اذهب بهذا إلى آل فلان، ثم قال: ( إن هؤلاء أهلي ) أي: الحسن والحسين وفاطمة على نبينا وآل بيته صلوات الله وسلامه، قال: ( إن هؤلاء أهلي، وأكره أن يأخذوا من طيباتهم في حياتهم الدنيا، يا ثوبان اشتر لـفاطمة قلادة من عصب وسوارين من عاج ).

قال أئمتنا: المراد بالعاج هنا: الذبل بفتح الذال المشددة والباء الساكنة، قالوا: وهو عظم ظهر السلحفاة.

وأما العاج الذي تعرفه العامة وهو ناب الفيل فليس هو الذي يريده نبينا الجليل عليه الصلاة والسلام، وأئمتنا بعد ذلك اختلفوا في طهارة ناب العاج، فعند الحنفية: أن شعر الميتة وعظمها طاهر كما في كتاب الاختيار في الجزء الأول صفحة ستة عشر، والشافعي قال عكس ذلك تماماً: أن شعر الميتة وعظمها نجس، والخلاف: هل تحل الحياة في هذه الأشياء أم لا؟ فالحنفية يقولون: لا تدخل الحياة في العظام، ولا تدخل في الشعر، ولا تدخل في الصوف، ولا تدخل في القرن، ولا تدخل في السن، ولا تدخل في المنقار، فهذه كلها طاهرة، قالوا: إلا في الخنزير فذاك نجس العين، شعره نجس حياً وميتاً، أما الميتة شعرها وعظمها طاهر وإن كان اللحم نجساً، والسبب كونها لا تحلها الحياة، يعني: كما أنها طاهرة في حال الحياة فهي طاهرة بعد الممات، والشافعية على عكس هذا، قالوا: الحياة تحلها، وواقع الأمر أنه لا تحل الحياة في هذه الأشياء كما تحل في بقية أعضاء البدن، والإمامان المباركان مالك والإمام أحمد توسطا فقالا: الشعور والصوف والوبر والريش طاهرة، وأما العظم والقرن والسن والضرس والظفر فهذه نجسة، وعليه ناب الفيل عند ثلاثة من أئمتنا نجس إلا الإمام مالك فعنده أن الفيل إذا ذكي عظامه تكون طاهرة، ويجوز عنده أن يذبح الفيل ويؤكل من بين المذاهب الأربعة، وأئمتنا خالفوه لأن نبينا عليه الصلاة والسلام: (حرم كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير).

وعلى كل حال! فالمراد بالسوادين من عاج: عظم ظهر السلحفاة وليس سن الفيل.

وهذا توجيه نبينا عليه الصلاة والسلام لأهل بيته الكرام عليه وعليهم جميعاً صلوات الله وسلامه، فكل هذا كما تقدم معنا -من باب الاحتياط لا من باب الاضطرار، فليس هناك فقر وليس هناك بخل، وإنما هناك إيثار بالآخرة على الدنيا.

ثبت في المسند وصحيح البخاري وسنن أبي داود وكتاب تركة النبي عليه الصلاة والسلام لـحماد بن إسحاق : عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى بيت فاطمة رضي الله عنها وأرضاها فوجد على بابها ستراً موشياً ) هكذا ضبط في اللغة بفتح الميم، وكذلك في الحديث في صحيح البخاري وهكذا في سنن أبي داود ولكن الكتب التي نقلت من هذين الكتابين ضبطوه هكذا: موشياً بضم الميم، من الوشي وهو النقش، وثوب موشى إذا كان منقوشاً مزخرفاً، والحافظ ابن حجر في الفتح في الجزء الخامس صفحة خمس وسبعين ومائة عند هذا الحديث يقول: هو بضم الميم وإسكان الواو، فيحتمل أن تكون الطباعة فيها تصحيف وخطأ في الفتح من قبل الطابعين ولعل الحافظ يقصد بفتح الميم وإسكان الواو: موشياً، كما هو في كتب اللغة؛ كمختار الصحاح وغيره، وقلت لكم أيضاً: الذين أشرفوا على طباعة كتب السنة ضبطوه: موشياً بفتح الميم، والحافظ في الفتح يقول: بضم الميم وسكون الواو: موشياً. فليضبط هذا وليحقق.

ثم قال: (فلم يدخل) فجاء علي فرآها مغتمة فقال: ما لكِ؟ فأخبرته بانصراف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بابها، فأتى علي رضي الله عنه وأرضاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له وقال: قد اشتد ذلك عليها، أي على فاطمة على نبينا وآل بيته جميعاً صلوات الله وسلامه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ما لنا وللدنيا، ما لنا وللرقم ) والرقم هو النقش، وهذا الإنكار مع أنه ليس فيها صور على الإطلاق إنما: ( ما لنا وللرقم )، أي ما لنا وللدنيا، فذهب علي إلى فاطمة فأخبرها أن النبي عليه الصلاة والسلام ما دخل البيت لما فيه من ستارة ملونة، وأخبرها بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا علي ارجع إلى النبي عليه الصلاة والسلام تقول: ( فما تأمرنا به فيه؟ )؛ أي: ماذا نعمل؟ قال: ( ترسلين به إلى بني فلان)، فتصدقت بذلك الثوب.

قال الحافظ ابن حجر : لم نقف على تعيينه، يعني: ذلك البيت الذي تصدقت بالثوب عليه.

قال أهل العلم: كره نبينا صلى الله عليه وسلم لابنته فاطمة ما كرهه لنفسه من تعجيل الطيبات في الدنيا، وستر الباب ليس بحرام؛ يعني: إذا وضع الإنسان ستارة على الباب أو على النافذة ليس بحرام، لكن كره نبينا عليه الصلاة والسلام لابنته ما كرهه لنفسه من تعجيل الطيبات؛ لأنه لا يصيب أحد من الدنيا نعمة إلا وينقص من درجته عند الله وإن كان شيئاً حلالاً, وإن دخل الجنة بغير حساب.

وهذا حديث آخر إسناده صحيح كالشمس أيضاً، رواه الإمام أحمد في المسند في الجزء الخامس صفحة واحدة وعشرين ومائتين، ورواه أبو داود في السنن وابن ماجه وابن حبان في صحيحه، وهو في موارد الضمأن صفحة اثنتين وخمسين وثلاثمائة، ورواه الحاكم في المستدرك وصححه وأقره عليه الذهبي في الجزء الثاني صفحة ست وثمانين ومائة، ولفظ الحديث عن سفينة أبي عبد الرحمن مولى نبينا عليه الصلاة والسلام، سفينة الذي ركب السفينة فانكسرت به في البحر فألقاه إلى غابة فخرج إليه أسد يزأر كما في المستدرك والحلية بسند صحيح فقال سفينة : أبا الحارث، أنا مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فبدأ الأسد يهمهم ويتمسح بـسفينة ، يقول سفينة : فدفعني برأسه لأمشي، يقول: فمشيت حتى أوصلني إلى قارعة الطريق فدار حولي وهمهم فعلمت وعرفت أنه يسلم علي ويودعني وانصرف.

يقول سفينة مولى رسول الله عليه الصلاة والسلام: ( إن رجلاً أضاف علي بن أبي طالب ) أضاف: أي نزل عنده ضيفاً، والمضيف هو علي ، ( فنزل عنده ضيفاً فصنع له طعاماً، فقالت له فاطمة : لو دعونا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكل معنا، فدعوناه فجاء فوضع يده على عضادتي الباب فرأى القرام ) والقرام هو الستر، يعني خرقة موضوعة تكون على الجدار، ( فرأى القرام قد وضع في ناحية البيت )، فرجع النبي صلى الله عليه وسلم فقالت فاطمة : يا علي! الحقه فانظر ما أرجعه. فتبعه علي فقال: ( يا رسول الله! ما ردك؟ قال: إنه ليس لي أو لنبي أن يدخل بيتاً مزوقاً )؛ أي: بيتاً مزخرفاً.

والإمام ابن حبان استدل بحديث سفينة أبي عبد الرحمن رضي الله عنه وأرضاه أن هذا الأمر أي: الإنكار على وضع الستائر على الجدار كان نبينا عليه الصلاة والسلام يفعله في بيته وينبغي أن يفعل في سائر البيوت، فلا ينبغي أن يكون في البيوت تزويق ولا ستائر، وسيأتينا أن ستر الجدران أقل ما فيه الكراهة، بل ذهب بعض أئمتنا إلى التحريم فالله لا يرضى لنا أن يجعل بيتنا كالكعبة المشرفة بيت رب العالمين، فبيته الذي يكسى، أما بيوتنا ينبغي أن يكون لها حالة أخرى، ويأتينا هذا عند هدي الإسلام في البناء والعمران.

والإمام ابن حبان بوب على هذا الحديث باباً فقال: البيان بأن ذلك لم يكن منه صلوات الله وسلامه في بيت فاطمة فقط دون غيرها، لأنه قال: ( ليس لنبي أن يدخل بيتاً مزوقاً )، وسنذكر آثار الصحابة بعد ذلك والأحاديث الصحيحة التي تبين حكم تزويق البيوت وزخرفتها إن شاء الله.


استمع المزيد من الشيخ عبد الرحيم الطحان - عنوان الحلقة اسٌتمع
مباحث النبوة - الرضاعة حق للطفل 3297 استماع
مباحث النبوة - أزواج المؤمنين في جنات النعيم 3252 استماع
مباحث النبوة - النكاح مفتاح الغنى [1] 3230 استماع
مباحث النبوة - الآفات الردية في الشهوة الجنسية [1] 3207 استماع
مباحث النبوة - النكاح مفتاح الغنى [3] 3166 استماع
مباحث النبوة - صفات النبي صلى الله عليه وسلم خلقاً وخلُقاً 3152 استماع
مباحث النبوة - الآفات الردية في الشهوة الجنسية [2] 3121 استماع
مباحث النبوة - كرم النبي صلى الله عليه وسلم وجوده 3095 استماع
مباحث النبوة - قوت النبي صلى الله عليه وسلم [1] 3005 استماع
مباحث النبوة - ضرب المرأة بين المنع والإباحة 2950 استماع