مباحث النبوة - قوة النبي صلى الله عليه وسلم دالة على صدقه


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة الطيبين وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً، سهل علينا أمورنا، وعلمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الراحمين، اللهم زدنا علماً نافعاً، وعملاً صالحاً بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين، سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك، سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك، اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد:

إخوتي الكرام! كنا نتدارس العلامات التي يعرف بها صدق أنبياء الله ورسله على نبينا وعليهم جميعاً صلوات الله وسلامه، وقلت: هذه العلامات كثيرة وفيرة يمكن أن نجملها في أربع علامات:

الأولى منها: النظر إلى النبي عليه الصلاة والسلام في نفسه، فيما يتعلق بخَلْقِه وخُلُقه.

والأمر الثاني: النظر إلى دعوته.

والثالث: النظر إلى المعجزات وخوارق العادات التي أيده بها رب الأرض والسماوات.

والرابع: النظر إلى حال أصحابه.

هذه الأمور الأربعة إخوتي الكرام! من تأملها يستطيع أن يفرق بين النبي والمتنبئ، بين النبي والدعي، بين النبي الصادق والمتنبئ الكذاب، وكنا -إخوتي الكرام- نتدارس العلامة الأولى: وهي النظر إلى النبي عليه الصلاة والسلام في نفسه، فمن تأمل أنبياء الله ورسله عليهم جمعيا صلوات الله وسلامه خَلْقاً وخُلُقاً، واستبان من هذا التبين أنهم رسل الله حقاً، كنا نتكلم إخوتي الكرام عن حال الأنبياء من حيث الخلق، وهو الشق الأول من العلامة الأولى، وغالب ظني أننا تدارسنا هذا في موعظتين ويعلم الله ما كان في ظني أن يطول الأمر إلى هذا المقدار، ولعل هذه الموعظة أيضاً ستكون في بيان ما يتعلق بخلق النبي عليه الصلاة والسلام، وأما الخلُق -وهو الشق الثاني من العلامة الأولى- فنتدارسه في المواعظ الآتية إن أحيانا الله.

إخوتي الكرام! قلت: إن الله جعل أنبياءه ورسله عليهم جميعاً صلوات الله وسلامه في درجة الكمال فيما يتعلق بخَلْقهم وخُلُقهم، أما الخَلْق ففيه الكمال، جلال وجمال، ملاحة وبهاء، فجمع نبينا وأنبياء الله ورسله عليهم جميعاً صلوات الله وسلامه الكمال في الخلق، ففيه ملاحة وبهجة وإشراق، وفيه جلال وهيبة ورهبة كما تقدم معنا شيء من تقرير هذا.

إخوتي الكرام! هذا الخلق الذي جعلهم الله عليه بهذه الصورة مع الخُلُق الذي هو أيضاً في درجة الكمال، قلت: يستحيل أن يكون من اتصف بهذا الوصف في كمال في خَلقه وخُلُقه، ثم بعد ذلك يكذب على ربه جل وعلا، ولا يعاجله الله بالعقوبة وهو يقول: إنه رسول، والله يزيده كمالاً في خَلْقه وخُلُقه، هذا لا يمكن أن يقع على الإطلاق. لقد تقدم معنا شيء مما يتعلق بخَلْق نبينا عليه الصلاة والسلام، وأريد أن أكمل هذا الموضوع في هذه الموعظة إن شاء الله.

إخوتي الكرام! أنبياء الله ورسله عليهم جميعاً صلوات الله وسلامه حازوا درجة الكمال في الخَلْق، ومن هذا الكمال الذي كانوا عليه في خلقهم القوة والشجاعة على نبينا وعلى أنبياء الله ورسله صلوات الله وسلامه، فأقوى الناس على الإطلاق أنبياء الله ورسله، وأقوى أنبياء الله ورسله نبينا صلى الله عليه وسلم.

وقد أخبرنا ربنا جل وعلا عن هذه القضية فيما يتعلق بالأنبياء، وأثنى عليهم بالقوة، فالله جل وعلا يقول في حق العبد الصالح داود على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه: اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ [ص:17]، والأيد مصدر (آد يئيد أيداً) إذا قوى واشتد، وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ [ص:17]، أي: ذا القوة، صاحب القوة البدنية، والقوة القلبية العلية، والأيد كما قلت: مصدر آد يئيد أيداً، كما أن لفظ الأيد يأتي بمعنى جمع اليد (أيدي)، والمراد هنا المصدر، ومنه قول الله جل وعلا: وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ [الذاريات:47]، أي: بقوة وإحكام وإتقان، وليس المراد بنيناها بأيدينا، كما قال الله: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ [ص:75]، فليس المراد هنا إثبات صفة اليد؛ لأن الأيد هنا المراد به القوة.

وقد أشار نبينا صلى الله عليه وسلم إلى قوة هذا العبد الصالح في خَلْقه وخُلُقه على وجه التمام والكمال، ففي المسند والصحيحين وغير ذلك، والحديث في أعلى درجات الصحة من رواية عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (أحب الصلاة إلى الله صلاة داود، وأحب الصيام إلى الله صيام داود، كان يصوم يوماً ويفطر يوماً، وكان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه، وكان لا يفر إذا لاقى) إذا التقى بأعداء الله لا يفر، فهذا نبي، والله ضمن له النصر، وهو صاحب القوة على نبينا وعلى أنبياء الله ورسله صلوات الله وسلامه، فكيف يتوقع أن يفر ويهرب؟ هذا لا يمكن أن يتصف به نبي صيامه أكمل صيام، يصوم يوماً ويفطر يوماً، وهذا أشق من صيام الدهر، لأن من صام الدهر صار له عادة وديدنة لا يشعر بمشقة، أما الذي يصوم ثم يفطر ثم يصوم، فهذه عبادة يميزها عن العادة، وحقيقة هذا هو الحزم، وهذا هو الكمال، وهكذا في القيام، ينام نصف الليل، ثم يقوم الثلث، ثم ينام السدس، وهذا أعظم مما لو قام الجزء الأخير أو الجزء الأول أو الليل بكامله، هذا أشق وأعظم عند الله جل وعلا، فلو قدرنا أن الليل عشر ساعات، فينام خمس ساعات، هذا النصف، ثم يستيقظ ثلاث ساعات ونصفاً، في التهجد، ثم ينام ساعة ونصفاً، فيكون قد قام من الثلث الأخير نصفه، لأن الثلث الأخير سدسا الليل ونام نصف الثلث الذي هو السدس، لأنه قد يقول قائل: لم ما قام ثلث الليل الأخير كله؟ فنقول: لقد قام قبله فحصل من ثلث الليل الأخير الذي له فيه فضيلة، حصل نصف ثلث الليل الأخير، فهو عندما قام جزءاً من ثلث الليل الأخير وهو نصف الليل الأخير دخل معه، لأن ثلث الليل الأخير سدسان، فلما نام السدس بقي سدس، وهو سدس الليل الكامل، فقامه في قيامه.

انظر لهذا القيام: ينام النصف، ويقوم الثلث، وينام السدس، وفي نيامه السدس هذا إعانة لبدنه على صلاة الفجر بجد ونشاط، وذهاب للصفرة من وجهه؛ لأن من واصل القيام اصفر وجهه، فهو لا يريد أن تكون فيه هذه العلامة، ويريد أن يستقبل الطاعة بجد ونشاط، ثم انظر لهذا الأمر: نوم وقيام ثم نوم وقيام، وهذا أصعب مما لو كان قياماً متصلاً في الثلث الأخير، فهذه عبادته وقوته.

(وكان لا يفر إذا لاقى) وهكذا كان حال نبينا عليه صلوات الله وسلامه فلنمتع أنفسنا بقوة نبينا عليه الصلاة والسلام في هذه الموعظة، ثم بعد ذلك أتكلم على ثلاثة أمور أكرم الله بها بدن نبينا عليه الصلاة والسلام: بشق صدره، وخاتم النبوة الذي بين كتفيه، وولادته مختوناً مسروراً عليه صلوات الله وسلامه، وهذه كلها من باب الكمال في الخَلْق الذي تميز به عن سائر الخلق عليه صلوات الله وسلامه.

قوة النبي صلى الله عليه وسلم وشجاعته في غزوة بدر

أما قوته فقد ثبت في مسند الإمام أحمد وسنن النسائي ، والحديث إسناده صحيح عن علي رضي الله عنه، وهو الشجاع الصنديد، يقول علي رضي الله عنه في موقعة بدر: ( لقد رأيتنا يوم بدر ونحن نلوذ برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أقربنا إلى العدو، وكان أشد الناس بأساً )، أي: قوةً، فهذا علي والصحابة الكرام يلوذون، أي: يحتمون بالنبي عليه الصلاة والسلام، سبحان الله! متى جرت عادة الجنود أن يحتموا بقائدهم؟ الأصل أن الأمير هو الذي يحتمي بالجنود، لكن هنا العكس، أشجعنا يلوذ ويحتمي ويختبئ وراء النبي عليه الصلاة والسلام من شدة بأس الحرب، وكان عليه الصلاة والسلام أشد الناس بأساً.

وفي رواية: يقول علي رضي الله عنه كما في المسند: ( لما حضر البأس يوم بدر )، والبأس: هو القتال والشدة والمشقة، ( لما حضر البأس يوم بدر اتقينا برسول صلى الله عليه وسلم )، أي: احتمينا به وجعلناه وقاية بيننا وبين الأعداء عليه صلوات الله وسلامه، ( اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أشد الناس بأساً، لم يكن أحد أقرب إلى المشركين منه )، هذا هو النبي عليه صلوات الله وسلامه كان في المقدمة، وهو أشد الناس بأساً، وشجعان الصحابة الكرام كانوا يلوذون به ويتقون به عليه صلوات الله وسلامه.

هذه قوة الأنبياء، هذا هو كمال الخَلْق، هذه القوة العظيمة التي أعطاها الله لأنبيائه ورسله عليهم جميعاً صلوات الله وسلامه ليكونوا في درجة الكمال، خَلْقاً وخُلُقاً، أما رجل رعديد جبان لو خوف ينقطع قلبه، حقيقة هذا لا يصلح أن يكون نبياً، هذا في الناس منقصة، فكيف يتصف به نبي الله على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه؟!

لذلك في قصة حادث الهجرة الشهير، أشجع الخلق بعد الأنبياء هو أبو بكر على نبينا وعلى أنبياء الله ورسله والصديقين جميعاً صلوات الله وسلامه، ومع ذلك يقول: يا رسول الله! لو نظر أحدهم تحت قدمه لرآنا، انظر لكلام النبي عليه الصلاة والسلام، قال: (يا أبا بكر ! ما ظنك باثنين الله ثالثهما، لا تحزن إن الله معنا)، فانظر لحال أبي بكر وحال نبينا عليه الصلاة والسلام، وحال أبي بكر على حسب حاله، وكان خوفه رضي الله عنه على النبي عليه الصلاة والسلام، يتخوف عليه ويقول: أنا إن مت فأنا فرد، وأما أنت فالعالم كله بحاجة إليك عليك صلوات الله وسلامه، لكن اعتراه ما اعتراه من الخوف البشري والضعف الجبلي في الإنسان، لكن نبينا عليه الصلاة والسلام هون عليه وقال: (ما ظنك باثنين الله ثالثهما)، قال تعالى: إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا [التوبة:40].

قوة النبي صلى الله عليه وسلم وشجاعته وثباته يوم حنين

هذا هو حال أنبياء الله ورسله عليهم جميعاً صلوات الله وسلامه، إذاً أشجع الصحابة يلوذ ويتقي ويحتمي ويتترس بالنبي عليه الصلاة والسلام، وهذا الوصف الذي ذكره علي رضي الله عنه تتابع الصحابة رضوان الله عليهم على ذكره عن نبينا عليه الصلاة والسلام، وعلى أن هذا الوصف كان وصفاً للنبي عليه الصلاة والسلام في جميع المعارك، فهو الذي لا يمكن أن يفر، ولا أن يقع في قلبه شيء من الهول والرعب والفزع عليه صلوات الله وسلامه.

ففي موقعة حنين، والحديث في الصحيحين، قال رجل للبراء رضي الله عنه وأرضاه: يا أبا عمارة ! أفررتم يوم حنين؟ وهذه كلمة عامة شاملة يدخل فيها النبي عليه الصلاة والسلام والصحابة، فقال البراء رضي الله عنه وأرضاه: ( لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفر )، وفي رواية: ( لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يول )، أي: ظهره ولم يهرب، وفي رواية: ( لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ولى ).

نعم، نحن حصل منا ما حصل، لكن النبي عليه الصلاة والسلام ما حصل منه فزع ولا رعب ولا فرار، إذاً من الذي فر؟ إنهم الشبان، بعد فتح مكة خرجوا سراعاً إلى موقعة حنين، وأكثرهم حديث عهد بإسلام، وشبان ليس عندهم أسلحة، فكانوا في المقدمة، فلما رشقوا بسهام كالمطر ولوا وفروا، وما عندهم علم بأساليب الحرب والقتال، فمن الذي ثبت؟ ثبت النبي عليه الصلاة والسلام ومعه كبار الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين.

جاء رجل إلى البراء فقال: أكنتم وليتم يوم حنين يا أبا عمارة ؟ قال: أشهد على نبي الله صلى الله عليه وسلم ما ولى، ولكنه انطلق أخفاء من الناس، أي: متخففون ليس عليهم سلاح، وهم أيضاً أخفة في أنفسهم، شباب عندهم نشاط، أخفاء من الناس، حسر، جمع حاسر، لا يحملون شيئاً من الأسلحة، وعدة القتال، إلى هذا الحي من هوازن، وهم قوم رماة، فرموهم برشق من نبل كأنها رِجْلٌ من جراد، أي: قطعة كبيرة من جراد، أي: كأنها سرب عظيم، كأنها رجل من جراد، أي: جراد منتشر، جاءت السهام كأنها مطر فانكشفوا، فأقبل القوم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب -وهو ابن عم النبي عليه الصلاة والسلام- وأبو سفيان بن الحارث يقود به بغلته، فنزل النبي عليه الصلاة والسلام عن بغلته وترجل ودعا واستنصر وهو يقول: ( أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب ، اللهم أنزل نصرك )، قال البراء : كنا والله إذا احمر البأس نتقي به، وإن الشجاع منا للذي يحاذي به، يعني بالنبي صلى الله عليه وسلم.

وفي رواية لـمسلم : قال رجل للبراء : يا أبا عمارة ! فررتم يوم حنين؟ قال: لا والله! ما ولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكنه خرج شبان أصحابه وأخفاؤهم حسراً، ليس عليهم سلاح أو كثير سلاح، فلقوا قوماً رماة، لا يكاد يسقط لهم سهم، فرشقوهم رشقاً، ما يكادون يخطئون، فأقبلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلته البيضاء وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب يقود به، فنزل واستنصر وقال: ( أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب )، على نبينا صلوات الله وسلامه، وبعد ذلك جاءه الصحابة الذين فروا رضوان الله عليهم أجمعين وحصل لهم النصر.

وثبت في الصحيحين أيضاً من حديث أنس وعبد الله بن زيد ، وهو الأنصاري الذي أُري الأذان في نومه رضي الله عنهم أجمعين: ( أن النبي عليه الصلاة والسلام عندما كان على بغلته فالتفت يميناً وقال: يا معشر الأنصار! قالوا: لبيك رسول الله صلى الله عليه وسلم، نحن معك أبشر، فالتفت عن يساره وقال: يا معشر الأنصار! فقالوا: لبيك رسول الله صلى الله عليه وسلم، نحن معك أبشر )، نحن لا نفر، ولذلك طلب النبي عليه الصلاة والسلام من العباس أن ينادي: يا أهل بيعة الشجرة! يا أهل بيعة العقبة! تعالوا أنتم الخلص، فهؤلاء الشبان الأخفاء ما عندهم دراية بالحرب، وحديثو عهد بإسلام، فحصل منهم ما حصل، أما الخميرة والأساس فتظهر في هذا الوقت، فانعطفوا على النبي عليه الصلاة والسلام ورجعوا إليه عطفة البقر على أولادها، وكتب الله لهم النصر، ونتيجة المعركة عندما تألف النبي عليه الصلاة والسلام بقسط كبير من هذه الغنائم بعض الذين أسلموا في فتح مكة، ودخل في قلب بعض الأنصار شيء، أما أهل الرأي منهم والشيوخ فسلموا الأمر للنبي عليه الصلاة والسلام، وأما الشبان منهم فكأنهم وجدوا شيئاً، وأنهم هم أهل القتال وأهل النجدة، وعن يمين النبي عليه الصلاة والسلام وعن شماله، فعند الفزع يكثرون، وعند المغانم يأتي أهل الطمع ويأخذون، فهم أولى بهذه المغانم.

فلما علم النبي عليه الصلاة والسلام بما دار بينهم جاءهم وقال لهم: (أما ترضون أن يرجع الناس بالشاة والبعير، وترجعون برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رحالكم؟ فبكوا وقالوا: بلى، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: والله لو سلك الأنصار شعباً وسلك الناس شعباً لسلكت شعب الأنصار -والحديث في الصحيحين- الأنصار شعار والناس دثار)، والشعار: هو الثوب الذي يلاصق البدن، والدثار ما يكون فوقه، أي: أنتم خاصتي، وليس بيني وبينكم كلفة، ولذلك إذا حصل شيء من الحيف الظاهري عليكم، فأنا وأنتم حالنا واحد، أما هؤلاء فنتألفهم ونعطيهم هذا المال، وأما أنا وأنتم فليست همتنا في هذا العرض الدنيوي، أنتم شعاري، الأنصار شعار، والناس دثار، رضي الله عنهم وأرضاهم.

إذاً: كانوا يتقون برسول الله صلى الله عليه وسلم كما يقول البراء : كنا والله! إذا احمر البأس، أي: اشتد القتال، وحصل لمعان السيوف وبريقها كأنها شمس تضيء من اصطكاك السيوف ببعضها، ونار تقدح، كنا في هذه الحالة نتقي برسول الله صلى الله عليه وسلم.

قول النبي: (أنا النبي لا كذب..) ودفع توهم أن يكون النبي يقول الشعر

إخوتي الكرام! قول نبينا عليه الصلاة والسلام: (أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب)، هذا شعر، وهو نوع من أنواع الرجز، والرجز من الشعر، والله يقول في حق نبيه عليه الصلاة والسلام: وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ [يس:69]، والسبب في ذلك: أن الله صان أنبياءه ورسله عليهم جميعاً صلوات الله وسلامه عن قول الشعر؛ لأن الشعر كما قال أئمتنا: مبني على المجازفات والمبالغات والخيالات والتلبيسات، فأعذبه أكذبه، فلا يمكن أن يكون ذلك في النبي عليه الصلاة والسلام، يضاف إلى ذلك أن الشعر فيه شيء من الفصاحة، فلو اتصف به النبي عليه الصلاة والسلام لقالوا: ما يأتينا به هو من باب الفصاحة التي هو ماهر فيها وهو الشعر، هذا فضلاً عن أن الشعر قائم على التخييل والتلبيس وإظهار الباطل بثوب الحق، فقد يقال: ما أتانا به من نصوص شرعية، هذا هو حال الشاعر موَّه علينا بهذه العبارات المعسولة، ولذلك قال تعالى: وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ [يس:69]، فكيف قال الشعر: أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب ؟

زعم بعض رواة الحديث أن البيت ينبغي أن يفتح فيقال: أنا النبي لا كذبَ؛ لينكسر الوزن ولئلا يكون شعراً، فيخرج عن وزن الشعر، وهذا في الحقيقة خلاف الرواية الثابتة، وإذا ثبتت الرواية فما هو التوجيه بين قول نبينا عليه الصلاة والسلام للشعر، ونفي الله للشعر عنه والشاعرية فيه فلم يكن شاعراً عليه صلوات الله وسلامه؟

ذكر أئمتنا عدة توجيهات لذلك، منها: قيل: هذا لم يقله النبي عليه الصلاة والسلام، إنما قيل له فغير هو الضمير، قيل له: أنت النبي لا كذب، أنت ابن عبد المطلب ، في غير موقعة حنين، فتمثل بما قيل له مع تغيير الضمير، فليس هو من نظمه وقوله وإنشائه عليه صلوات الله وسلامه، فهذا الذي مدح به أخبر به عن نفسه في موقعة حنين فقال بدل أنت: أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب ، وهذا يحتاج إلى إثبات كما قال أئمتنا.

الجواب الثاني والتوجيه الثاني: قالوا: هذا رجز، والرجز ليس من الشعر، وهذا لا يصح، فإن الرجز نوع من أنواع الشعر.

الجواب الثالث: قيل: إن الشعر يطلق على القطعة التامة والقصيدة، فمن قال بيتاً أو بيتين لا يقال عنه: شاعر، وقد يقول الإنسان أحياناً كلاماً فيأتي على وزن الشعر ولا يقصد الشعر، هذا يقع في كلام الناس، فإنا مرة قلت جملة مع بعض إخواننا، فقال: هذا على وزن كذا من بحور الشعر، فقلت: يعلم الله أني لا أعرف الشعر ولا أوزانه، وهذا لا لمدح في؛ بل هذا نقص، فعدم الشعر في النبي عليه الصلاة والسلام مدح، أما فينا فلجهلنا به، فما عندي علم به، فهذه الجملة التي قلتها بيت من الشعر لكنه دون قصد، وهنا: قوله: أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب ، قالها دون قصد للشعر، والشاعر هو الذي يلقي قصيدة وقصائد، أما أن يقول الإنسان بيتاً واحداً، فهذا لا يدخله في وصف الشعراء.

والتوجيه الرابع: وهو الذي ذهب إليه الحافظ ابن حجر ، وقدمه على هذه التوجيهات الثلاثة، وهو قريب من الثالث، قال: يكون الإنسان شاعراً إذا قال الشعر وقصده، إذا قال شعراً وقصده، وأما إذا قال شعراً بيتاً أو أكثر دون قصد، أي: تكلم بكلام ووافق أوزان الشعر فلا يكون شاعراً، والفرق بين الجواب الثالث والرابع: أن الثالث يقول: لا يكون شاعراً إلا إذا قال قطعة كبيرة، أما البيت والبيتان فلا يكون فيها شاعراً، والرابع يقول: مهما قال من أبيات لا تعتبر شعراً إلا إذا قصدها، فقد يقول كلاماً، وهذا الكلام يأتي على أوزان الشعر، لكن دون قصد منه، فلا يدخل في وصف الشعراء، وأنه شاعر، وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ [يس:69].

معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم (أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب)

وقول النبي عليه الصلاة والسلام: (أنا النبي لا كذب)، يحتمل أمرين اثنين:

الأول: وهو الذي يتعلق ببحثنا: أنا النبي، وقد وعدني الله بالنصر ولن يكذبني الله، ولن يخلف وعده، فكيف أفر؟ كيف أولي الأدبار؟ فإن الفرار يقع ممن ليس بمبعوث لا مرسل من قبل العزيز القهار، لأنه لا يثق هل سيحصل له النصر أم لا؟ أما أنا فلو اجتمع العالم بأسره فلن أفر، أنا نبي الله حقاً وصدقاً، أنا النبي وعدني الله بالنصر بدون كذب، ولن يكذبني، لن يخلف الله وعده، ولذلك وجدت فيه هذه الشجاعة، وهذه القوة، وهذا الثبات، وهذه الرجولة على وجه التمام والكمال.

والقول الثاني: وهو قريب منه لكنه يختلف في التعليل: أنا النبي لا كذب، أي: أنا صادق في دعوى النبوة، ولن يكذبني الله ما وعدني به من النصر.

أما القول الأول: أنا النبي، وقد وعدني الله بالنصر فلا كذب في وعد الله لي، وسأنتصر وتكون الدائرة لي على من خالفني وعاداني مهما كثر وقوي، (أنا النبي) لا كذب لوعد الله لي بالنصر، (أنا النبي) لا كذب في دعواي فأنا رسول الله حقاً وصدقاً، والقولان متقاربان، لكن القول الأول والتعليل الأول -كما قلت- أظهر القولين، فكأنه يقول: أنا النبي، وإذا كان نبياً فهو صادق في دعوى النبوة، فكأنه يقول: أنا النبي، وبرهان نبوتي أن الله سيحقق لي ما وعدني من نصري عليكم، وسترون في نهاية الأمر، وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ [التوبة:32-33].

وإنما أضاف نفسه إلى جده لأنه كان يشتهر بذلك عند الناس، فوالده عبد الله توفي والنبي عليه الصلاة والسلام حمل في بطن أمه على نبينا وآل بيته صلوات الله وسلامه، ولذلك كان يضاف إلى جده الذي تعهده وتكفل به ورباه حتى بلغ من عمره ثماني سنين، فقد توفي عبد المطلب وعمر النبي عليه الصلاة والسلام ثماني سنين، فكان يقال له: ابن عبد المطلب ، ولذلك عندما كانت تأتي وفود الأعراب إلى النبي عليه الصلاة والسلام كحديث ضمام في صحيح مسلم وغيره قال: يا ابن عبد المطلب ! إني سائلك ومشدد عليك، وهنا أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب على نبينا صلوات الله وسلامه.

إخوتي الكرام! في موقعة حنين لما نزل النبي عليه الصلاة والسلام من بغلته، وترجل على رجليه، أخذ كفاً من رمل وحصى كما هو ثابت في صحيح مسلم من حديث سلمة بن الأكوع ، ثم رماها في وجوه هوازن الذين جاءوا ورشقوا الصحابة بنبل كأنها رجل من جراد، أي: جماعة كبيرة من جراد، أخذ كفاً من تراب وحصى ثم نسفها في وجوه القوم، وقال: (شاهت الوجوه)، يقول سلمة : فما خلق الله منهم إنساناً إلا ملأ الله عينيه تراباً، من هذه الرمية التي رماها نبينا عليه صلوات الله وسلامه: وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى [الأنفال:17].

إخوتي الكرام! في حديث سلمة أمر ينبغي أن تنتبهوا له غاية الانتباه، وقد وهم بعض الناس فيه وهماً فاحشاً قبيحاً، يصان عنه نبينا عليه الصلاة والسلام ويتنزه عنه، يقول سلمة : مررت برسول الله صلى الله عليه وسلم منهزماً، قوله: منهزماً، هذا حال من الفاعل لا من المفعول، أي: مررت أنا منهزماً برسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن في التعبير تأخير، فالأصل أن يقول سلمة : أنا كنت منهزماً، هكذا الكلام، مررت وأنا منهزم برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على ناقته البيضاء، ويقول: ( أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب )، فقوله: مررت برسول الله صلى الله عليه وسلم منهزماً، هذا حال من ضمير (مررت) وهو سلمة ، لا من المفعول في قوله برسول الله عليه الصلاة والسلام، فليس هذا حال من رسول الله، هذا حال من سلمة الذي كني عنه بالضمير، ضمير الفاعل: مررت منهزماً برسول الله صلى الله عليه وسلم.

قال الإمام النووي عند شرح هذا الحديث: أجمع المسلمون على أن النبي عليه الصلاة والسلام لا يفر ولا ينهزم، ولا يقع في قلبه الروع والرعب عليه صلوات الله وسلامه، فقوله: (منهزماً) هذا حال من سلمة ، وتقدم معنا حال نبي الله داود على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه ذا الأيد، وأنه لا يفر إذا لاقى، فكيف بمن هو أشجع وأقوى منه ومن خلق الله أجمعين، نبينا الأمين عليه صلوات الله وسلامه؟! هل يهزم في موقعة حنين؟ هذا لا يمكن، إنما الرواية: مررت منهزماً برسول الله عليه الصلاة والسلام، يعني أنا المنهزم، لكن مررت والنبي عليه الصلاة والسلام ثابت، فبعض الناس ينصرف ذهنه إلى أن (منهزماً) حال من رسولنا عليه الصلاة والسلام، وهذا في منتهي الضلال، فإياك أن تظن هذا برسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو أشجع الخليقة وأقوى الخليقة وأكمل الخليقة خَلْقاً وخُلُقاً عليه صلوات الله وسلامه.

ركوب النبي على فرس عري للكشف عما أفزع أهل المدينة ليلاً

إخوتي الكرام! هذا الوصف هو من الكمال، والكمال الخَلقي في النبي عليه الصلاة والسلام متواتر، وورد نقله عن الصحابة بروايات متعددة، تقدمت معنا رواية علي في بدر، ورواية البراء في حنين.

انظر لهذه الرواية الثالثة من رواية أنس رضي الله عنه وأرضاه في غير الموقعتين المتقدمتين، وهذا هو حال النبي عليه الصلاة والسلام في جميع الأحوال، ثبت في المسند والصحيحين والحديث في سنن أبي داود والترمذي عن أنس رضي الله عنه قال: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس، وكان أجود الناس )، جمع الله فيه الكمال والجلال، الملاحة والبهاء عليه صلوات الله وسلامه، والصفة الثالثة: قال: ( وكان أشجع الناس ) طيب برهن على شجاعته، هات قصة تبرهن على هذا.

يقول أنس كما في الصحيحين والكتب الذي ذكرتها: ولقد فزع أهل المدينة ليلة، اعتراهم فزع، لشيء حدث في ناحية من نواحي المدينة المنورة على نبينا صلوات الله وسلامه، حصل شيء ظنوا أنه باغت المدينة عدو في تلك الناحية، فاعتراهم فزع، يقول: فانطلق ناس قبل الصوت، لنفرض أنه مثلاً وجد حريق، أو وجد شيء في ذلك المكان، فاعترى الصحابة فزع في تلك الليلة، فأسرعوا إلى جهة الصوت، قال: فاستقبلهم النبي صلى الله عليه وسلم عائداً من جهة الصوت، هم لا زالوا يذهبون، لكن النبي ذهب قبلهم، وكشف الخبر وعاد عليه صلوات الله وسلامه على فرس عري، أي: ليس عليه سرج يضعه على ظهر الخيل، جاء على فرس عري، وهذا لا يقال إلا في البهائم، وأما في بني آدم فيقال له: عريان، قال: جاء على فرس عري استعاره من أبي طلحة ، وهو يقول: (لن تراعوا، لن تراعوا)، أي: لا يوجد فزع، إنما هناك شيء طرأ من داخل المدينة على منورها صلوات الله وسلامه، وما جاء عدو، ولا يوجد شيء من أسباب الفزع، هم خرجوا والنبي عليه الصلاة والسلام خرج وكشف الخبر وعاد بمفرده على فرس عري عليه صلوات الله وسلامه، ويقول: (لن تراعوا لن تراعوا لن تراعوا)، ثم قال لـأبي طلحة : (إن وجدناه)، أي: هذا الفرس الذي استعرته منك، (لبحراً)، أي: هو متسع واسع الجري شديد السرعة كأنه بحر لا ينفد، وهذا الفرس قوته لا تضعف، وجريه لا يفتر.

يقول أنس رضي الله عنه: ولقد كان يبطئ هذا الفرس، يعني إذا مشى مع الخيول هو أبطؤها، لكن لما ركبه خير خلق الله عليه صلوات الله وسلامه صار بحراً، وإن كان ليبطئ، ثم ما سبق بعد ذلك، هذا الفرس ما سبق بعد ذلك، والحديث في الصحيحين، وشيء يركبه رسول الله عليه الصلاة والسلام هل يُسبق؟ هو لا يسبق، ومركوبه لا يسبق عليه صلوات الله وسلامه قطعاً وجزماً، فقد كان هذا الفرس بطيئاً، وإذا حصلت المسابقة بينه وبين الخيول يكون في المؤخرة، لكن صار بعد ذلك لا يُسبق. (إن وجدناه لبحراً).

إخوتي الكرام! يحق لمركوب يركبه خير خلق الله عليه الصلاة والسلام أن يكون كذلك، كما سيأتينا -إن شاء الله- عند حديث الإسراء لما قدم البراق إلى النبي عليه الصلاة والسلام ليركبه، وهو دابة دون الفرس وفوق الحمار، والبراق مأخوذ من البريق، وهو اللمعان، أو من البرق من شدة السرعة كأنه برق خاطف، لما قدم له ليركبه بدأ يستصعب عليه، ويعتريه امتناع وإباء، فقال له جبريل: ما لك؟ والله ما ركبك أحد قبله خير منه، ما ركبك أحد قبل النبي عليه الصلاة والسلام خير منه، قال: فانصب عرقاً، بدأ البراق وهذه الدابة تسيل عرقاً حياء، أما تعليل امتناع البراق، فقد علل بأمرين:

يقول الإمام ابن حجر : امتناع البراق ليس امتناع إباء، إنما امتناع زهوٍ وخيلاء، لما قدم البراق للنبي عليه الصلاة والسلام ليركبه بدأ يضرب برجليه ويفتخر أنه يركبني خير خلق الله، لكن هذا الافتخار لم يكن فيه ليونة ليركبه النبي عليه الصلاة والسلام، لكن هو يفتخر، وامتناعه ليس امتناع إباء، إنما امتناع زهو وخيلاء، وهذا الزهو والخيلاء الذي حصل له عندما اقترب من النبي عليه الصلاة والسلام ليركبه ترتب عليه نفور فيه، فاستصعب على النبي عليه الصلاة والسلام، لكن هذا الاستصعاب لا من باب الإباء، بل من باب الزهوّ والخيلاء، يبتهج أن يركبه خاتم الأنبياء عليه صلوات الله وسلامه، لكن هذا الزهو إذا طغى على الأدب الواجب فإنه يعاتب عليه، ولذلك قال له: ما لك؟ ما ركبك أحد قبله خير منه عليه صلوات الله وسلامه، فكيف يحصل منك ما يحصل؟ فتصبب عرقاً واستكان حياء فركبه نبينا عليه الصلاة والسلام.

هذه هي قوة الأنبياء عليهم صلوات الله وسلامه، فهم أكمل الناس خلقاً، جمالاً وجلالاً، وملاحة وبهاءً على نبينا وعلى أنبياء الله ورسله صلوات الله وسلامه.

قصة النبي مع المشرك الذي وقف على رأسه بالسيف قائلاً: من يمنعك مني

حديث رابع: ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث جابر ، وقد مر معنا عن علي والبراء وأنس وجابر ، ووالله! إن ذلك متواتر عن نبينا عليه الصلاة والسلام فيما وصفه به الصحابة الكرام أنه أشجع الناس، وأكرم الناس، وأحسن الناس، وأقوى الناس عليه الصلاة والسلام، هذا أمر متواتر، والقوي منهم يلوذ بالنبي عليه الصلاة والسلام عند الشدة، ويتقي به ويتترس به عليه صلوات الله وسلامه.

انظر لهذا الحديث وهو في الصحيحين وغيرهما من رواية جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قال: غزونا قبل نجد ومعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أردنا أن ننام القيلولة عند القائلة في الظهيرة، تفرق الصحابة تحت الشجر، وذهب النبي عليه الصلاة والسلام تحت شجرة وعلق سيفه بغصن من أغصانها ثم نام تحتها، وما معه أحد فداه نفسي وأبي وأمي عليه صلوات الله وسلامه، ففطن بعض المشركين لحال الصحابة الكرام الطيبين، وأنهم ناموا وابتعدوا عن النبي عليه الصلاة والسلام، فجاءه واسمه غورث بوزن جعفر، كما وردت الإشارة إلى هذا في صحيح البخاري ، وقيل: بضم الغين غُورث ، وقيل: غُويرث ، وقال القرطبي : بالكاف كورث ، وضبط الاسم لا يهمنا، والأرجح -فيما يظهر والعلم عند الله- أنه مشرك اسمه غورث ، جاء والنبي عليه الصلاة والسلام نائم القائلة تحت ظل الشجرة وسيفه معلق بغصن من أغصانها، فأخذ السيف وسله، فانتبه النبي عليه الصلاة والسلام، فقال: يا محمد عليه صلوات الله وسلامه! من يمنعك مني؟ إنسان مضطجع وفوقه إنسان قائم عدو له والسيف بيده مصلت، قال: من يمنعك مني؟ قال: (الله)، هذا كالتعليل الذي ذكرناه: أنا النبي لا كذب، وعدني الله بنصره، ولن يخلف الله وعده، فلو أتى أهل الأرض معك وسيوفهم مصلتة لا يقع في قلبي مقدار ذرة من فزع.

قال: فشام السيف، و(شام) من الأضداد كما يقول أئمتنا، يأتي بمعنى أدخل السيف في غمده، وبمعنى سله من غمده، والمراد هنا أدخله، لم أدخله؟ علم يقيناً أنه لا قدرة له على النبي عليه الصلاة والسلام، ولا قبل له به، هذا كلام الواثق المطمئن، والله جل وعلا ألقى في قلب هذا المشرك الرعب، فشام السيف، أي: أدخل السيف مرة أخرى إلى قرابه وغمده، (فقام النبي عليه الصلاة والسلام وأخذ السيف منه، وقال: من يمنعك مني؟ قال: لا أحد، وكن خير آخذ يا رسول الله عليه الصلاة والسلام)، يعني لا تعاقب وعاملني بالعفو والمسامحة، لكن ما يمنعني منك أحد، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: (اذهب فقد عفوت عنك)، فقال هذا المشرك: أنت خير مني يا رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله إني أعاهدك ألا أقاتلك وألا أقاتل مع أحد يقاتلك، لا أقاتلك مباشرة، ولا أساعد قوماً يقاتلونك، ولا أقاتل مع قوم يقاتلونك، كل من بينك وبينهم عداوة لا أنصرهم، فتركه النبي عليه الصلاة والسلام، وأخبر الصحابة الكرام بقصته، وذهب سالماً آمناً من بين الصحابة الكرام إلى قومه.

وقد آمن بعد ذلك كما ثبت هذا في رواية ابن إسحاق ، وفي رواية الواقدي : أنه آمن هو وقومه، وقال: جئتكم من عند خير الناس محمد عليه الصلاة والسلام، وقد عفا النبي عليه الصلاة والسلام عنه ليتألفه، وهو رءوف رحيم عليه صلوات الله وسلامه، وكان هذا العلاج في محله، فآمن بعد ذلك وآمن قومه معه كما في رواية ابن إسحاق والواقدي.

وورد في رواية ابن اسحاق في المغازي أن هذا المشرك غورث عندما حمل السيف والنبي عليه الصلاة والسلام مضطجع نائم، ففتح عينيه فرأى هذا المشهد، فقال: من يمنعك مني؟ قال النبي عليه الصلاة والسلام (الله)، في رواية ابن إسحاق عن جابر، يقول: (فضرب جبريل في صدره)، والله على كل شيء قدير، قال: ( فضرب جبريل في صدره فوقع السيف من يده، فقام النبي عليه الصلاة والسلام وأخذ السيف وقال: من يمنعك مني؟ قال: لا أحد، كن خير آخذ ) على نبينا صلوات الله وسلامه، هذه قوة نبينا عليه صلوات الله وسلامه، هذا الخلق في منتهى الكمال والقوة والصحة والفتوة على نبينا صلوات الله وسلامه.

وسيأتينا إخوتي الكرام في حادث الإسراء عندما أسري بنبينا عليه الصلاة والسلام وعرج به ومر على السماء السادسة وفيها نبي الله موسى على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه، ولما مر عليه وجاوزه بكى، ثم قال كما في حديث الإسراء: غلام بعث بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر ممن يدخلها من أمتي، والنبي عليه الصلاة والسلام في حادث الإسراء والمعراج كان عمره قد زاد على الخمسين، فحادثة الإسراء والمعراج وقعت قبل الهجرة بسنة، وعمره حينها اثنتان وخمسون سنة، فكيف يقول عنه: غلام؟ المقصود أنه غلام في الجد والعزم والنشاط والحيوية والفتوة، لا في العمر، فهو شيخ، لكن هذا الشيخ همة الغلمان والفتيان والشجعان والشبان دون همته، هذا الشيخ فيه قوة الشبان والشجعان والغلمان والفرسان على نبينا الصلاة والسلام، هذا حاله، وهذا الكمال في خَلْقهم عليهم جميعاً صلوات الله وسلامه.

أما قوته فقد ثبت في مسند الإمام أحمد وسنن النسائي ، والحديث إسناده صحيح عن علي رضي الله عنه، وهو الشجاع الصنديد، يقول علي رضي الله عنه في موقعة بدر: ( لقد رأيتنا يوم بدر ونحن نلوذ برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أقربنا إلى العدو، وكان أشد الناس بأساً )، أي: قوةً، فهذا علي والصحابة الكرام يلوذون، أي: يحتمون بالنبي عليه الصلاة والسلام، سبحان الله! متى جرت عادة الجنود أن يحتموا بقائدهم؟ الأصل أن الأمير هو الذي يحتمي بالجنود، لكن هنا العكس، أشجعنا يلوذ ويحتمي ويختبئ وراء النبي عليه الصلاة والسلام من شدة بأس الحرب، وكان عليه الصلاة والسلام أشد الناس بأساً.

وفي رواية: يقول علي رضي الله عنه كما في المسند: ( لما حضر البأس يوم بدر )، والبأس: هو القتال والشدة والمشقة، ( لما حضر البأس يوم بدر اتقينا برسول صلى الله عليه وسلم )، أي: احتمينا به وجعلناه وقاية بيننا وبين الأعداء عليه صلوات الله وسلامه، ( اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أشد الناس بأساً، لم يكن أحد أقرب إلى المشركين منه )، هذا هو النبي عليه صلوات الله وسلامه كان في المقدمة، وهو أشد الناس بأساً، وشجعان الصحابة الكرام كانوا يلوذون به ويتقون به عليه صلوات الله وسلامه.

هذه قوة الأنبياء، هذا هو كمال الخَلْق، هذه القوة العظيمة التي أعطاها الله لأنبيائه ورسله عليهم جميعاً صلوات الله وسلامه ليكونوا في درجة الكمال، خَلْقاً وخُلُقاً، أما رجل رعديد جبان لو خوف ينقطع قلبه، حقيقة هذا لا يصلح أن يكون نبياً، هذا في الناس منقصة، فكيف يتصف به نبي الله على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه؟!

لذلك في قصة حادث الهجرة الشهير، أشجع الخلق بعد الأنبياء هو أبو بكر على نبينا وعلى أنبياء الله ورسله والصديقين جميعاً صلوات الله وسلامه، ومع ذلك يقول: يا رسول الله! لو نظر أحدهم تحت قدمه لرآنا، انظر لكلام النبي عليه الصلاة والسلام، قال: (يا أبا بكر ! ما ظنك باثنين الله ثالثهما، لا تحزن إن الله معنا)، فانظر لحال أبي بكر وحال نبينا عليه الصلاة والسلام، وحال أبي بكر على حسب حاله، وكان خوفه رضي الله عنه على النبي عليه الصلاة والسلام، يتخوف عليه ويقول: أنا إن مت فأنا فرد، وأما أنت فالعالم كله بحاجة إليك عليك صلوات الله وسلامه، لكن اعتراه ما اعتراه من الخوف البشري والضعف الجبلي في الإنسان، لكن نبينا عليه الصلاة والسلام هون عليه وقال: (ما ظنك باثنين الله ثالثهما)، قال تعالى: إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا [التوبة:40].


استمع المزيد من الشيخ عبد الرحيم الطحان - عنوان الحلقة اسٌتمع
مباحث النبوة - الرضاعة حق للطفل 3297 استماع
مباحث النبوة - أزواج المؤمنين في جنات النعيم 3252 استماع
مباحث النبوة - النكاح مفتاح الغنى [1] 3230 استماع
مباحث النبوة - الآفات الردية في الشهوة الجنسية [1] 3207 استماع
مباحث النبوة - النكاح مفتاح الغنى [3] 3166 استماع
مباحث النبوة - صفات النبي صلى الله عليه وسلم خلقاً وخلُقاً 3152 استماع
مباحث النبوة - الآفات الردية في الشهوة الجنسية [2] 3121 استماع
مباحث النبوة - كرم النبي صلى الله عليه وسلم وجوده 3095 استماع
مباحث النبوة - قوت النبي صلى الله عليه وسلم [1] 3005 استماع
مباحث النبوة - ضرب المرأة بين المنع والإباحة 2950 استماع