فقه المواريث - الرد على ذوي الفروض


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة الطيبين وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً، سهل علينا أمورنا، وعلمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الراحمين، اللهم زدنا علماً نافعاً، وعملاً صالحاً بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين.

سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك، سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك، اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد إخوتي الكرام! تقدم معنا نوعان من أنواع التوريث:

أولهما: التوريث عن طريق التحديد والانضباط.

والثاني: عن طريق التقدير والاحتياط.

وفي النوعين الفروض مقدرة على حسب ما هو منصوص في الشريعة المطهرة، لكن أحياناً يكون من يرثها بيناً ثابتاً، وأحياناً يمكن أن يكون واحداً أو أكثر حوله جهالة: يمكن أن يكون حياً أو ميتاً، يمكن أن يكون ذكراً أو أنثى كما تقدم معنا في المفقود وفي الخنثى وفي الحمل، وفي الذين عمي بموتهم بحرق أو غرق أو غير ذلك، وما عدا هؤلاء فتقدم معنا أن الورثة واضحون ظاهرون، وأما هؤلاء فيوجد لبس حولهم إما في عددهم، وإما في صفتهم.

عندنا الآن هنا نوع آخر من أنواع الإرث: مقدار التوريث فيه باجتهاد وليس منصوصاً عليه.

وكل تقدم معنا من التوريث المقدر.. يعني المفقود عندما نورثه سنعطيه النصيب المقدر، وهكذا الخنثى عندما نقدره ذكراً سنعطيه النصيب المقدر، وعندما نقدره أنثى سنعطيه النصيب المقدر، وهكذا الحمل، أما هنا لا يوجد نصيب مقدر مطلقاً.

عندنا ورثة معروفون لكن ليس لهم نصيب مقدر، فهل نورثهم أم لا؟ يدخل تحت هذا مبحثان هما آخر الفرائض:

الأول: الرد. والثاني: مبحث توريث ذوي الأرحام، وتنتهي الفرائض عندنا.

وعليه يصبح معنا توريث عن طريق التحديد والانضباط، ورثة واضحون وأنصباؤهم واضحة ثابتة، وتوريث عن طريق التقدير والاحتياط، فالورثة فيه مشكوك فيهم إما في عددهم أو في صفتهم؛ في حياتهم، في موتهم، في ذكورتهم وأنوثتهم كما تقدم معنا، لكن الأنصباء محددة، عندنا هنا الورثة محددون ثابتون معروفون، لكن كم يستحقون؟ هل نورثهم أو لا؟ هذا كما قلت يكون فيه مبحثان: الرد وهو الذي سنبدأ به، وتوريث ذوي الأرحام.

إخوتي الكرام! هذان المبحثان لا يتصور وجودهما في حالتين:

الحالة الأولى: إن كان في الورثة عصبة، فلا يكون هناك رد ولا توريث لذوي الأرحام، لأن العصبة يحرز كل المال عند الانفراد، ويأخذ الباقي بعد أصحاب الفروض إذا وجد معهم أصحاب فروض، فمتى ما وجد عاصب لا يوجد رد ولا توريث لذوي الأرحام.

والحالة الثانية التي لا يتصور فيها رد ولا توريث لذوي الأرحام: هي ما إذا استغرقت الفروض التركة، كما لو ماتت عن زوج وأخت شقيقة، هنا الآن ما بقي شيء للرد ولو كان عندنا بعد ذلك ورثة من ذوي الأرحام لم يرثوا.

في هاتين الحالتين كما قلت لا يوجد توريث لذوي الأرحام ولا يوجد رد على الورثة الذين يرثون نوعاً محدداً ثم بقي شيء من التركة.

إذاً: إن وجد عاصب فلا رد ولا توريث لذوي الأرحام، وإذا استغرقت الفروض التركة فلا رد ولا توريث لذوي الأرحام، إذا لم يوجد عاصب.

إذاً نقول: وإذا لم يوجد عاصب ولم تستغرق الفروض التركة يأتي معنا هذان المبحثان: الرد ومبحث توريث ذوي الأرحام، ونبدأ بالرد.

التعريف اللغوي للرد

الرد معناه في اللغة: الرجع، والصرف والتحول كما في لسان العرب مادة (ردد) (4/1525)؛ حيث قال ابن منظور : رده عن وجهه يرده رداً ومرداً وترداداً صرفه وحوله.

الرد إذاً بمعنى الرجع والصرف والتحول، وقد استعمل الله هذا المعنى في كتابه كما استعمله نبينا عليه الصلاة والسلام في حديثه، قال الله جل وعلا في سورة البقرة: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة:109].

لَوْ يَرُدُّونَكُمْ [البقرة:109] الرد هنا بمعنى التحويل: يحولونكم وبمعنى الصرف: يصرفونكم عن دينكم.

استطراد يتعلق بآية (يرددكم عن دينكم) ودعاوى التعايش السلمي مع الكفار

وقال الله جل وعلا في نفس السورة: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة:217]، وتقدم معنا في مواعظ الجمعة: أن كل من دعا إلى التعايش السلمي فدعوته خيالية وضلالية، لا حقيقة لها، وقلت: ما دام على وجه الأرض كافر يريد أن يضل المؤمن، وما دام على وجه الأرض مؤمن يريد أن يهدي هذا الكافر، والهداية إما بالطرق السلمية والتي هي أحسن وإلا ندخلهم الجنة بالسلاسل، وإذا أبوا فأنزلنا الحديد كما قال الله: وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ [الحديد:25].

فلا يمكن أن يحصل تعايش سلمي إلا في إحدى حالتين: إذا اهتدى الكفار أو ضل الأبرار فقط، أي إذا صرنا مثلهم أو صاروا مثلنا انتهت المعركة، أما كفار ومؤمنون ثم تعايش سلمي فلا!

في المقابلة التي عملوها مع الشيخ ابن باز في فتياه الأخيرة قالوا له: الفتيا هذه غلط وفيها نظر ومحل تأمل ولا تجوز ولا كذا.. فهو يعلل يقول: أنا أردت الناس يصلون ويستريحون، يتعلمون ويستريحون، هذا خيال، هذا ليس بحقيقة، يعني قال: أردت من الصلح أن الناس يأمنون على أموالهم ودمائهم وأعراضهم، يصلون وهم في راحة، يتعلمون وهم في راحة، سبحان الله العظيم! مع اليهود وهم في راحة، ثم جاء عليهم من هو أخبث من اليهود، دخل تحت رعاية اليهود وحمايتهم وتعهد بضربهم من أجل أن يوضع على هذا الكرسي.

انظر لسوء التقدير، فتيا يقول مبناها هذا، ما هو؟ الناس قالوا يصلون ويستريحون، لا إله إلا الله! أنت تعيش في خيال، إذا كان هناك مؤمن وكافر، فكيف سيصلون ويستريحون؟ هي كانت في الأصل الهدنة تعقد بيننا وبينهم لا لنصلي ونستريح، بل لنجمع أنفسنا ثم بعد ذلك نوقفهم عند حدهم، يعني: نحن في حالة ضعف، صار معنا شيء من الصلح لا لنصلي ونستريح، ولكن لأجل أن نستعيد قوتنا، فإذا أعددنا القوة نبذنا إليهم عهدهم على سواء وحكم الله بيننا وبينهم بالسيف الذي جعله في هذه الحياة وانتهى الأمر، لا لأجل أن نصلي ونستريح، ونأكل ونستريح، ونقضي حاجة ونستريح.

هذا -كما قلت- مضيعة وعدم تقدير للحياة التي عند المؤمنين وعند الكافرين.

الشاهد هنا: وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا [البقرة:217] هذا يقوله رب العالمين الذي خلق عباده وهو بهم عليم، يقول: ما دام هناك كافر سيبذل ما في وسعه في إضلالك وإخراجك من دينك، ونحن نقول الآن: التعايش السلمي هذا هو أمنية العالم في هذه الأيام، ووضعوا بعد ذلك أعظم منظمة قرصنة وإرهاب واعتداء وسطو، وهي هيئة الأمم الملحدة والتي يشرف عليها الآن الرأس الكبير (الولايات الملحدة الأمريكية)، وإن كان معها أربعة أعضاء لكن هي في الحقيقة كما يقال لها الحصة الأساس من هذه المنظمة، هذه أعظم منظمة قرصنة واغتصاب وسطو واعتداء وجدت على هذه الأرض منذ أن قامت الدنيا إلى هذه الأيام تحت شعار: السلام العالمي، لا إله إلا الله!

إخوتي الكرام! وهذه المنظمة اللعينة وهي هيئة الأمم الملحدة كما قلت هي أسوأ منظمة عرفتها البشرية في تاريخ الحياة، يقول في وصفها شيخ الإسلام الشيخ مصطفى صبري عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا، في كتابه موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين وعباده المرسلين (1/5): ولم تقنع الدول المحاربة بإثارة هذا النوع من الموت على العالم في السلم بعد الحرب، ويريد بالموت: الحصار الاقتصادي بعد الحرب العالمية الثانية الذي ضُرب على بلاد المسلمين ليأكل هذا الحصار الناس بالأنياب الصامتة من الجوع والعري.

يقول: بل ابتدعوا نوعاً آخر أدهى وأمر، وهو أنهم أسسوا مجمعاً مسمى بهيئة الأمم دعوا إليها مندوبين من كل دولة صغيرة وكبيرة ليحكموا فيها على من يشاءون من الأمم بما يشاءون ظلماً وعدواناً، ويقسموا وبال الظلم والعدوان بين مجموع الهيئة، حتى جعلوا من حق هذه الهيئة وفي وسعها أن تنزع بلاداً من أهلها وتمنحها قوماً غيرهم من غير حرب، ولكن كزكاة الظفر للحرب العالمية الثانية المنتهية، وإن لم تكن صلة هذه الحرب بتلك البلاد ولا بأهلها، كما ترى هذه الحالة في فلسطين التي تمنحها هيئة الأمم مشردي اليهود لينشئوا فيها دولة، حتى إن أمريكا وروسيا الحليفتين ضد الألمان في الحرب وضد العرب بعد الحرب والجارتين من ورائهما في هيئة الأمم كثيراً من الدول الصغيرة، لو اتفقتا على إنشاء دولة يهودية في ألمانيا أو في اليابان كان له شيء من المناسبة والمعقولية؛ لكن أرى تلك الدول الصغيرة التي انحازت إلى جانب الكبيرتين الظالمتين في مسألة فلسطين أحق إلى التعيير والتشهير من أمريكا وروسيا وأحمق من هبنقة في موقفها المؤيد لخصوم الدول العربية الظالمين.

و(هبنقة) كان يضرب به المثل في الحمق وهو يزيد بن ثروان ، انظروا بعض أخباره في أخبار الحمقى والمغفلين للإمام ابن الجوزي عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا، وهكذا في عيون الأخبار لـابن قتيبة (2/45)، ومن أخباره الطريفة في الحماقة: أنه أضل بعيراً فبدأ ينادي: من وجده فهو له، فقالوا: فماذا تستفيد إذاً؟ قال: أما علمتم أن للوجدان حلاوة. يعني: إذا وجد بعيره وإن لم يأخذه فقد حصل حلاوة وجدانه، وهكذا الأمم العربية في هذه الأيام أحمق من هبنقة كما يقول شيخ الإسلام ، والعلم عند الله جل وعلا، ورحمة الله على من كان يقول:

لقد كان هذا الظلم فوضى فهذبت حواشيه حتى صار ظلماً منظماً

يعني قبائل كانت تعتدي على بعضها، لكن الآن قوانين وأنظمة وبروتوكولات معينة، فهو ظلم لكن منظم، وهذا أشنع من الظلم الفوضوي؛ لأن الظلم الفوضوي بإمكانك أن ترده.

وأحسن ما رأيت في المناظرة كلام بعض الإخوة حقيقة وأعرفه من صوته، قال له: يا شيخ! أنا أرى في مثل هذه الأمور العامة قبل أن تفتي أن تستشير أهل الخبرة، وهؤلاء الإخوة الذين معك إن شاء الله كلهم لا يشك فيهم فهم أهل صلاح؛ لكن أهل وعي واطلاع على ما يجري في هذه الحياة وعلى ما يكتب ويخطط، فإذا أردت أن تثبت قضية عامة فسلهم، قل: هذه ما شأنها؟ ما وضعها؟ ماذا يراد منها؟ لتعلم الحكم الشرعي فيها، كيف تنزل هذا الحكم على هذه الواقعة؟ لكن واقعة أنت بها جاهل كيف ستفتي بها؟ وقال له: المراسل من هؤلاء الصحفيين المفسدين، يعرض عليك سؤالاً أنت لا تعلم ما وراءه، فمن حيث الظاهر تخدع والمؤمن في الحقيقة ليس بخب ولا الخب يخدعه، فإذا أردت أن تفتي في قضية عامة تريث وناد هؤلاء الذين يطلعون قل: هذه ماذا يراد منها؟ ما المراد من هذا الصلح؟ ما هو الوضع؟ ما هي شروطه؟ ما هي ضوابطه؟ ماذا سيترتب عليه؟ حتى تعلم بعد ذلك أنه لا يفتي في هذا الصلح إلا من كان خبيثاً أو بعد ذلك جاهلاً، فإذا انتفى عنك الجهل وأردت أن تفتي بعد ذلك وتتحمل الأمر الثاني فأنت وما تحملت، لكن ينتفي عنك الجهل، أما الآن تقول: أنا هذا ما أريده ولا أعلمه، وهذا صحيح، لا إله إلا الله!!

إخوتي الكرام لا يمكن أن يحصل سلام بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا [البقرة:217].

استعمال الرد في القرآن بالمعنى اللغوي

واستعمل الله هذا المعنى أيضاً في غير هذه السورة من كتابه، فقال جل وعلا في السورة التي تليها وهي سورة آل عمران: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ [آل عمران:100]، أي: يصرفوكم ويحولوكم.

وفي نفس السورة يقول رب العالمين: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ [آل عمران:149]، الآيات في ذلك كثيرة.

استعمال الرد في السنة بالمعنى اللغوي

وهكذا استعمل نبينا عليه الصلاة والسلام الرد بمعنى الرجع والصرف والتحول، ففي المسند والصحيحين وسنن أبي داود وابن ماجه في الحديث الشهير الذي يحفظه كل كبير وصغير من رواية سيدتنا الطيبة المباركة أمنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها، أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)، أي: مرجوع عليه لا يقبله الله جل وعلا.

وفي رواية لـمسلم : (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد).

وثبت في المسند والكتب الستة وغير ذلك من دواوين السنة من رواية أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أما يخشى الذي يرفع رأسه قبل الإمام أن يحول الله صورته) وفي رواية: (رأسه)، وفي رواية: (وجهه)، (أن يحول صورته -رأسه وجهه- إلى صورة حمار، إلى وجه حمار، إلى رأس حمار) هذه كما قلت في المسند والكتب الستة، في بعض روايات المسند: (يحول)، وفي بعض روايات المسند: (أن يرد الله رأسه إلى رأس حمار)، فالرد بمعنى التحول.

إخوتي الكرام! هذه الألفاظ (أن يحول الله رأسه، وجهه، صورته) قال الحافظ ابن حجر في الفتح (2/183): الظاهر أن هذا من تصرف الرواة. يعني: هي لفظة صدرت من النبي عليه الصلاة والسلام: (وجه، رأس، صورة)، لكن الرواة تصرفوا فيها، يعني الصادر واحد، وهذا التعدد من تصرف الرواة. ثم نقل عن القاضي عياض قال: هذه الروايات متفقة وإن كانت من تصرف الرواة؛ لأن الوجه في الرأس، والوجه معظم الصورة فيه فكأن القاضي عياضاً يقول: هذه معناها واحد، الوجه في الرأس، ومعظم الصورة في الوجه، فمن أراد رأسه دخل الوجه، وجهه في الرأس، ومعظم الصورة في الوجه، قال الحافظ ابن حجر : قلت: لفظ الصورة يطلق على الوجه أيضاً، وأما لفظ الرأس فرواته أكثر وهو أشمل، فهو الرواية المعتمدة، يعني كأنه يقول: أكثر الرواة على: (أن يحول الله رأسه)، وعليه بقي (وجهه وصورته) من تصرف الرواة.

وقد ثبت في صحيح ابن حبان انظروه في الموارد (ص:135): (أن يحول الله رأسه إلى رأس كلب)، وهذا التحويل المراد منه التحويل الحقيقي وليس بمعنوي؛ لأن المعنوي ثابت فيه ولا داعي أن يخشى أن يحول إلى تلك الصورة؛ لأنه لو لم يكن على خلق الحمار لما رفع رأسه قبل الإمام، فهذا يدل على البلادة، ولو لم يكن في خسة الكلب لما رفع رأسه قبل الإمام؛ لأنك ماذا تستفيد عندما تسابق الإمام؛ هل تستطيع أن تسلم قبله؟ لو سلمت بطلت صلاتك، إذاً فلم تسابقه؟ لكن الذي فيه هذه الصفة يتللذذ بها غفلة وخسة.

فإذاً: هذه الصفة المعنوية ثابتة فيه عندما سابق الإمام، فلا داعي أن يهدد بها أن تحصل له، إنما المراد منها: التحويل والقلب والرجع الظاهري بحيث يقلب ربنا جل وعلا رأسه إلى رأس حمار حقيقة، ورأسه إلى رأس كلب، وخص هذين المخلوقين للبلادة الشديدة التي في الحمار، والخسة الفظيعة التي في الكلب، فذاك نجس خسيس خبيث، ولذلك إذا حقر الإنسان وقال: أنت بمنزلة الكلب، أينما جاء يطرد من خسته، وهذا يرجمه بالحجارة وهذا يصرفه، والحمار لا يطرد، بل يركب، لكن هو من أبلد خلق الله.

والتحول المهدد به أن يقع في الدنيا، يعني: توعد بذلك، فقد يقع وقد لا يقع، كما توعد مثلاً من يتعاطى المزامير بأن يخسف الله به وأن يمسخه قرداً وخنزيراً، لكن قد يقع عليه وقد لا يقع، المقصود أنه متوعد بذلك، فإذا أوقع الله به في العقوبة كان قد أنذره وقطع عذره فقط، وهنا كذلك.

الشاهد إخوتي الكرام! في بعض روايات الحديث: (أن يرد) هي محل الشاهد.

وآخر الأحاديث التي فيها استعمال الرد بمعنى: الرجع والصرف؛ ما ثبت في المسند والسنن الأربع إلا سنن النسائي ، والحديث رواه ابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه والبيهقي في السنن الكبرى من رواية سلمان رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن ربكم حيي كريم يستحي من عبده إذا رفع إليه يديه أن يردهما صفراً خائبتين).

أن يردهما: أن يحولهما، أن يرجعهما، أن يقلبهما، يعني: أنت ترفع يديك إلى ربك، الله يستحي إذا رفعت يديك إليه أن يرد هاتين اليدين خاليتين من غير إجابة, ولذلك قال أئمتنا: من آداب الدعاء مسح الوجه، لأنك عندما تدعو نزلت البركة عليك، وأكثر ما ينزل البركة على هاتين اليدين؛ لأنهما لم تردا صفراً خائبتين، فهذه البركة التي نزلت من الله امسح بها أشرف أعضائك.

هذا ما قرره أئمتنا، وتقدم معنا أن حديث مسح الوجه عقب الدعاء لا ينزل عن درجة الحسن كما قرر ذلك الحافظ ابن حجر في بلوغ المرام، وأئمتنا قاطبة اعتبروا من آداب الدعاء ومستحباته: مسح الوجه باليدين عقب الدعاء.

وهل يشرع هذا في الصلاة لو قنت ورفع يديه ودعا؟ للإمام أحمد قولان: قول يشرع كما يشرع خارج الصلاة أن يمسح وجهه في الصلاة كما يمسح وجهه خارج الصلاة؛ لأنه دعاء ترفع الأيدي فيه.

والقول الثاني: لا يمسح وجهه في الصلاة بعد أن يرفع، قال: لأن هذا لم ينقل عن النبي عليه الصلاة والسلام ولا عن السلف الكرام. لكن يمكن أن يدخل -كما قلت- على القول الأول في العمومات، إذا دعا ورفع يديه لا يحطهما حتى يمسح بهما وجهه.

هذا إخوتي الكرام ما يتعلق بالمعنى اللغوي للرد، وأنه بمعنى الرجع والصرف والتحول.

تعريف الرد اصطلاحاً

وفي الاصطلاح: الرد ضد العول، وتقدم معنا أن العول هو: زيادة أصل المسألة عن فروضها، الأصل مثلاً ستة صار عشرة، فهنا نقول في الرد هو: نقصان فروض المسألة عن أصلها، أي لو جمعت الفروض فهي أقل من الأصل، انتبه الآن كيف سيكون معنا الرد:

مات عن بنت وبنت ابن فقط، البنت لها النصف، وبنت الابن السدس تكملة للثلثين، المسألة من ستة، نصفها ثلاثة، سدسها واحد، اجمع الفروض تجدها أربعة، وأصل المسألة ستة، فبدل الستة تكتب أربعة، هذا هو الرد، فتعطي البنت ثلاثة من أربعة، أي ثلاثة أرباع، وتعطي بنت الابن الربع بدل السدس، سيأتينا كيفية الحل إن وجد أحد الزوجين.

تقدم معنا إخوتي الكرام! أن الفرائض ثلاثة: عادلة، وعائلة، والثالثة هي: ناقصة؛ لكن عبر عنها ابن عابدين لأجل أن يستقيم السجع فقال: عازلة، وذل في رد المحتار (6/786).

عادلة: إذا جمعت فروضها ساوت أصلها.

عائلة: إذا جمعت فروضها زادت على الأصل.

عازلة: وهي الناقصة، وهي إذا جمعت الفروض نقصت عن أصل المسألة.

ويقال لها: كاملة وزائدة وناقصة؛ الكاملة هي العادلة، والزائدة هي العائلة، والناقصة هي التي فيها رد (عازلة).

الرد معناه في اللغة: الرجع، والصرف والتحول كما في لسان العرب مادة (ردد) (4/1525)؛ حيث قال ابن منظور : رده عن وجهه يرده رداً ومرداً وترداداً صرفه وحوله.

الرد إذاً بمعنى الرجع والصرف والتحول، وقد استعمل الله هذا المعنى في كتابه كما استعمله نبينا عليه الصلاة والسلام في حديثه، قال الله جل وعلا في سورة البقرة: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة:109].

لَوْ يَرُدُّونَكُمْ [البقرة:109] الرد هنا بمعنى التحويل: يحولونكم وبمعنى الصرف: يصرفونكم عن دينكم.

وقال الله جل وعلا في نفس السورة: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة:217]، وتقدم معنا في مواعظ الجمعة: أن كل من دعا إلى التعايش السلمي فدعوته خيالية وضلالية، لا حقيقة لها، وقلت: ما دام على وجه الأرض كافر يريد أن يضل المؤمن، وما دام على وجه الأرض مؤمن يريد أن يهدي هذا الكافر، والهداية إما بالطرق السلمية والتي هي أحسن وإلا ندخلهم الجنة بالسلاسل، وإذا أبوا فأنزلنا الحديد كما قال الله: وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ [الحديد:25].

فلا يمكن أن يحصل تعايش سلمي إلا في إحدى حالتين: إذا اهتدى الكفار أو ضل الأبرار فقط، أي إذا صرنا مثلهم أو صاروا مثلنا انتهت المعركة، أما كفار ومؤمنون ثم تعايش سلمي فلا!

في المقابلة التي عملوها مع الشيخ ابن باز في فتياه الأخيرة قالوا له: الفتيا هذه غلط وفيها نظر ومحل تأمل ولا تجوز ولا كذا.. فهو يعلل يقول: أنا أردت الناس يصلون ويستريحون، يتعلمون ويستريحون، هذا خيال، هذا ليس بحقيقة، يعني قال: أردت من الصلح أن الناس يأمنون على أموالهم ودمائهم وأعراضهم، يصلون وهم في راحة، يتعلمون وهم في راحة، سبحان الله العظيم! مع اليهود وهم في راحة، ثم جاء عليهم من هو أخبث من اليهود، دخل تحت رعاية اليهود وحمايتهم وتعهد بضربهم من أجل أن يوضع على هذا الكرسي.

انظر لسوء التقدير، فتيا يقول مبناها هذا، ما هو؟ الناس قالوا يصلون ويستريحون، لا إله إلا الله! أنت تعيش في خيال، إذا كان هناك مؤمن وكافر، فكيف سيصلون ويستريحون؟ هي كانت في الأصل الهدنة تعقد بيننا وبينهم لا لنصلي ونستريح، بل لنجمع أنفسنا ثم بعد ذلك نوقفهم عند حدهم، يعني: نحن في حالة ضعف، صار معنا شيء من الصلح لا لنصلي ونستريح، ولكن لأجل أن نستعيد قوتنا، فإذا أعددنا القوة نبذنا إليهم عهدهم على سواء وحكم الله بيننا وبينهم بالسيف الذي جعله في هذه الحياة وانتهى الأمر، لا لأجل أن نصلي ونستريح، ونأكل ونستريح، ونقضي حاجة ونستريح.

هذا -كما قلت- مضيعة وعدم تقدير للحياة التي عند المؤمنين وعند الكافرين.

الشاهد هنا: وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا [البقرة:217] هذا يقوله رب العالمين الذي خلق عباده وهو بهم عليم، يقول: ما دام هناك كافر سيبذل ما في وسعه في إضلالك وإخراجك من دينك، ونحن نقول الآن: التعايش السلمي هذا هو أمنية العالم في هذه الأيام، ووضعوا بعد ذلك أعظم منظمة قرصنة وإرهاب واعتداء وسطو، وهي هيئة الأمم الملحدة والتي يشرف عليها الآن الرأس الكبير (الولايات الملحدة الأمريكية)، وإن كان معها أربعة أعضاء لكن هي في الحقيقة كما يقال لها الحصة الأساس من هذه المنظمة، هذه أعظم منظمة قرصنة واغتصاب وسطو واعتداء وجدت على هذه الأرض منذ أن قامت الدنيا إلى هذه الأيام تحت شعار: السلام العالمي، لا إله إلا الله!

إخوتي الكرام! وهذه المنظمة اللعينة وهي هيئة الأمم الملحدة كما قلت هي أسوأ منظمة عرفتها البشرية في تاريخ الحياة، يقول في وصفها شيخ الإسلام الشيخ مصطفى صبري عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا، في كتابه موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين وعباده المرسلين (1/5): ولم تقنع الدول المحاربة بإثارة هذا النوع من الموت على العالم في السلم بعد الحرب، ويريد بالموت: الحصار الاقتصادي بعد الحرب العالمية الثانية الذي ضُرب على بلاد المسلمين ليأكل هذا الحصار الناس بالأنياب الصامتة من الجوع والعري.

يقول: بل ابتدعوا نوعاً آخر أدهى وأمر، وهو أنهم أسسوا مجمعاً مسمى بهيئة الأمم دعوا إليها مندوبين من كل دولة صغيرة وكبيرة ليحكموا فيها على من يشاءون من الأمم بما يشاءون ظلماً وعدواناً، ويقسموا وبال الظلم والعدوان بين مجموع الهيئة، حتى جعلوا من حق هذه الهيئة وفي وسعها أن تنزع بلاداً من أهلها وتمنحها قوماً غيرهم من غير حرب، ولكن كزكاة الظفر للحرب العالمية الثانية المنتهية، وإن لم تكن صلة هذه الحرب بتلك البلاد ولا بأهلها، كما ترى هذه الحالة في فلسطين التي تمنحها هيئة الأمم مشردي اليهود لينشئوا فيها دولة، حتى إن أمريكا وروسيا الحليفتين ضد الألمان في الحرب وضد العرب بعد الحرب والجارتين من ورائهما في هيئة الأمم كثيراً من الدول الصغيرة، لو اتفقتا على إنشاء دولة يهودية في ألمانيا أو في اليابان كان له شيء من المناسبة والمعقولية؛ لكن أرى تلك الدول الصغيرة التي انحازت إلى جانب الكبيرتين الظالمتين في مسألة فلسطين أحق إلى التعيير والتشهير من أمريكا وروسيا وأحمق من هبنقة في موقفها المؤيد لخصوم الدول العربية الظالمين.

و(هبنقة) كان يضرب به المثل في الحمق وهو يزيد بن ثروان ، انظروا بعض أخباره في أخبار الحمقى والمغفلين للإمام ابن الجوزي عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا، وهكذا في عيون الأخبار لـابن قتيبة (2/45)، ومن أخباره الطريفة في الحماقة: أنه أضل بعيراً فبدأ ينادي: من وجده فهو له، فقالوا: فماذا تستفيد إذاً؟ قال: أما علمتم أن للوجدان حلاوة. يعني: إذا وجد بعيره وإن لم يأخذه فقد حصل حلاوة وجدانه، وهكذا الأمم العربية في هذه الأيام أحمق من هبنقة كما يقول شيخ الإسلام ، والعلم عند الله جل وعلا، ورحمة الله على من كان يقول:

لقد كان هذا الظلم فوضى فهذبت حواشيه حتى صار ظلماً منظماً

يعني قبائل كانت تعتدي على بعضها، لكن الآن قوانين وأنظمة وبروتوكولات معينة، فهو ظلم لكن منظم، وهذا أشنع من الظلم الفوضوي؛ لأن الظلم الفوضوي بإمكانك أن ترده.

وأحسن ما رأيت في المناظرة كلام بعض الإخوة حقيقة وأعرفه من صوته، قال له: يا شيخ! أنا أرى في مثل هذه الأمور العامة قبل أن تفتي أن تستشير أهل الخبرة، وهؤلاء الإخوة الذين معك إن شاء الله كلهم لا يشك فيهم فهم أهل صلاح؛ لكن أهل وعي واطلاع على ما يجري في هذه الحياة وعلى ما يكتب ويخطط، فإذا أردت أن تثبت قضية عامة فسلهم، قل: هذه ما شأنها؟ ما وضعها؟ ماذا يراد منها؟ لتعلم الحكم الشرعي فيها، كيف تنزل هذا الحكم على هذه الواقعة؟ لكن واقعة أنت بها جاهل كيف ستفتي بها؟ وقال له: المراسل من هؤلاء الصحفيين المفسدين، يعرض عليك سؤالاً أنت لا تعلم ما وراءه، فمن حيث الظاهر تخدع والمؤمن في الحقيقة ليس بخب ولا الخب يخدعه، فإذا أردت أن تفتي في قضية عامة تريث وناد هؤلاء الذين يطلعون قل: هذه ماذا يراد منها؟ ما المراد من هذا الصلح؟ ما هو الوضع؟ ما هي شروطه؟ ما هي ضوابطه؟ ماذا سيترتب عليه؟ حتى تعلم بعد ذلك أنه لا يفتي في هذا الصلح إلا من كان خبيثاً أو بعد ذلك جاهلاً، فإذا انتفى عنك الجهل وأردت أن تفتي بعد ذلك وتتحمل الأمر الثاني فأنت وما تحملت، لكن ينتفي عنك الجهل، أما الآن تقول: أنا هذا ما أريده ولا أعلمه، وهذا صحيح، لا إله إلا الله!!

إخوتي الكرام لا يمكن أن يحصل سلام بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا [البقرة:217].

واستعمل الله هذا المعنى أيضاً في غير هذه السورة من كتابه، فقال جل وعلا في السورة التي تليها وهي سورة آل عمران: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ [آل عمران:100]، أي: يصرفوكم ويحولوكم.

وفي نفس السورة يقول رب العالمين: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ [آل عمران:149]، الآيات في ذلك كثيرة.

وهكذا استعمل نبينا عليه الصلاة والسلام الرد بمعنى الرجع والصرف والتحول، ففي المسند والصحيحين وسنن أبي داود وابن ماجه في الحديث الشهير الذي يحفظه كل كبير وصغير من رواية سيدتنا الطيبة المباركة أمنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها، أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)، أي: مرجوع عليه لا يقبله الله جل وعلا.

وفي رواية لـمسلم : (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد).

وثبت في المسند والكتب الستة وغير ذلك من دواوين السنة من رواية أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أما يخشى الذي يرفع رأسه قبل الإمام أن يحول الله صورته) وفي رواية: (رأسه)، وفي رواية: (وجهه)، (أن يحول صورته -رأسه وجهه- إلى صورة حمار، إلى وجه حمار، إلى رأس حمار) هذه كما قلت في المسند والكتب الستة، في بعض روايات المسند: (يحول)، وفي بعض روايات المسند: (أن يرد الله رأسه إلى رأس حمار)، فالرد بمعنى التحول.

إخوتي الكرام! هذه الألفاظ (أن يحول الله رأسه، وجهه، صورته) قال الحافظ ابن حجر في الفتح (2/183): الظاهر أن هذا من تصرف الرواة. يعني: هي لفظة صدرت من النبي عليه الصلاة والسلام: (وجه، رأس، صورة)، لكن الرواة تصرفوا فيها، يعني الصادر واحد، وهذا التعدد من تصرف الرواة. ثم نقل عن القاضي عياض قال: هذه الروايات متفقة وإن كانت من تصرف الرواة؛ لأن الوجه في الرأس، والوجه معظم الصورة فيه فكأن القاضي عياضاً يقول: هذه معناها واحد، الوجه في الرأس، ومعظم الصورة في الوجه، فمن أراد رأسه دخل الوجه، وجهه في الرأس، ومعظم الصورة في الوجه، قال الحافظ ابن حجر : قلت: لفظ الصورة يطلق على الوجه أيضاً، وأما لفظ الرأس فرواته أكثر وهو أشمل، فهو الرواية المعتمدة، يعني كأنه يقول: أكثر الرواة على: (أن يحول الله رأسه)، وعليه بقي (وجهه وصورته) من تصرف الرواة.

وقد ثبت في صحيح ابن حبان انظروه في الموارد (ص:135): (أن يحول الله رأسه إلى رأس كلب)، وهذا التحويل المراد منه التحويل الحقيقي وليس بمعنوي؛ لأن المعنوي ثابت فيه ولا داعي أن يخشى أن يحول إلى تلك الصورة؛ لأنه لو لم يكن على خلق الحمار لما رفع رأسه قبل الإمام، فهذا يدل على البلادة، ولو لم يكن في خسة الكلب لما رفع رأسه قبل الإمام؛ لأنك ماذا تستفيد عندما تسابق الإمام؛ هل تستطيع أن تسلم قبله؟ لو سلمت بطلت صلاتك، إذاً فلم تسابقه؟ لكن الذي فيه هذه الصفة يتللذذ بها غفلة وخسة.

فإذاً: هذه الصفة المعنوية ثابتة فيه عندما سابق الإمام، فلا داعي أن يهدد بها أن تحصل له، إنما المراد منها: التحويل والقلب والرجع الظاهري بحيث يقلب ربنا جل وعلا رأسه إلى رأس حمار حقيقة، ورأسه إلى رأس كلب، وخص هذين المخلوقين للبلادة الشديدة التي في الحمار، والخسة الفظيعة التي في الكلب، فذاك نجس خسيس خبيث، ولذلك إذا حقر الإنسان وقال: أنت بمنزلة الكلب، أينما جاء يطرد من خسته، وهذا يرجمه بالحجارة وهذا يصرفه، والحمار لا يطرد، بل يركب، لكن هو من أبلد خلق الله.

والتحول المهدد به أن يقع في الدنيا، يعني: توعد بذلك، فقد يقع وقد لا يقع، كما توعد مثلاً من يتعاطى المزامير بأن يخسف الله به وأن يمسخه قرداً وخنزيراً، لكن قد يقع عليه وقد لا يقع، المقصود أنه متوعد بذلك، فإذا أوقع الله به في العقوبة كان قد أنذره وقطع عذره فقط، وهنا كذلك.

الشاهد إخوتي الكرام! في بعض روايات الحديث: (أن يرد) هي محل الشاهد.

وآخر الأحاديث التي فيها استعمال الرد بمعنى: الرجع والصرف؛ ما ثبت في المسند والسنن الأربع إلا سنن النسائي ، والحديث رواه ابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه والبيهقي في السنن الكبرى من رواية سلمان رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن ربكم حيي كريم يستحي من عبده إذا رفع إليه يديه أن يردهما صفراً خائبتين).

أن يردهما: أن يحولهما، أن يرجعهما، أن يقلبهما، يعني: أنت ترفع يديك إلى ربك، الله يستحي إذا رفعت يديك إليه أن يرد هاتين اليدين خاليتين من غير إجابة, ولذلك قال أئمتنا: من آداب الدعاء مسح الوجه، لأنك عندما تدعو نزلت البركة عليك، وأكثر ما ينزل البركة على هاتين اليدين؛ لأنهما لم تردا صفراً خائبتين، فهذه البركة التي نزلت من الله امسح بها أشرف أعضائك.

هذا ما قرره أئمتنا، وتقدم معنا أن حديث مسح الوجه عقب الدعاء لا ينزل عن درجة الحسن كما قرر ذلك الحافظ ابن حجر في بلوغ المرام، وأئمتنا قاطبة اعتبروا من آداب الدعاء ومستحباته: مسح الوجه باليدين عقب الدعاء.

وهل يشرع هذا في الصلاة لو قنت ورفع يديه ودعا؟ للإمام أحمد قولان: قول يشرع كما يشرع خارج الصلاة أن يمسح وجهه في الصلاة كما يمسح وجهه خارج الصلاة؛ لأنه دعاء ترفع الأيدي فيه.

والقول الثاني: لا يمسح وجهه في الصلاة بعد أن يرفع، قال: لأن هذا لم ينقل عن النبي عليه الصلاة والسلام ولا عن السلف الكرام. لكن يمكن أن يدخل -كما قلت- على القول الأول في العمومات، إذا دعا ورفع يديه لا يحطهما حتى يمسح بهما وجهه.

هذا إخوتي الكرام ما يتعلق بالمعنى اللغوي للرد، وأنه بمعنى الرجع والصرف والتحول.