فقه المواريث - تعريف الإرث في المعنى والاصطلاح


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة الطيبين وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً، سهل علينا أمورنا وعلمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الرحمين.

اللهم زدنا علماً نافعاً وعملاً صالحاً بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين، سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك، سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك، اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد:

إخوتي الكرام! كنا نتدارس الحقوق المتعلقة بالإنسان بعد موته، وقلت: هذه الحقوق تنقسم إلى خمسة أقسام:

أولها كما تقدم معنا عند الجمهور: أداء الدين وقضاء الدين المتعلق بعين التركة.

وثانيها: مؤمن تجهيز الميت، والإمام أحمد عليهم جميعاً رحمة الله قدم الثاني على الأول كما تقدم معنا بسط هذا.

والحق الثالث: الديون المتعلقة بالذمة والرقبة، فليست متعلقة بعين المال.

والرابع: الوصية.

والخامس, وهو الحق الذي سنتدارسه اليوم إن شاء الله: الإرث.

وقلت: هذه الحقوق الخمسة إما أن تكون للميت أو عليه أو لا له ولا عليه، فأما الحق الذي هو للميت فهو حق واحد، وهو تجهيزه، وأما الذي على الميت فحقان: حق يتعلق كما قلنا عليه في ماله، وحق عليه يتعلق بذمته ورقبته.

وأما الذي لا له ولا عليه أيضاً أمران: الوصية وتقدم الكلام عليها في الموعظة الماضية، والإرث وهو الذي سنتدارسه في هذه الموعظة بعون الله.

الإرث هو الحق الخامس من الحقوق المتعلقة بالإنسان بعد موته، وهذا الحق هو المقصود بالذات من هذا العلم، فنحن نتعلم علم الفرائض لنوصل إلى كل ذي حق حقه من الميت الذي مات، فالإرث هو ثمرة هذا العلم، وهو غايته، وهو المقصود من دراستنا لعلم الفرائض.

والإرث تعريفه: أن نوزع المال على الورثة حسب كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، وما أجمع عليه علماء الإسلام.

فإذا لم يوجد طريق لتوزيع الإرث بهذه الأمور الثلاثة من كتاب أو سنة أو إجماع، نرجع إلى اجتهاد المجتهدين؛ لأن الفرائض والتوريث في علم المواريث على قسمين: قسم متفق على أصله وأهله ولا خلاف بين المسلمين فيه، وهذا المتعلق بالفروض المقدرة وبالعصبات، مثل كون الأم تأخذ الثلث أو تأخذ السدس أو تأخذ ثلث الباقي كما في الغراوين فهذا كما قلت محل اتفاق بين أئمة الإسلام.

وكذا كون البنت تأخذ النصف أو تكون عصبة أو تأخذ مع أختها بعد ذلك الثلثين البنتان هذا محل اتفاق، وكون الابن يكون عصبة، هذا محل اتفاق, الفروض والعصبات متفق على أصلها وعلى أهلها.

وهناك نوع من التوريث مختلف في أصله وفيمن يستحقه كالرد الذي سيأتينا وتوريث ذوي الأرحام وبيت المال، هل هؤلاء يرثون أم لا؟ وهل الأدلة في تريثهم متفق عليها أم لا؟ سيأتينا أسباب غير متفق عليها ومختلف فيها، يعني: هل هؤلاء يستحقون الإرث أم لا؟ ثم إذا استحقوا على من نرد؟ هل نرد على الزوجين أو على أصحاب الفروض النسبية فقط دون السببية؟ ثم بعد ذلك ذوي الأرحام مختلف في توريثهم عندما نورثهم، هل ننزلهم منزلة من أدلوا به أو نورثهم كما نورث العصبات، كما سيأتينا أقوال العلماء في ذلك.

وعليه نحن نقسم المال بعد أداء الحقوق الأربعة المتقدمة على حسب كتاب الله، وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، وما أجمع عليه أئمة الإسلام، فإذا لم يوجد دليل القسم في هذه الأمور الثلاثة نلجأ إلى اجتهاد المجتهدين كما يكون في مسائل الرد وتوريث ذوي الأرحام وبيت المال. وسيأتينا بسط الكلام على هذا إن شاء الله.

ولذلك أئمتنا راعوا هذا الترتيب في علم الفرائض، فأول شيء بدءوا به الفروض المقدرة ثم أتبعوها بالتعصيب، ثم بعد ذلك ختموا الأمر بالمسائل المختلف فيها من الرد وذوي الأرحام وتوريث بيت المال.

وعليه عندنا هنا القسم يكون عن طريق ما ثبت في النصوص الشرعية من كتاب أو سنة أو إجماع، والإجماع لا يكون إلا بناء على نص شرعي، هذه كلها محل اتفاق, فإذا لم يوجد نرجع إلى اجتهاد المجتهدين من أئمة المسلمين، كما سيأتينا كيف اختلفوا في الرد وعلى من يرد، واختلفوا في توريث ذوي الأرحام، وكيف نورث ذوي الأرحام، فالاختلاف في توريثهم وفي كيفية توريثهم.

أما الفروض والعصبات لا خلاف فيها كما سيأتينا، ومسائل الفرائض إذا قلت لكم بالمائة تسعة وتسعين منها لا تخرج عن القسمين الأولين: فروض وعصبات، قل أن يموت إنسان وليس له عاصب: ( ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأولى رجل ذكر )، أما أن يموت وليس هناك صاحب فرض ولا عاصب، يعني: ما له إلا خالة أو بنت أخت هل ترث منه أو لا، فهي من ذوي الأرحام وليست من أصحاب الفروض المقدرة، هذا يأتينا بحثه إن شاء الله إخوتي الكرام.

خلاصة الكلام: هذا الحق الخامس كما قلت هو المقصود بالذات من دراستنا لعلم الفرائض، فما معنى الإرث في اللغة وفي الاصطلاح؟ ينبغي أن نحيط علماً بذلك، ثم ننتقل إلى الموعظة المتعلقة بانتقال المال من الإنسان إلى ورثته بعد موته؛ لنأخذ من ذلك عبرة قبل الدخول في تفصيل مباحث علم الميراث.

الإرث يأتي في اللغة العربية لثلاثة معان:

أولها: يأتي بمعنى البقاء، ومن أسماء ربنا جل وعلا: الوارث، وهو الباقي الدائم الذي يرث الخلائق بعد فنائهم سبحانه وتعالى. وهو مصدر ورث يرث ورثاً، ووراثة، وإرثاً وإراثة، واسم الفاعل وارث، واسم المفعول موروث.

قال علماء اللغة: ويطلق الإرث على ما ورث من قنية. أي: متاع أو حق. ويطلق عليها ميراث، ويطلق عليها تراث كما سيأتينا شواهد ذلك، ويطلق عليها إراث.

فالقنية المتاع الذي يورث من الميت والحق الذي يورث منه يقال له: إرث وميراث وتراث وإراث، هذا في لغة العرب، وإليكم الشواهد التي تقرر هذا المعنى، وأن لفظ الإرث بمعنى البقاء، والوارث هو الباقي الدائم.

قال الله جل وعلا في سورة الحجر: وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ [الحجر:23]، أي: هو الباقي جل وعلا الذي يبقى بعد فناء خلقه: كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص:88] سبحانه وتعالى، وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ [الحجر:23].

وقال جل وعلا في سورة مريم: إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ [مريم:40]، وقال جل وعلا في سورة الأنبياء: وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ [الأنبياء:89]، وقال جل وعلا في سورة القصص: وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ [القصص:58].

إذاً: لا يبقى إلا ربنا الكريم سبحانه وتعالى، ومن عداه يعتريه الموت والفناء والهلاك، فسبحان من قهر عباده بالموت جل شأنه وعز سلطانه، فهو خير الوارثين، وهو الذي يرث عباده ويبقى بعدهم، وكل من عداه يفنى ويهلك سبحانه وتعالى.

والبقاء لله، والأشياء كلها صائرة إلى الله جل وعلا، ولذلك أخبر الله جل وعلا عن نفسه بأنه له ميراث السماوات والأرض، يقول الله جل وعلا في سورة آل عمران: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [آل عمران:180]، ونظير هذه الآية أيضاً قول الله جل وعلا في سورة الحديد: وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [الحديد:10]، فما فيهما يبقى لله جل وعلا، فالأمر منه وإليه سبحانه وتعالى.

هذه الأشياء يملكها في البداية وفي النهاية وملكنا مستعار: وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ [الحديد:7]، وهو المالك سبحانه وتعالى، هو الوارث، هو الحي الباقي سبحانه وتعالى جل شأنه وعز سلطانه.

إذاً: الإرث بمعنى البقاء والوارث هو الباقي، وأطلق الله جل وعلا هذا اللفظ الذي هو الوراثة بمعنى البقاء على ما يقع في حق الخلق من بقاء بعد بعضهم، فمن فني منهم جاءهم بعد ذلك ورثتهم فبقوا بعدهم، وإن كان البقاء يختلف عن بقاء الله جل وعلا، لكن الحي بعد والده باق، كما أن الله جل وعلا هو الوارث الباقي سبحانه وتعالى، فأطلق الله جل وعلا لفظ الوارث على العباد بمعنى أنهم يبقون بعد من مات من أقربائهم، من مات ممن ورثوه، يقول الله جل وعلا مشيراً إلى هذا في سورة البقرة: وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ [البقرة:233]، (وعلى الوارث) أي: الحي من الورثة الذي ورث هذا الميت، مثل ذلك، أي: أيضاً يكلف بالنفقة على هذه المرأة وعلى هذا الغلام، كما لو كان الأب حياً، وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ [البقرة:233]، فسماه وارثاً، أي: باقياً بعد موت مورثه.

وقد كان نبينا صلى الله عليه وسلم يدعو ربه بأن يجعل أعضاءه ترثه أي: تبقى في حياته، بحيث إذا مات يخلف هذه الأعضاء سليمة ليس فيها آفة ولا نقص، وكان يدعو بهذا الدعاء على نبينا صلوات الله وسلامه في غالب المجالس، كما قال الإمام ابن عمر رضي الله عنهما وهو شيخ الإسلام في عهد الصحابة، يقول: ( قلما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلس مجلساً إلا دعا بهذا الدعاء ).

والدعاء ثابت في سنن الترمذي ومستدرك الحاكم ، ولفظ المستدرك قريب من لفظ رواية الإمام الترمذي ، وهذه الرواية في سنن الترمذي رقمها: (3497)، وانظروه في المستدرك بنحوه في (1/528) ، والحديث صحيح على شرط البخاري ، وأقره عليه الذهبي ، وحسنه الإمام الترمذي عليهم جميعاً رحمة الله، ولفظ الحديث عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: ( قلما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلس مجلساً إلا ودعا بهذا الدعاء قبل أن يقوم فيقول: اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا، ومتعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا )، أي: اجعل ذلك التمتيع الذي نتمتع بجوارحنا، بسمعنا وأبصارنا وقوتنا، أي: الباقي منا عندما نموت، فإذا متنا فالسمع والبصر والأعضاء سليمة ليس فيها آفة. (واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا من لا يرحمنا ).

كان نبينا عليه الصلاة والسلام يدعو بهذا الدعاء كما قلت في غالب المجالس، وقلما يجلس مجلساً إلا دعا بهذا الدعاء قبل أن يقوم من مجلسه عليه صلوات الله وسلامه.

والحديث كما قلت إخوتي الكرام في الترمذي والمستدرك، وهو حديث صحيح، وروي معناه عن عدة من الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين، وانظروا الروايات التي بمعناه في مجمع الزوائد (10/178)، من رواية أبي هريرة ، ومن رواية علي ، ومن رواية جابر بن عبد الله ، ومن رواية عبد الله بن الشخير ، وفي هذه الروايات الأربع مع الرواية المتقدمة عن ابن عمر كلها فيها محل الشاهد، وهو أن النبي عليه الصلاة والسلام يقول: ( واجعله الوارث مني )، أي: هذه الأعضاء تبقى سليمة إلى موتي، على نبينا صلوات الله وسلامه.

إذاً: يأتي الإرث كما قلت بمعنى البقاء، واستعمل هذا المعنى في حق الله جل وعلا، واستعمل في حق العباد، وبقاء كل شيء بحسبه.

وقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن العلماء ورثة الأنبياء، أي: يبقون بعدهم، ويرثون علمهم، وينشرون دعوتهم، فهم يخلفونهم ويبقون بعدهم، فهم ورثة ووارثون، بمعنى باقون مستمرون يدعون إلى دين الحي القيوم، فهم ورثة الأنبياء، والحديث في المسند والسنن الأربع إلا سنن الإمام النسائي ، ورواه الإمام الدارمي وغيرهم، وإسناد الحديث صحيح من رواية أبي الدرداء رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاً بما يصنع، وإن العالم ليستغفر له من في السماوات ومن في الأرض حتى الحيتان في البحر، وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا درهماً ولا ديناراً، إنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر ) فهم يبقون كما قلت بعد الأنبياء عليهم جميعاً صلوات الله وسلامه، ينشرون الشريعة الغراء:

العلم ميراث النبي كما أتى في النص والعلماء هم وراثه

ما خلف المختار غير حديثه فينا فذاك متاعه وأثاثه

على نبينا صلوات الله وسلامه.

إذاً: استعمل هذا المعنى الإرث بمعنى البقاء، والوارث بمعنى الباقي في حق الله وفي حق العباد، وبقاء كل شيء بحسبه.

امتنان الله على عباده المؤمنين بتوريثهم الأرض في الحياة الدنيا والجنات في الآخرة

ومما يدخل في هذا المعنى: إخبار الله لعباده بأنه من عليهم بتوريثهم الأرض في هذه الحياة، ونعيم الجنات بعد الممات، فهم ورثوا الأرض في الدنيا، وورثوا الجنة في الآخرة، يقول الله في سورة الأنبياء: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ [الأنبياء:105].

وهذه الأرض شاملة لأرض الدنيا، وشاملة لأرض الآخرة وهي الجنة التي ينعم بها عباد الله المتقون المؤمنون، أما أرض الدنيا، فالله جل وعلا سينصر عباده الموحدين في هذه الحياة، ويمكن لهم في هذه الدنيا: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [النور:55].

وقد أشار الله إلى هذا المعنى، وأن الله يمن على عباده الموحدين، الذين ينصرون دينه، يمن عليهم بنصره، ويمكن لهم في هذه الحياة، في آيات كثيرة.

فقال جل وعلا في سورة الأعراف مخبراً عما قال نبي الله موسى على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه لقومه فقال: قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [الأعراف:128]، وهي أرض الدنيا، (يورثها) أي: يجعل البقاء فيها لمن يشاء من عباده، ويهلك الظالمين المتكبرين المتجبرين: إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [الأعراف:128].

وقال جل وعلا في نفس السورة أيضاً: وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ [الأعراف:137]، وأورثنا القوم، أي: جعلهم يبقون فيها، يخلفون فرعون وقومه من العتاة الطغاة: وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا [الأعراف:137].

وقال جل وعلا في سورة الشعراء: وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ [الشعراء:52].. فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ * إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ * وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ * وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ * فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ [الشعراء:53-59].

حصل الإرث: كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ [الشعراء:59]، فجعلهم جل وعلا يبقون بعد فرعون وقومه.

امتنان الله على الأمة المحمدية بالنصر وإرث الأرض في الدنيا والجنة في الآخرة

وأشار الله إلى هذا المعنى أيضاً في حق هذه الأمة المباركة، وما من به عليهم من النصر والإرث للأرض والتمكين لهم في هذه الحياة، فقال جل وعلا في سورة الأحزاب: وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا * وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ [الأحزاب:25-26] من حصونهم: وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا * وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا [الأحزاب:26-27]، وهي خيبر، وهي ببشارة بفتحها بعد الانتصار على بني قريظة: وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا [الأحزاب:27].

فإذاً: أرض الدنيا ورثها الله لعباده المتقين في هذه الحياة، فلما نصروا دينهم نصرهم ومكن لهم.

والآيات في ذلك كثيرة إخوتي الكرام، منها قول الله جل وعلا في سورة الدخان: كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ [الدخان:25-28].

إذاً: أرض الدنيا يرثونها: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ [الأنبياء:105]، ويرثون أرض الجنة يوم القيامة بفضل الله ورحمته.

وهذه الأرض التي يرثونها في الآخرة، أطلق عليها إرث، وهم يرثونها من وجهين معتبرين، كلٌ منهما سديد حق رشيد:

الأول: أن معنى الإرث وهو البقاء حاصل، فهؤلاء يبقون في أرض الجنة ولا يخرجون منها: و لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ [الدخان:56].

والأمر الثاني أيضاً: يتحقق فيهم معنى الإرث، فكل من دخل الجنة يأخذ مكانه ومكان الكافر الذي كان له مقعداً في الجنة، ثم بكفره طرد من الجنة وألقي في النار، فمقعده يرثه الصالحون الأبرار، وكل واحد من عباد الله له مقعدان: مقعد في الجنة ومقعد في النار، فإذا اتقى الله دخل الجنة فحصل مقعده، ومقعده الذي في النار يرثه الكفار الأشرار، وهو يرث مقاعدهم في الجنة.

وهذا أخبرنا عنه نبينا صلى الله عليه وسلم، والحديث بذلك صحيح صحيح، رواه الإمام أحمد في المسند، والنسائي في السنن الكبرى، ورواه الحاكم في المستدرك بإسناد صحيح على شرط الشيخين، وأقره عليه الذهبي ، ورواه الإمام ابن مردويه في تفسيره من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( كل أهل النار يرى مقعده من الجنة )، أي: الذي كان له، ( فيقول: لو أن الله هداني )أي: لدخلت الجنة وحصلت ذلك المقعد ( فيكون ذلك عليه حسرة، وكل أهل الجنة يرى مقعده من النار فيقول: لولا أن الله هداني ).

هناك لو، وهنا لولا: ( لولا أن الله هداني )، أي: لكنت من أهل النار: ( فيكون ذلك له شكراً )، أولئك يتحسرون، وهؤلاء يشكرون الحي القيوم.

إذاً: يرى مقعده من النار ورثه الكافر، والكافر يرى مقعده من الجنة ورثه المؤمن، فأهل الإيمان يرثون الجنة وأطلق على هذا الإرث لأنهم يبقون فيها، ثم هم أيضاً يأخذون مقعد ودار ونصيب غيرهم من الجنة كما أن أولئك يأخذون مقاعد ودور ونصيب المؤمنين في نار الجحيم، فأولئك أخذوا مقاعدهم من النار، وهؤلاء أخذوا مقاعدهم من الجنة، ورحمة الله جل وعلا واسعة.

والحديث صحيح، وقد ورد في سنن ابن ماجه من رواية أبي هريرة رضي الله عنه، وهو آخر حديث في سنن ابن ماجه ، ختم الإمام ابن ماجه كتابه بهذا الحديث، لعله يتفاءل، ويتفاءل إن شاء الله قارئ كتابه بحصول هذه الكرامة له، والحديث إسناده صحيح على شرط البخاري من رواية أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( ما منكم من أحد إلا وله منزلان: منزل في الجنة ومنزل في النار، فإذا مات فدخل النار ورث أهل الجنة منزله، فذلك قول الله: أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ [المؤمنون:10] ) في سورة المؤمنون: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ [المؤمنون:1-2].. إلى أن قال: أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [المؤمنون:10-11]، فذلك قول الله: أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ [المؤمنون:10].

والحديث صحيح، ورقمه في سنن الإمام ابن ماجه : (4341)، وبذلك تعرفون أن عدد أحاديث سنن ابن ماجه (4341) حديثاً، وهذا آخر حديث في السنن، ونسأل الله أن يمن علينا بذلك، وأن يجعلنا ممن يرثون الفردوس بفضل الله ورحمته.

إذاً: يرثون أرض الدنيا بتمكين الله لهم، ويرثون الجنة فيبقون فيها ولا يخرجون منها، ويأخذون مقاعد الكفار فحصل الإرث فيهم من جهتين.

وضعف المفسرين حمل الآية على التفسير الثاني، وهو أننا نرث مقاعد الكفار في الجنة. فقالوا: الآية حملها على هذا ضعيف، ومن جملتهم شيخنا المبارك الشيخ محمد الأمين عليه رحمة الله في أضواء البيان (4/343): فهذا القول إذا كان يقصد أنه لا ينبغي أن نحمل الآية على هذا القول فقط فلا باس، وأما إذا أراد أن يقول: أن الآية لا تدل على هذا القول، فالقول باطل لثبوته عن النبي عليه الصلاة والسلام.

نعم الآية لا تقتصر عليه، فنحن نبقى في الجنة فحصل معنى الإرث، ونرث مقعد الكفار فحصل معنى الإرث، ويرثنا الله الأرض في هذه الحياة، يمكن لنا، فحصل معنى الإرث.

وأما القول والزعم بأنه لو كان معنى الآية أننا إذا ورثنا مقاعد الكفار ليس لنا من الجنة إلا مقاعد الكفار التي ورثناها فالآية لا تدل على هذا، وليس هذا مفهوم الحديث على الإطلاق، إنما مفهوم الحديث: لنا منزلة وورثة منزلة أخرى.

يقول الشيخ الكريم: حمل الآية على هذا القول غير صواب.

مع أنه منقول عن إمام أولي النهى والألباب نبينا عليه الصلاة والسلام، فحمل الآية عليه غير صواب والتفسير ثابت عن النبي عليه الصلاة والسلام في المسند والسنن والمستدرك وتفسير ابن مردويه من حديث أبي هريرة ، ومنقول أيضاً في سنن ابن ماجه من حديث أبي هريرة أيضاً رضي الله عنهم أجمعين.

والحق أن الآية شاملة لهذه الأمور الثلاثة، شاملة لإرث المؤمنين للدنيا عن طريق تمكين الله لهم، وشاملة لبقائهم في الجنة، وشاملة لإرثهم مقاعد الكفار في الجنة، ولا داعي لقصر الآية على شيء من ذلك.

إرث أهل الجنة الجنة

وقد أخبرنا الله أن أهل الجنة يرثون الجنة، كما ورثهم الله أرض الدنيا في هذه الحياة بالآيات المتقدمة، وذكرت لكم الآية المتقدمة في سورة المؤمنون: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ [المؤمنون:1-2]، إلى أن قال: وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [المؤمنون:9-11].

وأخبرنا الله جل وعلا أن أهل الجنة يحمدون الله على ما من به عليهم من إرث لأرضها، فقال جل وعلا كما في سورة الزمر: وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ [الزمر:74] أي أرض؟ أرض الجنة هنا قطعاً، وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ [الزمر:74].

وقال جل وعلا في سورة مريم: تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا [مريم:63].

وقال جل وعلا في سورة الأعراف: وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [الأعراف:43]. ومثلها قول الله جل وعلا في سورة الزخرف: وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [الزخرف:72].

وقد أخبرنا الله جل وعلا عن خليله إبراهيم على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه أنه سأل ربه أن يجعله من ورثة جنة النعيم فقال: وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ [الشعراء:85].

إخوتي الكرام قول الله جل وعلا: وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [الزخرف:72]، قوله: (بما كنتم تعملون)، من باب الفائدة: هل هناك معارضة بين هذا وبين ما ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لن يدخل أحداً منكم عمله الجنة. قالوا: ولا أنت؟ قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل ).

قوله صلى الله عليه وسلم: (لن يدخل أحد بعمله الجنة)، وقوله تعالى: بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [الزخرف:72]، هل بين الأمرين معارضة؟ وكيف نزيل المعارضة؟

ذكر الإمام ابن القيم عليه رحمة الله: أن الباء هنا سببية للسببية، وقد رتب الله جل وعلا هذا الشيء على هذا الشيء، وهذا الترتيب بفضل الله وبرحمته وبكرمه، لا على أن هذا يعاوض هذا، كما يحصل في البيع فالثمن مقابل السلعة، وهناك ليس كذلك، هذا ليس بثمن، جعل الله الإيمان سبباً لدخول الجنان فقط، لكن هذا لا يقابل هذا. وإنما رتب الله على هذا هذا بفضله وكرمه، وليس هذا من باب المعاوضة.

ولذلك يقول الإمام ابن القيم عليه رحمة الله، وهذا أرجح ما قيل في الأجوبة الخمسة في الموضوع، يقول في كتاب مفتاح السعادة ومنشور ولايتي العلم والإرادة (1/8): الباء المقتضية للدخول غير الباء النافية. هذه تنفي الدخول بالعمل، وتلك تقتضي الدخول بالعمل، فهي غيرها، فالمقتضية للدخول هي الباء السببية، يعني: هذا بسبب هذا، لكن الإيمان والأعمال الصالحة، فمن وجد خيراً فليحمد لله، هذا سبب عادي، والباء المنفية أنك لا تدخل بعملك هذه المكافئة، فعملك لا يكافئ دخولك الجنة بحال من الأحوال.

ولذلك يقول الإمام ابن القيم : ننجو من النار بعفو الله ومغفرته، وندخل الجنة برحمة الله وفضله، ونقتسم الدور فيها بأعمالنا.

هناك اقتسام الدور، وشتان ما بين الدخول واقتسام الدور.

لك درجة في الجنة على حسب عملك، أما الدخول فهذا ما يدخله نبي مرسل ولا ملك مقرب بعمله، إنما بفضل الله ورحمته، كما أنه لا ينجو أحد من النار بعمله، كل من نجا من النار بعفو الله ومغفرته، ولو حاسب الله خلقه على ما يستحقه منهم لأكبهم جميعاً على وجوههم في نار جهنم دون استثناء أحد منهم، ولذلك ثبت في صحيح ابن حبان عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال: ( لو يؤاخذني الله وابن مريم بما جنت هاتان -وأشار إلى السبابة والإبهام- لعذبنا ثم لم يظلمنا )، لو آخذه الله وابن مريم على نبينا وعليهما صلوات الله وسلامه بهاتين، لعذبنا ثم لم يظلمنا.

ما للعباد عليه حق واجبُ كلا ولا سعي لديه ضائع

إن عذبوا فبعدله أو نعموا فبفضله وهو الكريم الواسعُ

سبحانه وتعالى.

ولذلك الجنة دار الفضل والنار دار العدل، هنا فضل، كل من دخلها بفضل الله، وكل من نجا من تلك بمغفرة الله، ويقتسمون بعد ذلك الجنة بأعمالهم، هذا أرجح الأجوبة وأقواها.

والحافظ ابن حجر في الفتح ذكر أربعة أجوبة أخرى نقلها عن شيخ الإسلام الإمام ابن الجوزي عليهم رحمة الله، وانظروا هذه الأجوبة في الفتح (11/296) وخلاصتها، يقول:

لا تعارض بين الباء المثبتة والنافية؛ لأن العمل الذي دخلت به الجنة هو من فضل الله، وعليه أنت دخلت الجنة بفضل الله؛ لأن الله من عليك بالعمل الصالح فلا تعارض على الإطلاق.

الأمر الثاني: يقول: منافع العبد لسيده، وأنت عبد لله، فما جرى منك من طاعة لا تستحق أن تدخل الجنة بها؛ لأن هذه المنافع يستحقها سيدك، كما أن العبد إذا اكتسب ماله لسيده، فبقي الدخول محض كرم وفضل.

الأمر الثالث: يقول: نفس الدخول بفضل الله ورحمته، والتي تثبت الدخول بالعمل، هذا للإشارة إلى تفاوت المنازل واقتسام الدور هناك.

الأمر الرابع: يقول: العمل زمنه يسير ولا يقابل بالدخول الذي لا نهاية له، وعليه الدخول بفضل الله وبكرمه لا بعملك؛ لأن هذا العمل زمن يسير انقضى، وأما أنت في الجنة ستخلد مدة لا نهاية لها.

أقواها كما قلت أولها، ونسأل الله أن يزيدنا والمسلمين أجمعين بصيرة وعلماً وفهماً، إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.

الشاهد إخوتي الكرام أن حمل الآية على المعاني الثلاثة على معاني الإرث لأرض الدنيا وللبقاء في الجنة، ولإرث مقاعد الكفار من الجنة التي أعدت لهم، ثم منعوها من أجل كفرهم، حمل الآية على هذا أولى، والعلم عند الله جل وعلا.

هذه كلها إخوتي الكرام أمثلة وشواهد على أن الإرث بمعنى البقاء، والوارث هو الباقي، وبقاء كل شيء بحسبه.

إتيان الإرث بمعنى التراث

والتراث يأتي بمعنى الإرث والميراث أيضاً شاهد هذا قول الله في سورة الفجر: وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا [الفجر:19]، والتراث بمعنى الميراث، أي: بمعنى الإرث، بمعنى الشيء الموروث من قنية أو حق، وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا [الفجر:19]، أي: الميراث، أي: المال الذي يصير إليكم عن طريق الميراث: وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ [الفجر:19]، فهذا شاهد على أن الإرث بمعنى التراث، وهو ما ترثه من قنية وحق وغير ذلك.

وقد ثبت إطلاق لفظ التراث على الإرث والميراث والإراث في سنن الترمذي بإسناد حسن من رواية أبي هريرة رضي الله عنه، والحديث رواه الإمام ابن ماجه في السنن أيضاً، ورواه الإمام أحمد في مسنده والحميدي في مسنده، ورواه الحاكم في المستدرك، وصححه وتعقبه الذهبي بأنه ضعيف، وحكى الإمام المنذري تصحيح الحاكم للحديث، في الترغيب والترغيب في (4/154)، وقال: هكذا قال الإمام الحاكم . والإمام العراقي ضعف الحديث بعد أن عزاه إلى الترمذي وابن ماجه كما في المغني عن حمل الأسفار في الأسفار في تخريج أحاديث الإحياء في (3/271)، والحديث حسن كما قال الإمام الترمذي ، ولا ينزل عن درجة الحسن بحال، فطرقه متعددة، وطريق ابن ماجه غير طريق الإمام الترمذي .

ويضاف إلى ذلك له شواهد كثيرة من رواية فضالة بن عبيد وعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهم أجمعين عن دراسة الموعظة المتعلقة بانتقال مال الميت إلى ورثته.

وجاء من رواية عبد الله بن عمرو وفضالة حديثان يشهدان لهذا الحديث الذي هو من رواية أبي أمامة رضي الله عنهم أجمعين، ولفظ الحديث عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال: ( قال الله تعالى ) وهو حديث قدسي: ( إن أغبط أوليائي عندي لمؤمن خفيف الحاذ )، أي: خفيف الحال قليل المال، ليس عنده تراث وميراث كثير يخلفه بعده ( إن أغبط أوليائي عندي لمؤمن خفيف الحاذ ذو حظ من صلاة، أحسن عبادة ربه وأطاعه في السر، وكان غامضاً في الناس لا يشار إليه بالأصابع، وكان رزقه كفافاً، فصبر على ذلك، ثم نصب النبي صلى الله عليه وسلم بيديه فقال: عجلت منيته, قلت بواكيه, قل تراثه )، (قل بواكيه) من يبكي عليه، فليس عنده أسرة كبيرة، (قل تراثه)، أي: ميراثه الذي يورث عنه، (عجلت منيته، قلت بواكيه) قل تراثه: أي: ميراثه وإرثه، وهما بمعنى واحد. وهنا استعمال التراث بمعنى الإرث والميراث والإراث.

ومما يدخل في هذا المعنى: إخبار الله لعباده بأنه من عليهم بتوريثهم الأرض في هذه الحياة، ونعيم الجنات بعد الممات، فهم ورثوا الأرض في الدنيا، وورثوا الجنة في الآخرة، يقول الله في سورة الأنبياء: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ [الأنبياء:105].

وهذه الأرض شاملة لأرض الدنيا، وشاملة لأرض الآخرة وهي الجنة التي ينعم بها عباد الله المتقون المؤمنون، أما أرض الدنيا، فالله جل وعلا سينصر عباده الموحدين في هذه الحياة، ويمكن لهم في هذه الدنيا: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [النور:55].

وقد أشار الله إلى هذا المعنى، وأن الله يمن على عباده الموحدين، الذين ينصرون دينه، يمن عليهم بنصره، ويمكن لهم في هذه الحياة، في آيات كثيرة.

فقال جل وعلا في سورة الأعراف مخبراً عما قال نبي الله موسى على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه لقومه فقال: قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [الأعراف:128]، وهي أرض الدنيا، (يورثها) أي: يجعل البقاء فيها لمن يشاء من عباده، ويهلك الظالمين المتكبرين المتجبرين: إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [الأعراف:128].

وقال جل وعلا في نفس السورة أيضاً: وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ [الأعراف:137]، وأورثنا القوم، أي: جعلهم يبقون فيها، يخلفون فرعون وقومه من العتاة الطغاة: وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا [الأعراف:137].

وقال جل وعلا في سورة الشعراء: وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ [الشعراء:52].. فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ * إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ * وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ * وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ * فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ [الشعراء:53-59].

حصل الإرث: كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ [الشعراء:59]، فجعلهم جل وعلا يبقون بعد فرعون وقومه.

وأشار الله إلى هذا المعنى أيضاً في حق هذه الأمة المباركة، وما من به عليهم من النصر والإرث للأرض والتمكين لهم في هذه الحياة، فقال جل وعلا في سورة الأحزاب: وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا * وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ [الأحزاب:25-26] من حصونهم: وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا * وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا [الأحزاب:26-27]، وهي خيبر، وهي ببشارة بفتحها بعد الانتصار على بني قريظة: وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا [الأحزاب:27].

فإذاً: أرض الدنيا ورثها الله لعباده المتقين في هذه الحياة، فلما نصروا دينهم نصرهم ومكن لهم.

والآيات في ذلك كثيرة إخوتي الكرام، منها قول الله جل وعلا في سورة الدخان: كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ [الدخان:25-28].

إذاً: أرض الدنيا يرثونها: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ [الأنبياء:105]، ويرثون أرض الجنة يوم القيامة بفضل الله ورحمته.

وهذه الأرض التي يرثونها في الآخرة، أطلق عليها إرث، وهم يرثونها من وجهين معتبرين، كلٌ منهما سديد حق رشيد:

الأول: أن معنى الإرث وهو البقاء حاصل، فهؤلاء يبقون في أرض الجنة ولا يخرجون منها: و لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ [الدخان:56].

والأمر الثاني أيضاً: يتحقق فيهم معنى الإرث، فكل من دخل الجنة يأخذ مكانه ومكان الكافر الذي كان له مقعداً في الجنة، ثم بكفره طرد من الجنة وألقي في النار، فمقعده يرثه الصالحون الأبرار، وكل واحد من عباد الله له مقعدان: مقعد في الجنة ومقعد في النار، فإذا اتقى الله دخل الجنة فحصل مقعده، ومقعده الذي في النار يرثه الكفار الأشرار، وهو يرث مقاعدهم في الجنة.

وهذا أخبرنا عنه نبينا صلى الله عليه وسلم، والحديث بذلك صحيح صحيح، رواه الإمام أحمد في المسند، والنسائي في السنن الكبرى، ورواه الحاكم في المستدرك بإسناد صحيح على شرط الشيخين، وأقره عليه الذهبي ، ورواه الإمام ابن مردويه في تفسيره من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( كل أهل النار يرى مقعده من الجنة )، أي: الذي كان له، ( فيقول: لو أن الله هداني )أي: لدخلت الجنة وحصلت ذلك المقعد ( فيكون ذلك عليه حسرة، وكل أهل الجنة يرى مقعده من النار فيقول: لولا أن الله هداني ).

هناك لو، وهنا لولا: ( لولا أن الله هداني )، أي: لكنت من أهل النار: ( فيكون ذلك له شكراً )، أولئك يتحسرون، وهؤلاء يشكرون الحي القيوم.

إذاً: يرى مقعده من النار ورثه الكافر، والكافر يرى مقعده من الجنة ورثه المؤمن، فأهل الإيمان يرثون الجنة وأطلق على هذا الإرث لأنهم يبقون فيها، ثم هم أيضاً يأخذون مقعد ودار ونصيب غيرهم من الجنة كما أن أولئك يأخذون مقاعد ودور ونصيب المؤمنين في نار الجحيم، فأولئك أخذوا مقاعدهم من النار، وهؤلاء أخذوا مقاعدهم من الجنة، ورحمة الله جل وعلا واسعة.

والحديث صحيح، وقد ورد في سنن ابن ماجه من رواية أبي هريرة رضي الله عنه، وهو آخر حديث في سنن ابن ماجه ، ختم الإمام ابن ماجه كتابه بهذا الحديث، لعله يتفاءل، ويتفاءل إن شاء الله قارئ كتابه بحصول هذه الكرامة له، والحديث إسناده صحيح على شرط البخاري من رواية أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( ما منكم من أحد إلا وله منزلان: منزل في الجنة ومنزل في النار، فإذا مات فدخل النار ورث أهل الجنة منزله، فذلك قول الله: أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ [المؤمنون:10] ) في سورة المؤمنون: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ [المؤمنون:1-2].. إلى أن قال: أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [المؤمنون:10-11]، فذلك قول الله: أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ [المؤمنون:10].

والحديث صحيح، ورقمه في سنن الإمام ابن ماجه : (4341)، وبذلك تعرفون أن عدد أحاديث سنن ابن ماجه (4341) حديثاً، وهذا آخر حديث في السنن، ونسأل الله أن يمن علينا بذلك، وأن يجعلنا ممن يرثون الفردوس بفضل الله ورحمته.

إذاً: يرثون أرض الدنيا بتمكين الله لهم، ويرثون الجنة فيبقون فيها ولا يخرجون منها، ويأخذون مقاعد الكفار فحصل الإرث فيهم من جهتين.

وضعف المفسرين حمل الآية على التفسير الثاني، وهو أننا نرث مقاعد الكفار في الجنة. فقالوا: الآية حملها على هذا ضعيف، ومن جملتهم شيخنا المبارك الشيخ محمد الأمين عليه رحمة الله في أضواء البيان (4/343): فهذا القول إذا كان يقصد أنه لا ينبغي أن نحمل الآية على هذا القول فقط فلا باس، وأما إذا أراد أن يقول: أن الآية لا تدل على هذا القول، فالقول باطل لثبوته عن النبي عليه الصلاة والسلام.

نعم الآية لا تقتصر عليه، فنحن نبقى في الجنة فحصل معنى الإرث، ونرث مقعد الكفار فحصل معنى الإرث، ويرثنا الله الأرض في هذه الحياة، يمكن لنا، فحصل معنى الإرث.

وأما القول والزعم بأنه لو كان معنى الآية أننا إذا ورثنا مقاعد الكفار ليس لنا من الجنة إلا مقاعد الكفار التي ورثناها فالآية لا تدل على هذا، وليس هذا مفهوم الحديث على الإطلاق، إنما مفهوم الحديث: لنا منزلة وورثة منزلة أخرى.

يقول الشيخ الكريم: حمل الآية على هذا القول غير صواب.

مع أنه منقول عن إمام أولي النهى والألباب نبينا عليه الصلاة والسلام، فحمل الآية عليه غير صواب والتفسير ثابت عن النبي عليه الصلاة والسلام في المسند والسنن والمستدرك وتفسير ابن مردويه من حديث أبي هريرة ، ومنقول أيضاً في سنن ابن ماجه من حديث أبي هريرة أيضاً رضي الله عنهم أجمعين.

والحق أن الآية شاملة لهذه الأمور الثلاثة، شاملة لإرث المؤمنين للدنيا عن طريق تمكين الله لهم، وشاملة لبقائهم في الجنة، وشاملة لإرثهم مقاعد الكفار في الجنة، ولا داعي لقصر الآية على شيء من ذلك.

وقد أخبرنا الله أن أهل الجنة يرثون الجنة، كما ورثهم الله أرض الدنيا في هذه الحياة بالآيات المتقدمة، وذكرت لكم الآية المتقدمة في سورة المؤمنون: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ [المؤمنون:1-2]، إلى أن قال: وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [المؤمنون:9-11].

وأخبرنا الله جل وعلا أن أهل الجنة يحمدون الله على ما من به عليهم من إرث لأرضها، فقال جل وعلا كما في سورة الزمر: وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ [الزمر:74] أي أرض؟ أرض الجنة هنا قطعاً، وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ [الزمر:74].

وقال جل وعلا في سورة مريم: تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا [مريم:63].

وقال جل وعلا في سورة الأعراف: وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [الأعراف:43]. ومثلها قول الله جل وعلا في سورة الزخرف: وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [الزخرف:72].

وقد أخبرنا الله جل وعلا عن خليله إبراهيم على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه أنه سأل ربه أن يجعله من ورثة جنة النعيم فقال: وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ [الشعراء:85].

إخوتي الكرام قول الله جل وعلا: وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [الزخرف:72]، قوله: (بما كنتم تعملون)، من باب الفائدة: هل هناك معارضة بين هذا وبين ما ثبت في الصحيحين وغيرهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لن يدخل أحداً منكم عمله الجنة. قالوا: ولا أنت؟ قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل ).

قوله صلى الله عليه وسلم: (لن يدخل أحد بعمله الجنة)، وقوله تعالى: بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [الزخرف:72]، هل بين الأمرين معارضة؟ وكيف نزيل المعارضة؟

ذكر الإمام ابن القيم عليه رحمة الله: أن الباء هنا سببية للسببية، وقد رتب الله جل وعلا هذا الشيء على هذا الشيء، وهذا الترتيب بفضل الله وبرحمته وبكرمه، لا على أن هذا يعاوض هذا، كما يحصل في البيع فالثمن مقابل السلعة، وهناك ليس كذلك، هذا ليس بثمن، جعل الله الإيمان سبباً لدخول الجنان فقط، لكن هذا لا يقابل هذا. وإنما رتب الله على هذا هذا بفضله وكرمه، وليس هذا من باب المعاوضة.

ولذلك يقول الإمام ابن القيم عليه رحمة الله، وهذا أرجح ما قيل في الأجوبة الخمسة في الموضوع، يقول في كتاب مفتاح السعادة ومنشور ولايتي العلم والإرادة (1/8): الباء المقتضية للدخول غير الباء النافية. هذه تنفي الدخول بالعمل، وتلك تقتضي الدخول بالعمل، فهي غيرها، فالمقتضية للدخول هي الباء السببية، يعني: هذا بسبب هذا، لكن الإيمان والأعمال الصالحة، فمن وجد خيراً فليحمد لله، هذا سبب عادي، والباء المنفية أنك لا تدخل بعملك هذه المكافئة، فعملك لا يكافئ دخولك الجنة بحال من الأحوال.

ولذلك يقول الإمام ابن القيم : ننجو من النار بعفو الله ومغفرته، وندخل الجنة برحمة الله وفضله، ونقتسم الدور فيها بأعمالنا.

هناك اقتسام الدور، وشتان ما بين الدخول واقتسام الدور.

لك درجة في الجنة على حسب عملك، أما الدخول فهذا ما يدخله نبي مرسل ولا ملك مقرب بعمله، إنما بفضل الله ورحمته، كما أنه لا ينجو أحد من النار بعمله، كل من نجا من النار بعفو الله ومغفرته، ولو حاسب الله خلقه على ما يستحقه منهم لأكبهم جميعاً على وجوههم في نار جهنم دون استثناء أحد منهم، ولذلك ثبت في صحيح ابن حبان عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال: ( لو يؤاخذني الله وابن مريم بما جنت هاتان -وأشار إلى السبابة والإبهام- لعذبنا ثم لم يظلمنا )، لو آخذه الله وابن مريم على نبينا وعليهما صلوات الله وسلامه بهاتين، لعذبنا ثم لم يظلمنا.

ما للعباد عليه حق واجبُ كلا ولا سعي لديه ضائع

إن عذبوا فبعدله أو نعموا فبفضله وهو الكريم الواسعُ

سبحانه وتعالى.

ولذلك الجنة دار الفضل والنار دار العدل، هنا فضل، كل من دخلها بفضل الله، وكل من نجا من تلك بمغفرة الله، ويقتسمون بعد ذلك الجنة بأعمالهم، هذا أرجح الأجوبة وأقواها.

والحافظ ابن حجر في الفتح ذكر أربعة أجوبة أخرى نقلها عن شيخ الإسلام الإمام ابن الجوزي عليهم رحمة الله، وانظروا هذه الأجوبة في الفتح (11/296) وخلاصتها، يقول:

لا تعارض بين الباء المثبتة والنافية؛ لأن العمل الذي دخلت به الجنة هو من فضل الله، وعليه أنت دخلت الجنة بفضل الله؛ لأن الله من عليك بالعمل الصالح فلا تعارض على الإطلاق.

الأمر الثاني: يقول: منافع العبد لسيده، وأنت عبد لله، فما جرى منك من طاعة لا تستحق أن تدخل الجنة بها؛ لأن هذه المنافع يستحقها سيدك، كما أن العبد إذا اكتسب ماله لسيده، فبقي الدخول محض كرم وفضل.

الأمر الثالث: يقول: نفس الدخول بفضل الله ورحمته، والتي تثبت الدخول بالعمل، هذا للإشارة إلى تفاوت المنازل واقتسام الدور هناك.

الأمر الرابع: يقول: العمل زمنه يسير ولا يقابل بالدخول الذي لا نهاية له، وعليه الدخول بفضل الله وبكرمه لا بعملك؛ لأن هذا العمل زمن يسير انقضى، وأما أنت في الجنة ستخلد مدة لا نهاية لها.

أقواها كما قلت أولها، ونسأل الله أن يزيدنا والمسلمين أجمعين بصيرة وعلماً وفهماً، إنه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.

الشاهد إخوتي الكرام أن حمل الآية على المعاني الثلاثة على معاني الإرث لأرض الدنيا وللبقاء في الجنة، ولإرث مقاعد الكفار من الجنة التي أعدت لهم، ثم منعوها من أجل كفرهم، حمل الآية على هذا أولى، والعلم عند الله جل وعلا.

هذه كلها إخوتي الكرام أمثلة وشواهد على أن الإرث بمعنى البقاء، والوارث هو الباقي، وبقاء كل شيء بحسبه.

والتراث يأتي بمعنى الإرث والميراث أيضاً شاهد هذا قول الله في سورة الفجر: وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا [الفجر:19]، والتراث بمعنى الميراث، أي: بمعنى الإرث، بمعنى الشيء الموروث من قنية أو حق، وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا [الفجر:19]، أي: الميراث، أي: المال الذي يصير إليكم عن طريق الميراث: وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ [الفجر:19]، فهذا شاهد على أن الإرث بمعنى التراث، وهو ما ترثه من قنية وحق وغير ذلك.

وقد ثبت إطلاق لفظ التراث على الإرث والميراث والإراث في سنن الترمذي بإسناد حسن من رواية أبي هريرة رضي الله عنه، والحديث رواه الإمام ابن ماجه في السنن أيضاً، ورواه الإمام أحمد في مسنده والحميدي في مسنده، ورواه الحاكم في المستدرك، وصححه وتعقبه الذهبي بأنه ضعيف، وحكى الإمام المنذري تصحيح الحاكم للحديث، في الترغيب والترغيب في (4/154)، وقال: هكذا قال الإمام الحاكم . والإمام العراقي ضعف الحديث بعد أن عزاه إلى الترمذي وابن ماجه كما في المغني عن حمل الأسفار في الأسفار في تخريج أحاديث الإحياء في (3/271)، والحديث حسن كما قال الإمام الترمذي ، ولا ينزل عن درجة الحسن بحال، فطرقه متعددة، وطريق ابن ماجه غير طريق الإمام الترمذي .

ويضاف إلى ذلك له شواهد كثيرة من رواية فضالة بن عبيد وعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهم أجمعين عن دراسة الموعظة المتعلقة بانتقال مال الميت إلى ورثته.

وجاء من رواية عبد الله بن عمرو وفضالة حديثان يشهدان لهذا الحديث الذي هو من رواية أبي أمامة رضي الله عنهم أجمعين، ولفظ الحديث عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال: ( قال الله تعالى ) وهو حديث قدسي: ( إن أغبط أوليائي عندي لمؤمن خفيف الحاذ )، أي: خفيف الحال قليل المال، ليس عنده تراث وميراث كثير يخلفه بعده ( إن أغبط أوليائي عندي لمؤمن خفيف الحاذ ذو حظ من صلاة، أحسن عبادة ربه وأطاعه في السر، وكان غامضاً في الناس لا يشار إليه بالأصابع، وكان رزقه كفافاً، فصبر على ذلك، ثم نصب النبي صلى الله عليه وسلم بيديه فقال: عجلت منيته, قلت بواكيه, قل تراثه )، (قل بواكيه) من يبكي عليه، فليس عنده أسرة كبيرة، (قل تراثه)، أي: ميراثه الذي يورث عنه، (عجلت منيته، قلت بواكيه) قل تراثه: أي: ميراثه وإرثه، وهما بمعنى واحد. وهنا استعمال التراث بمعنى الإرث والميراث والإراث.