الإفراط في التعامل مع الحيوان
مدة
قراءة المادة :
4 دقائق
.
الإفراط في التعامل مع الحيوانكنت في إنجاز عمل يوم ما في أحد المنازل، ولم يكن فيه أحد، فعجبت أن صوت موسيقى خافت ينبعث من إحدى الغرف المقفلة، ظننتُ أن بشرًا داخلها، فناديت، ولم يجب أحد! فلما عاد أصحاب المنزل، سألتهم: هل من أحد كان هنا؟ فأجابوني: لا؛ ولكنها القطة تستمع إلى الموسيقى!
ومرَّة رأيتُ أربعة كلابٍ تسرح وتمرح، وتأكل وتشرب، وتدخل الخزانات، وتنام على الفراش، ويكأنها أصحاب المنزل ومالكته، وعند عودة أصحابها تستقبلهم بالقبلات والأحضان.
في مثل تلك المشاهد، تظهر عظمة الإسلام، وحكمة تشريعاته؛ حيث أمر بالرفق بالحيوان، وعدم أذيته، وجعل الضوابط لاقتناء الحيوانات الألفية، فلا تكون مما ورد فيه النهي؛ كالكلب إلا لحراسة أو صيد، وكذلك حثَّ الإسلام على الإحسان إلى الحيوان فمتى اقتناه وجب عليه أن يطعمه ويسقيه، ولا يتسبَّب له في الأذى والضرر بالعبث به، ولا يتخذه عرضًا، وفي الحديث: ((دخلت امرأةٌ النار في هرَّةٍ حبستها، لا هي أطعمتها وسقتها، ولا هي تركتها تأكل في خشاش الأرض))، وفي الإحسان إليها باب للأجر: ((في كل كبد رطبة أجْر)).
غير أنه وفي المقابل، لا يجوز الإسراف في التعامُل مع الحيوانات الأليفة؛ كإسماعها الموسيقى، أو أن تكتب لها التركة كاملة، ولا حبة قمح حتى! أو أن تُشترى بأموال باهظة، أو تُقام لها مسابقات الجمال، فلا إفراط ولا تفريط، فالعقل والفطرة السليمة يدفعان للتوازن في العلاقة مع الحيوان.
إن مما يدفع حقيقة لمثل تلك الأفعال الغربية المستنكرة هو الخواء والفراغ الروحي، الذي يجعل الإنسان يتخبَّط، ويُوظِّف الأغراض المادية في غير ما جعلت له، لعلَّه أن يزول بها شيءٌ من وحشته، وأنى له ذلك دون معرفة الغاية التي خلقه الله لأجلها؟! ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾ [الذاريات: 56].
والله سبحانه وتعالى لم يجعل الإنسان هائمًا يتخبَّط على وجهه ولا يدري السبيل التي يسلكها؛ لذلك يسَّر له العبادة وفق أمور ثلاثة:
الأول: أن العبادة والتكليفات تتوافق مع الفطرة التي فُطر عليها، فالفطرة السليمة لا تُقدِّس الحيوان، ولا تدعو لتعذيبه، ﴿ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [الروم: 30]، وفي الحديث: ((خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين)).
ومن هنا من لم يسلم وجهه لله ويعبده، يهيم على وجهه، ويكون ذليلًا وعبدًا للأغراض والماديَّات، ولا تعجَّب أن تراه حينها يعبد البقرة، ويُقدِّسها، أو أن يورث الملايين لكلب لا يُميِّز بين العظمة والدولار!
هَربُوا مِنَ الرِّقِّ الَّذِي خُلِقُوا لَهُ *** فَبُلُوا بِرِقِّ النَّفْسِ وَالشَّيْطَانِ
الثاني: أن العبادة تكون باتِّباع الشرع، الذي ما ترك صغيرةً ولا كبيرةً إلا وبَيَّنها، ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ﴾ [المائدة: 3]، فللعلاقة مع الحيوان على سبيل المثال، ضوابطها وتفصيلاتها، ومسائلها، وكذلك بيَّن حكمتها، ومنها: ﴿ وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [النحل: 8].
الثالث: أن الله سبحانه وتعالى قد سخَّر للمسلم الكون، يستعين به على طاعته وعبادته، فمهَّد له الأرض، وسخَّر له الحيوانات، والنجوم يهتدي بها، والشمس والقمر يستضيء بهما، والحيوانات منها ما يستدفئ بجلودها، ويتغذَّى من لحومها، والكلاب للصيد والحراسة وعلى ذلك قِسْ.