فقه المواريث - أحكام الوصية


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة الطيبين وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً، سهل علينا أمورنا وعلمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الرحمين، اللهم زدنا علماً نافعاً وعملاً صالحاً بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين.

سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك، سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك، اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحابه وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد:

إخوتي الكرام! كنا نتدارس أحكام الوصية، ونحن في الحق الرابع: ألا وهو الوصية، وتقدم معنا تعريف الوصية، وانتقلنا إلى المبحث الثاني من مباحث الوصية ألا وهو حكم الوصية، وذكرت الأحكام الثلاثة، ووصلنا إلى صور الإضرار.

ما هي صور الإضرار بالورثة التي تحرم على الموصي أن يفعلها؟

يمكن أن نجملها في ثلاث صور:

الصورة الأولى: الوصية لوارث أو الإقرار له بحق ليس له

الصورة الأولى: أن يوصي لوارث أو أن يقر له بحق ليس له، فالوصية للوارث محرمة ممنوعة، وإذا أوصى فوصيته لاغية، والوارث: هو من يرث الميت عند موته ولا يقصد به عموم الورثة، فمن لا يرث يجوز أن توصي له. يعني: مات الإنسان وترك ابناً وابن ابن، فأوصى لابن ابنه بثلث المال فهذا جائز بالاتفاق؛ لأنه ليس بوارث، أما إذا ترك أربعة أبناء فأوصى لأحدهم بربع المال فالوصية هنا لاغية وباطلة وهو آثم عاصٍ لله وهذا من الكبائر.

إذاً: تعريف الوارث عندنا ليس من يستحق الإرث مطلقاً، بل من له نصيب في المال، وهو من جملة الورثة، والورثة سيأتينا من الذكور عشر إجمالاً وخمسة عشرة تفصيلاً، ومن النساء سبعة إجمالاً وعشر تفصيلاً، فهم جميعاً خمسة وعشرون وارثاً لا يخرج الإرث عنهم سواء الفرض أو التعصيب.

إذاً: هؤلاء الورثة بعضهم قد لا يرث عند موت الميت، فبنت الابن لا ترث مع الابن، وابن الابن لا يرث مع الابن، والأخ الشقيق لا يرث مع الأب، فإذا أوصيت لأخيك الشقيق بوجود أبيه لا يعتبر هذا من الإضرار لأنه ليس بوارث، إنما إذا أوصيت لوارث -وهو من يرث عند موتك- فهذا هو الممنوع.

وكذا لو أقررت له بحق ليس له، وهذا ما يفعله كثير من الناس في هذه الأيام، فلو أوصى فالوصية ستلغى، ويرتكب إثماً أي: يسجل له هذه الأرض، ويقول: لفلان من أولادي علي قرض مائة ألف، وهو ليس له ذلك، إنما سجل له هذا الحق من أجل أن يأخذه بالقوة أمام القضاء؛ لأنه لو ذهب وقال: وصية، فإن المحكمة ستلغي الوصية، فهو يقول: أقرضت والدي مائة ألف، أو اشتريت منه هذه الأرض، والعقد كله وهمي لا حقيقة، وأعطيته ثمنها، والوالد سجلها له وأقر له بأن هذه الأرض ملك له لأنه اشتراها منه، وكل هذا باطل، فهذا كله من صور الإضرار، وهذا من الكبائر، ومن فعل هذا تجب له النار.

هذا المال مال الله والعباد عباد الله فاتركه كما قسمه الله، أما تأتي لتمايز بين أولادك فلا. وبعض الناس يقولون: هذه بنت فلم نورثها؟ لم نورث بعلها؟ إذاً: أنا أحتال فأسجل هذا المال وهذا العقار باسم أولادي الذكور. وهذا كله من الإضرار، وأنا أعرف بعض النساء يوجد بيننا شيء من القرابة عن طريق المصاهرة بين إخوتي وبين تلك الأسرة، إحدى النساء في تلك الأسرة حضرها الموت وعندها مال كثير كان بواسطة مهنة تقوم بها في التدريس سنوات كثيرة، فلما حضرها الموت وأرادت أن تحرم حتى الوالد من الميراث أقرت بأن هذا المال الذي تملكه سجلته في المحكمة كله لزوجها. قيل لها: لمَ منعتِ الوالد؟ قالت: والدي تزوج على أمي. وأمها ميتة، وليتها حية لقلنا تغار لها، وتريد مثلاً حمية الجاهلية أن لا تورث والدها نكاية فيه من أجل إرضاء أمها، ولكنها ميتة، فلئلا تنتفع زوجة أبيها بالمال الذي سيرثه الأب منها أقرت بأن هذا المال من أوله لآخره يكون للزوج لتحرم الأب. هذه صورة واقعية وهذه من قريب، وما أكثر احتيال الناس على أحكام رب الناس، ولذلك بلاهم الله بعد ذلك بمن يسومهم سوء العذاب، ويأخذ منهم الضرائب المتتالية جزاء وفاقاً ولا يظلم ربك أحداً، وكما تدين تدان، والله حكم عدل، وعدله كما يجري سبحانه وتعالى في خلقه يجري في أحكامه وعقوباته وتشريعاته على أتم وجه: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ [الشورى:30]، ورحمة الله على شيخ الإسلام الإمام ابن القيم عليه رحمة الله عندما يقول في كتاب مفتاح السعادة ومنشور ولايتي العلم والإرادة، (2/250-260) يقول: نحن في زمان لا يصلح أن يولى علينا فيه مثل معاوية وعمر بن عبد العزيز فضلاً عن أبي بكر وعمر ، فولاتنا على قدرنا، ونحن على قدرهم، ولا يظلم ربك أحداً.

فالرعية عندما تجوز وتظلم تجد إنساناً يظلم أباه من أجل أنه تزوج على أمه الميتة. لا إله إلا الله! إلى هذا الحد وصل ظلم الرعية؟ فسلط الله عليهم من يسومهم سوء العذاب، ولا يظلم ربك أحداً، أعمالكم عمالكم، وكما تكونوا يولى عليكم.

إذاً: هذه الصورة الأولى من صور الظلم والإضرار في الوصية: أن يوصي لوارث أو أن يقر له بحق ليس له، وهذا من الكبائر، وهو حرام.

الصورة الثانية: أن يقر لغير الورثة بحق لا يجب لهم أو يوصي لهم بقصد الإضرار

الصورة الثانية: أن يقر لغير الورثة بحق لا يجب لهم، أو أن يوصي لهم أيضاً وصية بقصد إضرار ورثته.

أوصى بثلث المال وهذا مشروع وجائز، لكن النية ليست التقرب إلى الله وطلب الأجر، قال: أريد أن أحرم إخوتي، لا يوجد له وارث إلا إخوة أشقاء، أو إخوة لأب أو أعمام، المقصود نوع من القرابة الذين يرثونه، قال: هؤلاء لم تكن الصلة بيني وبينهم طيبة فبما أنه يباح لي أن أوصي بالثلث فالثلث وصية لفلان، لمسجد، لمساكين، لعمل خير. وهذا يجوز ولكن ما هو الدافع لهذا؟ قال: الدافع أن أحرم إخوتي لا أن أتقرب بهذه الوصية إلى ربي. فقصد الإضرار وهذا أشنع وأشنع.

أو أقر بحق لأجنبي ليس بوارث ليحرم الورثة، فمثلاً يحضره الموت فيقول: هذا المال الذي أملكه هو ملك لصديقي واشتراه مني، وأعطاني ثمنه في الحياة وأنا صرفت الثمن، وعليه هذا العقار الذي يسوى ملايين هو لفلان، وعمل له صورة مبايعة من أجل أن يأخذ هذا الأجنبي ماله لئلا ينتفع به الورثة الذين هو على تعبيره لا يحبهم ولا يميل إليهم. أيضاً هذا ملحق بالصورة الأولى، لكن هناك الوصية للورثة والإقرار للورثة، هنا الوصية لأجنبي أو الإقرار لأجنبي من أجل أن يضر الورثة، وهناك من أجل أن يضر بقية الورثة وينفع وارثاً واحداً بوصية أو إقرار.

الصورة الثالثة: أن يوصي لغير أقاربه مع وجود المحتاجين من أقاربه

النوع الثالث من أنواع الإضرار في الوصية: أن يوصي لغير أقاربه الذين لا يرثهم، عنده أقارب لا يرثون.. من أبناء ابن، من إخوة، من أخوات، من عمات، من أعمام لا يرثون لأنه عنده ابن وإذا وجد الابن فلا يرث أحد من الورثة مع الابن إلا الأب والأم كما سيأتينا، لكن الإخوة كلهم سقطوا وأبناء الأبناء كلهم سقطوا، والأعمام والعمات ما بقي أحد يرث لا بفرض ولا برد ولا بذوي أرحام ولا بجهة من الجهات إذا وجد ابن. فإذا جاء ليوصي بثلث المال فالأصل أن يضع هذه الوصية في المحتاجين إليها من أقاربه، فتعداهم وتخطاهم وأوصى بها إلى جهة خير عامة، أو جهة خير من الناس الأجانب، إما ببناء مسجد، أو في عمل خير، أو إعطاء بعض الناس هذه الوصية، ولم يوص بذلك لقراباته الفقراء المحتاجين فهم أولى بمعروفه وإحسانه.

ودائماً ينبغي أن تبدأ بنفسك ثم بمن يليك، وأما أن تتجاوز القرابات إلى بعيد فهذا في الحقيقة لا يجوز، فهؤلاء أولى الناس بمعروفك. فهذه أيضاً من صور الإضرار في الوصية، فإذا لم يوص لقراباته وأوصى لغيرهم فقد أضر في وصيته وعمل كبيرة من الكبائر، وقد أفتى طاوس وهو من أئمة التابعين كما في مصنف عبد الرزاق عليهم جميعاً رحمات رب العالمين (9/81): أن من أوصى لغير أقربائه تنتزع منه الوصية، وترد عليهم. أوصى لغير القرابات فتنتزع من الموصي هذه الوصية وترد على القرابات.

وإذا كانت الوصية للأرحام والأقرباء مطلوبة إذا أراد الإنسان أن يوصي، فما هو المقدار الذي ينبغي أن يجعله لقراباته في وصيته؟ غاية ما يجوز للإنسان أن يوصي به من ماله الثلث فكم سيجعل للقرابات من الثلث؟

ذهب الحسن البصري وجابر بن زيد رحمهم الله ورضي عنهم أجمعين، أنه ينبغي أن يوصي الإنسان بثلثي الثلث لقراباته، وبالثلث الآخر لأي جهة يريدها، فإذا عندك قرابات لا يرثون وهم محتاجون فتوصي لهم بثلثي الثلث إذا أردت أن توصي بالثلث أو بثلثي الوصية إذا أردت أن توصي بالربع، المقصود أن الذي ستوصي به تجعل ثلثيه للقرابات.. النصيب الأكبر، والثلث الآخر في أي جهة تريدها.

وقال قتادة : يجعل ثلث الثلث, ثلث الوصية لقراباته، ويجعل الثلثين لمن يريد. وليس هناك دليل على هذا التحديد، والقرابات أولى بمعروفك وإحسانك، فإن كانوا كثيرين وهم في حاجة فاجعل جميع الوصية فيهم، وإن كانوا قلة وحاجتهم خفيفة وحاجة من عداهم كثيرة فاجعل لهم نصيباً تطييباً لخواطرهم وبراً بهم وصلة للرحم التي بينك وبينهم، واجعل بقية الوصية لغيرهم، ولا يوجد دليل على التحديد لا بثلث الوصية ولا بثلثي الوصية، والعلم عند الله جل وعلا.

إذاً: هذه ثلاث صور من صور الإضرار في الوصية: أن يوصي لوارث أو أن يقر له بحق.

والثانية: أن يوصي لغير وارث أو أن يقر له بحق ليس له واضح هذا؟ هناك يقر بحق ليس له، من أجل الإضرار بالورثة.

والصورة الثالثة: أن يوصي للأجانب وجهات البر العامة ويترك الأرحام والأقارب، هذا كله من صور الإضرار في الوصية، وهو من الكبائر، نسأل الله أن يحفظنا من سخطه.

الصورة الأولى: أن يوصي لوارث أو أن يقر له بحق ليس له، فالوصية للوارث محرمة ممنوعة، وإذا أوصى فوصيته لاغية، والوارث: هو من يرث الميت عند موته ولا يقصد به عموم الورثة، فمن لا يرث يجوز أن توصي له. يعني: مات الإنسان وترك ابناً وابن ابن، فأوصى لابن ابنه بثلث المال فهذا جائز بالاتفاق؛ لأنه ليس بوارث، أما إذا ترك أربعة أبناء فأوصى لأحدهم بربع المال فالوصية هنا لاغية وباطلة وهو آثم عاصٍ لله وهذا من الكبائر.

إذاً: تعريف الوارث عندنا ليس من يستحق الإرث مطلقاً، بل من له نصيب في المال، وهو من جملة الورثة، والورثة سيأتينا من الذكور عشر إجمالاً وخمسة عشرة تفصيلاً، ومن النساء سبعة إجمالاً وعشر تفصيلاً، فهم جميعاً خمسة وعشرون وارثاً لا يخرج الإرث عنهم سواء الفرض أو التعصيب.

إذاً: هؤلاء الورثة بعضهم قد لا يرث عند موت الميت، فبنت الابن لا ترث مع الابن، وابن الابن لا يرث مع الابن، والأخ الشقيق لا يرث مع الأب، فإذا أوصيت لأخيك الشقيق بوجود أبيه لا يعتبر هذا من الإضرار لأنه ليس بوارث، إنما إذا أوصيت لوارث -وهو من يرث عند موتك- فهذا هو الممنوع.

وكذا لو أقررت له بحق ليس له، وهذا ما يفعله كثير من الناس في هذه الأيام، فلو أوصى فالوصية ستلغى، ويرتكب إثماً أي: يسجل له هذه الأرض، ويقول: لفلان من أولادي علي قرض مائة ألف، وهو ليس له ذلك، إنما سجل له هذا الحق من أجل أن يأخذه بالقوة أمام القضاء؛ لأنه لو ذهب وقال: وصية، فإن المحكمة ستلغي الوصية، فهو يقول: أقرضت والدي مائة ألف، أو اشتريت منه هذه الأرض، والعقد كله وهمي لا حقيقة، وأعطيته ثمنها، والوالد سجلها له وأقر له بأن هذه الأرض ملك له لأنه اشتراها منه، وكل هذا باطل، فهذا كله من صور الإضرار، وهذا من الكبائر، ومن فعل هذا تجب له النار.

هذا المال مال الله والعباد عباد الله فاتركه كما قسمه الله، أما تأتي لتمايز بين أولادك فلا. وبعض الناس يقولون: هذه بنت فلم نورثها؟ لم نورث بعلها؟ إذاً: أنا أحتال فأسجل هذا المال وهذا العقار باسم أولادي الذكور. وهذا كله من الإضرار، وأنا أعرف بعض النساء يوجد بيننا شيء من القرابة عن طريق المصاهرة بين إخوتي وبين تلك الأسرة، إحدى النساء في تلك الأسرة حضرها الموت وعندها مال كثير كان بواسطة مهنة تقوم بها في التدريس سنوات كثيرة، فلما حضرها الموت وأرادت أن تحرم حتى الوالد من الميراث أقرت بأن هذا المال الذي تملكه سجلته في المحكمة كله لزوجها. قيل لها: لمَ منعتِ الوالد؟ قالت: والدي تزوج على أمي. وأمها ميتة، وليتها حية لقلنا تغار لها، وتريد مثلاً حمية الجاهلية أن لا تورث والدها نكاية فيه من أجل إرضاء أمها، ولكنها ميتة، فلئلا تنتفع زوجة أبيها بالمال الذي سيرثه الأب منها أقرت بأن هذا المال من أوله لآخره يكون للزوج لتحرم الأب. هذه صورة واقعية وهذه من قريب، وما أكثر احتيال الناس على أحكام رب الناس، ولذلك بلاهم الله بعد ذلك بمن يسومهم سوء العذاب، ويأخذ منهم الضرائب المتتالية جزاء وفاقاً ولا يظلم ربك أحداً، وكما تدين تدان، والله حكم عدل، وعدله كما يجري سبحانه وتعالى في خلقه يجري في أحكامه وعقوباته وتشريعاته على أتم وجه: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ [الشورى:30]، ورحمة الله على شيخ الإسلام الإمام ابن القيم عليه رحمة الله عندما يقول في كتاب مفتاح السعادة ومنشور ولايتي العلم والإرادة، (2/250-260) يقول: نحن في زمان لا يصلح أن يولى علينا فيه مثل معاوية وعمر بن عبد العزيز فضلاً عن أبي بكر وعمر ، فولاتنا على قدرنا، ونحن على قدرهم، ولا يظلم ربك أحداً.

فالرعية عندما تجوز وتظلم تجد إنساناً يظلم أباه من أجل أنه تزوج على أمه الميتة. لا إله إلا الله! إلى هذا الحد وصل ظلم الرعية؟ فسلط الله عليهم من يسومهم سوء العذاب، ولا يظلم ربك أحداً، أعمالكم عمالكم، وكما تكونوا يولى عليكم.

إذاً: هذه الصورة الأولى من صور الظلم والإضرار في الوصية: أن يوصي لوارث أو أن يقر له بحق ليس له، وهذا من الكبائر، وهو حرام.

الصورة الثانية: أن يقر لغير الورثة بحق لا يجب لهم، أو أن يوصي لهم أيضاً وصية بقصد إضرار ورثته.

أوصى بثلث المال وهذا مشروع وجائز، لكن النية ليست التقرب إلى الله وطلب الأجر، قال: أريد أن أحرم إخوتي، لا يوجد له وارث إلا إخوة أشقاء، أو إخوة لأب أو أعمام، المقصود نوع من القرابة الذين يرثونه، قال: هؤلاء لم تكن الصلة بيني وبينهم طيبة فبما أنه يباح لي أن أوصي بالثلث فالثلث وصية لفلان، لمسجد، لمساكين، لعمل خير. وهذا يجوز ولكن ما هو الدافع لهذا؟ قال: الدافع أن أحرم إخوتي لا أن أتقرب بهذه الوصية إلى ربي. فقصد الإضرار وهذا أشنع وأشنع.

أو أقر بحق لأجنبي ليس بوارث ليحرم الورثة، فمثلاً يحضره الموت فيقول: هذا المال الذي أملكه هو ملك لصديقي واشتراه مني، وأعطاني ثمنه في الحياة وأنا صرفت الثمن، وعليه هذا العقار الذي يسوى ملايين هو لفلان، وعمل له صورة مبايعة من أجل أن يأخذ هذا الأجنبي ماله لئلا ينتفع به الورثة الذين هو على تعبيره لا يحبهم ولا يميل إليهم. أيضاً هذا ملحق بالصورة الأولى، لكن هناك الوصية للورثة والإقرار للورثة، هنا الوصية لأجنبي أو الإقرار لأجنبي من أجل أن يضر الورثة، وهناك من أجل أن يضر بقية الورثة وينفع وارثاً واحداً بوصية أو إقرار.

النوع الثالث من أنواع الإضرار في الوصية: أن يوصي لغير أقاربه الذين لا يرثهم، عنده أقارب لا يرثون.. من أبناء ابن، من إخوة، من أخوات، من عمات، من أعمام لا يرثون لأنه عنده ابن وإذا وجد الابن فلا يرث أحد من الورثة مع الابن إلا الأب والأم كما سيأتينا، لكن الإخوة كلهم سقطوا وأبناء الأبناء كلهم سقطوا، والأعمام والعمات ما بقي أحد يرث لا بفرض ولا برد ولا بذوي أرحام ولا بجهة من الجهات إذا وجد ابن. فإذا جاء ليوصي بثلث المال فالأصل أن يضع هذه الوصية في المحتاجين إليها من أقاربه، فتعداهم وتخطاهم وأوصى بها إلى جهة خير عامة، أو جهة خير من الناس الأجانب، إما ببناء مسجد، أو في عمل خير، أو إعطاء بعض الناس هذه الوصية، ولم يوص بذلك لقراباته الفقراء المحتاجين فهم أولى بمعروفه وإحسانه.

ودائماً ينبغي أن تبدأ بنفسك ثم بمن يليك، وأما أن تتجاوز القرابات إلى بعيد فهذا في الحقيقة لا يجوز، فهؤلاء أولى الناس بمعروفك. فهذه أيضاً من صور الإضرار في الوصية، فإذا لم يوص لقراباته وأوصى لغيرهم فقد أضر في وصيته وعمل كبيرة من الكبائر، وقد أفتى طاوس وهو من أئمة التابعين كما في مصنف عبد الرزاق عليهم جميعاً رحمات رب العالمين (9/81): أن من أوصى لغير أقربائه تنتزع منه الوصية، وترد عليهم. أوصى لغير القرابات فتنتزع من الموصي هذه الوصية وترد على القرابات.

وإذا كانت الوصية للأرحام والأقرباء مطلوبة إذا أراد الإنسان أن يوصي، فما هو المقدار الذي ينبغي أن يجعله لقراباته في وصيته؟ غاية ما يجوز للإنسان أن يوصي به من ماله الثلث فكم سيجعل للقرابات من الثلث؟

ذهب الحسن البصري وجابر بن زيد رحمهم الله ورضي عنهم أجمعين، أنه ينبغي أن يوصي الإنسان بثلثي الثلث لقراباته، وبالثلث الآخر لأي جهة يريدها، فإذا عندك قرابات لا يرثون وهم محتاجون فتوصي لهم بثلثي الثلث إذا أردت أن توصي بالثلث أو بثلثي الوصية إذا أردت أن توصي بالربع، المقصود أن الذي ستوصي به تجعل ثلثيه للقرابات.. النصيب الأكبر، والثلث الآخر في أي جهة تريدها.

وقال قتادة : يجعل ثلث الثلث, ثلث الوصية لقراباته، ويجعل الثلثين لمن يريد. وليس هناك دليل على هذا التحديد، والقرابات أولى بمعروفك وإحسانك، فإن كانوا كثيرين وهم في حاجة فاجعل جميع الوصية فيهم، وإن كانوا قلة وحاجتهم خفيفة وحاجة من عداهم كثيرة فاجعل لهم نصيباً تطييباً لخواطرهم وبراً بهم وصلة للرحم التي بينك وبينهم، واجعل بقية الوصية لغيرهم، ولا يوجد دليل على التحديد لا بثلث الوصية ولا بثلثي الوصية، والعلم عند الله جل وعلا.

إذاً: هذه ثلاث صور من صور الإضرار في الوصية: أن يوصي لوارث أو أن يقر له بحق.

والثانية: أن يوصي لغير وارث أو أن يقر له بحق ليس له واضح هذا؟ هناك يقر بحق ليس له، من أجل الإضرار بالورثة.

والصورة الثالثة: أن يوصي للأجانب وجهات البر العامة ويترك الأرحام والأقارب، هذا كله من صور الإضرار في الوصية، وهو من الكبائر، نسأل الله أن يحفظنا من سخطه.

وقد كان نبينا عليه الصلاة والسلام يتأثر غاية التأثر ويغضب غاية الغضب ويهدد غاية التهديد عندما يبلغه جور في وصية ميت، وإليكم بعض الآثار التي تدل على هذا:

ثبت في المسند وصحيح مسلم والسنن الأربع ومسند الإمام أحمد عن عمران بن حصين رضي الله عنهم أجمعين: ( أن رجلاً أعتق ستة مملوكين ) أعتق ستة عبيد له عند موته, ولم يكن له مالٌ غيرهم، ( فلما حضره الموت، قال: هم أحرار لوجه الله ) وهو الآن يضيع الإرث على الورثة ( فلما علم النبي عليه الصلاة والسلام بذلك جزأهم أثلاثاً ) اثنان واثنان واثنان، ( وأقرع بينهم، فمن وقعت عليه القرعة بالعتق أعتقه ) إما هذه المجموعة، أو هذه المجموعة أو هذه المجموعة ( فأعتق اثنين وأرق أربعة، وقال للموصي قولاً شديداً ).

وبوب الإمام النسائي عليه رحمة الله على هذا الحديث باباً في سننه، فقال: باب الصلاة على من يحيف في وصيته. وفي رواية النسائي : ( فغضب النبي صلى الله عليه وسلم وقال: قد هممت أن لا أصلي عليه ). وفي رواية الإمام أحمد في المسند: ( لو علمنا إن شاء الله ما صلينا عليه ).

(لو علمنا) يعني: حاله ما صلينا عليه، ولعل النبي عليه الصلاة والسلام بعد أن صلى عليه أعلم بحاله وأنه أوصى بإعتاق المملوكين عند موته، فقال: ( لو علمنا إن شاء الله ما صلينا عليه ). أي: لقد هممت أن لا أصلي عليه ولو علمت بأنه ختم حياته بمضارة لورثته, فالإضرار في الوصية من الكبائر.

وهناك حديث آخر رواه الإمام أحمد في المسند بسند رجاله ثقات (5/67)، وقد نص الحافظ الهيثمي في المجمع في (4/21) على أن الحديث إسناده ثقات، فهو صحيح إن شاء الله.

ولفظ الحديث: عن حنظلة بن حذيم : (أن جده حنيفة قال لـحذيم : اجمع بني -أي: أولادي- فإني أريد أن أوصي، فجمعهم حذيم - أي: جمع إخوته أولاد حنيفة - فقال حنيفة: إن أول شيء أوصي به أن لفلان اليتيم الذي في حجري مائة من الإبل المطيبة -أي: أنفس الإبل تعطونه من مالي إذا مت، هذا أول شيء في وصيتي- فقال حذيم لوالده حنيفة: إن إخوتي يقولون: نقر عينك بموافقتك في حياتك، فإذا مُتَ رجعنا)، يعني: نحن فيما بيننا لما أنت أوصيت بمائة من الإبل من نفائس الإبل وأثمنها وأغلاها، إخوتي يقولون: لا نريد أن نغضب والدنا وأن ندخل معه في خصومات، نقر عينيه بوصيته، فإذا مات رجعنا عن هذه الوصية، وألغينا كلامه.

(فغضب حنيفة وقال: بيني وبينكم رسول الله عليه الصلاة والسلام. فقال له الأولاد: رضينا)، إذا كان النبي عليه الصلاة والسلام هو الحكم فنعم الحكم، رضينا، (فذهب حنيفة وولده حذيم وولد ولده حنظلة ومعهم عبدٌ لهم إلى النبي عليه الصلاة والسلام، فقال النبي عليه الصلاة والسلام لـحنيفة:

يا أبا حذيم ! أنت رجل كبير ضعيف ما جاء بك؟ فضرب حنيفة ركبة ولده حذيم وقال: هذا. من أجله جئت لنحتكم إليك، ثم عرضا على النبي عليه الصلاة والسلام القصة. فقال حنيفة: أردت أن أوصي وجمعت أولادي، وقلت: مائة من الإبل المطيبة لفلان اليتيم الذي في حجري. فقال لي أولادي: نقر بذلك عينيك في حياتك، فإذا مت رجعنا، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: لا، لا لا، يا حنيفة، الصدقة خمس أو عشر أو خمسة عشر أو عشرون أو خمسة وعشرون، أو ثلاثون أو خمسة وثلاثون، فإن زدت -يعني: أقصى شيء- أربعون من الإبل ) على حسب ماله الكثير، فلا تزد على هذا، انتهى الأمر عند هذا الحد، وأنكر النبي عليه الصلاة والسلام وصيته بمائة من الإبل.

( فقال حنيفة: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم! إن لي بنين ذوي لحى ودون ذلك ) يعني: لهم لحى طويلة وهم رجال كبار، ولهم دون ذلك، وإن هذا -يعني: حنظلة بن حذيم- أصغرهم، أي: هذا أصغر أولادي، فادع الله له، (فمسح النبي صلى الله عليه وسلم رأس حنظلة وقال: بارك الله فيه أو بورك فيه، فكان حنظلة إذا جاءه إنسان بعد ذلك وارمٌ وجهه -وجهه متورم منتفخ- أو جاءته الشاة قد تورم وانتفخ ضرعها، يقول: بسم الله، ويضع يده على المكان الذي وضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم من رأسه، ثم يمد يده إلى وجه هذا الإنسان الذي تورم وانتفخ، أو إلى ضرع الشاة فيبرأ بإذن الله)، والحديث في المسند بسند رجاله ثقات.

والشاهد: أن الأولاد ما أقروا أباهم على هذه الوصية التي فيها حيف في حقهم، والنبي عليه الصلاة والسلام وافقهم وقال: ( لا، لا لا، الصدقة خمس... )، ثم لمالك الكثير توصل معه إلى أربعين ولا تزد على هذا.

ولعل هذه الأربعين تأتي ثلث ماله في ذلك الحين إذا كان يملك إبلاً كثيراً، فقال: قف عند هذا الحد ولا تزد على ذلك، على أن الوصية أيضاً بالثلث إذا كان فيها إضرار بالورثة؛ لأنهم كثيرون، فلا يجوز أيضاً أن توصي بالثلث؛ لأن هذا فيه إضرار.

وتقدم معنا أن الوصية مستحبة بشرط عدم الإضرار، أما إذا كان سيترتب عليها الضرر فلا يجوز؛ لأن الله يقول: إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ [البقرة:180]. إذاً: الخير يكون الذي يكفي الورثة ويفيض عنهم.

ولذلك قال علي رضي الله عنه: إذا تركت سبعمائة درهم لا توص، واترك ذلك لولدك؛ لأن الله يقول: إِنْ تَرَكَ خَيْرًا [البقرة:180]، وأنت ما تركت خيراً حتى توصي بثلثها أو بربعها.

وسئل ابن عباس رضي الله عنهما عمن ترك ثمانمائة درهم هل يوصي؟

فقال: إنه ترك قليلاً، والله يقول: إِنْ تَرَكَ خَيْرًا [البقرة:180].

وسئلت عائشة رضي الله عنها عمن ترك ثلاثة آلاف درهم وعنده أربعة أولاد؟ فقالت: ليترك ذلك لأولاده فلم يترك خيراً.

قال الحافظ ابن حجر في الفتح (5/357) عند كتاب الوصية بعد أن أورد هذه الآثار ونسبها إلى من خرجها، يقول:

والحاصل: أن ذلك نسبي، ويختلف باختلاف الأشخاص والأحوال. يعني: لو ترك الإنسان في هذه الأيام مائة ألف ريال، فالأحسن أن لا يوصي حقيقة، فمائة ألف ريال إذا عنده ولدان فقط، كل ولد له خمسون ألفاً، وهي لا تشتري له بيتاً.

لكن لو قدرنا أن عندك مائة ألف وما عندك ولا ولد، أو أولادك كلهم أغنى منك، ولا يوجد واحد محتاج إلى ريال منك، فحقيقة أوصي الآن بثلث المائة ألف؛ لأنه ليس فيها إضرار, كل واحد عنده غنى ويسار ومتزوج وعقار وملك وما شاكل هذا.

إذاً: يختلف باختلاف الأشخاص والأحوال، يعني: أحياناً يملك الإنسان مائة ألف، لكن يمكن أن يشتري بها عشرة بيوت، وعنده ولدان، فنقول له: أوص، وأحياناً يملك مائة ألف ما يشتري بها ولا نصف بيت، وعنده ولدان محتاجان فلا يوص، وأحياناً يملك مائة ألف لكن لا يوجد أحد من أولاده بحاجة إلى ريال من تركته، فنقول له: أوص.

المقصود: أنت انظر لحال ورثتك ولمالك، فإذا كان المال الذي ستتركه كثيراً فائضاً يسد حاجة الورثة ويزيد فأوص، وإذا كان المال الذي ستتركه الورثة ليسوا بحاجة إليه فأوص ويبقى لهم القسم الذي شرعه الله وحدده وقسمه لهم وعليهم، وإذا كان المال الذي ستتركه قليلاً والورثة بحاجة إليه فلا توص.

المقصود: أنت قارن بين الأمور، وذلك نسبي يختلف باختلاف الأشخاص والأحوال، والعلم عند الله جل وعلا.

المبحث الثالث من مباحث الوصية: فضل الوصية: الوصية مع أنها عمل بر وخير وإحسان يقوم به الإنسان، ويصل بها فعل الطاعة الذي كان يقوم به في حياته، يصله إلى ما بعد مماته، مع كل هذه الاعتبارات فأجرها أنقص وأقل مما لو تصدق حال حياته.

فالصدقة في حال الحياة والصحة والقوة أجرها أكثر من أجر الوصية التي ستخرج من مالك بعد الممات. هذا عمل بر لكن ذاك أبر، ولله أتقى، والأجر فيه أكثر وأعظم كما قرر نبينا صلى الله عليه وسلم هذا الأمر.

أخرج أبو داود في سننه وابن حبان في صحيحه من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( لأن يتصدق المرء في حياته وصحته بدرهم خير له من أن يتصدق بعد موته بمائة درهم ).

إذاً: شتان ما بين الأجرين، هنا درهم تصدق به وهو حي فأجره أعظم من مائة درهم ستؤخذ من تركته بعد موته. لماذا؟ لأن هذا الدرهم أنت تملكه الآن، أنت تملكه فله مكانة عندك، فعندما تجود به دل حقيقة على عظيم رغبتك في الأجر عند ربك, والتضحية في سبيله.

وأما هناك فالمال مأخوذ منك على جميع الأحوال، فأنت إذاً تجود نفسك بالصدقة وتقول: أخرجوا الثلث. يعني: المال كله أخذ، فكأنك تجود بمال غيرك.

نعم الوصية صدقة من الله عليك، لكن أجرها أقل من هذا المال الذي تملكه بين يديك وتصدقت به في حياتك ( لأن يتصدق المرء في حياته وصحته بدرهم خير له من أن يتصدق بعد موته بمائة درهم ).

وروى الإمام أحمد في المسند والترمذي في السنن، والنسائي في سننه أيضاً والإمام الدارمي عن أبي حبيبة الطائي قال: (أوصى إلي أخي بطائفة من ماله)، أخوه جعل له قسماً من ماله لأجل أن ينفقه، وليس في الوصية للأخ، أوصى بها أخوه وقال له: أنت المسئول عن توزيعها وزعها فيمن تريد.

يقول: (فاستشرت أبا الدرداء. وقلت: أين أضعه؟) أي: هذا القسم من المال الذي جعلني أخي مشرفاً عليه ومسئولاً عن توزيعه أين أضعه في الفقراء أو في المساكين؟ من ترى أن نضع هذا المال وهذه الوصية له ولمن نعطيها في الفقراء أم في المساكين؟ فقال أبو الدرداء : أما أنا فما كنت لأعدل عن المجاهدين. يعني: لو كنت أنا مسئولاً عن توزيع هذه الوصية لصرفتها إلى المجاهدين في سبيل الله، فأجرها أعظم، وهم أحق الناس بهذا الإحسان من الفقراء ومن المساكين، فهم فقراء ومساكين ويجاهدون في سبيل رب العالمين، (ثم قال له: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: مثل الذي يعتق ويتصدق عند موته كمثل الذي يهدي إذا شبع، وإن أفضل الصدقة أن تصدق وأنت صحيح حريص شحيح تأمل الغنى وتخشى الفقر )، فهذا الحديث يرويه أبو الدرداء رضي الله عنه لـأبي حبيبة رضي الله عنهم أجمعين، يقول له: أنا إذا سئلت عن توزيع هذه الوصية لا أعدل عن المجاهدين، لكن ليعلم أن هذه الوصية أجرها قليل، فمثل الذي يتصدق ويعتق عند موته كمثل الذي يهدي إذا شبع، فالأجر حقيقة يقل. والأجر متى يكثر؟ عندما يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، أما إذا شبع، بعد ذلك ما فضل من الطعام يقول: خذوه للجيران.

فهلا أعطيت من البداية وقسمت الطعام بينك وبينهم؟

( مثل الذي يتصدق ويعتق عند موته، كمثل الذي يهدي إذا شبع، وإن أفضل الصدقة أن تصدق وأنت صحيح )، ليس فيك علة ولا مرض ولا آفة، ومع صحتك حريص على المال تحبه، وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ [العاديات:8]، وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا [الفجر:20]، فتحب المال حباً كثيراً حباً جماً، أنت صحيح حريص، ثم شحيح، أي: تشح وتبخل بإخراج المال.

والنفس فيها هذا، لكن الإنسان يجاهدها، ويتصدق في سبيل مولاه تقرباً إلى الله جل وعلا.

ثم قال: وأنت صحيح حريص شحيح تأمل الغنى، أي: تتوقع أن تصبح غنياً وترجو ذلك من الله، وتخشى الفقر، فإذا حصلت الصدقة في هذه الحالة فالدرهم أعظم أجراً من الصدقة بمائة درهم بعد الموت.

وقد ثبت في الصحيحين وسنن أبي داود والنسائي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: ( قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: أي الصدقة خير؟) -وفي رواية: ( أي الصدقة أفضل؟ ) يعني: أي أنواع الصدقات خير من غيرها وأفضل في الأجر عند الله جل وعلا؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( أفضل الصدقة أن تصدق وأنت صحيح شحيح تأمل الغنى وتخشى الفقر، ولا تمهل حتى إذا بلغت الروح الحلقوم قلت: لفلان كذا ولفلان كذا وقد كان لفلان).

كأن النبي عليه الصلاة والسلام يقول: هذه الوصية الآن لاغية وباطلة ولا تعتبر إلا إذا أقرها الورثة، وقد كان لفلان، أي: هذا المال انتزع منك، وقد صار لفلان من الورثة، وأنت وصلت روحك إلى الحلقوم، وبعد ذلك ستقول: لفلان كذا ولفلان كذا، وهذا المال كان لفلان في هذه الحالة، أي: انتزعت ملكيتك منه، وما عدت تملكه في هذه الحال، والوصية عند حال الغرغرة والسياق باطلة لاغية، إنما ينبغي أن نوصي قبل ذلك، ولو أوصى قبل ذلك فالأجر قليل، والوصية في هذه الحالة موقوفة على إقرار الورثة؛ لأنه محض تبرع منهم، فالمال آل إليهم عندما وصلت الروح الحلقوم.

إذاً: أفضل الصدقة أن تصدق وأنت صحيح شحيح تأمل الغنى وتخشى الفقر، ولا تمهل حتى إذا بلغت الروح الحلقوم قلت: لفلان كذا ولفلان كذا، وقد كان لفلان.

إخوتي الكرام! إن أجر الوصية وهي المال الذي يتصدق به عنك بعد موتك، مع أن أجر قليل بالنسبة للصدقة التي تتصدق بها في حياتك لكن هي قربة تتقرب بها إلى الله، وقد تصدق الله علينا بذلك بعد موتنا، كما أكرمنا بالمال في حياتنا لنتصدق منه.

وقد أخبرنا نبينا صلى الله عليه وسلم أن ما يقوم به الإنسان من وصية تفعل بعد موته هي محض صدقة من الله عليه؛ لأن الأصل أن المال انتزع منه، لكن جعل الله له أيضاً صدقة إحسان منه تعالى لهذا الإنسان ليزيد في عمل الخير الذي كان يفعله في حياته.

وقد صرح بذلك نبينا صلى الله عليه وسلم، كما في مسند الإمام أحمد ومعجم الطبراني الكبير ومسند البزار من رواية أبي الدرداء ، والحديث رواه الإمام ابن ماجه عن أبي هريرة ، ورواه الطبراني في معجمه الكبير عن معاذ بن جبل عن أبي الدرداء وأبي هريرة ومعاذ بن جبل رضي الله عنهم أجمعين، وفي كل من الطرق الثلاث المتقدمة ضعف يسير، لكن الطرق يشد بعضها بعضاً، وقد نص عدد من أئمتنا على تحسين هذا الحديث، ولفظه عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال: ( إن الله تصدق عليكم عند وفاتكم بثلث أموالكم زيادة في أعمالكم )، أي: تصدق عليكم بأن قبل منكم الصدقة بثلث المال؛ لتزيدوا أعمالكم الصالحات والصدقات والقربات.

المبحث الرابع من مباحث الوصية: مقدار الوصية، أي: ما هو الحد الذي ينبغي أن لا يتجاوزه الإنسان في وصيته، والذي يرخص له أن يوصي به من ماله؟

الحد في ذلك: ثلث المال، ولا يجوز أن يزيد في الوصية على الثلث، فإذا زاد فقد جار في الوصية، وتلك الزيادة ملغية إلا إذا أقرها الورثة؛ لأن هذا حقهم فهم يقبلون أو يرفضون.

والمراد من الثلث: ثلث ما يبقى بعد الحقوق الثلاثة المتقدمة، وهي: أداء الدين المتعلق بعين التركة, وتجهيز الميت، وما يلزم ذلك من مؤن وكلفة، وأداء الديون المتعلقة بذمته، فإذا بقي مال بعد ذلك فله أن يوصي بمقدار الثلث من المال المتبقى، لا من ثلث كل التركة. وعليه؛ لو قدرنا أن إنساناً مات وترك ثلاثمائة ألف ريال، وأوصى بمائة ألف ريال، وعليه ديون بمقدار مائتي ألف، فكم تركته؟ مائة ألف، فوصيته بمائة ألف أتت على التركة كلها، فنبطل الوصية بالمائة ونجعل ثلث المائة هي الوصية، إلا إذا رضي الورثة، قالوا: نحن لن نرث شيئاً ولا نرد كلام مورثنا من أبٍ أو ابنٍ أو غير ذلك فنحن نجيز هذه الوصية ولا نأخذ شيئاً، أوصى بمائة ألف ولم يبق إلا مائة ألف بعد أداء الحقوق فنحن نخرجها تقرباً إلى الله جل وعلا.

وقد جاء في الحديث من رواية أبي الدرداء وأبي هريرة ومعاذ بن جبل : ( إن الله تصدق عليكم عند وفاتكم بثلث أموالكم زيادة في أعمالكم ).

ويدل على هذا ما ثبت في الكتب الستة من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه عندما مرض عام الفتح وجاء النبي صلى الله عليه وسلم يعوده من مرض به أصابه، فقال سعد : ( يا رسول الله صلى الله عليه وسلم! إني ذو مال ولا يرثني إلا ابنة، أفأوصي أتصدق بثلثي مالي وأترك الثلث لابنتي؟ فقال النبي عليه الصلاة والسلام: لا. فقال: أفأتصدق بشطر مالي؟ قال: لا، قال: أفأتصدق بثلث مالي يخرج عني بعد موتي إذا مت في هذا المرض؟ فقال النبي عليه الصلاة والسلام: الثلث والثلث كثير)، وفي رواية:( الثلث والثلث كبير، إنك إن تذر ورثتك أغنياء خيرٌ من أن تذرهم عالة يتكففون الناس ).

فإذاً: غاية ما يباح للإنسان أن يوصي به من ماله ثلث التركة، والثلث كثير.

ولذلك كان ابن عباس رضي الله عنهما يقول كما في الصحيحين وسنن النسائي وابن ماجه : (لو غض الناس -أي: نقصوا- من الثلث إلى الربع؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال لـسعد : والثلث كثير والثلث كبير )، فلو غضوا من الثلث إلى الربع لكان أولى وأحسن.

خلاصة الكلام على الأمر الرابع: الوصية مقدارها ثلث ما يبقى من مال بعد الحقوق الثلاثة المتقدمة، فما يبقى من مال ما يبقى من تركة لك أن توصي بثلثه، فإن كانت الوصية بمقدار الثلث أو أقل فهي نافذة شرعية، وإن كانت أكثر فهي ملغية إلا إذا أقرها الورثة والعلم عند الله.

والذي يلغى هو الزائد على الثلث. يعني: لا تلغوا الوصية كلها، يعني: لو قدرنا أنه أوصى بنصف ماله، فلا نقول: وصية لاغية باطلة، لا، بل نخرج الثلث والزائد على الثلث يلغى، يعني: لا يفهمن واحد منكم أن الوصية ملغية ويقول: إذاً بطلت الوصية من أولها لآخرها، لا، بل بطل ما زاد على الثلث؛ لأن الثلث لها حق فيه، فالزيادة تبطل وتلغى، وحقه يأخذه في وصيته والعلم عند الله جل وعلا.